إبراهيم الحسيني - الغائب.. قصة قصيرة


- الحسيني غرق .
قال أخي ممدوح , كررها مرة ثانية ومضى .
تلقيت الخبر ببرود شديد , أشعلت سيجارة , أطلقت نفثة الدخان , وذهبت إلي دورة المياه , تخلصت من أوساخي , اغتسلت , وغيرت ملابسي , دون معاونة من أحد , فالجميع هرولوا إلي هناك .
هجرت عائلتنا بيوتها , الكبار والصغار , رجالا كانوا أو نساء , إلي الشط , نرقب المياه , وتتابع الموج , موجة وراء موجة , وأنا بداخلي يقين : أن الحسيني لم يغرق , وسوف يخرج بين لحظة وأخرى , من مخبئه , وهو يضع كفيه علي وسطه, ويطلق ضحكته المجلجلة , إلي أن أصيبت أختي أمال , بأول نوبة صرع , في حياتها , حين لمحت قمة رأسه , طافية , للحظة , علي الماء , واختفت .
ولما جاء الغواصون , قرب حلول المغرب , أشارت لهم بسبابتها , وقالت :
- هنـا .
فألقوا بأنفسهم تحت الماء , ساعات وساعات , وهم يستبدلون أنابيب الهواء .
وعائلتنا تقف علي أظافر أقدامها , ترمق المياه بغيظ وكراهية , أسفل شجر الطريق , الذي طالما رأى جولاتنا , في ليالي الصيف المقمرة , يأتي بشبكة الصيد , وأجئ ببندقية الصيد , له البلطي والبياض , ولي اليمام والعصافير .
كان يحب البحر , وأحب الفضا .
وعندما تغيب بيوت بهتيم و مسطرد , خلف ظهورنا , ننحدر من طريق مصر الإسماعيلية الزراعي , إلي شط " الحلوة " حيث الحشائش المنداة , ونقيق الضفادع , وانسياب المياه .
يخلع الحسيني ملابسه , يكومها تحت حجر كبير , ويخرج شبكة الصيد من القفة , يطوحها , ويرمي بصره, يلاحقها حيث يجرفها التيار , يجري بموازاتها علي الشط , وهو يمسك بطرفها في قبضته , إلي أن تستقر في القاع , ينتظر عليها بعض الوقت , ثم يسحبها محملة بالقواقع والأسماك تتلوى وتتـقافز .
ولما يشقشق النهار , يلقى بجسده في " الحلوة " , ويغطس , ثم يطل برأسه هناك , بعيدا عن الشط , بين الموج , وتحت ضباب الفجر , يلوح لنا بيديه , ويصيح بأسمائنا :
- يا عيسى , يا عنتر , يا كمال , يا رجب .
- ارجع يا حسيني .
- الجدع منكم يأتيني هنا .
ويعوم في مكانه , كالبط والكلاب والضفادع , يرشنا بالمياه , وينام علي ظهره , يسبح مع التيار , ثم ينقلب علي وجهه , يشق الموج بصدره , ويضرب الماء بذراعيه , ويظل يبتعد , وحجمه يصغر , إلي أن يختفي تماما عن أبصارنا .
وفجأة , نراه فوق رءوسنا , مبللا بالماء و يحوم حول الحفرة , التي حفرناها , وبنينا بها بيتا للنار , لنشوي السمك , يجفف جسده بأشعة شمس الصباح , ونأكل حتى تمتلئ بطوننا , ونستلقي علي العشب , يهز البندقية بجواري , ويقول :
- اليمام والعصافير علي الشجر , عليك الغدا .
ولما نزح الحسيني من دمهوج إلي بهتيم , في الثالثة عشر من عمره , لبد بجوار الراديو , يومين متصلين , ثم قال :
- هات لي محمد طه .*
قلت :لا يذيعون محمد طه إلا نادرا .
حمل الراديو , بهدوء , إلي أعلى , وتركه يسقط علي الأرض مهشما .
انفجرنا في الضحك , ولم يكن أمام أمي إلا أن تصفر وتخضر وتحمر , وتضرب كفا بكف , وترسل لأبي في الفرن , وتقول :
- ليس له مكان بيننا , خذه الفرن .
قال أبي في صرامة: له البيت والفرن وأولاد عمه
وفي اليوم التالي , شغله في محلات البقاله , مع أخي الكبير , الذي شج رأسه بماسورة حديد , فسال دمه قنطارا .
طرد أبي أخي الكبير من البيت سنة متصلة , وقال : سوف أفتح له دكانا , وأزوجه أمال .
من ثمانية أيام , عندما عدت من أربعين أبي , أتاني الحسيني علي دراجة , خلف كشك سعيد الأعرج , رمى نفسه في حضني , وبكى , عرى جسده , وقال:
- عمي مدكور , يضربني هذه الأيام , كثيرا .
لم أرد عليه .
قال : هو يعرف إنني معكم .
قلت: لماذا لم تحضر جنازة أبي؟
قال: يريد أن أترك الفرن لزوج ابنته .
قلت: كنت في حاجة إليك هناك .
قال: ترك لكم كل شيء .
وانصرف .
قال زقلط الفران : حاولت أن أمنعه , كان متعبا , ظل يعمل , بمفرده , طول الليل ونصف النهار , أمام الفرن , لكنه أصر , اندفع علي غير عادته , يسبح ضد التيار , وعبر للبر الثاني بسلام , أشار لنا بيده من هناك , ثم غاص بضعة أمتار , وعام مع التيار , قلنا :
- عاد إليه هدوءه .
وفي منتصف " الحلوة " كان يرفع ذراعيه بصعوبة , ويغطس , ثم يطفو , ويغطس , و يطر طش المياه , ويصيح بأعلى صوته :
- ألحقني يا زقلط , ألحقوني يا ناس .
اعتقدنا أنه يمزح , إلي أن غاب تماما تحت الماء.
نفذت أنابيب الهواء , وطلع الغواصون من الماء , وما معهم إلا قطعة الملابس الوحيدة التي كان يرتديها , خلعوا جلودهم , وحزموا حقائبهم , وقال رئيسهم :
- الجثة جرفها التيار .
فانصرفنـا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...