عندما نزل ب "مسايد" المجاذيب بالدامر كان يافعاً، جاء إلي هناك يطلب العلم و جاء ليتعلم الزراعة فيعرف مواسم القمح، اللوبيا، الشمار و يتعلم رعاية أشجار الفاكهة. جاء وحيداً ماشياً من ضمن أمتعته سرجُ جملٍ ، جرابين ممتلئين للنصف و إبريق نحاس، إحتشد وجهه بملامح مسافر في الصحراء، تخفي أثواب غبراء جسدَه النحيل. نزل كما ينزل زوار المسيد. خصّصَ له الشيخ مَنزَلة. بعد قليل عرف الشيخ نجابته و إستدل عليها من سرعة حفظه للقرآن فقرّبه ثم إختط له مادة لدراسة علوم اللغة و كلفه بدراسة "إحياء علوم الدين" للشيخ الغزالي و عندما إطمئن لحسن فهمه علمه دروسا من "الفتوحات المكية" لابن عربي. أكمل ذلك في أقل من ثلاثة أعوام تَعَلّم خلالها فنون فلاحة الأرض الشحيحة علي ضفاف النهر. عندما يضيق الشيخُ من ملازمته "للتربّالة" يستدعيه و يمتحنه بأسئلة عن ألواح من القرآن و أسئلة في الفقه فيجيب بثقة و ثبات . تكلم عنه الناس كثيراً للشيخ و قالوا لم نعرف من أي ناحية جاء الرجل فيرد عليهم الشيخ قائلا" إسمه عبد الكريم ود فضل الله" فيقولون عندما نسأله من أي مكان؟ جئت يشير بأصبعه إلي مكان بين الغرب و الشمال فنقول هل أنت "كباشي"؟ فيقول نعم؟ يضحكون ثم يقولون عندما نسأله هل أنت "كاهْلِي"، "جرّاري" أمْ "نفيدي"؟ فيقول نعم، أنا منهم جميعاً. ينتهرهم الشيخ و يقول "خلو زول الله في حاله"! .
عندما قال عبد الكريم للشيخ سأسافر نحو الصعيد. قال له الشيخ لم تقل لي من أي ناحية أنت و لم تقل أين أهلك؟ و يستدرك الشيخ لقد زارك هنا أهلٌ لك، عرفنا من طريقة تعاملهم معك إنهم يحترمونك و لم يقولوا لنا غير السلام عليكم و مع السلامة و جلبوا الزاد و الكساء لأهل المسيد و الخلوة. يبتسم عبد الكريم ثم يسأله الشيخ الذي كان مولعاً بالشعر كبقية أهل المسيد وكان للشيخ ولعٌ خاص بشعر أهل البوادي سأله قائلاً هل تحفظ شيئا من أشعار أهلك فردّ عبد الكريم بالقول
قال الشاعر حسن ود عبودي النفيدي
"زمان النيل، قبيل يومه العرب خايفه
كل صبحاً جديد ناقة "نفيد" قاجّاه
عاين ها "الجرّاري" ما أكضبو و أتغاه
بلا شبعاً شديد خرّب بيت أمْ سماح بغناه "
ثم قال عبد الكريم : فردّ "الجرّاري" قائلاً
"زمان النيل، قبيل يومه العرب خافوه
صقور السرح قبلكم طلعو و شافو
ها اهليكم من البحر يوم جو
عنكوش الجداد فوق الحمار شالو
كبيرهم يوم سمع حس الحوار قال حو
رخيصين النفر حتي الوسم باعو"
ثم قال عبد الكريم: قال ربّاح كبيشابي
"يا ركاب علي تيسا حفيف في الطُرْق
و يا دخّال علي الحمَيَ أمْ حواجباً زُرق
سيد أصهب جهينة أبو مناسماً فُرْق
أيدك لا أباطة في الدقون الخُرْق"
بعد أن أتم قراءة الشعر تنفس بعمق ثم قال : أستغفر الله من الشُكْرَة . ضحك الشيخُ إلي أن أدمع ثم قال لعبد الكريم ما معني ( الحمَيَ)؟ فقال عبد الكريم المرأة العظيمة .إستغفر الشيخ و قال لعبد الكريم ربنا يديك بت الحلال. و شنو " الدقون الخُرْق"؟ فقال عبد الكريم من يلعبون بكلام الله. ثم قال عبد الكريم :: يا أبوي الشيخ هل سمعت بلال ود أبو حنك و هو يذم أدعياء الدين الذين يجبرون بناتهم علي الزواج فرد الشيخ قائلا:لا . فقال عبد الكريم
يا ضايق اللَيْ قبيل تاري الدِهَير شقلاب
كم درن علّي أمات حرير مو تياب
كم أخليت مساليبهن من القرقاب 1
كم قديت شريعة أمات خريس فدقاب 2
كم عَلَّقْ بريسماً جوزها مو كضاب
كم وَدَرْ دقوناً ماهن الخياب .
تأكد الشيخ من أن عبد الكريم يمت بصلة الدم أو العشرة إلي الكبابيش، بني جرّار، الكواهلة و النفيدية. لأنه يعرف أن "البِرَيسِم" هو أسم البندقية و "الجوز" هو إسم الرصاص في بادية الكبابيش.
غادر عبد الكريم متعلماَ شُرَافاتَه تنير بألوانها عيونَ الناس في الدامر، ذكري ترتيله للقرآن تملأ وجدانَ الناس بالشجن ففي صوته إخبات و إستغراق عميق. بكي لمغادرته الشيخُ المجذوب و قال للحضور " سَجَم خَشَّمْكُم فاتكم المبيريك". أثارت هذه العبارة مع بكاء الشيخ فضول الحيران فتبعوه. كان في مشيه خفيفاً جُهِدُوا في متابعته، كان خطوه واثقاً، لم يلتفت، وقف مرة واحدةً ليصلي الظهر و العصر معاَ، توضأ من النهر، كانوا ورائه، نزل عليهم الليل وهم في إثْرِه. لم يتوقف لصلاة المغرب. في وقت بين المغرب و العشاء توقف و جلس علي صخرة مطلة علي مكان منخفض من ضفة النهر، كان كمَنْ يتكلم مع النهر. جاء من ورائه رجلٌ معه ثلاثة نوق ، إلتفت عبد الكريم و سلّم علي الرجل و أشار له بيده ليجلس و ليفْلِت النوق، ففعل، ساد صمتٌ سميك كأنما سحب الصوت من أسماع الناس ثم إنشق النهرُ عن جملٍ أبيض في خواره فحولة لا تخطأها أذن ، الخوار عالٍ تَصِّل لسماعه الآذان ، حنّ الجملُ إلي عبد الكريم بصوت جاذب و رقيق، إنخفاض الصوت و عمقه أعاد النفس الي صدور الحيران ، لم يغادر عبد الكريم مكانه و مكث في معاينة النهر لا يهتم بما يحدث وراءه، واقع الجملُ الخارجٌ من النهر النوق الثلاث بهدوء لا يشبه سفاد الحيوان. إضطربت إفئدة الحيران من هول ما رأوا و قرروا أن يعودوا أدراجهم بحكاية ستظل باقية علي ضفاف النهر ما بقي الناس. فكيف يخرج جملٌ أبيض من النهر كأنه علي موعد مع نوق ثلاث ليواقعها. لم ينسي الحيران أن يملأوا جيوبهم بتراب من آثار أقدام عبد الكريم . لاحقا إستشفوا به فأشفاهم و إحتموا به من الشر فحماهم.
يعرف عبد الكريم الرجلَ صاحب النوق الثلاث، فالرجل من "المحاميد" الذي كانوا في جوار أهله لأزمان و أبعدتهم الحروب فتفرقوا. تذكر عبدالكريم الزيادية، الكواهلة ، بني جرار و النفيدية و كل من كان في بادية أهله و أبعدتهم الحروب و الصراعات. أعطي الرجلُ عبد الكريم أحد نوقه و مضي في حال سبيله دون كثير كلام أو مكوث غير ضروري.
توقف عبد الكريم في "المسيكتاب" ما أعجبه في ذلك المكان لون الحجارة التي تخنق النهر فيضيق مجراه، صفو الماء و حسن الهواء. لم تكن القرية بعيدة عن النهر. مسافر علي ناقة لن يخفي علي مراقبة القرويين، فالقرويون يراقبون بحرص. عندما نزل بالمكان كان الليل قد حلّ. جاءه رجل من أهل المسيكتاب قال عن نفسه إنه محمد ود أزرق و كان معه عشاء ليتناوله مع الضيف. أخذه محمد ود أزرق لاحقاً إلي بيته الذي تفصله عن النهر تلة لونها أصْهَب و تحيط بالبيت مساحة من الحصباء علي أرض غير مستوية خشنة يكركر الحذاء عليها بصوت مكتوم. بيوت القرية في هذه الناحية متفرقة.أعجبت ناقةُ عبد الكريم محمد ود أزرق فقال لعبد الكريم "ما شاء الله ناقةً سمحة بالحيل". محمد ود أزرق دقيق الملامح و خفيف الحركة في لهجته إمالة تشعرك بالطيبة و الكرم. محمدود أزرق لا يحب الغرباء، يستريب منهم، يفعل ما يفعل ليكرمهم إتقاءً لألسن الناس وحتي لا تُعِيبَه زوجتُه بالتقاعس عن أكرام الضيف و الحرص. عندما إستيقظ محمد ود أزرق لم يجد عبد الكريم، أحس محمد ود أزرق أن عبد الكريم سيكون في المسجد ربما يكون ذلك بسبب دائرة الطين التي يتركها المتوضيءُ علي الأرض بعد الخلاص من الوضوء بالإبريق ،مضي إلي هناك فوجده قد تعرّف علي الناس بالسجد و عرّفهم بنفسه،شكر العمدةُ محمد ود أزرق و قال "شيخ عبد الكريم ضيفنا كلنا".
عمل عبد الكريم مع أهل السيكتاب في الزراعة، درّس القرآن و الفقه في مسجدهم .ولدت ناقته ناقتين. مرت بعبد الكريم بين أهل المسيكتاب خمسة أعوام يزوره صديقه من المحاميد و نفر من الكواهلة و الكبابيش و البديرية و الشايقية. بني لنفسه بيتا تفصله عن بيت محمد ود أزرق تلك التلة ذات اللون الأصْهب و مساحة الحصباء اسفل التلة و يفصله عن النهر دربٌ متعرج يمشي علي صفحة الجبل و لا يفضي إلي "جَرِف" او "جِنَينَة" بل يفضي مباشرة للنهر و صخرة مسطحة و كبيرة علي حافة المضيق و الجندل . إختار عبد الكريم ذلك المكان ليكون دربه إلي النهر ميسوراً في ليالي إكتمال البدر ففي تلك الليالي يخرج جمل المحاميد عن النهر منوراً و يَحِنّ إلي عبد الكريم الذي لا يحب أن يري أحدٌ ذلك الجمل.
مالم يكن يعرفه عبد الكريم! أن قصة الجمل و النوق الثلاث قد وصلت إلي المسيكتاب علي شفاه الناس من "الدامر" و لم يتجرأ احد من أهل المسيكتاب علي سؤاله عنها. عندما حكت زوجة محمد ود أزرق لزوجها عن حكاية الناقة لم يهتم فهو لا يثق فيما ينسب للشيوخ من كرامات و حكايات.
أمْ زين من أهل السيكتاب و مات عنها زوجها و هي في ريعان الشباب، يانعة و ريانة تحفها أنسام الجروف في خديها يختبيْ إنتظار أليف و لهفة وقورة . مات زوجها و ترك لها بنتين و ولد. كان عبد الكريم يغالب شهوته بالصيام و إقامة الليل، في نهاره منشغل مع "التربّالة" و أصحاب الأرض. يقتطع من نهاره ازمانا ليسرح بنوقه بعيداً عن القرية. يسلك الدرب المُتصخّر من المسيكتاب إلي جبل "أم مَراحِيك" حتي ضريح الشيخ عجيب في سفح جبل "الرويان"، الدرب قليل الكلأ ،رمله حارق و حجارته لاذعة الطعنات . لنوقه ترطب الأرضُ نفسها و تهب العشب فتشبع النوق من عطية الدرب. أضمرت أمْ زين في نفسها لعبد الكريم حباَ. النساء في القرية يعرفن طرائقا لتحريك الرجال في أمور الخطبة و الزواج، كلمت زوجة محمد ود أزرق زوجها عن فكرة أن يتكلم مع عبدالكريم عن أم زين و طلبها للزواج، لم يكن هذا الأمر يعني محمد ود أزرق كثيرا فهو يكره زوج أم زين المتوفي و لا كبير شأن له بأم زين تزوجت او مكثت متروكة في بيت أهلها . محمد ود أزرق يري أن زوج أم زين كان ثريا متهورا يبذل المال علي النساء في الانادي صرف من لا يخشي الفقر، إعتاظ محمد ود أزرق في أيام شبابه كثيرا من حب الفتيات في الأنادي لزوج أم زين فكن يعقدن جلسات غناء الشُكْرَة في حضرته فالرجل معروف بكرمه و إتساع باحة ديوان بيته و اكتظاظها بالناس في ايام الجمعة و المناسبات، محمد أزرق برغم من إحتفاظه بعلاقة مودة بادية بزوج أم زين أيام حياته لكنه كان يري تبديد المال علي الضيوف أمر ليس من ورائه طائل. ألّحت زوجة محمد ود أزرق علي زوجها ليتكلم مع عبد الكريم.محمد ود أزرق مقتنع بالمقولة الدارجة في تلك الأيام و هي " إن أم أولادك قالتلك أطلع الجبل داك! أخيرلك تطلعو بالبِرُودِية..! ما ياكا طالعو .. طالعو" . ليتخلص من كلام زوجته و إلحاحها في الطلب قرر محمد ود أزرق أخيراً الكلام مع عبد الكريم الذي أصبح يناديه أهل المسيكتاب ب "أبونا الشيخ او شيخ عبد الكريم" و هو ما أضاف كرهاً إلي استرابة ماثلة في نفس محمد ود أزرق لعبد الكريم . في أحد الأيام إقترح محمد ود أزرق علي عبد الكريم الزواج من أم زين. قال عبد الكريم " نشوف أمْ زين مع أبوها و أهلها و نخطبها و ربنا يجعل القسمة و النصيب ". إنتظر عبد الكريم مجيءَ أهله لزيارته و قدوم صديقه من المحاميد صاحب النوق. في أول زيارة لهم و برفقتهم كوفد طلب عبد الكريم أمْ زين من أهلها للزواج و تم عقد قرانهما. النساء في القرية سمعن عن قصة عبد الكريم و الجمل الذي ينشق عنه النهر منذ زمان، سمعن بها قبل الرجال. بزواجها من عبد الكريم ملأت السعادة حياتها و حياة أطفالها، أصبح صوت أمْ زين في جمال أصوات المغنيات، راقت ملامحها و صارت صافية كصفحة النهر عند إكتمال البدر، كسا وجهها طائف من جمال جديد. علّمَها عبد الكريم و علّم بنتيها و ولدها الكتابة و القراءة، فاستضاء كلامهم بنور العلم. كان عبد الكريم يستعير الكتب من خلاوي حجر العسل و قري العبدلاب حيث ضريح الشيخ عجيب و يقول معظم العِلْم كلاماً و شعراً
أحست أم زين في أحد ليالي إكتمال البدر، أحست بحركة عبد الكريم فتبعته، غادر البيت خِلْسة، سلك الدرب الصخري المنحدر نحو النهر، جلس كمن يجلس للتشهد علي تلك الصخرة المسطحة و الكبيرة.،ساد صمتٌ بالمكان سمعت أمْ زين همس الماء و هفهفة الريح الناعمة، ثم إنشق النهر عن جمل المحاميد ، كان الجمل منوراً و قد مشي بنوره نحو عبد الكريم، حنَّ الجملُ الي عبد الكريم كما تَحِنُّ الناقة لفصيلها، إنداح في المكان نغمٌ هاديء و عميق فسمعت صوتاً لم تسمع كجماله و كان مركز دائرة الصوت مجلس عبد الكريم ، سمعت أم زين
النوق إدرمسن
في آخر الليل عرسن
مذعورات يجابدن في الرسن
زاد شوق جد الحسن
حماهن طيب الوسن
بريقاتن آنسن بي طيبه إتنفسن
ذكرني مقاماتن ما إتنسن
يا رب مجلساً
في الروضة و أشرب اكؤسن
زاد شوق جد الحسن
زاد شوق جد الحسن
زاد شوق جد الحسن
حماهن طيب الوسن
يا باري سرمداً صلي علي أحمداً
حامداً
محموداً و أحيداً
قام عبد الكريم و الصوتُ في تدفقه يتابع إيقاع همس الماء و هفهفة الريح الناعمة، قام يرقص و يتمايد كغصن السيسبان يحرك عنقه الممدود إلي الأمام محتفظا بصدره مشدوداً يتقافز في خطوه اثناء الرقص بقفزات مقتصدة و رصينة فيهتز جزعه بحزم جميل المنظر و الجمل يتبع خطواته بهدوء و انوار متدفقة حواليهما عبد الكريم و الجمل ، كان رقصه متناغماً و إيقاعياً كرقص من يحتفلون بأفراح ستدوم و تدوم و لن تنقطع. أغمضت أمْ زين عينيها لتطرد الدمع و عندما فتحتهما كان عبد الكريم إلي جوارها و جمل المحاميد قد إنصرف و إبتعله النهر. عاد الليل إلي سكونه و إنصرف النهر لأشغاله محتضنا أسراره القديمة بحنان. أخذها عبد الكريم في حضنه و همس في أذنها لقد أعطينا اليوم أحمد، حامد، محمود ،أحيد و الحسن يا أُم سماح. ترقرق طربٌ في أذنها لم تعهد مثله و خالجت مشاعرها أفراحٌ باقية.
وصفته مرة أم زين لرفيقاتها قائلة في صلبه فتوة لا تلين ،لا يفلتني من عناق إلا بعد أن أشبع منه و أكتفي، في قلبه رحمة واسعة و تحفه البركات من كل صوب، أنفاسه كفوح الزهر و من جسمه يتضوع العطر أمواجاً. تبهجني حكاياته المدهشة و يطربني بمديحه للنبي (ص) و الأولياء الصالحين و القوم. حكت زوجة محمد ود أزرق هذا الكلام لزوجها الذي قال " كلمتني حبوبتي عن أن النساء يقلن " الكِضِبْ مِلْحَ الرجال" قالت زوجة محمد و أزرق بأستهجان قالت: "و المَعَنَي!!؟ " فقال محمد ود أزرق "عند معظم النساء الرجال بلا طعم و لا شيء مثير في سيرتهم ليحكي فيعمدن الي إختلاق المآثر ليكبرن من شأن رجالهن".
إزدانت أيام المسيكتاب بحضرة عبد الكريم و تباركت ثروتهم فنَمَت.
جاء إلي زواج الحسن إبن عبد الكريم الأصغر ضيوفٌ من كل السحن و الأعراق. إهتم محمد ود أزرق بالضيوف من قبيلة "الشلك" إهتمام المكره علي فعل لا يحبه. كانت علي أعناق الضيوف من "الشلك" عقود الصدف و علي رؤوسهم عقود من سكسك أبيض و أسودِ منظوم و يلبسون أردية و من الكتان. إهتم بهم لإنّ عبد الكريم قد طلب منه ذلك. بعد أسبوع من إنتهاء أيام الفرح شَرَع الرجالُ من الشلك في حفر ما يشبه المقبرة، كانت حفرة مستطيلة عرضها ذراعان و طولها اكثر من أربعة أذرعِ بقليل و عمقها حوالي الثلاثة أذرع، حبسوا تراب حوافها و جوانبها بحوائط داخلية من الحجر المدموك بخليط الرمل و الجير و القريرة. أكملوا حفرتهم تلك و إبتنوا عليها بَنِيّة تشبه الهرم، كانت مهارتهم في البناء مدهشة لأهل المسيكتاب. أصلحوا أيام مكثوهم كل حائط متهدم و كل غرفة متصدعة. إنصرفوا بعد أن ودّعهم عبد الكريم و أهداهم تذكارات من ضمنها إبريق النحاس و الجرابين الذين جاء بهما الي الدامر قبل زمان بعيد ليأخذوها إلي الرث ، قدّم لهم جمالاً فرفضوها. كان للرجال من قبيلة "الشلك" جد نزل في الدامر متطبباً فخدمه عبد الكريم و رعاه الي أن شفي.
لم يمضي زمان كثير حتي إنتقل عبد الكريم تاركاً وراءه ذريةً من الصُلّاح و نوارة بين النساء هي أم زين و ثروة عظيمة من أبل لم يعرف مثلها أهل تلك النواحي. دُفِن عبد الكريم في القبر و تحت البنية التي إبتناها له الرجال من قبيلة "الشلك" و كُتِب علي بابها " قبر الشيخ باب الله"
حدث أن رأته أم زين يغادر بَنِيَته و يَتَسنّم الجمل الخارج من النهر، جمل المحاميد و يسافر نحو آفاق بعيدة ما يزال مرئياً إلي أن يلاقي طيفه أنوار نجمة بعيدة في الصعيد. نفسها تهفو إلي عودته لكنه ممعن في الغياب و بعيد تندمج أنواره بأنوار الجمل و نور النجمة البعيدة في الصعيد فيصيروا بقعة من نور في الأفق.
هوامش
الأشعار في النص منقولة عن كتاب
الدكتور عبد الله علي ابراهيم "فرسان كنجرت" ( أسماء الشعراء حقيقية)
و النص الشعري الأخير للشيخ أحمد ود عبد الملك الذي اطلق إسمه علي قرية في جنوب شرقي البطانة و هي قرية ود عبد الملك. توفي الشاعر ود عبد الملك في ايام التركية
منقولة عن كتاب مع شعراء المدائح لقرشي محمد حسن
نص أسطورة الجمل الابيض:
" كان أحد المحاميد يرعي ثلاثة نياق بطرف البحر. خرج له جمل أبيض من الماء وواقع النياق فولدت ذكراً و أنثيين. سرح الرجل ثانية بنياقه و إنشق البحر عن الجمل و واقع النياق. أراد الرجل الإمساك بالجمل فاندفع الي الماء و تبعته النياق. لم يبقي مع الرجل سوي حوار من نسل ذلك الجمل. أصبح الحوار ناقة و كانت تحلب ما يغطي حاجة أهله جميعاً. و كان للرجل قريب يحكم في بلد مجاور و تصادف أن تعرف هذا الملك علي الناقة، فأمسكها و أخفاها. تحرك الرجل يقص أثرها حتي بلغ دار الملك. كذب الملكُ علي الرجل حين سأله عنها . أصدر الرجل نداءً للناقة.فحنّت له من داخل حوش الملك و أبي الملك مع ذلك أن يردها له.فنشأت فتنة و إشتعلت الحرب لأيام تسعة. حتي أن إمرأة تنظم ختم الضحايا علي طول عصي الحربة. هرب جزء من المحاميد إلي الرزيقات و ذهب عيال راشد منهم إلي الغرب و تفرقوا أيدي سبأ"
ص93 -94 فرسان كنجرت للدكتور عبد الله علي ابراهيم من اصدارات جامعة الخرطوم للنشرفي 1999.
القرقاب: مئزر تلبسه النساء تحت ثيابهن
الفدقاب: الفضة للزينة
خريس: مشغولات زينة
مساليبهن:ما يمكن أن ينزع عن جسد المرأة من الثياب و هو هنا اشارة للشرف و العرض
المسيكتاب: قرية جوار حجر العسل و هي من آخر قري الجعليين جنوبا، فيها الشلال الأول و هو شلال السبلوقة.بالمسيكتاب معسكر لعمل الجيلوجيين.
البرودية: الساعات الباردة من نهار اليوم
ام مراحيك و الرويان جبلين بالناحية.
طه جعفر
تورنتو اونتاريو
كندا
عندما قال عبد الكريم للشيخ سأسافر نحو الصعيد. قال له الشيخ لم تقل لي من أي ناحية أنت و لم تقل أين أهلك؟ و يستدرك الشيخ لقد زارك هنا أهلٌ لك، عرفنا من طريقة تعاملهم معك إنهم يحترمونك و لم يقولوا لنا غير السلام عليكم و مع السلامة و جلبوا الزاد و الكساء لأهل المسيد و الخلوة. يبتسم عبد الكريم ثم يسأله الشيخ الذي كان مولعاً بالشعر كبقية أهل المسيد وكان للشيخ ولعٌ خاص بشعر أهل البوادي سأله قائلاً هل تحفظ شيئا من أشعار أهلك فردّ عبد الكريم بالقول
قال الشاعر حسن ود عبودي النفيدي
"زمان النيل، قبيل يومه العرب خايفه
كل صبحاً جديد ناقة "نفيد" قاجّاه
عاين ها "الجرّاري" ما أكضبو و أتغاه
بلا شبعاً شديد خرّب بيت أمْ سماح بغناه "
ثم قال عبد الكريم : فردّ "الجرّاري" قائلاً
"زمان النيل، قبيل يومه العرب خافوه
صقور السرح قبلكم طلعو و شافو
ها اهليكم من البحر يوم جو
عنكوش الجداد فوق الحمار شالو
كبيرهم يوم سمع حس الحوار قال حو
رخيصين النفر حتي الوسم باعو"
ثم قال عبد الكريم: قال ربّاح كبيشابي
"يا ركاب علي تيسا حفيف في الطُرْق
و يا دخّال علي الحمَيَ أمْ حواجباً زُرق
سيد أصهب جهينة أبو مناسماً فُرْق
أيدك لا أباطة في الدقون الخُرْق"
بعد أن أتم قراءة الشعر تنفس بعمق ثم قال : أستغفر الله من الشُكْرَة . ضحك الشيخُ إلي أن أدمع ثم قال لعبد الكريم ما معني ( الحمَيَ)؟ فقال عبد الكريم المرأة العظيمة .إستغفر الشيخ و قال لعبد الكريم ربنا يديك بت الحلال. و شنو " الدقون الخُرْق"؟ فقال عبد الكريم من يلعبون بكلام الله. ثم قال عبد الكريم :: يا أبوي الشيخ هل سمعت بلال ود أبو حنك و هو يذم أدعياء الدين الذين يجبرون بناتهم علي الزواج فرد الشيخ قائلا:لا . فقال عبد الكريم
يا ضايق اللَيْ قبيل تاري الدِهَير شقلاب
كم درن علّي أمات حرير مو تياب
كم أخليت مساليبهن من القرقاب 1
كم قديت شريعة أمات خريس فدقاب 2
كم عَلَّقْ بريسماً جوزها مو كضاب
كم وَدَرْ دقوناً ماهن الخياب .
تأكد الشيخ من أن عبد الكريم يمت بصلة الدم أو العشرة إلي الكبابيش، بني جرّار، الكواهلة و النفيدية. لأنه يعرف أن "البِرَيسِم" هو أسم البندقية و "الجوز" هو إسم الرصاص في بادية الكبابيش.
غادر عبد الكريم متعلماَ شُرَافاتَه تنير بألوانها عيونَ الناس في الدامر، ذكري ترتيله للقرآن تملأ وجدانَ الناس بالشجن ففي صوته إخبات و إستغراق عميق. بكي لمغادرته الشيخُ المجذوب و قال للحضور " سَجَم خَشَّمْكُم فاتكم المبيريك". أثارت هذه العبارة مع بكاء الشيخ فضول الحيران فتبعوه. كان في مشيه خفيفاً جُهِدُوا في متابعته، كان خطوه واثقاً، لم يلتفت، وقف مرة واحدةً ليصلي الظهر و العصر معاَ، توضأ من النهر، كانوا ورائه، نزل عليهم الليل وهم في إثْرِه. لم يتوقف لصلاة المغرب. في وقت بين المغرب و العشاء توقف و جلس علي صخرة مطلة علي مكان منخفض من ضفة النهر، كان كمَنْ يتكلم مع النهر. جاء من ورائه رجلٌ معه ثلاثة نوق ، إلتفت عبد الكريم و سلّم علي الرجل و أشار له بيده ليجلس و ليفْلِت النوق، ففعل، ساد صمتٌ سميك كأنما سحب الصوت من أسماع الناس ثم إنشق النهرُ عن جملٍ أبيض في خواره فحولة لا تخطأها أذن ، الخوار عالٍ تَصِّل لسماعه الآذان ، حنّ الجملُ إلي عبد الكريم بصوت جاذب و رقيق، إنخفاض الصوت و عمقه أعاد النفس الي صدور الحيران ، لم يغادر عبد الكريم مكانه و مكث في معاينة النهر لا يهتم بما يحدث وراءه، واقع الجملُ الخارجٌ من النهر النوق الثلاث بهدوء لا يشبه سفاد الحيوان. إضطربت إفئدة الحيران من هول ما رأوا و قرروا أن يعودوا أدراجهم بحكاية ستظل باقية علي ضفاف النهر ما بقي الناس. فكيف يخرج جملٌ أبيض من النهر كأنه علي موعد مع نوق ثلاث ليواقعها. لم ينسي الحيران أن يملأوا جيوبهم بتراب من آثار أقدام عبد الكريم . لاحقا إستشفوا به فأشفاهم و إحتموا به من الشر فحماهم.
يعرف عبد الكريم الرجلَ صاحب النوق الثلاث، فالرجل من "المحاميد" الذي كانوا في جوار أهله لأزمان و أبعدتهم الحروب فتفرقوا. تذكر عبدالكريم الزيادية، الكواهلة ، بني جرار و النفيدية و كل من كان في بادية أهله و أبعدتهم الحروب و الصراعات. أعطي الرجلُ عبد الكريم أحد نوقه و مضي في حال سبيله دون كثير كلام أو مكوث غير ضروري.
توقف عبد الكريم في "المسيكتاب" ما أعجبه في ذلك المكان لون الحجارة التي تخنق النهر فيضيق مجراه، صفو الماء و حسن الهواء. لم تكن القرية بعيدة عن النهر. مسافر علي ناقة لن يخفي علي مراقبة القرويين، فالقرويون يراقبون بحرص. عندما نزل بالمكان كان الليل قد حلّ. جاءه رجل من أهل المسيكتاب قال عن نفسه إنه محمد ود أزرق و كان معه عشاء ليتناوله مع الضيف. أخذه محمد ود أزرق لاحقاً إلي بيته الذي تفصله عن النهر تلة لونها أصْهَب و تحيط بالبيت مساحة من الحصباء علي أرض غير مستوية خشنة يكركر الحذاء عليها بصوت مكتوم. بيوت القرية في هذه الناحية متفرقة.أعجبت ناقةُ عبد الكريم محمد ود أزرق فقال لعبد الكريم "ما شاء الله ناقةً سمحة بالحيل". محمد ود أزرق دقيق الملامح و خفيف الحركة في لهجته إمالة تشعرك بالطيبة و الكرم. محمدود أزرق لا يحب الغرباء، يستريب منهم، يفعل ما يفعل ليكرمهم إتقاءً لألسن الناس وحتي لا تُعِيبَه زوجتُه بالتقاعس عن أكرام الضيف و الحرص. عندما إستيقظ محمد ود أزرق لم يجد عبد الكريم، أحس محمد ود أزرق أن عبد الكريم سيكون في المسجد ربما يكون ذلك بسبب دائرة الطين التي يتركها المتوضيءُ علي الأرض بعد الخلاص من الوضوء بالإبريق ،مضي إلي هناك فوجده قد تعرّف علي الناس بالسجد و عرّفهم بنفسه،شكر العمدةُ محمد ود أزرق و قال "شيخ عبد الكريم ضيفنا كلنا".
عمل عبد الكريم مع أهل السيكتاب في الزراعة، درّس القرآن و الفقه في مسجدهم .ولدت ناقته ناقتين. مرت بعبد الكريم بين أهل المسيكتاب خمسة أعوام يزوره صديقه من المحاميد و نفر من الكواهلة و الكبابيش و البديرية و الشايقية. بني لنفسه بيتا تفصله عن بيت محمد ود أزرق تلك التلة ذات اللون الأصْهب و مساحة الحصباء اسفل التلة و يفصله عن النهر دربٌ متعرج يمشي علي صفحة الجبل و لا يفضي إلي "جَرِف" او "جِنَينَة" بل يفضي مباشرة للنهر و صخرة مسطحة و كبيرة علي حافة المضيق و الجندل . إختار عبد الكريم ذلك المكان ليكون دربه إلي النهر ميسوراً في ليالي إكتمال البدر ففي تلك الليالي يخرج جمل المحاميد عن النهر منوراً و يَحِنّ إلي عبد الكريم الذي لا يحب أن يري أحدٌ ذلك الجمل.
مالم يكن يعرفه عبد الكريم! أن قصة الجمل و النوق الثلاث قد وصلت إلي المسيكتاب علي شفاه الناس من "الدامر" و لم يتجرأ احد من أهل المسيكتاب علي سؤاله عنها. عندما حكت زوجة محمد ود أزرق لزوجها عن حكاية الناقة لم يهتم فهو لا يثق فيما ينسب للشيوخ من كرامات و حكايات.
أمْ زين من أهل السيكتاب و مات عنها زوجها و هي في ريعان الشباب، يانعة و ريانة تحفها أنسام الجروف في خديها يختبيْ إنتظار أليف و لهفة وقورة . مات زوجها و ترك لها بنتين و ولد. كان عبد الكريم يغالب شهوته بالصيام و إقامة الليل، في نهاره منشغل مع "التربّالة" و أصحاب الأرض. يقتطع من نهاره ازمانا ليسرح بنوقه بعيداً عن القرية. يسلك الدرب المُتصخّر من المسيكتاب إلي جبل "أم مَراحِيك" حتي ضريح الشيخ عجيب في سفح جبل "الرويان"، الدرب قليل الكلأ ،رمله حارق و حجارته لاذعة الطعنات . لنوقه ترطب الأرضُ نفسها و تهب العشب فتشبع النوق من عطية الدرب. أضمرت أمْ زين في نفسها لعبد الكريم حباَ. النساء في القرية يعرفن طرائقا لتحريك الرجال في أمور الخطبة و الزواج، كلمت زوجة محمد ود أزرق زوجها عن فكرة أن يتكلم مع عبدالكريم عن أم زين و طلبها للزواج، لم يكن هذا الأمر يعني محمد ود أزرق كثيرا فهو يكره زوج أم زين المتوفي و لا كبير شأن له بأم زين تزوجت او مكثت متروكة في بيت أهلها . محمد ود أزرق يري أن زوج أم زين كان ثريا متهورا يبذل المال علي النساء في الانادي صرف من لا يخشي الفقر، إعتاظ محمد ود أزرق في أيام شبابه كثيرا من حب الفتيات في الأنادي لزوج أم زين فكن يعقدن جلسات غناء الشُكْرَة في حضرته فالرجل معروف بكرمه و إتساع باحة ديوان بيته و اكتظاظها بالناس في ايام الجمعة و المناسبات، محمد أزرق برغم من إحتفاظه بعلاقة مودة بادية بزوج أم زين أيام حياته لكنه كان يري تبديد المال علي الضيوف أمر ليس من ورائه طائل. ألّحت زوجة محمد ود أزرق علي زوجها ليتكلم مع عبد الكريم.محمد ود أزرق مقتنع بالمقولة الدارجة في تلك الأيام و هي " إن أم أولادك قالتلك أطلع الجبل داك! أخيرلك تطلعو بالبِرُودِية..! ما ياكا طالعو .. طالعو" . ليتخلص من كلام زوجته و إلحاحها في الطلب قرر محمد ود أزرق أخيراً الكلام مع عبد الكريم الذي أصبح يناديه أهل المسيكتاب ب "أبونا الشيخ او شيخ عبد الكريم" و هو ما أضاف كرهاً إلي استرابة ماثلة في نفس محمد ود أزرق لعبد الكريم . في أحد الأيام إقترح محمد ود أزرق علي عبد الكريم الزواج من أم زين. قال عبد الكريم " نشوف أمْ زين مع أبوها و أهلها و نخطبها و ربنا يجعل القسمة و النصيب ". إنتظر عبد الكريم مجيءَ أهله لزيارته و قدوم صديقه من المحاميد صاحب النوق. في أول زيارة لهم و برفقتهم كوفد طلب عبد الكريم أمْ زين من أهلها للزواج و تم عقد قرانهما. النساء في القرية سمعن عن قصة عبد الكريم و الجمل الذي ينشق عنه النهر منذ زمان، سمعن بها قبل الرجال. بزواجها من عبد الكريم ملأت السعادة حياتها و حياة أطفالها، أصبح صوت أمْ زين في جمال أصوات المغنيات، راقت ملامحها و صارت صافية كصفحة النهر عند إكتمال البدر، كسا وجهها طائف من جمال جديد. علّمَها عبد الكريم و علّم بنتيها و ولدها الكتابة و القراءة، فاستضاء كلامهم بنور العلم. كان عبد الكريم يستعير الكتب من خلاوي حجر العسل و قري العبدلاب حيث ضريح الشيخ عجيب و يقول معظم العِلْم كلاماً و شعراً
أحست أم زين في أحد ليالي إكتمال البدر، أحست بحركة عبد الكريم فتبعته، غادر البيت خِلْسة، سلك الدرب الصخري المنحدر نحو النهر، جلس كمن يجلس للتشهد علي تلك الصخرة المسطحة و الكبيرة.،ساد صمتٌ بالمكان سمعت أمْ زين همس الماء و هفهفة الريح الناعمة، ثم إنشق النهر عن جمل المحاميد ، كان الجمل منوراً و قد مشي بنوره نحو عبد الكريم، حنَّ الجملُ الي عبد الكريم كما تَحِنُّ الناقة لفصيلها، إنداح في المكان نغمٌ هاديء و عميق فسمعت صوتاً لم تسمع كجماله و كان مركز دائرة الصوت مجلس عبد الكريم ، سمعت أم زين
النوق إدرمسن
في آخر الليل عرسن
مذعورات يجابدن في الرسن
زاد شوق جد الحسن
حماهن طيب الوسن
بريقاتن آنسن بي طيبه إتنفسن
ذكرني مقاماتن ما إتنسن
يا رب مجلساً
في الروضة و أشرب اكؤسن
زاد شوق جد الحسن
زاد شوق جد الحسن
زاد شوق جد الحسن
حماهن طيب الوسن
يا باري سرمداً صلي علي أحمداً
حامداً
محموداً و أحيداً
قام عبد الكريم و الصوتُ في تدفقه يتابع إيقاع همس الماء و هفهفة الريح الناعمة، قام يرقص و يتمايد كغصن السيسبان يحرك عنقه الممدود إلي الأمام محتفظا بصدره مشدوداً يتقافز في خطوه اثناء الرقص بقفزات مقتصدة و رصينة فيهتز جزعه بحزم جميل المنظر و الجمل يتبع خطواته بهدوء و انوار متدفقة حواليهما عبد الكريم و الجمل ، كان رقصه متناغماً و إيقاعياً كرقص من يحتفلون بأفراح ستدوم و تدوم و لن تنقطع. أغمضت أمْ زين عينيها لتطرد الدمع و عندما فتحتهما كان عبد الكريم إلي جوارها و جمل المحاميد قد إنصرف و إبتعله النهر. عاد الليل إلي سكونه و إنصرف النهر لأشغاله محتضنا أسراره القديمة بحنان. أخذها عبد الكريم في حضنه و همس في أذنها لقد أعطينا اليوم أحمد، حامد، محمود ،أحيد و الحسن يا أُم سماح. ترقرق طربٌ في أذنها لم تعهد مثله و خالجت مشاعرها أفراحٌ باقية.
وصفته مرة أم زين لرفيقاتها قائلة في صلبه فتوة لا تلين ،لا يفلتني من عناق إلا بعد أن أشبع منه و أكتفي، في قلبه رحمة واسعة و تحفه البركات من كل صوب، أنفاسه كفوح الزهر و من جسمه يتضوع العطر أمواجاً. تبهجني حكاياته المدهشة و يطربني بمديحه للنبي (ص) و الأولياء الصالحين و القوم. حكت زوجة محمد ود أزرق هذا الكلام لزوجها الذي قال " كلمتني حبوبتي عن أن النساء يقلن " الكِضِبْ مِلْحَ الرجال" قالت زوجة محمد و أزرق بأستهجان قالت: "و المَعَنَي!!؟ " فقال محمد ود أزرق "عند معظم النساء الرجال بلا طعم و لا شيء مثير في سيرتهم ليحكي فيعمدن الي إختلاق المآثر ليكبرن من شأن رجالهن".
إزدانت أيام المسيكتاب بحضرة عبد الكريم و تباركت ثروتهم فنَمَت.
جاء إلي زواج الحسن إبن عبد الكريم الأصغر ضيوفٌ من كل السحن و الأعراق. إهتم محمد ود أزرق بالضيوف من قبيلة "الشلك" إهتمام المكره علي فعل لا يحبه. كانت علي أعناق الضيوف من "الشلك" عقود الصدف و علي رؤوسهم عقود من سكسك أبيض و أسودِ منظوم و يلبسون أردية و من الكتان. إهتم بهم لإنّ عبد الكريم قد طلب منه ذلك. بعد أسبوع من إنتهاء أيام الفرح شَرَع الرجالُ من الشلك في حفر ما يشبه المقبرة، كانت حفرة مستطيلة عرضها ذراعان و طولها اكثر من أربعة أذرعِ بقليل و عمقها حوالي الثلاثة أذرع، حبسوا تراب حوافها و جوانبها بحوائط داخلية من الحجر المدموك بخليط الرمل و الجير و القريرة. أكملوا حفرتهم تلك و إبتنوا عليها بَنِيّة تشبه الهرم، كانت مهارتهم في البناء مدهشة لأهل المسيكتاب. أصلحوا أيام مكثوهم كل حائط متهدم و كل غرفة متصدعة. إنصرفوا بعد أن ودّعهم عبد الكريم و أهداهم تذكارات من ضمنها إبريق النحاس و الجرابين الذين جاء بهما الي الدامر قبل زمان بعيد ليأخذوها إلي الرث ، قدّم لهم جمالاً فرفضوها. كان للرجال من قبيلة "الشلك" جد نزل في الدامر متطبباً فخدمه عبد الكريم و رعاه الي أن شفي.
لم يمضي زمان كثير حتي إنتقل عبد الكريم تاركاً وراءه ذريةً من الصُلّاح و نوارة بين النساء هي أم زين و ثروة عظيمة من أبل لم يعرف مثلها أهل تلك النواحي. دُفِن عبد الكريم في القبر و تحت البنية التي إبتناها له الرجال من قبيلة "الشلك" و كُتِب علي بابها " قبر الشيخ باب الله"
حدث أن رأته أم زين يغادر بَنِيَته و يَتَسنّم الجمل الخارج من النهر، جمل المحاميد و يسافر نحو آفاق بعيدة ما يزال مرئياً إلي أن يلاقي طيفه أنوار نجمة بعيدة في الصعيد. نفسها تهفو إلي عودته لكنه ممعن في الغياب و بعيد تندمج أنواره بأنوار الجمل و نور النجمة البعيدة في الصعيد فيصيروا بقعة من نور في الأفق.
هوامش
الأشعار في النص منقولة عن كتاب
الدكتور عبد الله علي ابراهيم "فرسان كنجرت" ( أسماء الشعراء حقيقية)
و النص الشعري الأخير للشيخ أحمد ود عبد الملك الذي اطلق إسمه علي قرية في جنوب شرقي البطانة و هي قرية ود عبد الملك. توفي الشاعر ود عبد الملك في ايام التركية
منقولة عن كتاب مع شعراء المدائح لقرشي محمد حسن
نص أسطورة الجمل الابيض:
" كان أحد المحاميد يرعي ثلاثة نياق بطرف البحر. خرج له جمل أبيض من الماء وواقع النياق فولدت ذكراً و أنثيين. سرح الرجل ثانية بنياقه و إنشق البحر عن الجمل و واقع النياق. أراد الرجل الإمساك بالجمل فاندفع الي الماء و تبعته النياق. لم يبقي مع الرجل سوي حوار من نسل ذلك الجمل. أصبح الحوار ناقة و كانت تحلب ما يغطي حاجة أهله جميعاً. و كان للرجل قريب يحكم في بلد مجاور و تصادف أن تعرف هذا الملك علي الناقة، فأمسكها و أخفاها. تحرك الرجل يقص أثرها حتي بلغ دار الملك. كذب الملكُ علي الرجل حين سأله عنها . أصدر الرجل نداءً للناقة.فحنّت له من داخل حوش الملك و أبي الملك مع ذلك أن يردها له.فنشأت فتنة و إشتعلت الحرب لأيام تسعة. حتي أن إمرأة تنظم ختم الضحايا علي طول عصي الحربة. هرب جزء من المحاميد إلي الرزيقات و ذهب عيال راشد منهم إلي الغرب و تفرقوا أيدي سبأ"
ص93 -94 فرسان كنجرت للدكتور عبد الله علي ابراهيم من اصدارات جامعة الخرطوم للنشرفي 1999.
القرقاب: مئزر تلبسه النساء تحت ثيابهن
الفدقاب: الفضة للزينة
خريس: مشغولات زينة
مساليبهن:ما يمكن أن ينزع عن جسد المرأة من الثياب و هو هنا اشارة للشرف و العرض
المسيكتاب: قرية جوار حجر العسل و هي من آخر قري الجعليين جنوبا، فيها الشلال الأول و هو شلال السبلوقة.بالمسيكتاب معسكر لعمل الجيلوجيين.
البرودية: الساعات الباردة من نهار اليوم
ام مراحيك و الرويان جبلين بالناحية.
طه جعفر
تورنتو اونتاريو
كندا