شريف عابدين - غياب.. قصة قصيرة

تقطن جارتنا الطيبة في شقة بالدور الأرضي من البناية التي تقع خلف مبنى الرقابة وتطل من نافذتها على الشارع الجانبي بينهما. كل صباح تصطف القطط تحت الشباك في انتظار السيدة؛ حيث اعتادت أن تلقي لهم بالطعام. تتعجب حين تلمح آثار قضاء حاجتهم في نفس الموضع، تتأفف وتقرر في قرارة نفسها أن تتراجع. كيف تقبل أن تشارك في هذا الفعل الذي يتنافى مع أبسط قواعد الصحة. حين تهم بإغلاق النافذة تلمح المنظر المهيب لمبنى "الرقابة" تتساءل عما تعنيه الكلمة شكلا ومضمونا؛ لكنها تخمن أن السر ربما يكمن خلف نوافذها الموصدة. تنهرهم في سخط، تخاطبهم في غضب أنها لن تشارك في هذا التشوه الجمالي والفطري؛ تشيح بيدها نحو فضلاتهم المتناثرة بينما يرنون نحوها في استجداء متابعين لحركة سبابتها ثم تغلق النافذة. في اليوم التالي تكتشف أن جميع نوافذ مبنى الرقابة قد فتحت، وأنهم يحدقون تجاهها في شرود وقد تسمروا في وسط الشارع. تتحرى الأمر، تكتشف أن الشارع نظيف تماما. تدرك بغريزتها أن الرقابة قد قامت بدورها ونهتهم عن اقتراف ذلك الفعل المشين. توقن أنهم قد تأدبوا، تعلن أنهم حرموا في نفس الوقت مما تقدمه. تقارن بينها وبين قاطني مبنى الرقابة. بين فتح نافذة الحنو، وفتح نافذة القسوة.
تتعجب: يا لهم من كائنات غريبة! تخشى ولا تستحي.
تقرر أن تستمر في التأديب وتمتنع عن إطعامهم.
أيام مرت تتأكد فيها من نظافة الرصيف أسفل نافذتها. وحين لمحتهم يحومون في وهن وانكسار؛ أيقنت أنهم وعوا الدرس جيدا.
أغلقت النافذة لعدة أيام، زاد قلق القطط واتصلت صديقتها تطمئن على صحتها. حين حكت لها، علقت بأنها طبيعتهم وهم في النهاية أصحاب الشأن وأنها لا يمكن أن تكون ملكية أكثر من الملك. ذكرتها أنها نوافذ جافة لا تطعم أبدا؛ لأنها عالية ويفصلها عن الشارع حديقة خلفية صغيرة محاطة بسور مرتفع قليلا.
طال غياب جارتنا. ذات صباح استيقظت على صوت جلبة صاخبة في الشارع، تململت في فراشها تقاوم الشعور بالإعياء. تنامى إلى سمعها صوت رجل الأمن ينهر سائقا لسيارة تنتظر إلى جوار المبنى ويخبره بضرورة تحريك السيارة بعيدا بينما السائق يستجديه للبقاء لبعض الوقت حتى تنتهي السيدة من زيارة الطبيب معتذرًا لعدم وجود أي مكان آخر في الشوارع القريبة. تأثرت جارتنا باستعطاف السائق لرجل الأمن وقررت مناشدته ليدع السيارة حتى تتم المريضة الكشف. حين فتحت النافذة طالعها منظر القطط المتهالكة وقد صعدت بصعوبة بالغة واصطفت فوق السيارة. شهقت القطط فرحا فور رؤيتها ثم أخذت تحدق في وجهها متفحصةً وقد ارتسمت على وجوهها سعادة غامرة بينما تلعثم المواء حين حاولت أن تردد: حمدًا لله على سلامتك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...