كانت دروس سهير القلماوى مثل كُتُبها الأولى التى قرأناها فى سنوات الدراسة، تتميز بما كان يلح عليه أبناء جيلها فى ذلك الزمان البعيد، من حيث أنها دروس تجمع ما بين الأصالة والمعاصرة، وتمضى على نهج أستاذها طه حسين؛ ذلك لأن سهير القلماوى كانت على درجة عالية من المعرفة التراثية التى تمكّنها من الحديث الواثق عن القديم.. وفى الوقت نفسه، كانت ثقافتها المعاصرة، واطلاعها على الآداب العالمية الجديدة، وخبراتها فى الترجمة والإبداع، تفتح أمامها من آفاق النقد التطبيقى، فى التعامل مع نصوص الأدب القديم والجديد، ما دفعنا دفعا إلى المقارنة بينها وبين زملائها من الأساتذة الذين اقتصروا على ثقافة الموروث، فعجزوا عن أن يكونوا مثلها فى امتلاك قدرة التحليق فى فضاء المعرفة الرحيب بجناحى الأصالة والمعاصرة.
........................
هكذا سمعنا من سهير القلماوى عن أهمية العودة إلى النص الأدبى، وضرورة التركيز على عناصره التكوينية الخاصة إذا أردنا أن نكون نقادا بحق. لقد ظل العمل الأدبى، فيما كانت تقول: أشبه بالغرفة التى يدخلها النقاد ليتطلعوا من نوافذها إلى ما يقع خارجها، وآن الآوان لأن نلتفت نحن إلى هذه الغرفة، ونتعمّقها بحثا وتحليلا وتفسيرا. وإذا كان التحليل هو اكتشاف العناصر التكوينية للعمل الأدبى، من حيث هو عمل أدبى، فإن التفسير اكتشاف العلاقات التى تصل بين هذه العناصر، التى تمنح العناصر نفسها المعنى والدلالة. وإذا كان علينا أن نبدأ بالتحليل، ونتعمق فيه، فمن المهم أن نحاول المرة بعد المرة الإنصات إلى صوت العمل الخاص، واكتشاف النغمات المائزة له على وجه أقرب إلى اليقين، فهذه النغمات هى العناصر التكوينية التى تقودنا إلى اكتشاف الدلالة الأدبية على مستويات التفسير المختلفة.
ولم يكن مثل هذا الكلام مألوفا لأغلب أساتذتنا فى قسم اللغة العربية الذين تعوّدوا على أن ينظروا إلى الأدب بوصفه وثيقة دالة على حياة الكاتب أو عصره أو بيئته أو مجتمعه، فذلك فهمٌ شجّع عليه شيوع الدعوة إلى الواقعية الاشتراكية التى انتشرت انتشار النار فى الهشيم طوال سنوات المد القومى والدعوة إلى الاشتراكية. وكان على سهير القلماوى نفسها أن تبحث عن العلاقة بين الأدب والقومية أو الأدب والوحدة العربية أو حتى الأدب والثورة. فكلها موضوعات كان لا بد من الحديث فيها أو عنها، فى غمرة التيارات السائدة التى فرضها الصعود الثورى للدعاوى الجديدة التى اقترنت بتحولات ثورة يوليو 1952، التى لم تكن سهير القلماوى فى حالة عداء معها، فهى أصلا كانت وظلت تؤمن بأنه ما من أحد يستطيع أن ينكر علاقة الفن بالحياة أو حتى علاقته بالمجتمع، فالفن له تأثير، مثل الأدب، يقع خارجه على مستوى المتلقّى الفرد أو المتلقين بصيغة الجمع، لكن هذا التأثير لا ينفى عن الفن فنيته، ولا عن الأدب أدبيته، ولا عن الشعر شعريته. ولذلك بقدر ما كانت تربط الفن والأدب والشعر بالحياة من حولها، كانت تؤمن بأهمية التكوين الداخلى والذاتى للفن أو الأدب أو الشعر، وذلك عن طريق الخصوصية النوعية التى تجعل من الفن فنّا ومن الأدب أدبا ومن الشعر شعرا...إلخ. ولذلك كانت مع الفريق الذى يربط الفن بالحياة والمجتمع من ناحية، ويؤكد، فى الوقت نفسه، الخصائص الذاتية التى تجعل من الفن فنّا.
وما كان أبعدها فى ذلك عن الذين يدعون إلى عزلة العمل الأدبى عن عصره، والاغتراب بالنص الأدبى عن مهمته الثورية فى تغيير الواقع. ولكن للأسف كان خصومها من مراهقى الماركسية وأصوليّ الواقعية الاشتراكية يتهمونها بالرجعية، ويصلون بينها وبين رشاد رشدى فى الدعوة إلى عزلة العمل الأدبى عن عصره والاغتراب بالنص الأدبى عن مهمته الثورية فى تغيير الواقع، والحق أن سهير القلماوى بقدر ما كانت أبعد ما تكون عن الدعاوى النظرية لكل من رشاد رشدى ومدرسته، كانت أقرب ما تكون إلى دعوة لويس عوض ومحمد مندور لأهمية التفسير النصى للأعمال الأدبية، ولهذا لم تأخذ من دعاة «النقد الجديد» فى أصوله الأجنبية إلا ما يرتبط بالتحليل النصى للأعمال الأدبية. ولذلك كانت تؤكد استقلال العمل الأدبى فى الوقت الذى كانت تؤكد صلته بغيره من أوجه الحياة، لكنها كانت تلح على التمييز بين النقد الأدبى بمعناه الحق وعلم اجتماع الأدب أو علم نفس الأدب أو علم سياسة الأدب أو التاريخ الأدبى على السواء. وكانت تقول لنا: إذا أردتم أن تكونوا نقادا فدونكم العمل الأدبى، ادرسوه فى ذاته، من حيث هو عمل أدبى، ولا تكونوا كالجراح الذى ينشغل عن إجراء العملية الجراحية للمريض بالبحث عن أوضاعه الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية. وكانت تقول لنا: «إن الناقد لا يكون ناقدا بحق إلا إذا كان ما يحسنه من التراث فى وزن ما يحسنه من علوم العصر، وما يتقنه من معارف العرب لا يقل عما يتقنه من معارف غير العرب من علوم العصر ومناهج درسه الحديثة».
وكانت جسارتها فى الدعوة إلى اكتشاف ما أصبح يعرف بعد ذلك باسم «أدبية الأدب» و»قصية القص» و«شعرية الشعر» تقودنا إلى آفاق باهرة فى ذلك الزمان البعيد. وكم جلسنا إلى مكاتبنا، واصلين الليل بالنهار، ونحن نحاول تطبيق ما تعلمناه منها على نصوص أدبية، تركت لكل واحد فينا حرية اختيارها، فقد كان حرصها على حرية الاختيار الوجه الآخر من حرصها على الغوص بنا عميقا فى عالم الأعمال الأدبية. أذكر أن القصيدة الأولى التى تعرفت عليها من شعر أحمد حجازى كانت بصوتها فى قاعة المحاضرات، حيث قامت بتحليل تفصيلى للقصيدة ابتداء من اختيار الكلمات، مرورا باختيار التفاعيل للوزن العروضى، وانتهاء بالمقاطع التى تتكون من علاقاتها الدلالية والصوتية وحدة القصيدة، وبعدها أخذت تحدثنــا عـن صلاح عـبد الصبور الذى كانت تكنّ له تقديرا خاصا، وتدفعنا إلى البحث عن نماذج مشابهة من الشعر الحداثى والقصة والمسرحية. ولن أنسى درسها التحليلى عن قصة نجيب محفوظ «زعبلاوى» التى علمتنا بها، لأول مرة، معنى تعدد مستويات الدلالة وتنوع مدلولات الرمز.
وقد دفعنا ذلك إلى متابعة ما كانت تكتبه فى المجلات الدورية التى عاصرناها، فوجدنا فى «الكاتب» مقالاتها المتتابعة عن قراءات جديدة فى التراث الشعرى القديم، فتحت أعيننا على الأبعاد الدالة للتكرار البلاغى فى موازاة الأبعاد المقابلة فى الدوال الرمزية، وذلك فى جدة وأصالة لم نجدها عند دارسى التراث الأدبى الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس. وقد لفتت انتباهنا فى هذه المقالات المبكرة التى نشرتها مجلة «الكاتب» فى بداياتها إلى معنى الاكتشاف النقدى، وجسارة التعمق فى التحليل المنهجى الحديث، خصوصا إذا كان هذا التحليل المنهجى ينبع من معرفة عميقة بالنظريات النقدية الغربية. وأعنى بالمعرفة العميقة هنا المعرفة التى لا تنقل وإنما تتمثل وتستوعب بعمق، ثم بعد ذلك تنتج من أدوات التحليل والتفسير والتأويل ما يسهل تطبيقه حتى على النصوص الجاهلية التى لم يكن يعرفها القراء المحدثون فى عالم الستينيات.
وكان منطلقها فى تحليل النص الأدبى الجاهلى هو منطلقها نفسه فى تحليل النص الأدبى الحديث أو المعاصر، مدمرة بذلك الأسطورة التى حاول أن يغرسها فى وعينا تلامذة شوقى ضيف وطريقته التقليدية فى أن الشعر القديم لا يفهم إلا بمناهج قديمة، يغلب عليها نثر النظم، أو الشرح الساذج للمعانى القريبة أو المعانى الأولى بلغة عبد القاهر الجرجانى، وليس المعانى الثوانى أو حتى معانى المعانى التى تقودنا إلى تعدد الدلالة وتنوعها وتباين مستوياتها. وكانت فى ذلك تبدأ من حيث انتهى أساتذتها، خصوصا طه حسين وأمين الخولى، فقد اتفق كلاهما على أن أول التجديد هو قتل القديم فهما، ووصل الفهم الجديد بالقديم بكل ما يمكن أن يستوعبه العقل النقدى من نظريات الفن ومناهج الدرس الأدبى فى امتداده الذى يصل الأدب بفلسفة الفن فى أعمق معانيها. ولذلك اهتمت سهير القلماوى كل الاهتمام بمبحث الأداة فى الفنون. وهى اللغة فى حالة الشعر، والمشهد فى حالة المسرح، والسرد فى حالة الرواية، والنغم فى حالة الموسيقى، والحجر والكتلة فى حالة النحت والعمارة.
وأظن أن سهير القلماوى هى أول من كتب فى اللغة العربية عن نظرية الفيلسوف والناقد الألمانى جوتهولد إفرايم ليسينج التى شرحها وبسطها فى كتابه العظيم: «لاؤوكون». وهو كتاب يتتبع فيه هذا الفيلسوف الألمانى وعالِم الجمال كيف يختلف الفن باختلاف الأداة فيه، فاللغة تجعل من الزمن أساسا لها فى الامتداد، والرسم يختلف عنها من هذا المنظور، فالرسم مثلا المعول فيه على تثبيت اللحظة الزمنية (البرهة) سواء فى صياغة اللوحة أو تشكيل التمثال، فأداة الشعر زمنية، وأداة التشكيل - فى حالتى النحت والتصوير والعمارة - مكانية، والعلاقة بينهما علاقة تمايز وتواصل وانقطاع أحيانا. وقد توقف ليسينج عند تمثال «الراهب» الذى تتحدث عنه الأساطير اليونانية باسم «لاؤوكون»، والذى عاقبته الآلهة بأن سلّطت عليه أفاعٍ ضخمة كى تنهشه نهشا هو وأولاده البؤساء. ولا أزال أذكر النبرة التى كانت تتحدث بها أستاذتى سهير القلماوى عن هذا التمثال الذى رأته بعينيها والذى يصور الراهب الذى يستجير به أطفاله الصغار والبراثن الوحشية تنهال عليهم من كل اتجاه، والفارق بين بلاغة النحت فى هذا التصوير وبلاغة الرسم وأخيرا بلاغة الشعر. وانتقلت الدكتورة سهير القلماوى من ذلك إلى إمكانية اللغة وإيقاعها الذى يمر عبر الزمن ليمنحنا الإيحاء بتعاقب المكان وتغير الزمان فى الوقت نفسه. هكذا أدخلتنا فى صلب دراسة النص الأدبى فى ذاته، ودفعتنا إلى أن نبحث عن دور الأداة وهى اللغة فى حالة الشعر، والسرد فى حالة الرواية، والتشكيل فى حالة الفنون التشكيلية، بل جعلت من مصطلح التشكيل نفسه مصطلحا ينتقل إلى نقد الشعر ويعين الناقد على رؤية القصيدة بوصفها تشكيلا فى اللغة وباللغة فى الوقت نفسه.
وأظننى كنت مخلصا لما تعلمته منها عندما أصررت، وأنا فى المركز القومى للترجمة، على أن أبحث عن كتاب «لاؤوكون» وأكلف بترجمته الدكتورة فوزية حسن، وبالفعل صدرت الترجمة فى العدد رقم 1354 من منشورات المركز القومى للترجمة، سنة 2009. وقد صدّرت الدكتورة فوزية حسن الترجمة بدراسة عن فيلسوف الفن والحضارة «جوتهولد إفرايم ليسينج» وكتابه العلامة الذى يعد صاحبه أول من أثار الانتباه للعلاقة بين الفن التشكيلى وفن الشعر، وحاول الربط بينهما ومقارنتهما معا من منظور جديد كل الجدة. وقد وجدت للدكتورة سهير القلماوى مقالا فى إحدى الدوريات القديمة عن مأساة «لاؤوكون»، كما وجدتها تكرر الحديث عنه فى مقالات أخرى. ولا أظن أننى أسرف فى الاجتهاد لو قلت إن ما ذكره المرحوم الدكتور عز الدين إسماعيل بعد ذلك عن «إمكانية اللغة»، إنما هو أثر من الآثار الإيجابية التى تركتها فى نفسه محاضرات أستاذتنا الدكتورة سهير القلماوى عليها رحمة الله.
والحق أن هذه السيدة هى نفسها التى علمتنا فى محاضراتها ما كان يقصد إليه ت.إس. إليوت عن معنى «التقاليد والمواهب الفردية»، فقد كانت تطور مقولة طه حسين وأمين الخولى بأن أول التجديد هو قتل القديم فهما، بتأكيد أن الشاعر العربى المعاصر لا يمكن أن ينبغ إلا إذا كان واعيا بتراثه الشعرى كله ابتداًء من أحدث شاعر فى عصره، وانتهاًء إلى أقدم شاعر فى تراثه. ولذلك فإن أصالة الإبداع الحقيقى لصلاح عبد الصبور مثلا - لا يمكن أن تتحدد إلا بأمرين: الأمر الأول هو تواصله الخلاق مع شعراء عصره، مثل إبراهيم ناجى وعلى محمود طه إلى العصر الجاهلى بأقدم شعرائه، وأن أصالة صلاح عبد الصبور لا تتحدد بهذا الوعى فحسب، وإنما تتحدد بإضافته أى صلاح عبد الصبور - رؤيته العصرية. أعنى رؤيته الفردية إلى عالمه المعاصر، ولكن بما لا ينفى قط - العلاقة بين هذه الرؤية وعصرها من ناحية، وعلاقتها بماضيها المنتسب إلى هذا التراث بالمعنى الخلاق الذى تنسحب دلالته على كل من صلاح عبد الصبور على مستوى الموهبة الفردية، وعلى علاقته وغيره إيجابيا أو سلبيا بالتراث، من حيث التواصل الخلاق بين الأقدم والأحدث. وبهذا المعنى الجديد يتحدد فهم سهير القلماوى لمقولة ت. إس. إليوت عن التقاليد والموهبة الفردية. ولا أزال أذكر أن سهير القلماوى كانت تنقل عن ت. إس. إليوت فكرته فى أن عقل الشاعر يتميز بأنه يقيم علاقات بين ما لا يتصل أو ما لا نرى نحن - القراء العاديين - اتصاله، فقراءة كتاب للفيلسوف الهولندى سبينوزا مثلا - تتجاوب ورائحة الطهو، كما يتجاوب كلاهما مع دقات الآلة الكاتبة فى عقل الشاعر الذى يصنع دائما علاقات جديدة بين أشياء لا يتصور الإنسان العادى إمكان وجود علاقات بينها، فعقل الشاعر كخياله يبنيان دائما كليات علائقية جديدة لم تكن موجودة من قبل.
ولقد كنتُ ألاحظ دائما أن انحياز سهير القلماوى إلى الدراسة الفنية للأدب المعاصر كانت توازى تماما اهتمامها بالدراسة نفسها للتراث العربى القديم. وأتصور أنه الآن وبعد مرور واحد وعشرين عاما من وفاة سهير القلماوى (مايو 1997) وما أكتبه الآن، فأننى أرى تأثرها الواضح بمدرسة «النقد الجديد» فى كل من إنجلترا والولايات المتحدة. فإن فهمها الأدبى لمعنى القيمة فى الفنون من حيث هى تحقيق لأقصى درجات التوازن بين أقصى درجات التعارض، لا تكاد تختلف كثيرا عن المعنى السيكولوـى للقيمة الذى رأيناه فى كتابات الناقد الإنجليزى إيفور آرمسترونج ريتشاردز، وهو الثانى فى حركة «النقد الجديد» التى بدأت من إنجلترا وازدهرت فى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال نقاد من طراز: كلينث بروكس، جون كرو رانسوم، وآلان تيت وغيرهم من أقطاب المدرسة التى حاول أن يروج لها رشاد رشدى فى زمنه الذى انقضى، والذى كان يصل بقدر ما كان يباعد بينه وبين سهير القلماوى.
وأعتقد أن المصادر الثقافية لنقد سهير القلماوى الأدبى لم تكن متوقفة على المدرسة البريطانية فى النقد الأدبى فحسب، وإنما تمتد إلى المدرسة الأمريكية فى الوقت نفسه. وإذا أردت الدقة فإننى أقول: إن البداية كانت من دراستها فى فرنسا حين تعلمت فيما تعلمت - على أيدى مدارس «شرح النصوص» تحليلا وتفسيرا، وهى المدرسة التى سبق إليها فى التأثر بها محمد مندور (1907 ــ 1965) الذى سبقها فى الذهاب إلى فرنسا.
وأعتقد أن من حق سهير القلماوى علينا، نحن الذين تعلمنا على إيديها المعانى الحقيقية والدقيقة للنقد الحديث والمعاصر على السواء، والتى تعلمنا منها الدلالات الأولى للحداثة، والإيمان بالتحليل النصى الذى يهتم بالعناصر التكوينية الدقيقة والمحايثة فى العمل الأدبى، علينا أن ندفع طلابنا إلى دراسة الأسس النظرية للنقد التطبيقى الذى مارسته سهير القلماوى على امتداد ما يقرب من نصف قرن، وذلك فى الدائرة التى كانت تصل بينها وبين زميلها محمد مندور (1907 ــ 1965) الذى ولد قبلها بأربع سنوات، ودرس مثلها فى فرنسا، والتى كانت تصل بينها وصل التوازى وبين زميلها لويس عوض (1915 ــ 1990) الذى كان النقيض النقدى لكل من رشاد رشدى (1912 ــ 1983) وزكى نجيب محمود (1905 ــ 1993)، والتى كانت تباعد بينها وبين محمود أمين العالم (1922 ــ 2009) وحسين مروة (1910 ــ 1987) فى آن.
وقد بدأت سهير القلماوى خطواتها الجامعية الأولى بالإلحاح على أستاذها طه حسين بأن يرعاها فى دراسة «ألف ليلة وليلة» التى قرأتها وشغلتها منذ صباها الباكر، ولكن أستاذها طه حسين أدرك المصاعب التى يمكن أن تحول بينها وبين التعمق فى هذه الدراسة، فدفعها إلى أن تبدأ حياتها الأكاديمية بدراسة شعر الخوارج موضوعا للماجيستير الذى حصلت عليه فى أبريل عام 1937، وبعد أن استراحت من عناء الدراسة فى الماجيستير سمح لها الأستاذ أن تبدأ ملحمتها الكبرى فى الدراسة النصية بدراسة «ألف ليلة وليلة»، فسافرت إلى فرنسا لتدرس فى السربون، وتفيد من المناهج الحديثة فى دراسة «ألف ليلة وليلة»، وعادت من باريس بعد عامين فى سبتمبر عام 1939، وأكملت الرسالة التى ناقشتها عام 1941، وأصبحت السيدة الأولى الحاصلة على درجة الدكتوراة فى الآداب فى الجامعة المصرية، ومن ثم فى كل جامعات العالم العربى التى لا تراث لها مثل تراث الجامعة المصرية.
الطريف أننى عندما أتأمل الآن فى دراسة الماجيستير ثم دراسة الدكتوراة، أجد أن أستاذتى اختارت «الكتابة الهامشية» التى تخرج على تيار الكتابة السائدة، موضوعا لإطروحة الماجيستير ثم الدكتوراة، فاختارت شعر الخوارج موضوعا للماجيستير، وانتقلت منه إلى دراسة «ألف ليلة وليلة» التى طافت بها ما بين الشرق والغرب، وانتهت من دراستها بكتابها الفذ عن «ألف ليلة وليلة» الذى نشر للمرة الأولى عن دار المعارف، سلسلة الدراسات الأدبية عام 1943، مستهلا عهدا جديدا من الدراسات الشعبية من ناحية، والأساليب المنهجية الجديدة فى دراسة النصوص الأدبية من ناحية ثانية. لكن تظل رسالتى الماجيستير والدكتوراة علامة منهجية بارزة فى الدراسات الأدبية من منظور المنهج التاريخى المقارن من ناحية، ومن منظور تسليط الضوء الباكر على الكتابة الهامشية والاهتمام بما أطلقتُ أنا عليه، بعد ذلك بنحو نصف قرن، اسم: «بلاغة المقموعين» مستجيبا إلى بذور التلمذة الأولى التى انطويت عليها من دروس الأستاذة التى أصبحت لى أمّا بكل معنى الكلمة.
هل كان مصادفة أن تندفع سهير القلماوى إلى دراسة شعر الخوارج بعد تخرجها مباشرة، وإلى دراسة «ألف ليلة وليلة» بعد شعر الخوارج؟! لا أظن أن الأمر يخضع للمصادفة، خصوصا عندما أسترجع ما كانت تحكيه لى من ذكرياتها، فى مناقشة أطروحتيها الأولى والثانية، فقد هاج المحافظون على أستاذها طه حسين، ونددوا بهذه الشابة السافرة التى تجلس مجلس الرجال، ويجلس أمامها الرجال الذين يقومون بامتحانها فى حضرة رجال آخرين غرباء. واضطر طه حسين أن ينقل المناقشة من مكانها المعلن إلى مكان آخر، وأن تجتاز سهير القلماوى امتحان الماجيستير والدكتوراة فى غرفة مغلقة، بعيدا عن عيون وصيحات الغاضبين الذين لا يكفّون عن استغلال الدين لتبرير التخلف. وخرجت سهير القلماوى دكتورة من هذه التجربة التى زادتها صلابة وقوة، كأنها أصبحت وريثة «شهر زاد» التى تنقل إلى كل من حولها آفاق المعرفة الواعدة، منتصرة بإبداع العقل على القوة الغاشمة لتخلف كثير من الرجال الذين لا يفارقون التقليد الجامد والنقل الجاهل، فكان انتصارها رمزا مجدِّدا لتحرر المرأة العربية وتحرير وعيها بحضورها الفاعل فى الوجود.
لقد اختارت طريق أستاذها الذى ظل يؤثر الجديد الحى على القديم الميت، ويستبدل اقتحام الأفق المغلق بالسير فى الطرق الآمنة المُمهَّدة، ونقلت السر الخلاق للجسارة والشجاعة والجرأة والإيمان بالمبدأ الأصيل للتطور من أستاذها إلى تلامذتها الذين ظلت تعاملهم بوصفهم أبناءها، دون تفرقة بين ذكر وأنثى، أو بين مصرى وعربى، تلامذتها الذين علمتهم أن يضيفوا إلى ما أنجزت، وأن يصلوا إلى أبعد مما وصلت إليه، تاركة لكل منهم اختيار منهجه، وحرية تفسير مادة موضوعه حسب تصوراته الفكرية الخاصة، محافظة فى ذلك على تقاليد ليبرالية أصيلة، فكان من هؤلاء التلامذة الماركسى الماويّ والتروتسكى، كما كان منهم القومى والناصرى والليبرالى، وبعد ذلك الواقعى والبنيوى والتفكيكى...إلخ، فاجتمعت فيهم كل ألوان الطيف السياسى والفكرى والنقدى. ومضت هى تواصل إلى جانب مهمة التدريس والإشراف على الرسائل الجامعية، كتابة المقالات فى شئون الحياة العامة وفى مجالات النقد الأدبى بمعانيه النظرية والتطبيقية بخاصة، فكتبت العشرات من المقالات فى النقد الأدبى بمجاليه النظرى والتطبيقى. وقد بدأت بالكتابة عن الشعر بين الفنون، وعن نظرية «لاؤوكون»، واستمرت تكتب المقالات فى مجلات: «أبوللو» و«الهلال» و«العربى» و«الآداب» و«الكاتب» و«المجلة» و«الفنون» وغيرها مما حاولتُ جمعه فى هذا المجلد، وما يخص النقد الأدبى وحده، وجعلته باسم: «مقالات فى النقد الأدبى»، وذلك فى مجلد يضاف إلى بقية ما تركته هى لنا من مؤلفاتها: (أدب الخوارج، ألف ليلة وليلة، مع الكتب) وإبداعاتها: (أحاديث جدتى، الشياطين تلهو) وترجماتها: (ترويض النمرة، رسالة أيون، عزيزتى أنتونيا، رسائل صينية، هدية من البحر، كتاب العجائب) هذا فضلا عن قصائدها الموجودة فى مجلة «أبوللو» فقد كانت شاعرة واعدة، سرقها الدرس النقدى المنهجى، إلى آخر أنشطتها الثقافية والاجتماعية، متعددة الجوانب، متنوعة الاتجاهات، وذلك كله بما يجعل منها علامة ساطعة فى تاريخ الثقافة العربية التى تدين لها بالكثير، مثلنا نحن تلاميذها الذين أودعت فيهم أحلامها عن المستقبل الذى يتحقق بالعلم والجامعة التى تتأسس بالحرية. وها نحن نجدد لها العرفان بالفضل، ونحن نحتفل بمرور خمسين عاما على تأسيس معرض الكتاب الدولى الذى أسستْهُ وافتتحه معها ومشاركا لها ثروت عكاشة، أهم وزير للثقافة فى تاريخنا المصرى الحديث، رحمهما الله معا.
بمناسبة مرور 50 عاما
على تأسيسها معرض الكتاب
........................
هكذا سمعنا من سهير القلماوى عن أهمية العودة إلى النص الأدبى، وضرورة التركيز على عناصره التكوينية الخاصة إذا أردنا أن نكون نقادا بحق. لقد ظل العمل الأدبى، فيما كانت تقول: أشبه بالغرفة التى يدخلها النقاد ليتطلعوا من نوافذها إلى ما يقع خارجها، وآن الآوان لأن نلتفت نحن إلى هذه الغرفة، ونتعمّقها بحثا وتحليلا وتفسيرا. وإذا كان التحليل هو اكتشاف العناصر التكوينية للعمل الأدبى، من حيث هو عمل أدبى، فإن التفسير اكتشاف العلاقات التى تصل بين هذه العناصر، التى تمنح العناصر نفسها المعنى والدلالة. وإذا كان علينا أن نبدأ بالتحليل، ونتعمق فيه، فمن المهم أن نحاول المرة بعد المرة الإنصات إلى صوت العمل الخاص، واكتشاف النغمات المائزة له على وجه أقرب إلى اليقين، فهذه النغمات هى العناصر التكوينية التى تقودنا إلى اكتشاف الدلالة الأدبية على مستويات التفسير المختلفة.
ولم يكن مثل هذا الكلام مألوفا لأغلب أساتذتنا فى قسم اللغة العربية الذين تعوّدوا على أن ينظروا إلى الأدب بوصفه وثيقة دالة على حياة الكاتب أو عصره أو بيئته أو مجتمعه، فذلك فهمٌ شجّع عليه شيوع الدعوة إلى الواقعية الاشتراكية التى انتشرت انتشار النار فى الهشيم طوال سنوات المد القومى والدعوة إلى الاشتراكية. وكان على سهير القلماوى نفسها أن تبحث عن العلاقة بين الأدب والقومية أو الأدب والوحدة العربية أو حتى الأدب والثورة. فكلها موضوعات كان لا بد من الحديث فيها أو عنها، فى غمرة التيارات السائدة التى فرضها الصعود الثورى للدعاوى الجديدة التى اقترنت بتحولات ثورة يوليو 1952، التى لم تكن سهير القلماوى فى حالة عداء معها، فهى أصلا كانت وظلت تؤمن بأنه ما من أحد يستطيع أن ينكر علاقة الفن بالحياة أو حتى علاقته بالمجتمع، فالفن له تأثير، مثل الأدب، يقع خارجه على مستوى المتلقّى الفرد أو المتلقين بصيغة الجمع، لكن هذا التأثير لا ينفى عن الفن فنيته، ولا عن الأدب أدبيته، ولا عن الشعر شعريته. ولذلك بقدر ما كانت تربط الفن والأدب والشعر بالحياة من حولها، كانت تؤمن بأهمية التكوين الداخلى والذاتى للفن أو الأدب أو الشعر، وذلك عن طريق الخصوصية النوعية التى تجعل من الفن فنّا ومن الأدب أدبا ومن الشعر شعرا...إلخ. ولذلك كانت مع الفريق الذى يربط الفن بالحياة والمجتمع من ناحية، ويؤكد، فى الوقت نفسه، الخصائص الذاتية التى تجعل من الفن فنّا.
وما كان أبعدها فى ذلك عن الذين يدعون إلى عزلة العمل الأدبى عن عصره، والاغتراب بالنص الأدبى عن مهمته الثورية فى تغيير الواقع. ولكن للأسف كان خصومها من مراهقى الماركسية وأصوليّ الواقعية الاشتراكية يتهمونها بالرجعية، ويصلون بينها وبين رشاد رشدى فى الدعوة إلى عزلة العمل الأدبى عن عصره والاغتراب بالنص الأدبى عن مهمته الثورية فى تغيير الواقع، والحق أن سهير القلماوى بقدر ما كانت أبعد ما تكون عن الدعاوى النظرية لكل من رشاد رشدى ومدرسته، كانت أقرب ما تكون إلى دعوة لويس عوض ومحمد مندور لأهمية التفسير النصى للأعمال الأدبية، ولهذا لم تأخذ من دعاة «النقد الجديد» فى أصوله الأجنبية إلا ما يرتبط بالتحليل النصى للأعمال الأدبية. ولذلك كانت تؤكد استقلال العمل الأدبى فى الوقت الذى كانت تؤكد صلته بغيره من أوجه الحياة، لكنها كانت تلح على التمييز بين النقد الأدبى بمعناه الحق وعلم اجتماع الأدب أو علم نفس الأدب أو علم سياسة الأدب أو التاريخ الأدبى على السواء. وكانت تقول لنا: إذا أردتم أن تكونوا نقادا فدونكم العمل الأدبى، ادرسوه فى ذاته، من حيث هو عمل أدبى، ولا تكونوا كالجراح الذى ينشغل عن إجراء العملية الجراحية للمريض بالبحث عن أوضاعه الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية. وكانت تقول لنا: «إن الناقد لا يكون ناقدا بحق إلا إذا كان ما يحسنه من التراث فى وزن ما يحسنه من علوم العصر، وما يتقنه من معارف العرب لا يقل عما يتقنه من معارف غير العرب من علوم العصر ومناهج درسه الحديثة».
وكانت جسارتها فى الدعوة إلى اكتشاف ما أصبح يعرف بعد ذلك باسم «أدبية الأدب» و»قصية القص» و«شعرية الشعر» تقودنا إلى آفاق باهرة فى ذلك الزمان البعيد. وكم جلسنا إلى مكاتبنا، واصلين الليل بالنهار، ونحن نحاول تطبيق ما تعلمناه منها على نصوص أدبية، تركت لكل واحد فينا حرية اختيارها، فقد كان حرصها على حرية الاختيار الوجه الآخر من حرصها على الغوص بنا عميقا فى عالم الأعمال الأدبية. أذكر أن القصيدة الأولى التى تعرفت عليها من شعر أحمد حجازى كانت بصوتها فى قاعة المحاضرات، حيث قامت بتحليل تفصيلى للقصيدة ابتداء من اختيار الكلمات، مرورا باختيار التفاعيل للوزن العروضى، وانتهاء بالمقاطع التى تتكون من علاقاتها الدلالية والصوتية وحدة القصيدة، وبعدها أخذت تحدثنــا عـن صلاح عـبد الصبور الذى كانت تكنّ له تقديرا خاصا، وتدفعنا إلى البحث عن نماذج مشابهة من الشعر الحداثى والقصة والمسرحية. ولن أنسى درسها التحليلى عن قصة نجيب محفوظ «زعبلاوى» التى علمتنا بها، لأول مرة، معنى تعدد مستويات الدلالة وتنوع مدلولات الرمز.
وقد دفعنا ذلك إلى متابعة ما كانت تكتبه فى المجلات الدورية التى عاصرناها، فوجدنا فى «الكاتب» مقالاتها المتتابعة عن قراءات جديدة فى التراث الشعرى القديم، فتحت أعيننا على الأبعاد الدالة للتكرار البلاغى فى موازاة الأبعاد المقابلة فى الدوال الرمزية، وذلك فى جدة وأصالة لم نجدها عند دارسى التراث الأدبى الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس. وقد لفتت انتباهنا فى هذه المقالات المبكرة التى نشرتها مجلة «الكاتب» فى بداياتها إلى معنى الاكتشاف النقدى، وجسارة التعمق فى التحليل المنهجى الحديث، خصوصا إذا كان هذا التحليل المنهجى ينبع من معرفة عميقة بالنظريات النقدية الغربية. وأعنى بالمعرفة العميقة هنا المعرفة التى لا تنقل وإنما تتمثل وتستوعب بعمق، ثم بعد ذلك تنتج من أدوات التحليل والتفسير والتأويل ما يسهل تطبيقه حتى على النصوص الجاهلية التى لم يكن يعرفها القراء المحدثون فى عالم الستينيات.
وكان منطلقها فى تحليل النص الأدبى الجاهلى هو منطلقها نفسه فى تحليل النص الأدبى الحديث أو المعاصر، مدمرة بذلك الأسطورة التى حاول أن يغرسها فى وعينا تلامذة شوقى ضيف وطريقته التقليدية فى أن الشعر القديم لا يفهم إلا بمناهج قديمة، يغلب عليها نثر النظم، أو الشرح الساذج للمعانى القريبة أو المعانى الأولى بلغة عبد القاهر الجرجانى، وليس المعانى الثوانى أو حتى معانى المعانى التى تقودنا إلى تعدد الدلالة وتنوعها وتباين مستوياتها. وكانت فى ذلك تبدأ من حيث انتهى أساتذتها، خصوصا طه حسين وأمين الخولى، فقد اتفق كلاهما على أن أول التجديد هو قتل القديم فهما، ووصل الفهم الجديد بالقديم بكل ما يمكن أن يستوعبه العقل النقدى من نظريات الفن ومناهج الدرس الأدبى فى امتداده الذى يصل الأدب بفلسفة الفن فى أعمق معانيها. ولذلك اهتمت سهير القلماوى كل الاهتمام بمبحث الأداة فى الفنون. وهى اللغة فى حالة الشعر، والمشهد فى حالة المسرح، والسرد فى حالة الرواية، والنغم فى حالة الموسيقى، والحجر والكتلة فى حالة النحت والعمارة.
وأظن أن سهير القلماوى هى أول من كتب فى اللغة العربية عن نظرية الفيلسوف والناقد الألمانى جوتهولد إفرايم ليسينج التى شرحها وبسطها فى كتابه العظيم: «لاؤوكون». وهو كتاب يتتبع فيه هذا الفيلسوف الألمانى وعالِم الجمال كيف يختلف الفن باختلاف الأداة فيه، فاللغة تجعل من الزمن أساسا لها فى الامتداد، والرسم يختلف عنها من هذا المنظور، فالرسم مثلا المعول فيه على تثبيت اللحظة الزمنية (البرهة) سواء فى صياغة اللوحة أو تشكيل التمثال، فأداة الشعر زمنية، وأداة التشكيل - فى حالتى النحت والتصوير والعمارة - مكانية، والعلاقة بينهما علاقة تمايز وتواصل وانقطاع أحيانا. وقد توقف ليسينج عند تمثال «الراهب» الذى تتحدث عنه الأساطير اليونانية باسم «لاؤوكون»، والذى عاقبته الآلهة بأن سلّطت عليه أفاعٍ ضخمة كى تنهشه نهشا هو وأولاده البؤساء. ولا أزال أذكر النبرة التى كانت تتحدث بها أستاذتى سهير القلماوى عن هذا التمثال الذى رأته بعينيها والذى يصور الراهب الذى يستجير به أطفاله الصغار والبراثن الوحشية تنهال عليهم من كل اتجاه، والفارق بين بلاغة النحت فى هذا التصوير وبلاغة الرسم وأخيرا بلاغة الشعر. وانتقلت الدكتورة سهير القلماوى من ذلك إلى إمكانية اللغة وإيقاعها الذى يمر عبر الزمن ليمنحنا الإيحاء بتعاقب المكان وتغير الزمان فى الوقت نفسه. هكذا أدخلتنا فى صلب دراسة النص الأدبى فى ذاته، ودفعتنا إلى أن نبحث عن دور الأداة وهى اللغة فى حالة الشعر، والسرد فى حالة الرواية، والتشكيل فى حالة الفنون التشكيلية، بل جعلت من مصطلح التشكيل نفسه مصطلحا ينتقل إلى نقد الشعر ويعين الناقد على رؤية القصيدة بوصفها تشكيلا فى اللغة وباللغة فى الوقت نفسه.
وأظننى كنت مخلصا لما تعلمته منها عندما أصررت، وأنا فى المركز القومى للترجمة، على أن أبحث عن كتاب «لاؤوكون» وأكلف بترجمته الدكتورة فوزية حسن، وبالفعل صدرت الترجمة فى العدد رقم 1354 من منشورات المركز القومى للترجمة، سنة 2009. وقد صدّرت الدكتورة فوزية حسن الترجمة بدراسة عن فيلسوف الفن والحضارة «جوتهولد إفرايم ليسينج» وكتابه العلامة الذى يعد صاحبه أول من أثار الانتباه للعلاقة بين الفن التشكيلى وفن الشعر، وحاول الربط بينهما ومقارنتهما معا من منظور جديد كل الجدة. وقد وجدت للدكتورة سهير القلماوى مقالا فى إحدى الدوريات القديمة عن مأساة «لاؤوكون»، كما وجدتها تكرر الحديث عنه فى مقالات أخرى. ولا أظن أننى أسرف فى الاجتهاد لو قلت إن ما ذكره المرحوم الدكتور عز الدين إسماعيل بعد ذلك عن «إمكانية اللغة»، إنما هو أثر من الآثار الإيجابية التى تركتها فى نفسه محاضرات أستاذتنا الدكتورة سهير القلماوى عليها رحمة الله.
والحق أن هذه السيدة هى نفسها التى علمتنا فى محاضراتها ما كان يقصد إليه ت.إس. إليوت عن معنى «التقاليد والمواهب الفردية»، فقد كانت تطور مقولة طه حسين وأمين الخولى بأن أول التجديد هو قتل القديم فهما، بتأكيد أن الشاعر العربى المعاصر لا يمكن أن ينبغ إلا إذا كان واعيا بتراثه الشعرى كله ابتداًء من أحدث شاعر فى عصره، وانتهاًء إلى أقدم شاعر فى تراثه. ولذلك فإن أصالة الإبداع الحقيقى لصلاح عبد الصبور مثلا - لا يمكن أن تتحدد إلا بأمرين: الأمر الأول هو تواصله الخلاق مع شعراء عصره، مثل إبراهيم ناجى وعلى محمود طه إلى العصر الجاهلى بأقدم شعرائه، وأن أصالة صلاح عبد الصبور لا تتحدد بهذا الوعى فحسب، وإنما تتحدد بإضافته أى صلاح عبد الصبور - رؤيته العصرية. أعنى رؤيته الفردية إلى عالمه المعاصر، ولكن بما لا ينفى قط - العلاقة بين هذه الرؤية وعصرها من ناحية، وعلاقتها بماضيها المنتسب إلى هذا التراث بالمعنى الخلاق الذى تنسحب دلالته على كل من صلاح عبد الصبور على مستوى الموهبة الفردية، وعلى علاقته وغيره إيجابيا أو سلبيا بالتراث، من حيث التواصل الخلاق بين الأقدم والأحدث. وبهذا المعنى الجديد يتحدد فهم سهير القلماوى لمقولة ت. إس. إليوت عن التقاليد والموهبة الفردية. ولا أزال أذكر أن سهير القلماوى كانت تنقل عن ت. إس. إليوت فكرته فى أن عقل الشاعر يتميز بأنه يقيم علاقات بين ما لا يتصل أو ما لا نرى نحن - القراء العاديين - اتصاله، فقراءة كتاب للفيلسوف الهولندى سبينوزا مثلا - تتجاوب ورائحة الطهو، كما يتجاوب كلاهما مع دقات الآلة الكاتبة فى عقل الشاعر الذى يصنع دائما علاقات جديدة بين أشياء لا يتصور الإنسان العادى إمكان وجود علاقات بينها، فعقل الشاعر كخياله يبنيان دائما كليات علائقية جديدة لم تكن موجودة من قبل.
ولقد كنتُ ألاحظ دائما أن انحياز سهير القلماوى إلى الدراسة الفنية للأدب المعاصر كانت توازى تماما اهتمامها بالدراسة نفسها للتراث العربى القديم. وأتصور أنه الآن وبعد مرور واحد وعشرين عاما من وفاة سهير القلماوى (مايو 1997) وما أكتبه الآن، فأننى أرى تأثرها الواضح بمدرسة «النقد الجديد» فى كل من إنجلترا والولايات المتحدة. فإن فهمها الأدبى لمعنى القيمة فى الفنون من حيث هى تحقيق لأقصى درجات التوازن بين أقصى درجات التعارض، لا تكاد تختلف كثيرا عن المعنى السيكولوـى للقيمة الذى رأيناه فى كتابات الناقد الإنجليزى إيفور آرمسترونج ريتشاردز، وهو الثانى فى حركة «النقد الجديد» التى بدأت من إنجلترا وازدهرت فى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال نقاد من طراز: كلينث بروكس، جون كرو رانسوم، وآلان تيت وغيرهم من أقطاب المدرسة التى حاول أن يروج لها رشاد رشدى فى زمنه الذى انقضى، والذى كان يصل بقدر ما كان يباعد بينه وبين سهير القلماوى.
وأعتقد أن المصادر الثقافية لنقد سهير القلماوى الأدبى لم تكن متوقفة على المدرسة البريطانية فى النقد الأدبى فحسب، وإنما تمتد إلى المدرسة الأمريكية فى الوقت نفسه. وإذا أردت الدقة فإننى أقول: إن البداية كانت من دراستها فى فرنسا حين تعلمت فيما تعلمت - على أيدى مدارس «شرح النصوص» تحليلا وتفسيرا، وهى المدرسة التى سبق إليها فى التأثر بها محمد مندور (1907 ــ 1965) الذى سبقها فى الذهاب إلى فرنسا.
وأعتقد أن من حق سهير القلماوى علينا، نحن الذين تعلمنا على إيديها المعانى الحقيقية والدقيقة للنقد الحديث والمعاصر على السواء، والتى تعلمنا منها الدلالات الأولى للحداثة، والإيمان بالتحليل النصى الذى يهتم بالعناصر التكوينية الدقيقة والمحايثة فى العمل الأدبى، علينا أن ندفع طلابنا إلى دراسة الأسس النظرية للنقد التطبيقى الذى مارسته سهير القلماوى على امتداد ما يقرب من نصف قرن، وذلك فى الدائرة التى كانت تصل بينها وبين زميلها محمد مندور (1907 ــ 1965) الذى ولد قبلها بأربع سنوات، ودرس مثلها فى فرنسا، والتى كانت تصل بينها وصل التوازى وبين زميلها لويس عوض (1915 ــ 1990) الذى كان النقيض النقدى لكل من رشاد رشدى (1912 ــ 1983) وزكى نجيب محمود (1905 ــ 1993)، والتى كانت تباعد بينها وبين محمود أمين العالم (1922 ــ 2009) وحسين مروة (1910 ــ 1987) فى آن.
وقد بدأت سهير القلماوى خطواتها الجامعية الأولى بالإلحاح على أستاذها طه حسين بأن يرعاها فى دراسة «ألف ليلة وليلة» التى قرأتها وشغلتها منذ صباها الباكر، ولكن أستاذها طه حسين أدرك المصاعب التى يمكن أن تحول بينها وبين التعمق فى هذه الدراسة، فدفعها إلى أن تبدأ حياتها الأكاديمية بدراسة شعر الخوارج موضوعا للماجيستير الذى حصلت عليه فى أبريل عام 1937، وبعد أن استراحت من عناء الدراسة فى الماجيستير سمح لها الأستاذ أن تبدأ ملحمتها الكبرى فى الدراسة النصية بدراسة «ألف ليلة وليلة»، فسافرت إلى فرنسا لتدرس فى السربون، وتفيد من المناهج الحديثة فى دراسة «ألف ليلة وليلة»، وعادت من باريس بعد عامين فى سبتمبر عام 1939، وأكملت الرسالة التى ناقشتها عام 1941، وأصبحت السيدة الأولى الحاصلة على درجة الدكتوراة فى الآداب فى الجامعة المصرية، ومن ثم فى كل جامعات العالم العربى التى لا تراث لها مثل تراث الجامعة المصرية.
الطريف أننى عندما أتأمل الآن فى دراسة الماجيستير ثم دراسة الدكتوراة، أجد أن أستاذتى اختارت «الكتابة الهامشية» التى تخرج على تيار الكتابة السائدة، موضوعا لإطروحة الماجيستير ثم الدكتوراة، فاختارت شعر الخوارج موضوعا للماجيستير، وانتقلت منه إلى دراسة «ألف ليلة وليلة» التى طافت بها ما بين الشرق والغرب، وانتهت من دراستها بكتابها الفذ عن «ألف ليلة وليلة» الذى نشر للمرة الأولى عن دار المعارف، سلسلة الدراسات الأدبية عام 1943، مستهلا عهدا جديدا من الدراسات الشعبية من ناحية، والأساليب المنهجية الجديدة فى دراسة النصوص الأدبية من ناحية ثانية. لكن تظل رسالتى الماجيستير والدكتوراة علامة منهجية بارزة فى الدراسات الأدبية من منظور المنهج التاريخى المقارن من ناحية، ومن منظور تسليط الضوء الباكر على الكتابة الهامشية والاهتمام بما أطلقتُ أنا عليه، بعد ذلك بنحو نصف قرن، اسم: «بلاغة المقموعين» مستجيبا إلى بذور التلمذة الأولى التى انطويت عليها من دروس الأستاذة التى أصبحت لى أمّا بكل معنى الكلمة.
هل كان مصادفة أن تندفع سهير القلماوى إلى دراسة شعر الخوارج بعد تخرجها مباشرة، وإلى دراسة «ألف ليلة وليلة» بعد شعر الخوارج؟! لا أظن أن الأمر يخضع للمصادفة، خصوصا عندما أسترجع ما كانت تحكيه لى من ذكرياتها، فى مناقشة أطروحتيها الأولى والثانية، فقد هاج المحافظون على أستاذها طه حسين، ونددوا بهذه الشابة السافرة التى تجلس مجلس الرجال، ويجلس أمامها الرجال الذين يقومون بامتحانها فى حضرة رجال آخرين غرباء. واضطر طه حسين أن ينقل المناقشة من مكانها المعلن إلى مكان آخر، وأن تجتاز سهير القلماوى امتحان الماجيستير والدكتوراة فى غرفة مغلقة، بعيدا عن عيون وصيحات الغاضبين الذين لا يكفّون عن استغلال الدين لتبرير التخلف. وخرجت سهير القلماوى دكتورة من هذه التجربة التى زادتها صلابة وقوة، كأنها أصبحت وريثة «شهر زاد» التى تنقل إلى كل من حولها آفاق المعرفة الواعدة، منتصرة بإبداع العقل على القوة الغاشمة لتخلف كثير من الرجال الذين لا يفارقون التقليد الجامد والنقل الجاهل، فكان انتصارها رمزا مجدِّدا لتحرر المرأة العربية وتحرير وعيها بحضورها الفاعل فى الوجود.
لقد اختارت طريق أستاذها الذى ظل يؤثر الجديد الحى على القديم الميت، ويستبدل اقتحام الأفق المغلق بالسير فى الطرق الآمنة المُمهَّدة، ونقلت السر الخلاق للجسارة والشجاعة والجرأة والإيمان بالمبدأ الأصيل للتطور من أستاذها إلى تلامذتها الذين ظلت تعاملهم بوصفهم أبناءها، دون تفرقة بين ذكر وأنثى، أو بين مصرى وعربى، تلامذتها الذين علمتهم أن يضيفوا إلى ما أنجزت، وأن يصلوا إلى أبعد مما وصلت إليه، تاركة لكل منهم اختيار منهجه، وحرية تفسير مادة موضوعه حسب تصوراته الفكرية الخاصة، محافظة فى ذلك على تقاليد ليبرالية أصيلة، فكان من هؤلاء التلامذة الماركسى الماويّ والتروتسكى، كما كان منهم القومى والناصرى والليبرالى، وبعد ذلك الواقعى والبنيوى والتفكيكى...إلخ، فاجتمعت فيهم كل ألوان الطيف السياسى والفكرى والنقدى. ومضت هى تواصل إلى جانب مهمة التدريس والإشراف على الرسائل الجامعية، كتابة المقالات فى شئون الحياة العامة وفى مجالات النقد الأدبى بمعانيه النظرية والتطبيقية بخاصة، فكتبت العشرات من المقالات فى النقد الأدبى بمجاليه النظرى والتطبيقى. وقد بدأت بالكتابة عن الشعر بين الفنون، وعن نظرية «لاؤوكون»، واستمرت تكتب المقالات فى مجلات: «أبوللو» و«الهلال» و«العربى» و«الآداب» و«الكاتب» و«المجلة» و«الفنون» وغيرها مما حاولتُ جمعه فى هذا المجلد، وما يخص النقد الأدبى وحده، وجعلته باسم: «مقالات فى النقد الأدبى»، وذلك فى مجلد يضاف إلى بقية ما تركته هى لنا من مؤلفاتها: (أدب الخوارج، ألف ليلة وليلة، مع الكتب) وإبداعاتها: (أحاديث جدتى، الشياطين تلهو) وترجماتها: (ترويض النمرة، رسالة أيون، عزيزتى أنتونيا، رسائل صينية، هدية من البحر، كتاب العجائب) هذا فضلا عن قصائدها الموجودة فى مجلة «أبوللو» فقد كانت شاعرة واعدة، سرقها الدرس النقدى المنهجى، إلى آخر أنشطتها الثقافية والاجتماعية، متعددة الجوانب، متنوعة الاتجاهات، وذلك كله بما يجعل منها علامة ساطعة فى تاريخ الثقافة العربية التى تدين لها بالكثير، مثلنا نحن تلاميذها الذين أودعت فيهم أحلامها عن المستقبل الذى يتحقق بالعلم والجامعة التى تتأسس بالحرية. وها نحن نجدد لها العرفان بالفضل، ونحن نحتفل بمرور خمسين عاما على تأسيس معرض الكتاب الدولى الذى أسستْهُ وافتتحه معها ومشاركا لها ثروت عكاشة، أهم وزير للثقافة فى تاريخنا المصرى الحديث، رحمهما الله معا.
بمناسبة مرور 50 عاما
على تأسيسها معرض الكتاب