عبد العزيز بركة ساكن - إدغار ألآن بُو في خشم القربة.. قصة

من عجائب الأقدار أن يصبح الكتاب الذي سرقته من غرفة أخى الأكبر فريد، هو الذي يقرر كيف تكون حياتي في المستقبل، كان كتاباً متوسط الحجم، له أوراق قديمة تتدرج ألوانها ما بين البني الغامق الى لون أشبه بالحنطة، كُتب على غلافه الذي يخلو من الرسومات، (قصص الرعب والخوف- تأليف إدجار ألآن بُو- ترجمة خالدة سعيد). بالطبع ما كنت أعرف من هو إدجار ألآن بُو ولا مَنْ هي خالدة السعيد-لاحقا عَرفتُ أنها زوجة الشاعر السوري أدونيس. ما جذبني للكتاب هو العنوان المُرعب: كان ذلك هو أول كتاب أقرأه في حياتي ودفعني لكتابة كتابي الأول أيضا،. كنتُ في الثالثة عشر من عمرى أو أقل، قرأته في يومين بصورة متواصلة، مختبئاً في الصخور التي على شاطيء نهر ستيت، لم أعبأ بما يُقال عن النهر فيما يخص ساكنيه الذين هم من الجن والعفاريت، أو في العراء عند شجرة اللالوب الاسطورية، أو في غرفة جدتي حريرة، ولا يفصلني عنه سوى الظلام، حيث لا تُوجد كهرباء في مدينتنا الصغيرة، والسراج الوحيدُ بالبيت يُستخدم بالتبادل لمن يحتاج إليه في أغراض طارئة.
لا أدرى كم مرة أعدتُ قراءة الكتاب، ولكن أخذت أبحث في مكتبات القرية والمُدن المجاورة التي تأخذني لها أمي في سفرها الشاسع عن كتب أخرى وذلك بعد أن أتيت على مكتبة المدرسة كلها التي كانت تحتلها كتب كامل كيلاني واجاثا كرستي وجرجي زيدان وبعض القصص المترجمة لشكسبير و شارلز ديكنز وغيرهما وتقريبا في الخامسة عشر من عمرى بدأت أكتب، قصصا مُرعبة جداً، كانت ترعبني أنا أولا قبل أن ترعب أختى الصغيرة محاسن وهي قارئتيء الوحيدة وناقدتي، ولن أنسى أول رواية كتبتها، وكنتُ في الثانوية العامة، وسمتها ب(تحت النهر)، والنهر المقصود هنا نهر ستيت الذي قرأت على شاطئه الحجري قصص الرُعب والخوف لإدجار ألآن بُو. الروايةُ تحكي عن طفل صغير متمرد مغامر لم يصدق كل الحكايات عن جنيات ستيت الشرسات، ولا أهلهم من الجن والشياطين المتعطشين للدماء الذين هم بقايا جند الملك سليمان فروا من الحبس وانطلقوا في تلك النواحي يثيرون الرُعب، بل لم تخيفة اسطورة البومة الساحرة التي تقيم بشجرة العرديب على صخرة “أم أسود”، فذهب ذات مغرب إلى النهر وحده، وهو الوقت الذي تخرج فيه الجنيات من النهر ليلعبن على الشاطيء الرملي الضيق، الذي يفصل الصخور الترسبية العملاقة عن الماء، وكما يقولون إن الصدفة تأتي لمن يبحث عنها، فانه وجد جنية وحيدة جميلة، ترقد على الشاطيء، وعندما تنظر إليك الجنة فانها تفعل بك ما ترغب هي، لذا لم يستطع الهرب، إنما مضى نحوها يحمل قدره الذي لا مفر منه، وفي لحظة خاطفة كالبرق، حملته إلى عمق نهر ستيت، وهنالك وجد أسرتها من الشياطين والجن، رحبوا به في باديء الأمر، إلا أنهم حالما اكتشفوا أنه اكثر جنونا وفوضوية وخبثا ولؤما منهم، فقاموا بطرده من مملكتهم لكي لا يفسد اطفالهم. والرواية تصور عالم الجن والاساطير التي حوله كما هي في مخيلة طفل شرير معجب بإدجار ألآن بُو.
كتبتُ القصة في كراسة المدرسة حيث كان به الورق الوحيد المتوفر لدي، وقمت بعرضها لأستاذ اللغة العربية، فأعجب بها جدا، وسألني من أين أتيت بها، قلتُ له كتبتها “من رأسي”، فقام بأخذي لمدير المدرسة، الذي قرأها في لحظات، وقال لي: ستقوم بقرأتها للطلاب بكل المدرسة، فصلا فصلا. ففي ذلك اليوم كنت أمر مبتهجا على كل فصول المدرسة، وأقرأها للاكبر مني عمرا وللذين في سني، ووجدت احتراما فائقاً حتى من طفل كان يقود المعارك الشرسة ضدي التي طالما أصبحت ضحيتها، وفي نهاية اليوم بدلا من أن يقوم هو وفرقته الشريرة بضربي كعادتهم، طلبوا مني أن اقرأها لهم ونحن في طريقنا إلى منازلنا بعد اليوم الدراسي، والحمدُ يعود لإدجار ألآن بُو.
القصة لم تعجب أختى محاسن، وقالت إن بها “قِلة أدب”، لأنني صورت الجنة وهي عارية وترقد على الرمل، وكانت تصر على أن ألبسها فستانا أحمر ولباس. ولكن المعلمون لم يلاحظوا ذلك، كل ما قام به الأستاذ أبو بكر من تعديل، هو حذف بعض الكلمات التي استعرتها من القرآن، وكنت مندهشا لماذا فعل ذلك وهو الذي قال لنا إن لغة القرآن هي الأكثر فصاحة وجمالاً وبلاغة من كل ما كتبه العرب وما سوف يكتبونه، والآن يشطب بقلمه الأحمر كلمات مثل: الكافرون والفاسقون، وأفلا يعقلون؟؟ هذا ما لم أكن افهمه.
احتفظت بكراستي المقدسة الصغيرة لسنوات طوال، إلى أن اهترأت أوراقها وشاخت من القراءة الكثيرة، واستلفها البعض أيضا لأيام وتعود من كل رحلة متبلة بالبهار ومسقية ببقع الزيت والعطر وخاصة بعدما اخترقت قلعة مدرسة البنات الثانوية، ذلك المكان الذي ما كنت أحلم بدخوله مطلقاً وهو يثير رُعبي أكثر من قصيدة الغراب لإدجار ألآن بُو، ومرة اتتني مأكول بعضها، الى أن تلاشت في الازمنة والامكنة، وكل ماتبقى منها في ذاكرتي الخربة خصلة من شعر تلميذة مهرتني بها بعد القراءة، تركتها وسط الاوراق دون قصد كعادة الفتيات الجميلات عندما يشأن الغواية.
لم يخامرني شعور بكتابتها مرة أخرى، ويبدو أنها لم تكن سوى محاولة للتخلص من الرُعب الذي شحنني به إدجار ألآن بُو، أو معاقبته على ما أصابني من رعب، أو محاولة منى يائسة بأن أنقل الرعب إلى الآخرين، بتعبير آخر أنني أردتُ أن يبقى معي إدجار ألآن بُو في خشم القربة، مدينتي الصغيرة التي تنام في حضن نهر ستيت، وربما نجحت في ذلك لحد ما، حيث اخذ الطلاب الاشرار يحذرونني، ربما لأنني اصبحت احد المقربين من ناظر المدرسة، الاستاذ فكري عبدون الذي كان يدهشنا بثقافته وشراسته ايضاً. أو لأن روح الأكثر شرا كانت تحلق حولي. وأخيراً قد يظن القاريء أنني أحب إدجار ألآن بُو ذلك الامريكي اللعين السكير الذي مات على مقعد عام بمدينة بالتيمور في ولاية ماريلاند، بل في الحق، أنني أخاف منه إلى يومنا هذا.

النمسا- سالفلدن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...