أزمع أن يختتم حياته فى هذا المكان.
خطر خفي: تعرف على الحقيقة المُخيفة عن الفطريات قبل أن تفقد أظافرك!
خطر خفي: تعرف على الحقيقة المُخيفة عن الفطريات قبل أن تفقد أظافرك!
الخلاء من الصحراء، والصحراء هى الأرض التى تقل فيها الخطايا، وربما تنعدم، لعزلتها عن حركة الناس. اختار لعزلته موضعاً فى صحراء المكس، يلوذ بظل شجرة لا يعرف متى أخذت هيئتها، ولا كيف، ظلها كأنه يطرد حرارة الجو مهما تشتد. أزمع أن يخلص للتصوف، لا ينازع أهل الدنيا فى دنياهم. يحتويه الصمت والسكون والفراغ والتأمل.
ودع جلساءه فى قهوة مخيمخ المطلة على ميدان أبو العباس، قال:
- إنى ذاهب إلى ربى سيهدين.
وشرد فى الفراغ:
- لا راحة لى قبل أن ألتقى وجهه.
نفض رأسه من ألعاب المقهى التى كان يقضى فيها معظم ساعات يومه، الطاولة والشطرنج والدومينو والكوتشينة، إذا غلبه التعب، فإنه يكتفى بالنصح، أو بالفرجة.
ارتحل جهة الورديان، تباطأت خطواته وهو يتلفت حتى التمعت عيناه بالطمأنينة وهو يمضى فى الخلاء الوسيع، آخر شارع المكس.
الخلاء تغيب عنه الخضرة إلى نهاية الآفاق، عدا نباتات صحراوية متناثرة. ينظر إلى الصحراء على أنها حياة، ليست السراب ولا الظمأ أو الجوع والإرهاق وتلاشى الحياة، ليست جدباً ولا مواتاً.
تنامت فى نفسه قيم الزهد والولاية والمحبة والتوكل. لم يتلق درساً على يد شيخ مرشد، طريق الاستقامة على طاعة الله تغنيه عن الهاتف، أو الإلهام، أو التلمذة، فضل أن يخوض غمار التجربة من حاله ونفسه.
عرف أن الطريق الصوفى هو الذى يوصله إلى الحضرة الإلهية. ندم على ما ضيعه فى سالف الأيام. قصر أيامه على الاعتزال والخلوة. أخضع نفسه لنظام جسدى، وذهنى، صارم. يطيل الركوع والسجود، ويصوم، ويقرأ القرآن. انقطع عن كل شيء سوى الله عز وجل. اتخذ الله صاحباً، استغنى به عن الناس، فتر قلبه عن الدنيا، ووجد فى نصرة الله عوضاً عن كل شيء.
لقى فى العيش فى الخلاء ما يختلف عن حياة العزلة وسط الناس، لا يحتاج فى الخلاء الممتد إلا للدعاء، والتقرب إلى الله بأوراد وأذكار وتهدجات وتسابيح، يرنو إلى الشمس عند انحسارها إلى الغروب، يؤذن للصلاة، لا يلجأ إلى ساعة، أو سؤال. كأنه اخترع لنفسه عالماً يختلف عن العالم الذى يعيشه الناس. كأنه توحد مع الخلاء والأشجار والزراعات القليلة.
لم يكن ترك الدنيا هدفه، لكنه اختار العزلة التى لا تفصله عن الناس، وإن قطع نفسه عنهم، لا يجالسهم، ولا يخالطهم، ولا يستعين بأحد دون الله، عيناه تنظران إلى أبعد من الآفاق حوله.
أزمع أن تستغرق الخلوة بقية عمره، لا يغادر الخلاء، ولا ينزل إلى المدينة، ما يريده من احتياجات ضرورية يتكفل بها زواره.
ساعده جيران من أهل الخلاء على إقامة أعمدة كوخ صغير، على حد الصحراء، أحيط بالبوص، وفرش سطحه بالجريد، لبعد المكان عن مجرى مائى، فقد حفر فى موضع قريب، حتى انبثق الماء.
عرف الخلاء كما يعرف خطوط يده، ما يبدو متشابهاً فى أعين الناس يراه فى أوقات النهار والليل.
مال عن الدنيا وشواغلها، طالت عزلته، بحثاً عن الإشراق، يقضى يومه فى الصلاة والتأمل والابتهالات والأذكار والتهجد. زاد مجاهدات كثيرة إلى ما حرص عليه من عبادات.
شاع الأمر بين الناس فى بحرى وما حوله. زاره مريدون وزوار، يطلبون الوصل والقبول.
عظم فى نفوس أهل الحى، بالغوا فى توقيره. امتلأت حضرته بالمريدين. يجيب عن كل ما يسألون. يشجعهم على كسر شهوات النفس، وقطع المسافات. يكثر من الاستشهاد بآيات القرآن، وأحاديث الرسول،ـ والتفاسير، وأقوال الصحابة والفقهاء والتابعين.
تسامع به الناس من خارج بحرى، تقاطروا على مجلسه ذاع أمره، انتشر صيته، تضخم مريدوه وأتباعه. وكان يباشر بنفسه أتباعه ومريديه، يلبى ما يتيسر تلبيته من احتياجاتهم. يخدمهم بيده، لا يتعالى عليهم، ولا يميز نفسه بمعاملة خاصة.
وهو يرسم على الأرض - بغصن جاف - دوائر ومربعات وخطوط متداخلة:
- أهم من اللباس أن يكون فى رأسى ما أقوله للناس.
وقال لمن أشفق عليه استغراقه فى السهر والقراءة:
- لا بأس من قليل النوم، غداً سيطول نوم القبر.
اعتاد المريدون والزوار رؤيته وهو يجلب الماء من البئر القريبة، يزرع الخضر فى مساحة سواها مريدوه، يدفع الحطب فوق الراكية، ويوقد النار، يطعمها بأغصان رفيعة، متكسرة، يسوى الخبز، ويطهو الطعام فى القدور. ربما اقتصر غذاؤه على الأعشاب والنباتات البرية.
زاد تقاطر الناس، يتأملون جلسة الشيخ فى وحشة المكان، يضعون ما حملته أيديهم من الزاد والزواد، يأخذه من جعلوا أنفسهم فى خدمة الشيخ، يعيدون تسخينه على راكية النار، ليحتفظ بطزاجته.
لاحظ أن صوته لا يبلغ أسماع الجالسين فى آخر الصفوف، اختار شاباً جهير الصوت، يأخذ دور المبلغ فى الصلاة، فيعيد ما يقوله الشيخ لتتحقق فائدة الخطبة، يبث فى حضرته تعاليم الدين، يبصّر زائريه بأحكام الإسلام، يأمرهم بالمعروف، ينهاهم عن المنكر، يضمن خطبه آيات القرآن، والأحاديث النبوية، وقصص الأنبياء، والخلفاء، والصحابة والتابعين.
يصعب على الزائرين تصور أن الخلاء الممتد من كل الجوانب، يمكن أن ينبت زرعاً من أى نوع.
صارت حضرته مقصداً للناس، وطالبى العلم والسؤال، أقبل عليه الناس، منجذبين إلى أفكاره وآرائه، وما صدر عنه من مكاشفات، قدم بينهم من يعانون، قدم لهم الأتباع - بأمر من الشيخ - أطعمة من تبرعات آخرين. لا يعود الشيخ إلى عبادته إلا إذا اطمأن إلى أن كل من قدموا إلى الخلاء حصلوا على القوت الضرورى.
أثنى عليه الناس فى مجالسهم، رفعوا من قدره، وجدوا فيه أملاً للغلابة والمنكسرين، تكاثرت الروايات عن كرامات الشيخ، وتفرده بها دون سواه من شيوخ الطرق الأخرى. افتتن أهل بحرى بما أظهره من قسوة العيش، العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة، عظم اعتقادهم فيه.
بلغت أعداد مريديه، وقاصدى حضرته، ما يفوق الحصر. ترك للمريدين حريتهم فى اختيار ما يقرأون، ونوعية القضايا التى يناقشونها، والمخالطة، أو الاعتكاف فى الأوقات التى يحددونها.
مع أن الخلاء كان يمتد إلى الآفاق من كل الجوانب، لا أنيس ولا جليس ولا بشر، فقد كانوا يجدون عنده رزقاً وفيراً، لا يسألون ليقينهم بكثرة بركاته ومكاشفاته. توضع موائد الطعام، يأكل المريدون حتى الشبع، يرفع الطعام كأنه لم يمس، ويجرعوا الماء الزلال والمشروبات، وتظل الأوعية على حالها، كأنها لم تمس.
بلغت قدراته حد علاج المرضى المقيمين فى مناطق بعيدة، صار له - بتأثير الشفاء - مريدون فى مدن وقرى كثيرة، دانوا له بالسمع والطاعة والأيمان بمكاشفاته.
تناثر - بالقرب من مجلسه - باعة الكتب والأذكار والأدعية والعطور وأعشاب الطب النبوى.
اعتذر بأنه لا يستطيع أن يصف تجربة عزلته، ولا أن يعبر - فى كلمات - عما يراه، وتكرر اعتذاره عن صحبة الناس، فلا يفسدون عليه توكله. السكون هو الصديق الذى لا يفارقه، يحادثه، يأخذ منه – فى شروده – ويعطى، يبثه همومه وخواطره، دون أن يهتك صمت المكان. جذبته أنوار المشاهدة إلى عين التوحيد.
نفى أن يكون هو الذى جعل سياج التين الشوكى حول الخلاء الذى لزم منتصفه. قال:
- الله يحيى ويميت.. هل نستغرب إن استنبتت الزراعات من الأرض؟
دان له كل ما حوله من مظاهر حياة، يخضعها بكلماته، أو بنظرة عينيه، حتى ذرات الغبار كان يلزمها الهدوء - بنظرة صارمة - فلا تتأثر بهبات الهواء القادمة من البحر، تظل ساكنة. وكان يجيد الكتابة فى الليل نفس إجادته الكتابة فى النهار، لا تمنعه العتمة من الرؤية بما يتيح له الاستمرار فى تسجيل مشاهداته وخواطره.
إن أتى له الناس بأقفاص الفاكهة والخضر، ردها عليهم. قال إنه أسلم نفسه إلى الذات العلية، هى التى ترعاه، وتطعمه، وتحفظ انتظام أنفاسه. كفاه الله - بفضله - كل مؤونة. إن عضه الجوع – وقليلاً ما حدث – اقتات على أوراق الأشجار، أو الأعشاب البرية، المتناثرة بالقرب من موضعه.
أخدته الغفوة ليلة، لما تنبه، وفتح عينيه، رأى كأن موضع الخلاء قد تبدل، كأنه وجد نفسه فى مركب، يمضى على موج هادئ كحصيرة، اهتز المركب، ودار حول نفسه بدوران دوامة، علا صوته مستغيثاً، صحا على يد مريده عبد المطلب تهزه، كأنها أيدى أنقذته من الغرق.
ميز الحلم فيما رأى، لكن الناس تبينوا - فى الأيام التالية - أن موضعه تحت الشجرة خلا منه.
عاب على نفسه أن الخلوة أخذته عن مشكلات الناس وآلامهم، شغله الإحساس بأنه يعانى تقصيراً نحو القريبين منه، تشغله ظروفه الشخصية، فيهمل مشكلات المريدين، قر عزمه أن يهجر عزلته فى الخلاء، تغيب الصورة التى اعتاده فيها الناس، لا تقتصر حياته على الصحراء، ينزل إلى الناس، حيث يقيمون.
رفض عرضاً من المعلم بلبل الكسار التاجر بالورديان، أن يمتطى جواداً يعفيه من مشقة السير على القدمين، وزحام المريدين. ألح عليه مريدوه أن يركب الجواد فى تعمقه المدينة، يحيط به المريدون الأعلام والشارات والأناشيد والأدعية والهتافات والبيارق والطبول والدفوف والأدوات النحاسية.
قال فى لهجة معتذرة:
- غادرت الخلاء لأخالط الناس.
رفض أن يأخذ نزوله المدينة مظهر الأبهة، هو واحد من الناس، صابر نفسه وجاهدها، فصلها عن الرغبات الدنيوية، وسلك سبيل التوكل.
أخذ الموكب سمت العظمة، يتلقى الشيخ تحيات الناس المحتشدين على جانبى الطريق، يهتفون، ويصفقون، وتقذف النسوة الملح.
انضم إلى الحشد جماعات من الناس. يمشى أمامه وحوله المريدون، يتبعه من ترتبك خطواتهم، أو يحركهم الفضول, زادوا فى التقاطعات والمفارق والشوارع الجانبية, تركوا بيوتهم ومحالهم، تضخمت أعداد الموكب الذى ملأ الشوارع من المكس إلى ما بعد ميدان المنشية.
تعثرت خطوات فى العشرات الذين اعترضوا طريقه، يطالبونه بالأحجبة والتعاويذ والنصفة والمدد، يرجون شفاعته لشفائهم من أمراض يعانونها، أو الثأر لهم ممن نالوهم بالأذى، وثمة من وجد فى ملامسته تحقيقاً للبركة.
وعد جلال أبو العينين بائع أدوات الصيد بوكالة الليمون، أن ينشئ زاوية باسم الشيخ، يلتقى فيه مريدوه، إن نصره الشيخ على يزيد الجمل، منافسه على زعامة العائلات فى كفر عشرى.
ما عرفه من حياة الناس بدا هدفاً يتجه إليه، لا يلبى استغاثة، ولا يحل مشكلة من أوذى فى حياته أو رزقه، إنما يشغله تغيير أحوال الجماعة، يستكمل الناقص، ويزيح الظلمة من حياة الناس.
بالغ وجهاء الحى فى إكرامه، وبعثوا له بضيافات كثيرة، وصلات ذات قيمة، تلاصقت خرق الصوفية وملاءات اللف والعمائم والعباءات والقفاطين والبدل والطرابيش والجلابيب والفساتين والمداسات والأقدام الحافية.
مضى - فى حشود مريديه - تحفه الهيبة والرهبة والجلال والقداسة، وتفوح منه رائحة الطيبة، إلى شارع الورديان، وكوبرى التاريخ، ومينا البصل, وشارع السبع بنات، يتقدمه أعوانه يفسحون له الطريق، من حوله وخلفه مئات المريدين يهللون، يهتفون، يلهجون بالدعاء، الرايات تخفق فى الشرفات، ودوى الطبول يعلو إلى آخر مداه.
تحولت اللمة - فى اقترابها من ميدان المنشية - إلى مظاهرة هائلة، تردد الأدعية والابتهالات والأذكار، حرص أن يظل فى مقدمة المتظاهرين، يتنقل بين الدكاكين والمقاهى والوكالات, ينصت إلى أقوال الناس وملاحظاتهم، بعد أن يخلص فى الدعاء لله، كى ينقذهم مما يعانون.
نزل إلى الناس، سار فى المنشية وشارع الميدان وميدان الأئمة وسوق راتب، والجوامع والمزارات، جالس رواد قهوة فاروق، ومعلمى ورش القزق، زار كآحاد الناس حلقة السمك. أجاب عن أسئلة، ونصح، وفاصل، وساوم، وعاب ما يخالف الدين. زار حتى من لم يتوقعوا زيارته، من يعجزون عن تصور وجوده بينهم.
أوغل السير فى شوارع بحرى، تردد على المساجد والزوايا، لا يقصر دروسه على موضع واحد، يلاحقه المريدون حيثما ينزل، ينصتون، يسألون، يفيدون، تتزايد أعدادهم بحيث اختفى التصور أن الدروس يمكن أن تجمعهم فى موضع واحد، لا يتبدل.
تواصلت - فى الأيام التالية - جولات الشيخ فى الشوارع المؤدية إلى أحياء الإسكندرية، يخالط الناس، يستمع إلى شكاياتهم، يشاهد، يسأل، يستفسر، يناقش، يتأمل، ينصح بما ينبغى اتباعه.
روى أنه وضع رأسه للسجود فى صحن القائد إبراهيم، لم يرفعه. نادى عليه إمام الجامع، فظل ساكناً، هزه فى موضعه، فسقط على جنبه.
الخروج من نسك الخلاء
خطر خفي: تعرف على الحقيقة المُخيفة عن الفطريات قبل أن تفقد أظافرك!
خطر خفي: تعرف على الحقيقة المُخيفة عن الفطريات قبل أن تفقد أظافرك!
الخلاء من الصحراء، والصحراء هى الأرض التى تقل فيها الخطايا، وربما تنعدم، لعزلتها عن حركة الناس. اختار لعزلته موضعاً فى صحراء المكس، يلوذ بظل شجرة لا يعرف متى أخذت هيئتها، ولا كيف، ظلها كأنه يطرد حرارة الجو مهما تشتد. أزمع أن يخلص للتصوف، لا ينازع أهل الدنيا فى دنياهم. يحتويه الصمت والسكون والفراغ والتأمل.
ودع جلساءه فى قهوة مخيمخ المطلة على ميدان أبو العباس، قال:
- إنى ذاهب إلى ربى سيهدين.
وشرد فى الفراغ:
- لا راحة لى قبل أن ألتقى وجهه.
نفض رأسه من ألعاب المقهى التى كان يقضى فيها معظم ساعات يومه، الطاولة والشطرنج والدومينو والكوتشينة، إذا غلبه التعب، فإنه يكتفى بالنصح، أو بالفرجة.
ارتحل جهة الورديان، تباطأت خطواته وهو يتلفت حتى التمعت عيناه بالطمأنينة وهو يمضى فى الخلاء الوسيع، آخر شارع المكس.
الخلاء تغيب عنه الخضرة إلى نهاية الآفاق، عدا نباتات صحراوية متناثرة. ينظر إلى الصحراء على أنها حياة، ليست السراب ولا الظمأ أو الجوع والإرهاق وتلاشى الحياة، ليست جدباً ولا مواتاً.
تنامت فى نفسه قيم الزهد والولاية والمحبة والتوكل. لم يتلق درساً على يد شيخ مرشد، طريق الاستقامة على طاعة الله تغنيه عن الهاتف، أو الإلهام، أو التلمذة، فضل أن يخوض غمار التجربة من حاله ونفسه.
عرف أن الطريق الصوفى هو الذى يوصله إلى الحضرة الإلهية. ندم على ما ضيعه فى سالف الأيام. قصر أيامه على الاعتزال والخلوة. أخضع نفسه لنظام جسدى، وذهنى، صارم. يطيل الركوع والسجود، ويصوم، ويقرأ القرآن. انقطع عن كل شيء سوى الله عز وجل. اتخذ الله صاحباً، استغنى به عن الناس، فتر قلبه عن الدنيا، ووجد فى نصرة الله عوضاً عن كل شيء.
لقى فى العيش فى الخلاء ما يختلف عن حياة العزلة وسط الناس، لا يحتاج فى الخلاء الممتد إلا للدعاء، والتقرب إلى الله بأوراد وأذكار وتهدجات وتسابيح، يرنو إلى الشمس عند انحسارها إلى الغروب، يؤذن للصلاة، لا يلجأ إلى ساعة، أو سؤال. كأنه اخترع لنفسه عالماً يختلف عن العالم الذى يعيشه الناس. كأنه توحد مع الخلاء والأشجار والزراعات القليلة.
لم يكن ترك الدنيا هدفه، لكنه اختار العزلة التى لا تفصله عن الناس، وإن قطع نفسه عنهم، لا يجالسهم، ولا يخالطهم، ولا يستعين بأحد دون الله، عيناه تنظران إلى أبعد من الآفاق حوله.
أزمع أن تستغرق الخلوة بقية عمره، لا يغادر الخلاء، ولا ينزل إلى المدينة، ما يريده من احتياجات ضرورية يتكفل بها زواره.
ساعده جيران من أهل الخلاء على إقامة أعمدة كوخ صغير، على حد الصحراء، أحيط بالبوص، وفرش سطحه بالجريد، لبعد المكان عن مجرى مائى، فقد حفر فى موضع قريب، حتى انبثق الماء.
عرف الخلاء كما يعرف خطوط يده، ما يبدو متشابهاً فى أعين الناس يراه فى أوقات النهار والليل.
مال عن الدنيا وشواغلها، طالت عزلته، بحثاً عن الإشراق، يقضى يومه فى الصلاة والتأمل والابتهالات والأذكار والتهجد. زاد مجاهدات كثيرة إلى ما حرص عليه من عبادات.
شاع الأمر بين الناس فى بحرى وما حوله. زاره مريدون وزوار، يطلبون الوصل والقبول.
عظم فى نفوس أهل الحى، بالغوا فى توقيره. امتلأت حضرته بالمريدين. يجيب عن كل ما يسألون. يشجعهم على كسر شهوات النفس، وقطع المسافات. يكثر من الاستشهاد بآيات القرآن، وأحاديث الرسول،ـ والتفاسير، وأقوال الصحابة والفقهاء والتابعين.
تسامع به الناس من خارج بحرى، تقاطروا على مجلسه ذاع أمره، انتشر صيته، تضخم مريدوه وأتباعه. وكان يباشر بنفسه أتباعه ومريديه، يلبى ما يتيسر تلبيته من احتياجاتهم. يخدمهم بيده، لا يتعالى عليهم، ولا يميز نفسه بمعاملة خاصة.
وهو يرسم على الأرض - بغصن جاف - دوائر ومربعات وخطوط متداخلة:
- أهم من اللباس أن يكون فى رأسى ما أقوله للناس.
وقال لمن أشفق عليه استغراقه فى السهر والقراءة:
- لا بأس من قليل النوم، غداً سيطول نوم القبر.
اعتاد المريدون والزوار رؤيته وهو يجلب الماء من البئر القريبة، يزرع الخضر فى مساحة سواها مريدوه، يدفع الحطب فوق الراكية، ويوقد النار، يطعمها بأغصان رفيعة، متكسرة، يسوى الخبز، ويطهو الطعام فى القدور. ربما اقتصر غذاؤه على الأعشاب والنباتات البرية.
زاد تقاطر الناس، يتأملون جلسة الشيخ فى وحشة المكان، يضعون ما حملته أيديهم من الزاد والزواد، يأخذه من جعلوا أنفسهم فى خدمة الشيخ، يعيدون تسخينه على راكية النار، ليحتفظ بطزاجته.
لاحظ أن صوته لا يبلغ أسماع الجالسين فى آخر الصفوف، اختار شاباً جهير الصوت، يأخذ دور المبلغ فى الصلاة، فيعيد ما يقوله الشيخ لتتحقق فائدة الخطبة، يبث فى حضرته تعاليم الدين، يبصّر زائريه بأحكام الإسلام، يأمرهم بالمعروف، ينهاهم عن المنكر، يضمن خطبه آيات القرآن، والأحاديث النبوية، وقصص الأنبياء، والخلفاء، والصحابة والتابعين.
يصعب على الزائرين تصور أن الخلاء الممتد من كل الجوانب، يمكن أن ينبت زرعاً من أى نوع.
صارت حضرته مقصداً للناس، وطالبى العلم والسؤال، أقبل عليه الناس، منجذبين إلى أفكاره وآرائه، وما صدر عنه من مكاشفات، قدم بينهم من يعانون، قدم لهم الأتباع - بأمر من الشيخ - أطعمة من تبرعات آخرين. لا يعود الشيخ إلى عبادته إلا إذا اطمأن إلى أن كل من قدموا إلى الخلاء حصلوا على القوت الضرورى.
أثنى عليه الناس فى مجالسهم، رفعوا من قدره، وجدوا فيه أملاً للغلابة والمنكسرين، تكاثرت الروايات عن كرامات الشيخ، وتفرده بها دون سواه من شيوخ الطرق الأخرى. افتتن أهل بحرى بما أظهره من قسوة العيش، العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة، عظم اعتقادهم فيه.
بلغت أعداد مريديه، وقاصدى حضرته، ما يفوق الحصر. ترك للمريدين حريتهم فى اختيار ما يقرأون، ونوعية القضايا التى يناقشونها، والمخالطة، أو الاعتكاف فى الأوقات التى يحددونها.
مع أن الخلاء كان يمتد إلى الآفاق من كل الجوانب، لا أنيس ولا جليس ولا بشر، فقد كانوا يجدون عنده رزقاً وفيراً، لا يسألون ليقينهم بكثرة بركاته ومكاشفاته. توضع موائد الطعام، يأكل المريدون حتى الشبع، يرفع الطعام كأنه لم يمس، ويجرعوا الماء الزلال والمشروبات، وتظل الأوعية على حالها، كأنها لم تمس.
بلغت قدراته حد علاج المرضى المقيمين فى مناطق بعيدة، صار له - بتأثير الشفاء - مريدون فى مدن وقرى كثيرة، دانوا له بالسمع والطاعة والأيمان بمكاشفاته.
تناثر - بالقرب من مجلسه - باعة الكتب والأذكار والأدعية والعطور وأعشاب الطب النبوى.
اعتذر بأنه لا يستطيع أن يصف تجربة عزلته، ولا أن يعبر - فى كلمات - عما يراه، وتكرر اعتذاره عن صحبة الناس، فلا يفسدون عليه توكله. السكون هو الصديق الذى لا يفارقه، يحادثه، يأخذ منه – فى شروده – ويعطى، يبثه همومه وخواطره، دون أن يهتك صمت المكان. جذبته أنوار المشاهدة إلى عين التوحيد.
نفى أن يكون هو الذى جعل سياج التين الشوكى حول الخلاء الذى لزم منتصفه. قال:
- الله يحيى ويميت.. هل نستغرب إن استنبتت الزراعات من الأرض؟
دان له كل ما حوله من مظاهر حياة، يخضعها بكلماته، أو بنظرة عينيه، حتى ذرات الغبار كان يلزمها الهدوء - بنظرة صارمة - فلا تتأثر بهبات الهواء القادمة من البحر، تظل ساكنة. وكان يجيد الكتابة فى الليل نفس إجادته الكتابة فى النهار، لا تمنعه العتمة من الرؤية بما يتيح له الاستمرار فى تسجيل مشاهداته وخواطره.
إن أتى له الناس بأقفاص الفاكهة والخضر، ردها عليهم. قال إنه أسلم نفسه إلى الذات العلية، هى التى ترعاه، وتطعمه، وتحفظ انتظام أنفاسه. كفاه الله - بفضله - كل مؤونة. إن عضه الجوع – وقليلاً ما حدث – اقتات على أوراق الأشجار، أو الأعشاب البرية، المتناثرة بالقرب من موضعه.
أخدته الغفوة ليلة، لما تنبه، وفتح عينيه، رأى كأن موضع الخلاء قد تبدل، كأنه وجد نفسه فى مركب، يمضى على موج هادئ كحصيرة، اهتز المركب، ودار حول نفسه بدوران دوامة، علا صوته مستغيثاً، صحا على يد مريده عبد المطلب تهزه، كأنها أيدى أنقذته من الغرق.
ميز الحلم فيما رأى، لكن الناس تبينوا - فى الأيام التالية - أن موضعه تحت الشجرة خلا منه.
عاب على نفسه أن الخلوة أخذته عن مشكلات الناس وآلامهم، شغله الإحساس بأنه يعانى تقصيراً نحو القريبين منه، تشغله ظروفه الشخصية، فيهمل مشكلات المريدين، قر عزمه أن يهجر عزلته فى الخلاء، تغيب الصورة التى اعتاده فيها الناس، لا تقتصر حياته على الصحراء، ينزل إلى الناس، حيث يقيمون.
رفض عرضاً من المعلم بلبل الكسار التاجر بالورديان، أن يمتطى جواداً يعفيه من مشقة السير على القدمين، وزحام المريدين. ألح عليه مريدوه أن يركب الجواد فى تعمقه المدينة، يحيط به المريدون الأعلام والشارات والأناشيد والأدعية والهتافات والبيارق والطبول والدفوف والأدوات النحاسية.
قال فى لهجة معتذرة:
- غادرت الخلاء لأخالط الناس.
رفض أن يأخذ نزوله المدينة مظهر الأبهة، هو واحد من الناس، صابر نفسه وجاهدها، فصلها عن الرغبات الدنيوية، وسلك سبيل التوكل.
أخذ الموكب سمت العظمة، يتلقى الشيخ تحيات الناس المحتشدين على جانبى الطريق، يهتفون، ويصفقون، وتقذف النسوة الملح.
انضم إلى الحشد جماعات من الناس. يمشى أمامه وحوله المريدون، يتبعه من ترتبك خطواتهم، أو يحركهم الفضول, زادوا فى التقاطعات والمفارق والشوارع الجانبية, تركوا بيوتهم ومحالهم، تضخمت أعداد الموكب الذى ملأ الشوارع من المكس إلى ما بعد ميدان المنشية.
تعثرت خطوات فى العشرات الذين اعترضوا طريقه، يطالبونه بالأحجبة والتعاويذ والنصفة والمدد، يرجون شفاعته لشفائهم من أمراض يعانونها، أو الثأر لهم ممن نالوهم بالأذى، وثمة من وجد فى ملامسته تحقيقاً للبركة.
وعد جلال أبو العينين بائع أدوات الصيد بوكالة الليمون، أن ينشئ زاوية باسم الشيخ، يلتقى فيه مريدوه، إن نصره الشيخ على يزيد الجمل، منافسه على زعامة العائلات فى كفر عشرى.
ما عرفه من حياة الناس بدا هدفاً يتجه إليه، لا يلبى استغاثة، ولا يحل مشكلة من أوذى فى حياته أو رزقه، إنما يشغله تغيير أحوال الجماعة، يستكمل الناقص، ويزيح الظلمة من حياة الناس.
بالغ وجهاء الحى فى إكرامه، وبعثوا له بضيافات كثيرة، وصلات ذات قيمة، تلاصقت خرق الصوفية وملاءات اللف والعمائم والعباءات والقفاطين والبدل والطرابيش والجلابيب والفساتين والمداسات والأقدام الحافية.
مضى - فى حشود مريديه - تحفه الهيبة والرهبة والجلال والقداسة، وتفوح منه رائحة الطيبة، إلى شارع الورديان، وكوبرى التاريخ، ومينا البصل, وشارع السبع بنات، يتقدمه أعوانه يفسحون له الطريق، من حوله وخلفه مئات المريدين يهللون، يهتفون، يلهجون بالدعاء، الرايات تخفق فى الشرفات، ودوى الطبول يعلو إلى آخر مداه.
تحولت اللمة - فى اقترابها من ميدان المنشية - إلى مظاهرة هائلة، تردد الأدعية والابتهالات والأذكار، حرص أن يظل فى مقدمة المتظاهرين، يتنقل بين الدكاكين والمقاهى والوكالات, ينصت إلى أقوال الناس وملاحظاتهم، بعد أن يخلص فى الدعاء لله، كى ينقذهم مما يعانون.
نزل إلى الناس، سار فى المنشية وشارع الميدان وميدان الأئمة وسوق راتب، والجوامع والمزارات، جالس رواد قهوة فاروق، ومعلمى ورش القزق، زار كآحاد الناس حلقة السمك. أجاب عن أسئلة، ونصح، وفاصل، وساوم، وعاب ما يخالف الدين. زار حتى من لم يتوقعوا زيارته، من يعجزون عن تصور وجوده بينهم.
أوغل السير فى شوارع بحرى، تردد على المساجد والزوايا، لا يقصر دروسه على موضع واحد، يلاحقه المريدون حيثما ينزل، ينصتون، يسألون، يفيدون، تتزايد أعدادهم بحيث اختفى التصور أن الدروس يمكن أن تجمعهم فى موضع واحد، لا يتبدل.
تواصلت - فى الأيام التالية - جولات الشيخ فى الشوارع المؤدية إلى أحياء الإسكندرية، يخالط الناس، يستمع إلى شكاياتهم، يشاهد، يسأل، يستفسر، يناقش، يتأمل، ينصح بما ينبغى اتباعه.
روى أنه وضع رأسه للسجود فى صحن القائد إبراهيم، لم يرفعه. نادى عليه إمام الجامع، فظل ساكناً، هزه فى موضعه، فسقط على جنبه.
الخروج من نسك الخلاء