ما خلا بضعة من العاشقين والندامى، فالليل ساكن، هادئ كعادته في مثل هذه الساعة المتأخرة. عسسه وحرّاسه غادروا المكان منذ وقت مبكر فالدار آمنة. تركا خلفيهما بناية السراي العتيق ورائحة القداح والطّلعْ والطريق المؤدي الى البساتين. الشارع الى دائرة البريد القديم سالكة، معبدة بالمحبة والذكريات العطرة. تسائل أحدهم: هل لازالت بناية البريد في مكانها؟ ردَّ عليه اﻵخر: وهل تريدها أن تختفي! عجبي. انها نشوة الخمر وحوار السكارى، وياله من حوار عذب، ففي أكثر ساعاته يأتي بعفو خاطر وَيُطوى بإنطواء الليل.
أربع أو خمس درجات تفصل أو قل يرتفع بيت أبو جورج عن الشارع العام. اُحْرِجا في البدء وترددا وكادا أن يعزفا عن مواصلة طرق الباب، غير انهما قررا أخيرا المضي في رغبتيهما، إذ ليس هناك من مأوى وبيت راحة، يستجيرون به وفي مثل هذا الوقت من الليل غير ربَّ هذا البِيت. فبشاشة وجه أبو جورج السمح والطفولي والذي حيَّر الكثيرين في تخمين عمره، فمنهم من ظنَّه مشارف على الخمسين ومنهم من قال أكثر من ذلك بكثير، المهم كل هذا ليس مهما فما ينبغي القول، أنَّ في روحه ما يدفعك للطمأنينة، وأنك ستلقي بكل همومك وهموم الدنيا خلف ظهرك. فطيبته وحسن إستقباله، باتت موضع إستقطاب عدد كبير من أبناء المدينة، خاصة من قبل اولئك الذين لا يروق لهم السهر والتنادم وتبادل الراح واﻷقداح الاّ في حضرته، فهو قاسمهم الأعظم والأعلى والأكبر والأحن كذلك، وهو وجهتهم عند إشتداد المصائب والمصاعب، وهو مرتع واستراحة كل مَنْ لم يُنصفه الدهر أو مَن يظن ذلك.
عند خروجه عليهم لفتح الباب، لم يعتذر عن فترة إنتظارهما التي استغرقت وقتاً أكثر مما تستحق، غير ان إبتسامته العريضة والمرحبة، كانت بمثابة اعتراف وإعتذار ضمنيين على تأخره، شفعهما ببضعة كلمات حانية، وبلغة عربية لا زالت عجمتها واضحة رغم طول فترة إقامته في بلده الجديد، والذي يعدَّه الأول والأخير، بل ليس هناك من بلد سواه. اختلطت كلماته تلك بتثاؤب وصعوبة في تمييز الوجوه المطلة عليه وفي مثل هذه الساعة من الليل، الاّ أنه استطاع وبعد أن إطمأن لهما قلبه تدارك الأمر.
دارت الأقداح لثلاتهم مرتين غير أنَّ أبو جورج لم يستطع تكملة كأسه الثانية رغم ما بذله من محاولات وما صدر من ترغيب من قبل جلاسه، فإعتذر وإتجه بتثاقل واضح نحو غرفته، ليكمل نومته التي كان قد قطعها نزولا عند رغبة معارفه ورواد مطعمه الصغير. أوصاهم بترك باب غرفته مشرعاً كي يدخلها بصيص أو كتلة مناسبة من الضوء وبعض صدى أصوات، أمينة، أليفة، عسى أن تبدد من عتمة الليل ووحشة المكان. مدّ أبو جورج بجسده على فراش من البساطة، تماهت ألوانه بألوان المكان الذي أمسى يعكس مدى إهمال وملل صاحبه، ولإفتقاره ومنذ سنين بعيدة لأي مسحة ناعمة. تكوَّرَ جسمه حتى بدا للناظر كما الطفل في أول العمر. تعالى شخيره بسرعة ملفتة، إستعداداً ليوم ثقيل قادم.
بعد أن تهامسا، إتفقا على الإنتهاء من سهرتهما على نحو أسرع مما كان مُخططاً له وما اعتادا عليه. أعقبها بعد ذلك البدأ فعلا في إعادة ترتيب المكان وتنظيفه قدر المستطاع، وبشكل أراداه أن ينال رضى وقبول أبو جورج صبيحة اليوم التالي. تاركين على الطاولة المستديرة الشكل التي تتوسط البيت، عدد من الصحون والأقداح بعد غسلها وقد رُتبت واُركنت بطريقة جيدة، مفضلين عدم حملها الى المكان المخصص لها، مخافة إصدارها بعض اﻷصوات والتي قد تسبب في إيقاضه. وبسبب من معرفتهم المسبقة بحبه وتفضيله لها، فقد تعمدا أن يتركا له كمية لا بأس بها من الخمر المحلي الصنع، مُعبأ بقناني لا تمتُّ بالخمر بصلة.
وهما على أبواب مغادرة بيت أبو جورج، قال سليم كَرجي: لقد أثقلتَ كثيراً يا صاحبي، موجهاً كلامه لصديقه حميد الخياط والذي كان أقرب ما يكون في لغته معتاباً، غير أنَّه لم يردَّ عليه بل عدَّه تنبيهاً وتذكيراً لشيء ما كان قد نسيه قبل لحظات، عاد اثرها ثانية وعلى عجلٍ ليعبَّ آخر جرعة في ليلته هذه من الخمر، واضعا القدح الفارغ في يمين جاكيته، في حركة لم يجد لهاصاحبه تفسيرا. ترنَّح قليلاً في وقفته، نظر الى أبو جورج من بعيد، إتجه نحو الغرفة التي ينام فيها، رَجاه صاحبه أن يحذر من علو وتيرة صوته والتي كثيراً ما تتصاعد مع تزايد أقداح الخمر كي لا يوقظ سيد البيت الراقد. إستجاب لطلب صديقه سليم كرجي والذي يطيب له أن يناديه بالموسوي وخاصة في حالات السكر، نسبة الى ديانته اليهودية، غير أنه أخذ يدنو أكثر فأكثر صوب غرفة أبو جورج ليقول له بهمس ومن بعيد: نم يا طيب القلب بل يا أطيب الخلق طرّا ممن عرفتهم. توجه بعد ذلك بوجل ورهبة نحو صورة السيدة العذراء ألمعلقة بإحكام على أحد جدران البيت، لينزلها بروية وحذر شديدين. قبَّلها بجلال وإحترام عظيمين، قام بمسحها بباطن كفه اليمنى، مزيلا عنها ما كان قد علق بها من شوائب، قال في سرّه مازحاً، كم أنت مهمل يا أبو جورج، أعادها بعد ذلك الى مكانها بدقة وأناقة، ثم راح رافعا يديه عاليا ورغم ما يدور من حوله من لغطٍ وإتهامٍ بالإلحاد ليقرأ بهمسٍ وخشوع سورة الفاتحة. غلقا الباب الخارجي كما أوصاهما أبو جورج ليغادرا البيت بهدوء.
حاتم جعفر
السويد ـ مالمو
أربع أو خمس درجات تفصل أو قل يرتفع بيت أبو جورج عن الشارع العام. اُحْرِجا في البدء وترددا وكادا أن يعزفا عن مواصلة طرق الباب، غير انهما قررا أخيرا المضي في رغبتيهما، إذ ليس هناك من مأوى وبيت راحة، يستجيرون به وفي مثل هذا الوقت من الليل غير ربَّ هذا البِيت. فبشاشة وجه أبو جورج السمح والطفولي والذي حيَّر الكثيرين في تخمين عمره، فمنهم من ظنَّه مشارف على الخمسين ومنهم من قال أكثر من ذلك بكثير، المهم كل هذا ليس مهما فما ينبغي القول، أنَّ في روحه ما يدفعك للطمأنينة، وأنك ستلقي بكل همومك وهموم الدنيا خلف ظهرك. فطيبته وحسن إستقباله، باتت موضع إستقطاب عدد كبير من أبناء المدينة، خاصة من قبل اولئك الذين لا يروق لهم السهر والتنادم وتبادل الراح واﻷقداح الاّ في حضرته، فهو قاسمهم الأعظم والأعلى والأكبر والأحن كذلك، وهو وجهتهم عند إشتداد المصائب والمصاعب، وهو مرتع واستراحة كل مَنْ لم يُنصفه الدهر أو مَن يظن ذلك.
عند خروجه عليهم لفتح الباب، لم يعتذر عن فترة إنتظارهما التي استغرقت وقتاً أكثر مما تستحق، غير ان إبتسامته العريضة والمرحبة، كانت بمثابة اعتراف وإعتذار ضمنيين على تأخره، شفعهما ببضعة كلمات حانية، وبلغة عربية لا زالت عجمتها واضحة رغم طول فترة إقامته في بلده الجديد، والذي يعدَّه الأول والأخير، بل ليس هناك من بلد سواه. اختلطت كلماته تلك بتثاؤب وصعوبة في تمييز الوجوه المطلة عليه وفي مثل هذه الساعة من الليل، الاّ أنه استطاع وبعد أن إطمأن لهما قلبه تدارك الأمر.
دارت الأقداح لثلاتهم مرتين غير أنَّ أبو جورج لم يستطع تكملة كأسه الثانية رغم ما بذله من محاولات وما صدر من ترغيب من قبل جلاسه، فإعتذر وإتجه بتثاقل واضح نحو غرفته، ليكمل نومته التي كان قد قطعها نزولا عند رغبة معارفه ورواد مطعمه الصغير. أوصاهم بترك باب غرفته مشرعاً كي يدخلها بصيص أو كتلة مناسبة من الضوء وبعض صدى أصوات، أمينة، أليفة، عسى أن تبدد من عتمة الليل ووحشة المكان. مدّ أبو جورج بجسده على فراش من البساطة، تماهت ألوانه بألوان المكان الذي أمسى يعكس مدى إهمال وملل صاحبه، ولإفتقاره ومنذ سنين بعيدة لأي مسحة ناعمة. تكوَّرَ جسمه حتى بدا للناظر كما الطفل في أول العمر. تعالى شخيره بسرعة ملفتة، إستعداداً ليوم ثقيل قادم.
بعد أن تهامسا، إتفقا على الإنتهاء من سهرتهما على نحو أسرع مما كان مُخططاً له وما اعتادا عليه. أعقبها بعد ذلك البدأ فعلا في إعادة ترتيب المكان وتنظيفه قدر المستطاع، وبشكل أراداه أن ينال رضى وقبول أبو جورج صبيحة اليوم التالي. تاركين على الطاولة المستديرة الشكل التي تتوسط البيت، عدد من الصحون والأقداح بعد غسلها وقد رُتبت واُركنت بطريقة جيدة، مفضلين عدم حملها الى المكان المخصص لها، مخافة إصدارها بعض اﻷصوات والتي قد تسبب في إيقاضه. وبسبب من معرفتهم المسبقة بحبه وتفضيله لها، فقد تعمدا أن يتركا له كمية لا بأس بها من الخمر المحلي الصنع، مُعبأ بقناني لا تمتُّ بالخمر بصلة.
وهما على أبواب مغادرة بيت أبو جورج، قال سليم كَرجي: لقد أثقلتَ كثيراً يا صاحبي، موجهاً كلامه لصديقه حميد الخياط والذي كان أقرب ما يكون في لغته معتاباً، غير أنَّه لم يردَّ عليه بل عدَّه تنبيهاً وتذكيراً لشيء ما كان قد نسيه قبل لحظات، عاد اثرها ثانية وعلى عجلٍ ليعبَّ آخر جرعة في ليلته هذه من الخمر، واضعا القدح الفارغ في يمين جاكيته، في حركة لم يجد لهاصاحبه تفسيرا. ترنَّح قليلاً في وقفته، نظر الى أبو جورج من بعيد، إتجه نحو الغرفة التي ينام فيها، رَجاه صاحبه أن يحذر من علو وتيرة صوته والتي كثيراً ما تتصاعد مع تزايد أقداح الخمر كي لا يوقظ سيد البيت الراقد. إستجاب لطلب صديقه سليم كرجي والذي يطيب له أن يناديه بالموسوي وخاصة في حالات السكر، نسبة الى ديانته اليهودية، غير أنه أخذ يدنو أكثر فأكثر صوب غرفة أبو جورج ليقول له بهمس ومن بعيد: نم يا طيب القلب بل يا أطيب الخلق طرّا ممن عرفتهم. توجه بعد ذلك بوجل ورهبة نحو صورة السيدة العذراء ألمعلقة بإحكام على أحد جدران البيت، لينزلها بروية وحذر شديدين. قبَّلها بجلال وإحترام عظيمين، قام بمسحها بباطن كفه اليمنى، مزيلا عنها ما كان قد علق بها من شوائب، قال في سرّه مازحاً، كم أنت مهمل يا أبو جورج، أعادها بعد ذلك الى مكانها بدقة وأناقة، ثم راح رافعا يديه عاليا ورغم ما يدور من حوله من لغطٍ وإتهامٍ بالإلحاد ليقرأ بهمسٍ وخشوع سورة الفاتحة. غلقا الباب الخارجي كما أوصاهما أبو جورج ليغادرا البيت بهدوء.
حاتم جعفر
السويد ـ مالمو