الصحراء المغربية في حركة دائبة ونشاط غير معتاد، فالقوافل تملأ الطرق وتخترق البيداء، جمال ونوق خفاف قد التصقت جلودهم السمراء بعظامهم الصلبة وأعصابهم القوية، وكأنها حبال من حديد.
تنظر فلا ترى وجوها، وإنما ترى أجساما ممشوقة عليها أردية زرق، وأخرى بيض، قد دبت الزرقة إليها لكثرة احتكاكها بالأردية الزرقاء، ومن هذه الأجسام تطل عيون سوداء شديدة اللمعان.
إن سكان الصحراء يتجمعون اليوم احتفاء بأميرهم يحيى، الذي رجع من الحجاز وإن هذه الفرصة لا تتاح في السنة إلا مرة واحدة، يضاف إليها هذا العام خبر اخترق كل الأنحاء واقتبله الناس بالرضا تارة وبالحذر تارة أخرى؛ ذلك أن أميرهم قد اصطحب معه شابا في مقتبل العمر، قد كرع ينابيع العلم المتدفقة، وارتوى بتعاليم الدين، وهو اليوم يريد أن ينشر هذه التعاليم في أرجاء الصحراء الشاسعة الأطراف، الرابضة بين بلاد البربر في الشمال وبلاد السودان في الجنوب.
ولكن ماذا عسى أن تكون هذه التعاليم؟ إنهم يعرفون أن الإسلام أن يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا شيء أكثر من هذا، فماذا يريد أن يعلمهم هذا الشاب الذي ورد من الشمال بصحبة الأمير الجليل؟ هل سيعلمهم كيف يتغنون بكلمة الشهادة؟ إنهم لا يحتاجون لمن يعلمهم هذا أيضا، فكم صدحوا بها رافعين عقيرتهم يحدون إبلهم لتروح إلى مضاربهم أو يقطعون بها طريقهم التي تطول وتطول، وقد اشتبهت أجزاؤها والتبس أولها بآخرها، فلولا ظلهم الممدود على الأرض لما علموا هل هم في أول الطريق أو في مؤخرها. وإن كلمة الشهادة لتشق عواطف الرمال وقد أخذ الرعاة يتغنون بها ويقطعون سحابة نهارهم الطويل متنقلين بين الواحات الصحراوية الغنية بالأعشاب.
وهكذا كثر تساؤلهم عن مهمة هذا الشاب الوارد بصحبة الأمير. ولكن عليهم أن ينتظروا الأيام الثلاثة الباقية لوصولهم.
وصلت القوافل تباعا، وضربت خيامها حول قصر الأمير واكتست الرمال الحمراء بالكتل البشرية، فلم يعد الناظر يرى إلا زرقة في الأرض وزرقة في السماء ويحسب الغريب أنه أمام جماعات من النساء أسدلت كل واحدة لثامها على سمرتها، وبقيت العيون شاردة فيما حولها متفحصة ما تراه .
وحل الموكب المنتظر، فاستقبله الناس بالبهجة ضاربين في دفوف كبيرة مستديرة، راقصين على نغماتها المبحوحة، وأكرموا الفقيه الشاب ضيف أميرهم ومدوا السماط ووضعوا عليه الطعام. لكن الشاب لا يكاد يمد يديه إلا قليلا، وإلا عند ما يلح عليه الحاضرون، فهو بالإضافة إلى أنه قليل الأكل لم يجد على المائدة ما اعتاد أن يجده في بلاده، فلا خبز لأنهم لا يعرفون حرثا، ولا فاكهة لأنهم لا يعرفون غرسا، وإنما هناك لحوم الجمال لم يتم نضجها، وأواني طينية ملئت بلبن النوق
ومضت أيام الاحتفال فانقلب فرح الناس بعبد الله بن ياسين إلى تذمر منه، ومن رغبة فيه إلى رغبة عنه، ذلك أن تعاليمه التي حملها إليهم كانت قاسية، وأن أفكاره فيهم كانت شاذة، وأن أوامره لهم كانت لا تطاق، ولا يمكن أن يتحملها شعب عاش في الصحراء طليقا ورضع الحرية مع ألبان عذبة دافئة.
إن الرجل منهم يتزوج ما شاء من النساء، فهو يتردد بينهن مستمتعا متسلطا، فكيف يستطيع أن يقتصر على أربع نسوة لا تشبع نهمه للتحكم والسيطرة. وإنه يأكل ما شاء ومتى شاء، فكيف يقلع عن الأكل طول النهار خلال شهر كامل؟ وكيف يترك اللبن يدب إليه الفساد بحرارة الجو وبه ظمأ شديد إليه؟ كيف يستطيعون كذلك إعطاءه من نوقهم في كل سنة عددا يقدره هو، وهم الذين تعهدوا ونموها إلى أن كثرت ونما قطيعها.
وتذمر عبد الله من نفورهم من تعاليم الدين وهو الأمين عليه والحريص على نشره، فعزم على الرحيل عنهم إلى بلاد السودان ليكرر المحاولة مع أمم أخرى، علها تكون أقرب إلى الإيمان وأكثر استعداد لقبوله، وكذلك تذمر الأمير معه من جحود قومه. وأخيرا اتفق الاثنان على الرحيل لا إلى السودان، ولكن إلى جزيرة نائية، واعتزال الناس وعبادة الله هناك، وارتحلا يرافقهما سبعة من المؤمنين والتجأ إلى جزيرة وسط النهر الكبير.
إنها جنة صغيرة يحيط بها النهر من جوانبها، يستطيع الزائر عبره على الأقدام صيفا، أما في الشتاء فهو محتاج لكي يعبره إلى زورق يشق أمواجه الراقصة بين الشواطئ المتباعدة، وهناك بنوا منازلهم، كما أسسوا مسجدا للعبادة بين أشجار البرية التي تمدهم بفواكهها، وجعلوا شطر يومهم للصيد لكي يقووا به على عبادة الله التي جعلوا لها الشطر الثاني.
ومضى الزمان عليهم هناك وجمعهم ينمو، وعددهم يزداد. ينضم إليهم كل من خاف عقاب ربه، أو رغب في جنته، ويلتجئ إلى جزيرتهم كل من اطمأن قلبه للإيمان، وعبد الله بن ياسين مع هذا يعلمهم القرآن ويزرع في نفوسهم بذور الخير، ويشوقهم إلى الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين، فانطوت قلوبهم على حبه، ووطنوا العزم على اتباعه وعلى طاعته، ولو خاض بهم لجج البحر الخضم.
وأخيرا اكتمل الجمع ألفا... ألف رجل كامل الإيمان مستعد للتبشير به بين الناس، يبذل روحه رخيصة في سبيل نصرة مبدئه، وقام عبد الله يخطب فيهم: معشر المرابطين إنكم اليوم جمع كثير نحو ألف رجل ولن يغلب ألف من قلة.
وكان عبد الله يعلم أن هذا الألف يمكن أن يغلب، وأنه يستطيع أن يطهر البلاد من الشرك ومن التفرقة أيضا، كانت كل جهة من البلاد تحكمها شرذمة استقلت بالسيطرة على ما يقع تحت يدها، ولكن عليه مع هذا أن يدعو الناس بالحجة قبل أن يدعوهم بالسيف، وهكذا رأينا رجاله ينبثون في الآفاق داعين للإيمان بالله والعمل بشريعته، ثم خرج بنفسه يبشر بتعاليمه في الأصقاع، فلم يجد إلا إعراضا، ولم يلق أذنا تسمع ولا قلبا يعي، وعاد على جزيرته التي أخذت تعج عجيجا برجال أشداء، ينتظرون الأمر لكي ينطلقوا من عرينهم وينقضوا على من خالفهم، وخرج عن أوامر دينهم.
الله اكبر الله اكبر، هذا صوت قوي ينفذ إلى الأعماق ويحرك عواطفها الكامنة، صوت عذب يذكر سامعيه بمذهبهم الجديد، الذي غرسه إمامهم في النفوس، فاندفعت عاملة على نشره في الآفاق.
ولما كان نور الفجر يتسرب إلى الأكواخ من خلال الكوى المتفتحة في جوانبها، كان ألف رجل يتسربون من جزيرتهم لينقضوا على القبائل المجاورة التي تملأ بسيط الصحراء الكبرى، بينما كان إمامهم عبد الله يصيح فيهم بصوت يعمره الإيمان: قد أبلغنا في الحجة وأنذرنا وأعذرنا، وقد وجب علينا الآن جهادهم فاغزوهم على بركة الله، فتدفق ألف رجل على العالم تدفق أمواج المحيط وغمروه.
وارتفع الستار أخيرا، فرأينا المبادئ التي غرسها الفقيه عبد الله، قد نمت وكانت ثمارها أقطارا كثيرة اتحدت تحت لواء المتربع على العرش في مدينة مراكش.
وعاد المؤذن من جديد إلى نشيده المعهود: الله أكبر الله أكبر، ولم يكن المؤذن هذه المرة في تلك الجزيرة النائية مهد الحركة المرابطية، ولم يكن كذلك في الصحراء بين الأعاصير والرمال بل كان هذه المرة في بلاد الخصب والحياة، كان على قمة جبل في بلاد زعير بقرية (كربفلة) وكان في مسجد بني على قبر يضم رفات عبد الله بن ياسين، الذي استشهد خلال جهاده المقدس مع (أنبياء) برغواطة.
هذا هو الشاب الذي ترك أهله وأصدقاءه في بلدة نفيس التي كانت قائمة في أحواز مراكش، ودخل إلى الصحراء وحيدا ليصنع من رجالها جنودا يعيدون إلى المغرب وحدته بعد أن مزقته الأهواء، ويردون إلى الإسلام جدته بعد أن أهملت تعاليمه وأحكامه، وسلاحه في كل هذا إيمان انطوى قلبه منذ أن كان صبيا، إيمانه بنفسه وبقوة الشباب المتأجج بين ضلوعه، وإيمانه بدينه وبأثره في تكوين الرجال، وأخيرا إيمانه بالمغرب الذي يحتضن كل عناصر الخير المستعدة لتحمل مسؤوليتها وأداء رسالتها نحو الجنس البشري بأكمله.
وكذلك صنع شاب دولة، وخلق أمة، وجعلها على رأس أمم العالم المتمدن إذ ذاك.
وكذلك علمنا هذا الشاب أن نومن بأنفسنا ليؤمن بنا الناس، وأن نومن بقوتنا لنستطيع بناء صرح الوطن، وأن نؤمن بشعبنا لندفعه إلى تحقيق أهدافه، وأخيرا علمنا عبد الله بن ياسين كيف نبني المستقبل على أعمدة راسخة في النفوس عالية على السماء.
المصدر: دعوة الحق العددان 4 و5
تنظر فلا ترى وجوها، وإنما ترى أجساما ممشوقة عليها أردية زرق، وأخرى بيض، قد دبت الزرقة إليها لكثرة احتكاكها بالأردية الزرقاء، ومن هذه الأجسام تطل عيون سوداء شديدة اللمعان.
إن سكان الصحراء يتجمعون اليوم احتفاء بأميرهم يحيى، الذي رجع من الحجاز وإن هذه الفرصة لا تتاح في السنة إلا مرة واحدة، يضاف إليها هذا العام خبر اخترق كل الأنحاء واقتبله الناس بالرضا تارة وبالحذر تارة أخرى؛ ذلك أن أميرهم قد اصطحب معه شابا في مقتبل العمر، قد كرع ينابيع العلم المتدفقة، وارتوى بتعاليم الدين، وهو اليوم يريد أن ينشر هذه التعاليم في أرجاء الصحراء الشاسعة الأطراف، الرابضة بين بلاد البربر في الشمال وبلاد السودان في الجنوب.
ولكن ماذا عسى أن تكون هذه التعاليم؟ إنهم يعرفون أن الإسلام أن يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا شيء أكثر من هذا، فماذا يريد أن يعلمهم هذا الشاب الذي ورد من الشمال بصحبة الأمير الجليل؟ هل سيعلمهم كيف يتغنون بكلمة الشهادة؟ إنهم لا يحتاجون لمن يعلمهم هذا أيضا، فكم صدحوا بها رافعين عقيرتهم يحدون إبلهم لتروح إلى مضاربهم أو يقطعون بها طريقهم التي تطول وتطول، وقد اشتبهت أجزاؤها والتبس أولها بآخرها، فلولا ظلهم الممدود على الأرض لما علموا هل هم في أول الطريق أو في مؤخرها. وإن كلمة الشهادة لتشق عواطف الرمال وقد أخذ الرعاة يتغنون بها ويقطعون سحابة نهارهم الطويل متنقلين بين الواحات الصحراوية الغنية بالأعشاب.
وهكذا كثر تساؤلهم عن مهمة هذا الشاب الوارد بصحبة الأمير. ولكن عليهم أن ينتظروا الأيام الثلاثة الباقية لوصولهم.
وصلت القوافل تباعا، وضربت خيامها حول قصر الأمير واكتست الرمال الحمراء بالكتل البشرية، فلم يعد الناظر يرى إلا زرقة في الأرض وزرقة في السماء ويحسب الغريب أنه أمام جماعات من النساء أسدلت كل واحدة لثامها على سمرتها، وبقيت العيون شاردة فيما حولها متفحصة ما تراه .
وحل الموكب المنتظر، فاستقبله الناس بالبهجة ضاربين في دفوف كبيرة مستديرة، راقصين على نغماتها المبحوحة، وأكرموا الفقيه الشاب ضيف أميرهم ومدوا السماط ووضعوا عليه الطعام. لكن الشاب لا يكاد يمد يديه إلا قليلا، وإلا عند ما يلح عليه الحاضرون، فهو بالإضافة إلى أنه قليل الأكل لم يجد على المائدة ما اعتاد أن يجده في بلاده، فلا خبز لأنهم لا يعرفون حرثا، ولا فاكهة لأنهم لا يعرفون غرسا، وإنما هناك لحوم الجمال لم يتم نضجها، وأواني طينية ملئت بلبن النوق
ومضت أيام الاحتفال فانقلب فرح الناس بعبد الله بن ياسين إلى تذمر منه، ومن رغبة فيه إلى رغبة عنه، ذلك أن تعاليمه التي حملها إليهم كانت قاسية، وأن أفكاره فيهم كانت شاذة، وأن أوامره لهم كانت لا تطاق، ولا يمكن أن يتحملها شعب عاش في الصحراء طليقا ورضع الحرية مع ألبان عذبة دافئة.
إن الرجل منهم يتزوج ما شاء من النساء، فهو يتردد بينهن مستمتعا متسلطا، فكيف يستطيع أن يقتصر على أربع نسوة لا تشبع نهمه للتحكم والسيطرة. وإنه يأكل ما شاء ومتى شاء، فكيف يقلع عن الأكل طول النهار خلال شهر كامل؟ وكيف يترك اللبن يدب إليه الفساد بحرارة الجو وبه ظمأ شديد إليه؟ كيف يستطيعون كذلك إعطاءه من نوقهم في كل سنة عددا يقدره هو، وهم الذين تعهدوا ونموها إلى أن كثرت ونما قطيعها.
وتذمر عبد الله من نفورهم من تعاليم الدين وهو الأمين عليه والحريص على نشره، فعزم على الرحيل عنهم إلى بلاد السودان ليكرر المحاولة مع أمم أخرى، علها تكون أقرب إلى الإيمان وأكثر استعداد لقبوله، وكذلك تذمر الأمير معه من جحود قومه. وأخيرا اتفق الاثنان على الرحيل لا إلى السودان، ولكن إلى جزيرة نائية، واعتزال الناس وعبادة الله هناك، وارتحلا يرافقهما سبعة من المؤمنين والتجأ إلى جزيرة وسط النهر الكبير.
إنها جنة صغيرة يحيط بها النهر من جوانبها، يستطيع الزائر عبره على الأقدام صيفا، أما في الشتاء فهو محتاج لكي يعبره إلى زورق يشق أمواجه الراقصة بين الشواطئ المتباعدة، وهناك بنوا منازلهم، كما أسسوا مسجدا للعبادة بين أشجار البرية التي تمدهم بفواكهها، وجعلوا شطر يومهم للصيد لكي يقووا به على عبادة الله التي جعلوا لها الشطر الثاني.
ومضى الزمان عليهم هناك وجمعهم ينمو، وعددهم يزداد. ينضم إليهم كل من خاف عقاب ربه، أو رغب في جنته، ويلتجئ إلى جزيرتهم كل من اطمأن قلبه للإيمان، وعبد الله بن ياسين مع هذا يعلمهم القرآن ويزرع في نفوسهم بذور الخير، ويشوقهم إلى الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين، فانطوت قلوبهم على حبه، ووطنوا العزم على اتباعه وعلى طاعته، ولو خاض بهم لجج البحر الخضم.
وأخيرا اكتمل الجمع ألفا... ألف رجل كامل الإيمان مستعد للتبشير به بين الناس، يبذل روحه رخيصة في سبيل نصرة مبدئه، وقام عبد الله يخطب فيهم: معشر المرابطين إنكم اليوم جمع كثير نحو ألف رجل ولن يغلب ألف من قلة.
وكان عبد الله يعلم أن هذا الألف يمكن أن يغلب، وأنه يستطيع أن يطهر البلاد من الشرك ومن التفرقة أيضا، كانت كل جهة من البلاد تحكمها شرذمة استقلت بالسيطرة على ما يقع تحت يدها، ولكن عليه مع هذا أن يدعو الناس بالحجة قبل أن يدعوهم بالسيف، وهكذا رأينا رجاله ينبثون في الآفاق داعين للإيمان بالله والعمل بشريعته، ثم خرج بنفسه يبشر بتعاليمه في الأصقاع، فلم يجد إلا إعراضا، ولم يلق أذنا تسمع ولا قلبا يعي، وعاد على جزيرته التي أخذت تعج عجيجا برجال أشداء، ينتظرون الأمر لكي ينطلقوا من عرينهم وينقضوا على من خالفهم، وخرج عن أوامر دينهم.
الله اكبر الله اكبر، هذا صوت قوي ينفذ إلى الأعماق ويحرك عواطفها الكامنة، صوت عذب يذكر سامعيه بمذهبهم الجديد، الذي غرسه إمامهم في النفوس، فاندفعت عاملة على نشره في الآفاق.
ولما كان نور الفجر يتسرب إلى الأكواخ من خلال الكوى المتفتحة في جوانبها، كان ألف رجل يتسربون من جزيرتهم لينقضوا على القبائل المجاورة التي تملأ بسيط الصحراء الكبرى، بينما كان إمامهم عبد الله يصيح فيهم بصوت يعمره الإيمان: قد أبلغنا في الحجة وأنذرنا وأعذرنا، وقد وجب علينا الآن جهادهم فاغزوهم على بركة الله، فتدفق ألف رجل على العالم تدفق أمواج المحيط وغمروه.
وارتفع الستار أخيرا، فرأينا المبادئ التي غرسها الفقيه عبد الله، قد نمت وكانت ثمارها أقطارا كثيرة اتحدت تحت لواء المتربع على العرش في مدينة مراكش.
وعاد المؤذن من جديد إلى نشيده المعهود: الله أكبر الله أكبر، ولم يكن المؤذن هذه المرة في تلك الجزيرة النائية مهد الحركة المرابطية، ولم يكن كذلك في الصحراء بين الأعاصير والرمال بل كان هذه المرة في بلاد الخصب والحياة، كان على قمة جبل في بلاد زعير بقرية (كربفلة) وكان في مسجد بني على قبر يضم رفات عبد الله بن ياسين، الذي استشهد خلال جهاده المقدس مع (أنبياء) برغواطة.
هذا هو الشاب الذي ترك أهله وأصدقاءه في بلدة نفيس التي كانت قائمة في أحواز مراكش، ودخل إلى الصحراء وحيدا ليصنع من رجالها جنودا يعيدون إلى المغرب وحدته بعد أن مزقته الأهواء، ويردون إلى الإسلام جدته بعد أن أهملت تعاليمه وأحكامه، وسلاحه في كل هذا إيمان انطوى قلبه منذ أن كان صبيا، إيمانه بنفسه وبقوة الشباب المتأجج بين ضلوعه، وإيمانه بدينه وبأثره في تكوين الرجال، وأخيرا إيمانه بالمغرب الذي يحتضن كل عناصر الخير المستعدة لتحمل مسؤوليتها وأداء رسالتها نحو الجنس البشري بأكمله.
وكذلك صنع شاب دولة، وخلق أمة، وجعلها على رأس أمم العالم المتمدن إذ ذاك.
وكذلك علمنا هذا الشاب أن نومن بأنفسنا ليؤمن بنا الناس، وأن نومن بقوتنا لنستطيع بناء صرح الوطن، وأن نؤمن بشعبنا لندفعه إلى تحقيق أهدافه، وأخيرا علمنا عبد الله بن ياسين كيف نبني المستقبل على أعمدة راسخة في النفوس عالية على السماء.
المصدر: دعوة الحق العددان 4 و5