.. كان هاتفي يشير إلى الساعة الواحدة بعد منتصف النهار. بجانبه تغفو رواية لــ "أمبرتو إيكو" ترافقني منذ دهر، ويحرجني النظر إليها. أشعر بعتابها، ألتمس لنفسي بعض العذر وأبعدها عن المنفضة وباقي أغراضي المبعثرة على طاولة المقهى. ضجيج البارحة لازالت طرَقاته تطن داخل رأسي رغم فناجين القهوة المرة والسجائر المتتالية. قالت حنان أنها ستأتيني بمفاجأة هذا الصباح. أنتظرها مند أكثر من ساعة. لا ضير. يمكنني الانتظار وجه النهار. حنان تحب جعل الآخرين في انتظارها أطول مدة ممكنة .. لكنها حتما ستأتي. حنان كانت تعلم إعجابي بأختها الصغرى يسرى، صديقتي في الدراسة التي هاجرت منذ سنوات. يوم رجعت يسرى رفقة زوجها الفرنسي دعتني حنان لمجالستهما في بيتهم. تبادلنا أطراف الحديث وأكواب نبيد فرنسي رفيع مع عشاء برعت أم حنان قي إعداد أطباقه المختلفة. تكلمنا في السياسة والفن والأدب والفلسفة. أدهشني أدب الرجل وإلمامه بكل جوانب المعرفة، وأرغمني سعيه نحو سبر أغوار ثقافتنا على احترامه وتقديره. ستدعوني حنان بعد ذلك بأيام للغذاء عندهم. كانت أختها وزوجها قد سافرا. أمها فقط شاركتنا الطعام بترحاب وبشاشة نساء الحي المعهودة. قالت لي حنان وهي تدفع الطعام أمامي مبتسمة :
- الكاوري عجبتيه بزاف*.. قال أنه تفاجأ فيك ...وأنك تتكلم فرنسية راقية. ماذا قلتَ له ليلتها ؟؟
- لاشيء. أنا أيضا أعجبتني ثقافته وضلوعه في الأدب والفن ..
قامت حنان ورجعت تحمل صندوقا ملفوفا في قماش رفيع:
- أنت أعجبته أكثر .... وترك لك هذا.
تسلمت الصندوق وفتحته في انبهار تام. أصابتني دوخة للحظة. كمان إيطالي "ألتو" أصيل، قد ترجع صناعته اليدوية للقرن الثامن عشر أو أوائل التاسع عشر.
- قلتُ له أنك تدرس الكمان بالمعهد، فأصر أن يترك لك هذه الهدية ....
وددتُ لو أرتمي على عنقها وأشبع رقبتها وخديها قبلات. لكني اكتفيت بابتسامة بلهاء وأنا أوازن أوتار الكمان وأشكر في سري بطن " النصرانية" التي أنجبت ذلك الأربعيني ذا الصوت الخفيت، وذا الهدوء والتؤدة. أتممت ِوزان الكمان، وضعت ظهره على كتفي الأيسر، أخذت القوس وغبت في تقسيم سيكا أردفته بمقطع من أحد أغاني أم كلثوم الأكثر تداولا. أثنت حنان وأمها على عزفي، شكرتُهما في خجل. أخذت مني حنان الآلة، أعادتها برفق إلى علبتها الفاخرة، رمقتني بنظرة لم أتبين مغزاها آنذاك، قالت ميتسمة :
- هناك شيء آخر ستعرفه فيما بعد. سيبقى الكمان هنا إلى حين ذلك ...
وحينُ ذلك كان بعد أسبوع عندما سافرت أم حنان إلى مكناس. جاءتني إلى هذا المقهى عينه. أشارت لي برأسها عبر واجهة المكان الزجاجية وانسحبتْ. سرتُ وراءها. ألفيتني أساعدها في تهيئ المائدة بشهي الطعام، وماء معدني زلال، وقنينتي نبيذ الــ"بوردو" وعلب سجائر من مخلفات الأجنبي أكثر الله من زياراته. حنان تكبرني يأربع أو خمس سنوات. لاشيء بتاتا يجذبني إليها، أسرت لي في مناسبات عديدة أنها تجبني حب الأخ الأصغر. وفي كل مرة كانت تصر أن حبها لي حب أخت لأخيها، وأنها تمنت كثيرا أن تكون يسرى أختها من نصيبي. أنا الآن مع حنان وجها لوجه، ثالثنا الشيطان، ولا تفصلنا سوى سُفرة مدت بشهي الطعام وطيبه، وبأكواب النبيذ، وكل ما يوحي بليلة نونبرية حمراء. صبت كأسين، رفعت أحدهما إلى فيها ورمقتني بنظرة لا غنج فيها ولا دلال. نظرة المعلم لصبي:
- ما عليهش* ... ستسكر اليوم مع أختك ... سأبقى دائما أختك .. أليس كذلك؟؟ أعرف من يسكرن مع آبائهن ...
أحنيت رأسي ذات اليمين وذات الشمال إشارة إلى موافقة مع تحفظ طفيف. وأنا أتسلم منها الدن الأحمر كعين ديك بوفكراني* شبق، سافرتْ عيناي عبر تضاريس جسدها. هذه الفرس الأطلسية الجموح التي استعصى ترويضها حتى على أعيان البلد ورجال السلطة في هذه المدينة الصغيرة، تسقيني بيدها وتقدم لي ما لذ وطاب من الطعام، ترعاني وتهتم لحالي منذ حصولي على الباكالوريا وسفري إلى العاصمة للدراسة. أشياء دقيقة لا أدركها تماما في شعورها وأحاسيسها الحقيقية نحوي : تهنئتها الباردة وغير المبالية بمناسبة مناقشة رسالتي الجامعية رغم علمها بمدى ارتباطي بدراستي، ورغم مساعداتها العديدة وسؤالها المتكرر عن أحوالي المادية طيلة فترة الجامعة .... منعي من السفر إلى العاصمة للاعتصام من أجل الشغل، مخافة أن تصيبني هراوات رجال الأمن والقوات المساعدة ... إصرارها على رعايتي والاهتمام الزائد بشؤوني ...
- وا الكاس آآآ محمد ... !!! الرجوع لله ...
جرعتها دفعة واحدة. ابتسمتْ. أومأت برأسها إلى الطعام :
- كلْ .. أعلم أنك تحب "الدرعي" ... ألا يعجبك طهوي ؟؟
تترادف الدنان. تغمرني نشوة النبيذ القادم من وراء المتوسط. يحلو الكلام وتذهب بنا أطراف الحديث وتأتي. فجأة، تقوم حنان. كصفصافة جبلية اختفت ثم بدت تحمل علبة الكمان الفاخرة في رفق كأنها تهدهد صغيرها الوحيد. ناولتني الآلة وجلست قربي هذه المرة. ألصقت جنبها بجنبي وراحت تراقبني أوازن الأوتار. أخذت مني الكمان ووضعتها على ركبتي. ألقت علي نظرة حنين وعشق دفين زفرته في وجهي :
- تذْكر خويا* ؟؟ ... تذكر ما كنا نردده عندما كنا نرافق ذوينا إلى الأحراش أيام الربيع. تذكر " إيفرو حمام" ؟؟ "واتا يا دونيت" ؟؟ هل تذكر كل تلك الأشياء ؟؟ هل يمكنك عزفها ...؟؟
- أذكر ... أحاول ...
- لا تحاول . اعزف .. غنّ واعزف كما كنا نفعل أيام الصبا ..
وعزفتُ. راودتُ ذاكرة مشروخة أعيتها المراجع وأتعبتها المدرجات، وعزفت ... كانت ترافق العزف بنقرات أصابعها على المائدة وتطلب مني إعادة عزف بعض الجمل. أدهشني كيف كانت تصوّب عزفي وتضع الأصبع على الخلل ببراعة رغم أنها لم تدرس الموسيقى قط. تجعلني أعيد القطعة مرات ومرات حتى ترضى على العزف ثم تمرّ لقطعة أخرى. ثم استراحة فشراب فعزف فشراب فطعام فعزف ،،، ثم غنّــتْ. صاحبتْ نقراتُـها كماني ببراعة محترفة وشدتْ بحرقة تذيب الصخر. تغمض حنان عينيها في ذبول وتقول الحب والحرمان والطبيعة والأحاسيس كما لم أسمعها من قبل. بعثر غناؤها وجداني وأربك أناملي صهيلها الأطلسي. ليلتها سقتني حنان، مع النبيذ الفرنسي، نبيذا من نوع آخر. نبيذ "تاماويت" القادم من بين الفجاج، ألبستني برنس الأجداد وعلمتني كيف أصغي إلى أشعارهم في كل ريح شتوية، وكيف أقتفي آثار الحب الصافي الصادق المطهر بدمع الحرمان والألم. ليلتها دعتني حنان للاحتراق معها، ولبيت الدعوة. أخذتُ الكمان إلى بيتنا. ولم أعد أفارقه إلا لضرورة ملحة. وأمام استنكار أهلي، هجرتُ بيت العائلة إلى مكناس. هجرتُ كتبي وشواهدي وأحلامي وتأبطتُ كماني وسافرت. صدى صوتِ حنان يسبقني إلى المجهول فأقتفي أثره بحشرجات الكمان وبحاته وأنينه تحت إصرار أناملي وقوس عنيد. صوتها حرك في أعماقي البدوي الجسور، وجعلني أكتشف من جديد رائحة التراب والتبن على جدران البيوت الأطلسية في المغرب العميق. صوتها أتاح لي إعادة تقييم الأشياء والناس والمواقف من جديد. وكان الكمان أنيسي ووسيلتي الوحيدة لتفجير اختلاجات النفس ومراودة أحاسيس جديدة. ثم التحقتْ بنا توأم الروح حنان. جمعنا أول الأمر منزل صغير من غرفتين. قالت أخي، وقلت عنها أختي، ومضينا. كسبنا احترام الآخرين، ثم كسبنا رهانا آخر: أصبحنا مجموعة غنائية شعبية من ثمانية أشخاص تتهافت وراءنا دور التسجيل، وأصحاب الملاهي، ومتعهدو الحفلات والمهرجانات والأعراس. أصبح لي اسم فني مستعار أتاح لي، خلال فترة قصيرة، ركوب سيارة فاخرة وامتلاك ضيعة كبيرة بضاحية مدينتي الصغيرة. رصيدي في البنك ينتفخ يوما عن يوم لأن حنان تتنازل عن القسط الأكبر من حصتها لصالحي....
المقهى شبه فارغ. الرواية تئن تحت وطأة المنفضة وأعقاب السجائر. تذكرت سنين الجامعة وولعي المجنون بالقراءة. حنان لم تصل بعد. يرن الهاتف :
- ألو ... حنان سقطت بها السيارة في الوادي....
- ألو ... الواد ؟؟ القنطرة ؟؟
هرعت إلى سيارتي واتجهت نحو المكان. أعرفه جيدا. حنان تعشق الغروب هناك، طالما طلبت مني مصاحبتها. نقضي زهاء الساعة ندخن وندندن بعض الأهازيج ونمرح، ثم نعود. لكن حنان اليوم جثة هامدة في سيارة إسعاف. ترتدي بدلة رياضية بيضاء. عيناها مغمضتان وخصلات من شعرها الفاحم تغطي جبهتها….قال دركي يحمل سجلا أسود بين يديه للشخص الواقف جنبه :
- حنان مغيت حسب رخصة سياقتها نعام أسيدي ..... شيخة من بوفكران.
غير بعيد، راع شاب عاين كل شيء يحكي باستغراب وذهول :
- كان بمحض إرادتها !! كعادتها، أوقفت سيارتها، دخنت سيجارة وابتسمت لنا ملوحة بيدها. عادت إلى السيارة، أدارت المحرك، لكنها هذه المرة، بدل الطريق اتجهت صوب الماء ...
آه ،، نسيت : كم كانت حنان تعشق الماء !!!
.
..........................
بوفكران : مدينة أطلسية صغيرة بين الحاجب ومكناس.
- الكاوري عجبتيه بزاف*.. قال أنه تفاجأ فيك ...وأنك تتكلم فرنسية راقية. ماذا قلتَ له ليلتها ؟؟
- لاشيء. أنا أيضا أعجبتني ثقافته وضلوعه في الأدب والفن ..
قامت حنان ورجعت تحمل صندوقا ملفوفا في قماش رفيع:
- أنت أعجبته أكثر .... وترك لك هذا.
تسلمت الصندوق وفتحته في انبهار تام. أصابتني دوخة للحظة. كمان إيطالي "ألتو" أصيل، قد ترجع صناعته اليدوية للقرن الثامن عشر أو أوائل التاسع عشر.
- قلتُ له أنك تدرس الكمان بالمعهد، فأصر أن يترك لك هذه الهدية ....
وددتُ لو أرتمي على عنقها وأشبع رقبتها وخديها قبلات. لكني اكتفيت بابتسامة بلهاء وأنا أوازن أوتار الكمان وأشكر في سري بطن " النصرانية" التي أنجبت ذلك الأربعيني ذا الصوت الخفيت، وذا الهدوء والتؤدة. أتممت ِوزان الكمان، وضعت ظهره على كتفي الأيسر، أخذت القوس وغبت في تقسيم سيكا أردفته بمقطع من أحد أغاني أم كلثوم الأكثر تداولا. أثنت حنان وأمها على عزفي، شكرتُهما في خجل. أخذت مني حنان الآلة، أعادتها برفق إلى علبتها الفاخرة، رمقتني بنظرة لم أتبين مغزاها آنذاك، قالت ميتسمة :
- هناك شيء آخر ستعرفه فيما بعد. سيبقى الكمان هنا إلى حين ذلك ...
وحينُ ذلك كان بعد أسبوع عندما سافرت أم حنان إلى مكناس. جاءتني إلى هذا المقهى عينه. أشارت لي برأسها عبر واجهة المكان الزجاجية وانسحبتْ. سرتُ وراءها. ألفيتني أساعدها في تهيئ المائدة بشهي الطعام، وماء معدني زلال، وقنينتي نبيذ الــ"بوردو" وعلب سجائر من مخلفات الأجنبي أكثر الله من زياراته. حنان تكبرني يأربع أو خمس سنوات. لاشيء بتاتا يجذبني إليها، أسرت لي في مناسبات عديدة أنها تجبني حب الأخ الأصغر. وفي كل مرة كانت تصر أن حبها لي حب أخت لأخيها، وأنها تمنت كثيرا أن تكون يسرى أختها من نصيبي. أنا الآن مع حنان وجها لوجه، ثالثنا الشيطان، ولا تفصلنا سوى سُفرة مدت بشهي الطعام وطيبه، وبأكواب النبيذ، وكل ما يوحي بليلة نونبرية حمراء. صبت كأسين، رفعت أحدهما إلى فيها ورمقتني بنظرة لا غنج فيها ولا دلال. نظرة المعلم لصبي:
- ما عليهش* ... ستسكر اليوم مع أختك ... سأبقى دائما أختك .. أليس كذلك؟؟ أعرف من يسكرن مع آبائهن ...
أحنيت رأسي ذات اليمين وذات الشمال إشارة إلى موافقة مع تحفظ طفيف. وأنا أتسلم منها الدن الأحمر كعين ديك بوفكراني* شبق، سافرتْ عيناي عبر تضاريس جسدها. هذه الفرس الأطلسية الجموح التي استعصى ترويضها حتى على أعيان البلد ورجال السلطة في هذه المدينة الصغيرة، تسقيني بيدها وتقدم لي ما لذ وطاب من الطعام، ترعاني وتهتم لحالي منذ حصولي على الباكالوريا وسفري إلى العاصمة للدراسة. أشياء دقيقة لا أدركها تماما في شعورها وأحاسيسها الحقيقية نحوي : تهنئتها الباردة وغير المبالية بمناسبة مناقشة رسالتي الجامعية رغم علمها بمدى ارتباطي بدراستي، ورغم مساعداتها العديدة وسؤالها المتكرر عن أحوالي المادية طيلة فترة الجامعة .... منعي من السفر إلى العاصمة للاعتصام من أجل الشغل، مخافة أن تصيبني هراوات رجال الأمن والقوات المساعدة ... إصرارها على رعايتي والاهتمام الزائد بشؤوني ...
- وا الكاس آآآ محمد ... !!! الرجوع لله ...
جرعتها دفعة واحدة. ابتسمتْ. أومأت برأسها إلى الطعام :
- كلْ .. أعلم أنك تحب "الدرعي" ... ألا يعجبك طهوي ؟؟
تترادف الدنان. تغمرني نشوة النبيذ القادم من وراء المتوسط. يحلو الكلام وتذهب بنا أطراف الحديث وتأتي. فجأة، تقوم حنان. كصفصافة جبلية اختفت ثم بدت تحمل علبة الكمان الفاخرة في رفق كأنها تهدهد صغيرها الوحيد. ناولتني الآلة وجلست قربي هذه المرة. ألصقت جنبها بجنبي وراحت تراقبني أوازن الأوتار. أخذت مني الكمان ووضعتها على ركبتي. ألقت علي نظرة حنين وعشق دفين زفرته في وجهي :
- تذْكر خويا* ؟؟ ... تذكر ما كنا نردده عندما كنا نرافق ذوينا إلى الأحراش أيام الربيع. تذكر " إيفرو حمام" ؟؟ "واتا يا دونيت" ؟؟ هل تذكر كل تلك الأشياء ؟؟ هل يمكنك عزفها ...؟؟
- أذكر ... أحاول ...
- لا تحاول . اعزف .. غنّ واعزف كما كنا نفعل أيام الصبا ..
وعزفتُ. راودتُ ذاكرة مشروخة أعيتها المراجع وأتعبتها المدرجات، وعزفت ... كانت ترافق العزف بنقرات أصابعها على المائدة وتطلب مني إعادة عزف بعض الجمل. أدهشني كيف كانت تصوّب عزفي وتضع الأصبع على الخلل ببراعة رغم أنها لم تدرس الموسيقى قط. تجعلني أعيد القطعة مرات ومرات حتى ترضى على العزف ثم تمرّ لقطعة أخرى. ثم استراحة فشراب فعزف فشراب فطعام فعزف ،،، ثم غنّــتْ. صاحبتْ نقراتُـها كماني ببراعة محترفة وشدتْ بحرقة تذيب الصخر. تغمض حنان عينيها في ذبول وتقول الحب والحرمان والطبيعة والأحاسيس كما لم أسمعها من قبل. بعثر غناؤها وجداني وأربك أناملي صهيلها الأطلسي. ليلتها سقتني حنان، مع النبيذ الفرنسي، نبيذا من نوع آخر. نبيذ "تاماويت" القادم من بين الفجاج، ألبستني برنس الأجداد وعلمتني كيف أصغي إلى أشعارهم في كل ريح شتوية، وكيف أقتفي آثار الحب الصافي الصادق المطهر بدمع الحرمان والألم. ليلتها دعتني حنان للاحتراق معها، ولبيت الدعوة. أخذتُ الكمان إلى بيتنا. ولم أعد أفارقه إلا لضرورة ملحة. وأمام استنكار أهلي، هجرتُ بيت العائلة إلى مكناس. هجرتُ كتبي وشواهدي وأحلامي وتأبطتُ كماني وسافرت. صدى صوتِ حنان يسبقني إلى المجهول فأقتفي أثره بحشرجات الكمان وبحاته وأنينه تحت إصرار أناملي وقوس عنيد. صوتها حرك في أعماقي البدوي الجسور، وجعلني أكتشف من جديد رائحة التراب والتبن على جدران البيوت الأطلسية في المغرب العميق. صوتها أتاح لي إعادة تقييم الأشياء والناس والمواقف من جديد. وكان الكمان أنيسي ووسيلتي الوحيدة لتفجير اختلاجات النفس ومراودة أحاسيس جديدة. ثم التحقتْ بنا توأم الروح حنان. جمعنا أول الأمر منزل صغير من غرفتين. قالت أخي، وقلت عنها أختي، ومضينا. كسبنا احترام الآخرين، ثم كسبنا رهانا آخر: أصبحنا مجموعة غنائية شعبية من ثمانية أشخاص تتهافت وراءنا دور التسجيل، وأصحاب الملاهي، ومتعهدو الحفلات والمهرجانات والأعراس. أصبح لي اسم فني مستعار أتاح لي، خلال فترة قصيرة، ركوب سيارة فاخرة وامتلاك ضيعة كبيرة بضاحية مدينتي الصغيرة. رصيدي في البنك ينتفخ يوما عن يوم لأن حنان تتنازل عن القسط الأكبر من حصتها لصالحي....
المقهى شبه فارغ. الرواية تئن تحت وطأة المنفضة وأعقاب السجائر. تذكرت سنين الجامعة وولعي المجنون بالقراءة. حنان لم تصل بعد. يرن الهاتف :
- ألو ... حنان سقطت بها السيارة في الوادي....
- ألو ... الواد ؟؟ القنطرة ؟؟
هرعت إلى سيارتي واتجهت نحو المكان. أعرفه جيدا. حنان تعشق الغروب هناك، طالما طلبت مني مصاحبتها. نقضي زهاء الساعة ندخن وندندن بعض الأهازيج ونمرح، ثم نعود. لكن حنان اليوم جثة هامدة في سيارة إسعاف. ترتدي بدلة رياضية بيضاء. عيناها مغمضتان وخصلات من شعرها الفاحم تغطي جبهتها….قال دركي يحمل سجلا أسود بين يديه للشخص الواقف جنبه :
- حنان مغيت حسب رخصة سياقتها نعام أسيدي ..... شيخة من بوفكران.
غير بعيد، راع شاب عاين كل شيء يحكي باستغراب وذهول :
- كان بمحض إرادتها !! كعادتها، أوقفت سيارتها، دخنت سيجارة وابتسمت لنا ملوحة بيدها. عادت إلى السيارة، أدارت المحرك، لكنها هذه المرة، بدل الطريق اتجهت صوب الماء ...
آه ،، نسيت : كم كانت حنان تعشق الماء !!!
.
..........................
بوفكران : مدينة أطلسية صغيرة بين الحاجب ومكناس.