…تلك الليلة ليست ككل الليالي… خلالها بدا القمر جريحا منطفئ الضياء ، فاقدا رونقه ، شاردا في بيداء السماء. تلك الليلة انبعث طلال من مكان طالته الشقوق والتجاعيد ثم مضى يدثر الحزن بقناع الفرح موزعا ابتسامات كاذبة علها تخفف عبء الذل والهوان ،وتطفئ دموع الترجي والتوسل التي ضربت عليه طوقا جعله يتصنع الطمأنينة بالرغم من القلق العميق الذي تملكه وهو عائد كالشهاب الخاطف .امتص عقب سيجارة التقطها من رصيف قرب إحدى المقاهي .أفرغ الدخان من جوفه محدثا خشخشة جافة. حاصره سعال حاد. غادر المكان مسرعا . كان الماضي يخنق روحه ويجثم عليها كما يجثم الصقيع على الأعشاب خلال أيام الشتاء القاسية.
قافلا من عالم الحقيقة إلى عالم الوهم ،كان مزهوا بأحلام الماضي الرائعة.أحلام بحجم الكون. جاب الدروب والأزقة. لاحظ عدم تغير الجدران وأشجارالتوت والعرعار والليمون وصوامع المساجد. راقه صمودها في وجه عواصف الزمن العاتية. صاح بصوت مجلجل امتزج فيه التقدير بالنشوة والإعجاب :
-آه ما أروع صمودك! لكأنك تلقنين بني الإنسان حكمة التباث وعدم الانحناء .
وجاءه الرد جليا من الأشجار والجدران الصامدة :
- نعم ياطلال ! إن الوفاء والالتزام بهاء وأنوار تبدد العتمات .إنه يجعل الانسان شامخا كجبال يصغر كل شيء عند أقدامها ويختفي وهو متسلق أعاليها. فالإنسان الأصيل يعيش أصيلا ،ويموت أصيلا، ويبعث أصيلا. إنه نور على نور. نوره يخسف ببصر كل حقير لعين .هي ذي الكرامة والوفاء والإخلاص للعهود .
وبقلب كله تأمل وإصغاء تساءل :
-وهل ما تزال الحمائم ترفرف في الأعالي حالمة بعالم بهي يتآخى فيه الجميع ؟ ألا تزال البلابل تعزف لحن الحرية والسلام ؟ ألا تزال النوارس تقاوم الطلقات الطائشة دفاعا عن عش يتسع لجميع الفراخ ؟
-كل ما تتحدث عنه وهم لأن عالمنا وهمي، والكائنات تسبح مع تيار الأوهام والظلال الزائفة .ووحدها الضباع والغربان تقتات
على الجيف وبقايا الموائد.
غريزة طلال أخذته إلى مكان ما. ربما كنيسة أو وكالة أو ضريح... المكان مجهول المعالم. ولج إلى بهوه. طاف بنظره عبر جدران القبة وحيطانها .لاحظ صورته وإلى جانبها علقت صورة آخرى ارتبك وهو يلمحها.تابع تصفح الألبوم المعلق على حيطان القبو. تناسلت الصور ومع تناسلها كان يستعيد شريط الذكريات الهاربة.
بدا له الموت لعبة سخيفة في تلك الكنائس ، وأدرك أن الأيادي القذرة لطخت صور الماضي في زمن الرداءة وحب الذات.
أصبح المكان كحائط مبكى تؤدى فيه طقوس العبادة بشكل موسمي.قطعان تطوف. قطعان تصرخ ، وقطعان ترتل الأناشيد بينما الأوتان تتأمل تلك المسرحيات في صمت. صاح بملء حنجرته : هذا مجرد ضريح يضج بالسخافات !
عاود تصفح صورته. النظرات صارمة.المقلتان تشعان نورا وأملا .
تأمل دقائق الصورة وجزئياتها.ابتسمت له ابتسامة مشحونة بالاستهزاء والسخرية. فساءل النفس لأنه أدرك ماسمع وما رأى لكنه ما علم وما درى بما حدث أثناء الرحلة الكبرى .
وفي لحظة بوح الذات للذات .علم أن الأحياء ماتت فيهم بذرة الحياة. فمنهم من استطاب الكرسي وتخشبت مؤخرته من شدة عشقه له وتعلقه به. ومنهم من أغرقه البحر اللجي للمال العام .ومنهم من بات يعشق الظلام .والبعض تحول إلى بوق لا يخجل من الزعيق كباعة أدوية الفئران والصراصير في الأسواق العمومية.
صاح طلال :-يا للتعاسة !هذا زمن المسخ والمسوخ !
انزلقت دموع ساخنة على خده. تأوه كامرأة ثكلى وعاود مساءلة الذات :-وكيف حال الحسناوي؟ أما يزال شامخا كنخيل العراق؟
أجابت الذات الساكنة في الصورة :
-إن كل شيء متغير في عالم تسكنه ظلال كائنات. وكما تعلم فالظلال لا تستقر على شكل أو حجم أو حال. وواهم من يطارد الوهم لأن الطيف لا يمسك طيفا .والحالم مهما روى أحلامه فهو يعي جيدا لا جدواها وزيفها ، والحسناوي نفسه ليس إلا طيفا إنه تراهات تذب على الأرض.
غادر القبو مذعورا. توجه إلى منزله .وهناك في غرفة نومه تابع لقطات بورنوغرافية ساخنة، التصق خلالها جسد الحسناوي بجسد زوجته فضيلة بحرارة. لهات وآهات ونداءات متعة وتلذذ … اتحد الجسدان. تماهيا معا .سافرا في عوالم العشق واللذة .وفي لحظة من اللحظات بينما الجسدان مندمجان في بعضهما البعض لدرجة الموت والعرق ينز منهما فاترا كمياه مولاي يعقوب قال الحسناوي لفضيلة :
-أنت فتنة يا حبي أهداني إياك عزرائيل لأنه علم أن طلال مخصي كالبغل لا يجيد إلا نكاح الشعارات والخطب والأحلام .أنت جسدي وأرضي فتبا لمن يحرم الأجساد الجميلة من حقوقها !تبا لهم !تبا لهم ! وعلى وقع هذه الكلمات انسل طلال من شقوق النافذة ليتوارى في الفضاء كنجم ثاقب مرددا :
-لقد تكسرت كل المرايا و انهارت القيم. وحينما تتكسر المرايا تتعدد تشوهات الذات .إن الإنسان العربي تسكنه عقد كثيرة ، كثيرة جدا…
عناية المصطفى الحمداوي