.. ولما استعصى النوم على الرجل فتح الدرج الذي بجانب السرير ، وراح يعبث بمحتوياته غير مدفوع برغبة ما ، سوى التحايل على أرقه حتى تلك الساعة المتأخرة من الليل . إنه يفتح ذلك الدرج عادة كل صباح لأخذ أحد المناديل البيضاء المرتبة داخله باعتناء .. وبالرغم من أنه يبعثر ترتيبها في كل مرة يسحب فيها منديله الصباحي ، ألا انه يعود ليجدها في اليوم التالي بالطويات الأنيقة نفسها.. وهي وحدها العجوز الضامرة ذات الجسم الناحل والأصابع الشمعية المتغضنة التي تقوم بذلك ، وبغيره من شؤون المنزل بدون تذمر أو ملل .. أخذ يسحب المناديل الواحد تلو الآخر، ثم يضعها فوق سطح الكوميدينو ، ووجد نفسه يتسلى بتلك اللعبة .. أخرج صفاً كاملاً من المناديل، وعاد يدخل يده في جوف الدرج ليخرج المزيد منها ، تحسس بيده قعر الدرج بحثاً عن منديل آخر ، غير أن أصابعه اصطدمت بجسم صغير صلب مخبأ تحت الورق المبطن للدرج .. ولأنه كان ذا ملمس معدني، فقد ظن بأنه عملة نقدية تسللت بطريقة أو بأخرى بين الأوراق .. رفع رأسه عن الوسادة ومد عنقه خارج السرير مستنداً بكوعه إلى حافته، ثم أشعل ضوء المصباح المنضدي ، واستخرج الجسم المعدني من الدرج وراح يتفحصه بفضول .. كان مفتاحاً صغيراً جداً ذا لون اسود كالح ونتوء واحد غير متفرع . انتصب الرجل جالساً على سريره وراح يقلب المفتاح في يده ممعناً النظر فيه : إنه أصغر من أن يكون مفتاحاً لأحدى حقائب السفر .. وعلى أية حال أنها حقيبة سفر واحدة يحفظ مفتاحها مع سلسلة مفاتيح الخزانة .
واستمر يقلب المفتاح بين أصابعه … لم يسبق له أن رأى مفتاحاً بهذا الصغر وانه ليشك في صلاحيته ولو لدمية صغيرة ….. مفتاح صغير …؟ وتحت الأوراق ؟ انه لأمر يدعو إلى الاستنتاج بان أحداً ما وضعه هناك لسبب ما .. قال لنفسه . ومن يكون هذا (الأحد) غيري أنا ..؟
لقد اعتاد أن ينسى الأماكن التي يخبئ فيها أشياءه .. حتى لم يعد ذلك يضايقه كثيراً، وبالرغم من صغر مساحة غرفته، فإن البحث عن المجلات الخاصة التي يخفيها عن عيون والدته يستغرقه وقتاً أطول بكثير من وقت تفتيش الغرفة بكاملها . ألا أن ما يزعجه كثيراً في تلك اللحظة كونه قد تذكر أنه (هو) فعلاً الذي وضع المفتاح في الدرج .. أما لماذا فعل ذلك فانه لم يعد يتذكر على الإطلاق، وكأن ذلك الجزء من الواقعة قد امحى من ذاكرته إلى الأبد .
وتمنى على نفسه في تلك اللحظة لو أنه فقط يتخلى عن عادة الإخفاء المقيتة تلك .. إنها تجعله ينهمك بالتفتيش في كل مرة يرتدي فيها ملابسه في الصباح .. وها هو الآن في الساعة الثانية صباحاً مستيقظ يحاول أن يعثر لوجود ذلك المفتاح الراقد في يده على تبرير ما .. ولعن نفسه ووساوسها السخيفة . وتذكر مرة أخرى أن عليه أن يحتفظ بمفكرة يسجل فيها مخابئ أشيائه الخاصة .
(أوف يا الله .. أي أسرار امتلكها أنا لكي انشغل بكل هذه الحيرة وهذه التدابير) ؟ .
ومرة أخرى ربما تكون الثامنة والستين قال لنفسه بأنه مادامت ذاكرته ضعيفة إلى هذا الحد، فليضع أشياءه أذن في أكثر الأماكن وضوحاً وعلانية، وليكف عن عادته الشيطانية تلك .. يا للطباع السخيفة …. طرقت الكلمة رأسه عدة مرات وهو يحس بصدره وبلعومه يتقلصان من شدة ضيقه وانزعاجه . كان ينشد استجداء النوم من تسليته تلك، وها هي اللعبة تنقلب ضده، ويظهر له ذلك المفتاح كعفريت القمقم ليزيد من عصيان نعاسه .
(هذا المفتاح اللعين .. لم خبأته هنا ؟ .. ولم لا يكون موجوداً هنا لسبب في غاية الأهمية ؟)
(لا .. لا .. ليست لدي أسباب من هذا القبيل البتة) .
(فلأستنفر مرة أخرى خلايا دماغي المتبلدة !!)
أهو نسخة أخرى من مفتاح حقيبة السفر ؟. ولماذا أخبئه هنا ولا شيء محشو فيها الآن غير ملابس الصيف وشراشف الأسرة ، ثم أني أحفظ مجموعة مفاتيحها كاملة في سلسلة مفتاح الخزانة . أيكون مفتاحاً لصندوق النواعم والأدوات الصغيرة؟؟ نهض إلى خزانة ملابسه بعد أن أضاء المصباح الكهربائي الرئيس للغرفة، فوجد صندوق النواعم بدون ثقب مفتاح !
أيكون مفتاح حقيبتي اليدوية ؟؟ لكنها تقفل بالأرقام !
أأكون قد التقطته من الطريق في أحد الأيام جلباً للحظ ؟ حظ ؟؟ كنت سأتذكر حادثة من هذا القبيل .. بالتأكيد !! وألا كنت فاقداً للحظ تماماً . استمر يقلب في ذهنه مليون فكرة عما يمكن أن يصلح له هذا الشيطان الصغير .
( لا فائدة ! لا أستطيع تذكر أي شيء الآن ..)
ولما استعصى الحل على الرجل أغمض عينيه من شدة الحيرة، وسب نفسه وسخافتها عدة مرات وهو يردد في سره (لأ كف عن هذا كله .. فانا لا أمتلك أسراراً على الإطلاق .. وليس في حياتي شيء يستحق كل هذه الخبصة). وقام من سريره مرة أخرى وقد قرر ، يدفعه السخط ونفاد الصبر ، أن يضع رغبته تلك موضع التنفيذ .
(من ألان والى الأبد) قال لنفسه، ورمى بالمفتاح في جوف سلة المهملات، وعاد إلى سريره، ولبث فوق فراشه مفتوح العينين، وصوت ارتطام المفتاح بالقعر المعدني للسلة يرن في رأسه . تذكر أنه نسي مصباح الغرفة الرئيسي مضاءً، فذهب ليطفئه ثم عاد . جلس الرجل على فراشه، وقبل أن يستوي تحت لحافه لينام كان المفتاح يستقر في مكانه تحت البطانة الورقية لجوف الدرج مرة أخرى.
مجموعة الشخص الثالث
1985
* عن:
ميسلون هادي : المفتاح (ملف/51)
واستمر يقلب المفتاح بين أصابعه … لم يسبق له أن رأى مفتاحاً بهذا الصغر وانه ليشك في صلاحيته ولو لدمية صغيرة ….. مفتاح صغير …؟ وتحت الأوراق ؟ انه لأمر يدعو إلى الاستنتاج بان أحداً ما وضعه هناك لسبب ما .. قال لنفسه . ومن يكون هذا (الأحد) غيري أنا ..؟
لقد اعتاد أن ينسى الأماكن التي يخبئ فيها أشياءه .. حتى لم يعد ذلك يضايقه كثيراً، وبالرغم من صغر مساحة غرفته، فإن البحث عن المجلات الخاصة التي يخفيها عن عيون والدته يستغرقه وقتاً أطول بكثير من وقت تفتيش الغرفة بكاملها . ألا أن ما يزعجه كثيراً في تلك اللحظة كونه قد تذكر أنه (هو) فعلاً الذي وضع المفتاح في الدرج .. أما لماذا فعل ذلك فانه لم يعد يتذكر على الإطلاق، وكأن ذلك الجزء من الواقعة قد امحى من ذاكرته إلى الأبد .
وتمنى على نفسه في تلك اللحظة لو أنه فقط يتخلى عن عادة الإخفاء المقيتة تلك .. إنها تجعله ينهمك بالتفتيش في كل مرة يرتدي فيها ملابسه في الصباح .. وها هو الآن في الساعة الثانية صباحاً مستيقظ يحاول أن يعثر لوجود ذلك المفتاح الراقد في يده على تبرير ما .. ولعن نفسه ووساوسها السخيفة . وتذكر مرة أخرى أن عليه أن يحتفظ بمفكرة يسجل فيها مخابئ أشيائه الخاصة .
(أوف يا الله .. أي أسرار امتلكها أنا لكي انشغل بكل هذه الحيرة وهذه التدابير) ؟ .
ومرة أخرى ربما تكون الثامنة والستين قال لنفسه بأنه مادامت ذاكرته ضعيفة إلى هذا الحد، فليضع أشياءه أذن في أكثر الأماكن وضوحاً وعلانية، وليكف عن عادته الشيطانية تلك .. يا للطباع السخيفة …. طرقت الكلمة رأسه عدة مرات وهو يحس بصدره وبلعومه يتقلصان من شدة ضيقه وانزعاجه . كان ينشد استجداء النوم من تسليته تلك، وها هي اللعبة تنقلب ضده، ويظهر له ذلك المفتاح كعفريت القمقم ليزيد من عصيان نعاسه .
(هذا المفتاح اللعين .. لم خبأته هنا ؟ .. ولم لا يكون موجوداً هنا لسبب في غاية الأهمية ؟)
(لا .. لا .. ليست لدي أسباب من هذا القبيل البتة) .
(فلأستنفر مرة أخرى خلايا دماغي المتبلدة !!)
أهو نسخة أخرى من مفتاح حقيبة السفر ؟. ولماذا أخبئه هنا ولا شيء محشو فيها الآن غير ملابس الصيف وشراشف الأسرة ، ثم أني أحفظ مجموعة مفاتيحها كاملة في سلسلة مفتاح الخزانة . أيكون مفتاحاً لصندوق النواعم والأدوات الصغيرة؟؟ نهض إلى خزانة ملابسه بعد أن أضاء المصباح الكهربائي الرئيس للغرفة، فوجد صندوق النواعم بدون ثقب مفتاح !
أيكون مفتاح حقيبتي اليدوية ؟؟ لكنها تقفل بالأرقام !
أأكون قد التقطته من الطريق في أحد الأيام جلباً للحظ ؟ حظ ؟؟ كنت سأتذكر حادثة من هذا القبيل .. بالتأكيد !! وألا كنت فاقداً للحظ تماماً . استمر يقلب في ذهنه مليون فكرة عما يمكن أن يصلح له هذا الشيطان الصغير .
( لا فائدة ! لا أستطيع تذكر أي شيء الآن ..)
ولما استعصى الحل على الرجل أغمض عينيه من شدة الحيرة، وسب نفسه وسخافتها عدة مرات وهو يردد في سره (لأ كف عن هذا كله .. فانا لا أمتلك أسراراً على الإطلاق .. وليس في حياتي شيء يستحق كل هذه الخبصة). وقام من سريره مرة أخرى وقد قرر ، يدفعه السخط ونفاد الصبر ، أن يضع رغبته تلك موضع التنفيذ .
(من ألان والى الأبد) قال لنفسه، ورمى بالمفتاح في جوف سلة المهملات، وعاد إلى سريره، ولبث فوق فراشه مفتوح العينين، وصوت ارتطام المفتاح بالقعر المعدني للسلة يرن في رأسه . تذكر أنه نسي مصباح الغرفة الرئيسي مضاءً، فذهب ليطفئه ثم عاد . جلس الرجل على فراشه، وقبل أن يستوي تحت لحافه لينام كان المفتاح يستقر في مكانه تحت البطانة الورقية لجوف الدرج مرة أخرى.
مجموعة الشخص الثالث
1985
* عن:
ميسلون هادي : المفتاح (ملف/51)