رفعت قدمها اليمنى بصعوبة وهي تربت على مؤخرة الفرس، وبجانب الحوذي جلست وهي تبوح بألم، وبعد نفاذ صبر:
".. يا إلهي.. كدت أموت من البرد".
كانت ترتدي جلبابا بادي القدم ورأسها لف في منديل أبيض. وبينما أخذ الحوذي نفسا عميقا من سيجارته، وهو يتأمل الطريق الطويل، استأنفت المرأة بإلحاح، تقول إنها تخشى أن يكذبها من حولها أو أن تظهر مغتبطة حتى عدم التصديق بوجودها الآن، في الحالة التي هي عليها:
"أجل، كدت أموت من البرد!"
كانت الطريق التي تربط بين موقف العربات والمقبرة البعيدة مليئة بالحفر، وما كادت العربة تتقدم قليلا وهي تتأرجح ببطء، حتى قالت المرأة للحوذي:
ـ هل صحيح أن الفقهاء يركبون عربة يجرها بغل أسود؟
رد الحوذي على الفور:
ـ نعم..!
ـ يا إلهي، الفقهاء يركبون عربة يجرها بغل أسود!
صاحت مستنكرة، واتكأت بعد تفكير عميق على عمود العربة الأمامي، الذي يشد الرتاج بالسقف الخشبي. وضحكنا طويلا، غير أن الرجل الذي كان يجلس قبالتي ظل صامتا وهو يحاول أن يضبط بقدميه إيقاع أغنية ما، وكان يبدو من هيأته النحيلة، وملابسه الضيقة، وحذائه القديم الذي تنتهي مقدمته بثقب كبير لدرجة أنه كان بإمكان المرء أن يلمح ومن بعيد أصابعه الدقيقة وهي تهتز على مهل، كان يبدو إذن أنه يشتغل مدرسا بقرية نائية؛
فجأة، أخرجت المرأة من كيس صغير أواني الشاي، وحزمة صغيرة من أعواد القصب الخشن، وفستانا قديما، وأوراق اللعب بسيوفها وفرسانها وملوكها، وقليلا من أعقاب السجائر. وعندما توقفت العربة في مدخل حي قديم، ونزل الركاب لشراء الخبز والتين المجفف، دعاها الحوذي للتبضع، إلا أنها أشاحت بوجهها جانبا، وراحت تدندن بأغنيات أيامها الخوالي بصوت منغوم، موقع برنة دافئة وحزينة.
كان الهواء يهب باردا على مشهد الأرض المفتوحة، وحين وضع الحوذي كيس الكلأ أمام الفرس قالت للحوذي دون أن ترفع وجهها الشاحب عن أصابع قدميها الملمومة في قطعة ثوب بالية:
ـ كنت هناك، في مزار سيدي موسى، أخبروني أن ماء الحنفية دافئ، وأن علي أن أتوضأ قبل أن أدخل إلى المزار. وبينما أخذت أبحث عن مكان الحنفية، أبصرت من بعيد أرضها الجافة والباردة وقشرة من الصدأ تعلو قنطرة الصنبور، وانتابتني رعشة خفيفة من شدة الخوف. بعد ذلك نزلت إلى النهر.
ـ اغتسلت؟
ـ صاح الحوذي:
ـ نعم اغتسلت. كان النهر خلف المزار، جلست على درجه الدافيء وأنا أحدق مشدوهة إلى شريط الزبد الصافي، دون أن أنتبه إلى أحد؛
كان الماء أمامي منبسطا وقد تركت لقدمي حرية الانتشاء بدفء زبده القليل، ثم أخذت أخطو عارية إلا من التبان وقميص شفاف، وحين أخذ الماء يندلق ببطء شديد نحو تقاسيم جسدي انحدرت بجذعي قليلا، بعد أن وضعت وجهي بين راحة يدي وغبت بعد ذلك في لجة الماء.
هز الحوذي رأسه وقد أربكته الحيرة، فقال يسأل وهو ينفض كيس الكلأ:
ـ ألم تشعري بالخوف؟
ـ لا، أبدا.
ردت المرأة، وأضافت بلهجة هادئة:
لقد تعودت على ذلك منذ زمن بعيد، كنت أحب الشجيرات الصغيرة المتناثرة على جانب النهر بأوراقها المشبعة بالرذاذ وضوء القمر وهي تلقي بظلالها على الطريق الحجري المبتل؛
كان والدي يقطن هناك، قرب التلال القريبة من النهر؛ وكنا كلما نزلنا إليه إلا وتذكرت ملامحه الغابرة. لا أدري لماذا استسلمت لغيابه إلى حد النسيان، وكانت أمي تعلق بلهجة بين النصح والارتباك كلما لمحتني شاردة الذهن أو أمشي بلا هدف:
".. لا تفكري في رجل ميت"
حين سألت أمي يوما عنه في محاولة يائسة لنبش حكايتهما ظلت صامتة برهة من الزمن. وعلى الرغم من فجاءة السؤال إلا أنها تماسكت ولاحت على شفتيها ابتسامة خفيفة. بعد ذلك وبسنوات طويلة أقنعتها بزيارته، لكنها ظلت جالسة قرب خربة وهي تحدث نفسها:
"من يدري، ربما صارت عظامه رميما؛
"لكن أبي لم يمت.."
قلت مندهشة وأنا أقف أمام ترعة البيت العالية.
كان البيت وطيئا، والباب مفتوح على وسع قليل، وثمة غبار كثيف يغطي الفناء الصغير، وعلى السور المقابل صورة قديمة لوالدي، بوجهه المكتنز وشاربه الكث. وفي الركن الأيسر من السور، وعلى منضدة وسخة، كان يجلس والدي وهو يحاول وبدون جدوى أن يشعل نصف سيجارة مدعوكة، وفي اللحظة التي سقطت فيها السيجارة من بين أصابع يده المرتعشة، سمعت صوت امرأة ما، وفتح باب الغرفة الوحيدة.
كانت زوجته الثانية قصيرة القامة، ذات شعر كثيف، ملموم في مقدمة رأسها، ترتدي سترة داخلية عتيقة، وعلى وجهها بقايا بثور غائرة:
"مساء الخير"
قلت، وأنا أضع كيس السكر أمام الترعة العالية. تناولت الكيس، وبعد أن تأملتني مليا، أغلقت الباب في وجهي بعنف، وتراجعت إلى الوراء بعد أن فوجئت بصوتها يخرج واهنا.
حينما رأيتها لآخر مرة، أذهلني المشهد كثيرا. كانت أقدامها غارقة وسط القمامة وهي تكدس بقايا أوراق بالية في كيس خشن. كان أبي قد رحل إلى هناك بجانب عظام من رحلوا قبله. اقتربت منها في حذر شديد مخافة أن تنتفض في وجهي، لكنها ظلت هادئة، بل قامت بعد ذلك بفرد قليل من الأوراق أمامي قائلة:
ـ "انظري، ألا تحمل هذه الأوراق أسماء الله الحسنى"
بعد أن فك الحوذي السيور الجلدية المتينة التي تربط الفرس بأعمدة العربة، اندفع الفرس بكل قوة وقد اهتزت الحلقات المعدنية التي تحيط بعنقه عاليا، فقال وهو يقترب من المرأة أكثر:
ـ "ماتت..؟"
ـ نعم، عثروا على جثتها وسط كومة من الأوراق.
وأضافت وهي تتأمل سراج العربة المطفأ، والمعلق بقاع العربة: حينما عدت من النهر حاول صاحب المزار منعي من الدخول، لكن قوته خذلته فظل يراقب حركاتي مذعورا. بعدها أشار لي بأصابع يده بأن أخرج، لكني دخلت عنوة، طفت بالضريح سريعا. انحنيت وقبلت رأس التابوت، بكيت بحرقة بالغة وتذكرت زوجة ابي حينما رأيت أسماء الله الحسنى مكتوبة بالحناء على جدران القبة الواسعة، وعلى عتبة المزار. ظل الحارس يهتف وهو يتأمل شعري المبتل:
"من أنت.. من أنت؟؟"؛
ونمت هناك.
في الصباح لم أجد أحدا. كان الحارس يغط في النوم، وخلف الباب الخارجي أحسست بخفة نادرة وأنا أتجه نحو موقف العربات، وبأن روحي قد تطهرت فعلا من أدران الحياة.
***
لم تهتد قدما المعلم، وقد هوى رأسه على صدره، إلى ضبط الإيقاع الهارب، والذي يبدو أنه لن يستطيع ضبطه أبدا. وكان المكان الذي تركنا فيه العربة مليئا بأعواد الرتم والأشجار الباسقة. وما كدت أقترب منها، وكان الحوذي قد غير موضع العربة إلى جهة بعيدة عن المعلم، حتى تراجعت إلى الخلف وأنا أنقل خطواتي ببطء؛ كان الحوذي يعقد أزرار بنطاله خلف العربة، في ما راحت المرأة تبحث عن ملابسها التحتية بين العجلات، وهي تغمغم:
"من يستطيع أن يطهر روحه؟ من؟!"