تقف أمام الزجاج وتنادي بما يشبه الهمس:
- سعد?
كان وجه النهار قد برز, معتما طافحا بظلال من ضباب قد يمطر, وحين ظل في صمته أضافت:
- ألم تسافر, أترى أن الجو قد منعك?!. كان من الممكن أن يكون السؤال واضحا, يملك حدوده وكفى. ولو أنها كانت هي, لكانت أسئلتها أكبر من حجمها, من طولها وبعدها, ولكنها المعارك الخاسرة...
بقي ممددا بتواكل طارئ, عيناه مغروستان في السقف, بينما تغيرت وضعية يديه من تحت رأسه إلى جانبيه. أخيرا وقف, سار نحو المطبخ, يبحث عن الوقيد, وأشعل لفافة, امتصها دون رغبة واضحة, وكان بسيره البطيء ذاك يتساءل.. يتطاول السؤال ليشمل أمسه وغده. ولم يكن ليفصح, فلقد استهلكا معا ما بنياه, وهما أو واقعا: التغيير, البناء الجديد, والانتماء للزمن المتحرك.
" كان قد قال لها: وما العمل?" وكانت هي قد خرجت مؤخرا من مرحلة الخطر, حيث سمح الطبيب لها بالاختلاط والحديث والتحرك. ولم يكن السؤال إلا فلتة لسان, فهو يدري أنه بذلك السؤال, إنما يجعل سيزيف العرب يخسر جولاته الإضافية, في الذات وفي الميدان, وأنه أيضا يطلق عليها مدفعا قريبا.
شهقت ولم تجب. فبالأمس, نزفت دمعا ودما, أدانت التفاصيل الصغيرة لليومي قبل المؤسسات والبنى والهياكل والأنظمة, أجرت مسحا للساحة العربية وعشقت الطوفان, قالت: إن العالم يلغينا, فيجب أن نحاوره بنفس لغته: الدمار. ثم حاولت تكوين خلية للإرهاب الأسود; فالموت لا يلغيه غير الموت, ثم سقطت.. قال الطبيب دون أمل: قد تنجو.. وحتى في الغيبوبة كانت الطائرات تضرب في أعماقها الخيام واللاجئين والهوية والخطوة البكر والتاريخ الجريح.
وقف أمام الزجاج وظل يدخن, وكانت عيناه تتحركان بلا تركيز, فكثير من أشياء هذا العالم قد نسفت, وهو يريد امتلاك أداة ما, لإعادة الحوار معها, وتذكر: سعيد وجدها في التدخين, وعبد الكريم في الانتحار, ونجيب في العودة إلى الحزب, وعلي في البحث عن المطلق, وأنا?..
أطل على قدمه وهو يسحق بقايا سيجارته بتؤدة, ثم رنا نحوها وهي تنفض ملاءة الفراش لتعيد طيها بحركة بطيئة. ظل يلاحقها ويتساءل: أهي هي?!. وحين التقت عيناهما في نظرة, تذكرا معا أن سؤالا كبيرا بينهما لا زال معلقا: " ألم تسافر بعد, في الزمان والمكان طبعا?".
وضعت الملاءة على جانب السرير وأخذت تعلق بعض الملابس, وحين انتهت من تعليق بعضها, عاودت الجلوس على مقعد قريب وغرست نظرتها في الأسفل: إنه الزمن, زمننا العربي, يتباطأ, يثقل أو يموت. وظلت كذلك, ولم تنتبه إلا على صوت اصطدام أوان بالمطبخ, لقد كان سعد يضع إبريق القهوة على النار. رفعت نظرة تالفة, ثم حطتها على الجدار المقابل, وبعد مدة غادرت جلستها إلى الجانب الأيمن من الغرفة, وأزاحت الستار عن النافذة المطلة على الأسطح المجاورة. ظلت نظرتها تسرح خلف الزجاج في البعيد, بينما كان سعد يمد نحوها فنجان القهوة. أمسكت به متمتمة, في حين رشف رشفة وهو قريب منها, ثم غادر إلى المقعد نفسه وجلس.
مرت مدة والرشفات الحزينة تتبادل الشكوى والأنين والصمت الحزين والأسئلة الموقوفة. وكان الجرح عبر أنينها ينكأ الأبجدية الأولى للوجود والعدم.
أخذت الأسطح تتلاشى, وأخذت الرشفات تتباعد, فضاع ذلك التناغم بين رشفتيهما, كما يضيع أي تناغم بين السؤال والجواب إلى حد الآن...
سارت قليلا ووضعت الفنجان على كتاب مغبر في جانب المكتب. أخذ ينظر إليها بين التمعن والاستغراب في عدمه, وأخيرا نفض رأسه في حضنه بعد أن رمى آخر جرعة في حلقه, ثم وضع يده بفنجانها على ركبته اليمنى. أزاحت برجلها شبشبه الذي لم يلبسه وغادرت الغرفة. سمع صوت باب الحمام يفتح ويغلق, ثم بعد حين, هسهسة ماء المضخة ينزل بتؤدة ثم بسرعة. وقف وتحرك, وعند باب الغرفة وقف, ثم استدار وركز عينيه على باب الحمام, كان يدرك معنى حركتها وكان يتعذب. من قبل, جهرا معا بالحنين والجوى والعذابات الكبرى, وحين أحبا بعضهما فلأجل أن يحبا العالم, أن يبنياه مع الآخرين بهندسة مغايرة, تعيد توزيع اللقم والابتسام فيه بالتساوي, ولذلك عرفا السجون بعد الأعمال السرية التي تقوض لتبنى, لكن..
ظل صوت الماء يأتي " ما لها?. عادة لا تتأخر كثيرا في الاستحمام" ولأنها عذابه أو معناه, فقد كان يخاف عليها, يخاف جرأتها في الإتيان بعمل مجنون. سار بسرعة, وفتح باب الحمام وأطل. كان رأسها مسبلا إلى الخلف والماء يسيل عليه وهي مغمضة العينين, أحست بفعله ولم تجب, فأدرك أنها تطفئ اشتعال الرأس الذي لم يخمد بعد.
ومن بعد, حين أطلت من باب الحمام خارجة, ورأسها ملفوف في شرشف أبيض, قدم لها ابتساما, أخذته وتمددت على السرير قليلا, فسألها:
- أتريدين شيئا?.
تمتمت شاكرة. فأعاد وضع المخدة الجانبية خلفها, وسار ببطء نحو النافذة نفسها.
بلغه ضجيج الشارع فتذكر انتماءه السابق إليه, وتساءل: أتراه في لا جدواه ذاتها يسير? ثم استدار على مهل وغرس نظرته في رفوف الكتب التي تغطي أغلب جدران الغرفة وتألم: أيهما خدعني, الشارع أو هاته أم كل شيء, بدءا من علاقتنا مع بعض, مع الأحزاب ومع الأنظمة ومع الأفكار, ومع الأيديولوجيات المهزومة?. ثم زفر. فتركت زفرته بللا خفيفا على الزجاج. ولأنه لم يكن يريد أن تبلغها منه شرارة إضافية, فقد استدار نحو السرير, فوجدها مغمضة العينين أيضا " أتراها تمتنع أغلب الوقت عن الرؤية?" لكن كيف تستطيع أن تمنع الرؤية الداخلية عن التبلور والوضوح, ثم تمتم باسى: وأين المفر?.
وبغتة زعق بوق الحافلة مرتين, حتى جعله يسترد وقفته والمكان المؤقت واللحظات الحبيسة: الوطن.. الحجر الذي تتقلص أطرافه محيطا وخليجيا ليصبح زنزانة محمولة في الداخل. سار نحو الكرسي نفسه وجلس, فأزّ المقعد أزيزا متقطعا هزت رأسها على أثره, ونظرت إليه, وهي ترد له بعضا من بسمته.
"... الجو منعك..." جو الغرفة أو الوطن أو الأمة أو المؤسسات أو الأفكار المنتظرة أو الاقتناع أو الأدوات... أيّ انتحار بطيء وخامل هذا?!...
أزاحت الشرشف عن رأسها, وسرّحت شعرها بأصابع يدها اليمنى وهي تتكئ على اليد اليسرى, فبقي شعرها, كفكرها, غير مرتب.
وتابع يفكر: ولو سافرت.. نلتقي نحن, بعض أفراد الخلية.. نقول, بل ماذا نقول?! فالأرض تبتلع الأقدام قبل السير الخاطئ عليها, ونحن نتشتت عبر الجهات المرئية واللامرئية بحثا عن خطأ إنساني غير مرتكب, لنسجله في التاريخ اللقيط, ثم نولم ولائم الدمع والحزن الأرعن لضياع يوم البعث الموهوم..
تمطت وهي تقف عند جانب السرير, فتسلقت نظرته جسدها الرشيق حتى التقت نظرته بيديها اللتين أسبلتا. كان فرحه بها فرحا أرعن, فهي الخصب الفطري الذي يتأبي على الصغائر وينتمي لدنيا الجموع.. ولكنها الآن, تغالب موت الجموع: في شرايينها وفكرها, وتستأسد من أجل نسمة حياة جديدة, ولذلك تسأله من الصباح لماذا لم يسافر? أكيد أنها غير مقتنعة بالسفر هذا, ولكنه على الأقل خطوة نحو الجديد.. جديد من نوع آخر, يمكن أن يفتح شقا في الجدار الأصم بين الإنسان ومصيره..
ولأن الاكتساح في الميدان والشوارع والبيوت والنفوس والعقول, ولأن الخيوط تشابكت ثم تمزقت.. ولأن نوحا لم يصنع سفينة بعد, ليحمل البذرة المرتقبة للخلق الجديد.. ولأن اللغة ارتطمت على سفح الهزيمة العاتي, فإنها لم تعد السؤال عليه: لماذا لم يسافر.. في الذات وفي الوطن?...
كان يعرف صمتها ودمعها, كما يعرف نقاشها الحاد في الجلسات السرية وهي تدافع عن الاختيار المتطرف. فالمرونة السياسية التي كانت القيادة الحزبية تنادي بها, ليست في رأيها سوى بديل لعملة مدفوعة لتلك القيادة من طرف السلطة, من أجل تطويع القواعد الحزبية لما تراهنت عليه القيادة والسلطة عند الجلوس على مائدة مفاوضات الأرباح والأقساط..
وكان ذلك في نظرها, بداية لمسلسل من التنازلات التي هيأت لكثير من الوشايات والقمع والتمييع وتشتت القوى, سواء على مستوى الأوطان أو الأمة, وذلك ضمن تحالفات الإمبريالية.
لذلك كانت لازمتها التي لا تفارقها في كل نقاش أو تدخل: السجون مفاتيح الشعوب, وكلنا داخله رفضا لهزيمة الهزائم: هزيمة جنس بأكمله.
وفاجأه صوتها وهي تنادي أيضا:
- سعد؟
فانبغت, وتوجه نحوها, فوجدها تطل من باب المطبخ:
- أتأكل شيئا?
فبحث عن لسانه وأجاب:
- نعم, لو سمحت. ولأنه كثيرا ما أكل من يديها وجموحها وتوقها الأرعن للتغيير, فإنه كان مسؤولا أمامها: الأنثى والوطن.. فعليه أن يفعل شيئا.. أن ينقذ ما تبقى.. وأن يطرق أبوابا ويكسر صمتا ويحرر حركة ويسمع أصواتا.. لذلك حين وقفت عند باب المطبخ وانتبه لها وهي مستغرقة في التهيُّؤ, تصور انكبابها واستغراقها المثالي فيما تصنعه, فأحس بأنه يخونها لو توقف, لذلك وضع يده على سترته المعلقة وأخذها ثم خرج..
- سعد?
كان وجه النهار قد برز, معتما طافحا بظلال من ضباب قد يمطر, وحين ظل في صمته أضافت:
- ألم تسافر, أترى أن الجو قد منعك?!. كان من الممكن أن يكون السؤال واضحا, يملك حدوده وكفى. ولو أنها كانت هي, لكانت أسئلتها أكبر من حجمها, من طولها وبعدها, ولكنها المعارك الخاسرة...
بقي ممددا بتواكل طارئ, عيناه مغروستان في السقف, بينما تغيرت وضعية يديه من تحت رأسه إلى جانبيه. أخيرا وقف, سار نحو المطبخ, يبحث عن الوقيد, وأشعل لفافة, امتصها دون رغبة واضحة, وكان بسيره البطيء ذاك يتساءل.. يتطاول السؤال ليشمل أمسه وغده. ولم يكن ليفصح, فلقد استهلكا معا ما بنياه, وهما أو واقعا: التغيير, البناء الجديد, والانتماء للزمن المتحرك.
" كان قد قال لها: وما العمل?" وكانت هي قد خرجت مؤخرا من مرحلة الخطر, حيث سمح الطبيب لها بالاختلاط والحديث والتحرك. ولم يكن السؤال إلا فلتة لسان, فهو يدري أنه بذلك السؤال, إنما يجعل سيزيف العرب يخسر جولاته الإضافية, في الذات وفي الميدان, وأنه أيضا يطلق عليها مدفعا قريبا.
شهقت ولم تجب. فبالأمس, نزفت دمعا ودما, أدانت التفاصيل الصغيرة لليومي قبل المؤسسات والبنى والهياكل والأنظمة, أجرت مسحا للساحة العربية وعشقت الطوفان, قالت: إن العالم يلغينا, فيجب أن نحاوره بنفس لغته: الدمار. ثم حاولت تكوين خلية للإرهاب الأسود; فالموت لا يلغيه غير الموت, ثم سقطت.. قال الطبيب دون أمل: قد تنجو.. وحتى في الغيبوبة كانت الطائرات تضرب في أعماقها الخيام واللاجئين والهوية والخطوة البكر والتاريخ الجريح.
وقف أمام الزجاج وظل يدخن, وكانت عيناه تتحركان بلا تركيز, فكثير من أشياء هذا العالم قد نسفت, وهو يريد امتلاك أداة ما, لإعادة الحوار معها, وتذكر: سعيد وجدها في التدخين, وعبد الكريم في الانتحار, ونجيب في العودة إلى الحزب, وعلي في البحث عن المطلق, وأنا?..
أطل على قدمه وهو يسحق بقايا سيجارته بتؤدة, ثم رنا نحوها وهي تنفض ملاءة الفراش لتعيد طيها بحركة بطيئة. ظل يلاحقها ويتساءل: أهي هي?!. وحين التقت عيناهما في نظرة, تذكرا معا أن سؤالا كبيرا بينهما لا زال معلقا: " ألم تسافر بعد, في الزمان والمكان طبعا?".
وضعت الملاءة على جانب السرير وأخذت تعلق بعض الملابس, وحين انتهت من تعليق بعضها, عاودت الجلوس على مقعد قريب وغرست نظرتها في الأسفل: إنه الزمن, زمننا العربي, يتباطأ, يثقل أو يموت. وظلت كذلك, ولم تنتبه إلا على صوت اصطدام أوان بالمطبخ, لقد كان سعد يضع إبريق القهوة على النار. رفعت نظرة تالفة, ثم حطتها على الجدار المقابل, وبعد مدة غادرت جلستها إلى الجانب الأيمن من الغرفة, وأزاحت الستار عن النافذة المطلة على الأسطح المجاورة. ظلت نظرتها تسرح خلف الزجاج في البعيد, بينما كان سعد يمد نحوها فنجان القهوة. أمسكت به متمتمة, في حين رشف رشفة وهو قريب منها, ثم غادر إلى المقعد نفسه وجلس.
مرت مدة والرشفات الحزينة تتبادل الشكوى والأنين والصمت الحزين والأسئلة الموقوفة. وكان الجرح عبر أنينها ينكأ الأبجدية الأولى للوجود والعدم.
أخذت الأسطح تتلاشى, وأخذت الرشفات تتباعد, فضاع ذلك التناغم بين رشفتيهما, كما يضيع أي تناغم بين السؤال والجواب إلى حد الآن...
سارت قليلا ووضعت الفنجان على كتاب مغبر في جانب المكتب. أخذ ينظر إليها بين التمعن والاستغراب في عدمه, وأخيرا نفض رأسه في حضنه بعد أن رمى آخر جرعة في حلقه, ثم وضع يده بفنجانها على ركبته اليمنى. أزاحت برجلها شبشبه الذي لم يلبسه وغادرت الغرفة. سمع صوت باب الحمام يفتح ويغلق, ثم بعد حين, هسهسة ماء المضخة ينزل بتؤدة ثم بسرعة. وقف وتحرك, وعند باب الغرفة وقف, ثم استدار وركز عينيه على باب الحمام, كان يدرك معنى حركتها وكان يتعذب. من قبل, جهرا معا بالحنين والجوى والعذابات الكبرى, وحين أحبا بعضهما فلأجل أن يحبا العالم, أن يبنياه مع الآخرين بهندسة مغايرة, تعيد توزيع اللقم والابتسام فيه بالتساوي, ولذلك عرفا السجون بعد الأعمال السرية التي تقوض لتبنى, لكن..
ظل صوت الماء يأتي " ما لها?. عادة لا تتأخر كثيرا في الاستحمام" ولأنها عذابه أو معناه, فقد كان يخاف عليها, يخاف جرأتها في الإتيان بعمل مجنون. سار بسرعة, وفتح باب الحمام وأطل. كان رأسها مسبلا إلى الخلف والماء يسيل عليه وهي مغمضة العينين, أحست بفعله ولم تجب, فأدرك أنها تطفئ اشتعال الرأس الذي لم يخمد بعد.
ومن بعد, حين أطلت من باب الحمام خارجة, ورأسها ملفوف في شرشف أبيض, قدم لها ابتساما, أخذته وتمددت على السرير قليلا, فسألها:
- أتريدين شيئا?.
تمتمت شاكرة. فأعاد وضع المخدة الجانبية خلفها, وسار ببطء نحو النافذة نفسها.
بلغه ضجيج الشارع فتذكر انتماءه السابق إليه, وتساءل: أتراه في لا جدواه ذاتها يسير? ثم استدار على مهل وغرس نظرته في رفوف الكتب التي تغطي أغلب جدران الغرفة وتألم: أيهما خدعني, الشارع أو هاته أم كل شيء, بدءا من علاقتنا مع بعض, مع الأحزاب ومع الأنظمة ومع الأفكار, ومع الأيديولوجيات المهزومة?. ثم زفر. فتركت زفرته بللا خفيفا على الزجاج. ولأنه لم يكن يريد أن تبلغها منه شرارة إضافية, فقد استدار نحو السرير, فوجدها مغمضة العينين أيضا " أتراها تمتنع أغلب الوقت عن الرؤية?" لكن كيف تستطيع أن تمنع الرؤية الداخلية عن التبلور والوضوح, ثم تمتم باسى: وأين المفر?.
وبغتة زعق بوق الحافلة مرتين, حتى جعله يسترد وقفته والمكان المؤقت واللحظات الحبيسة: الوطن.. الحجر الذي تتقلص أطرافه محيطا وخليجيا ليصبح زنزانة محمولة في الداخل. سار نحو الكرسي نفسه وجلس, فأزّ المقعد أزيزا متقطعا هزت رأسها على أثره, ونظرت إليه, وهي ترد له بعضا من بسمته.
"... الجو منعك..." جو الغرفة أو الوطن أو الأمة أو المؤسسات أو الأفكار المنتظرة أو الاقتناع أو الأدوات... أيّ انتحار بطيء وخامل هذا?!...
أزاحت الشرشف عن رأسها, وسرّحت شعرها بأصابع يدها اليمنى وهي تتكئ على اليد اليسرى, فبقي شعرها, كفكرها, غير مرتب.
وتابع يفكر: ولو سافرت.. نلتقي نحن, بعض أفراد الخلية.. نقول, بل ماذا نقول?! فالأرض تبتلع الأقدام قبل السير الخاطئ عليها, ونحن نتشتت عبر الجهات المرئية واللامرئية بحثا عن خطأ إنساني غير مرتكب, لنسجله في التاريخ اللقيط, ثم نولم ولائم الدمع والحزن الأرعن لضياع يوم البعث الموهوم..
تمطت وهي تقف عند جانب السرير, فتسلقت نظرته جسدها الرشيق حتى التقت نظرته بيديها اللتين أسبلتا. كان فرحه بها فرحا أرعن, فهي الخصب الفطري الذي يتأبي على الصغائر وينتمي لدنيا الجموع.. ولكنها الآن, تغالب موت الجموع: في شرايينها وفكرها, وتستأسد من أجل نسمة حياة جديدة, ولذلك تسأله من الصباح لماذا لم يسافر? أكيد أنها غير مقتنعة بالسفر هذا, ولكنه على الأقل خطوة نحو الجديد.. جديد من نوع آخر, يمكن أن يفتح شقا في الجدار الأصم بين الإنسان ومصيره..
ولأن الاكتساح في الميدان والشوارع والبيوت والنفوس والعقول, ولأن الخيوط تشابكت ثم تمزقت.. ولأن نوحا لم يصنع سفينة بعد, ليحمل البذرة المرتقبة للخلق الجديد.. ولأن اللغة ارتطمت على سفح الهزيمة العاتي, فإنها لم تعد السؤال عليه: لماذا لم يسافر.. في الذات وفي الوطن?...
كان يعرف صمتها ودمعها, كما يعرف نقاشها الحاد في الجلسات السرية وهي تدافع عن الاختيار المتطرف. فالمرونة السياسية التي كانت القيادة الحزبية تنادي بها, ليست في رأيها سوى بديل لعملة مدفوعة لتلك القيادة من طرف السلطة, من أجل تطويع القواعد الحزبية لما تراهنت عليه القيادة والسلطة عند الجلوس على مائدة مفاوضات الأرباح والأقساط..
وكان ذلك في نظرها, بداية لمسلسل من التنازلات التي هيأت لكثير من الوشايات والقمع والتمييع وتشتت القوى, سواء على مستوى الأوطان أو الأمة, وذلك ضمن تحالفات الإمبريالية.
لذلك كانت لازمتها التي لا تفارقها في كل نقاش أو تدخل: السجون مفاتيح الشعوب, وكلنا داخله رفضا لهزيمة الهزائم: هزيمة جنس بأكمله.
وفاجأه صوتها وهي تنادي أيضا:
- سعد؟
فانبغت, وتوجه نحوها, فوجدها تطل من باب المطبخ:
- أتأكل شيئا?
فبحث عن لسانه وأجاب:
- نعم, لو سمحت. ولأنه كثيرا ما أكل من يديها وجموحها وتوقها الأرعن للتغيير, فإنه كان مسؤولا أمامها: الأنثى والوطن.. فعليه أن يفعل شيئا.. أن ينقذ ما تبقى.. وأن يطرق أبوابا ويكسر صمتا ويحرر حركة ويسمع أصواتا.. لذلك حين وقفت عند باب المطبخ وانتبه لها وهي مستغرقة في التهيُّؤ, تصور انكبابها واستغراقها المثالي فيما تصنعه, فأحس بأنه يخونها لو توقف, لذلك وضع يده على سترته المعلقة وأخذها ثم خرج..