ربيعة ريحان - العجوز


أدرك بعد فوات الأوان أن عواطفي الزائدة عن الحد ولطفي كادا أن يفتكا بي ويحرقا قلبي، بل ويورطاني ورطة العمر، لحظة جعلتني تلك الواقعة البئيسة على شفا حدث مدمر، كان يمكن أن يقودني إلى أسوأ مصير يمكن تخيله، وبالتالي أضطر إلى أن أدفع الثمن غاليا مقابل ذلك من جراء تهوري وسذاجتي. أقول تهوري مع أنني كنت أعتبر ما أقوم به مجرد حركة حضارية راقية أكثر منها إنسانية، أكنها دوما للعجائز رجالا ونساء وأبادر بها مع ميل شديد للعناية بالذات بالنساء، فحين كنت أرى إحداهن تتقدم نحوي بجهد، بسبب من قدميها المعوجتين وساقيها المرتعشتين عابرة إلى اتجاه ما ـ خصوصا صغيرات الحجم منهن المحنيات والمنمقات بالبقع والنمش ـ كنت أحس أنني متأهب لخدمتهن وعلى استعداد لجعلهن يصلن إلى حيث يسرن في أمان تام.
وكنت أتنازل لهن بغبطة عن مقعدي في كل مكان أصادفهن فيه، في الأوتوبيسات والحافلات أو في صالات الجلوس في المحطات أوفي المستشفيات، وكنت أنظر إليهن كما أنظر للأطفال الذين أحب اللهو معهم، ولا أضيق ذرعا حتى من اللواتي يثرثرن كثيرا وبإزعاج، ويستمتعن بذلك القدر من التعليق الساخر على (أولاد اليوم) والتنكيت عليهم، كما كنت أعتبرهن جميعا سيدات طيبات القلب وخاليات من سوء القصد، وأن كل مبادراتي لرعايتهن تسرية لطيفة عنهن نكاية في الزمن الذي عبث بهن، وجعل أجسادهن متراخية وعيونهن مدفونة وسط التجاعيد، لحد أن صعدت مرة إلى الحافلة التي تقرقع من مدينة أسفي باتجاه الصويرة في سفر مكوكي.
كنت مدمن طرق بحسب طبيعة عملي البسيط في المالية، وكانت كل أطقم الحافلات من سائقين ومساعدين برمتها تعرفني.
بالطبع هذه الحافلات التي أكون محبوسا فيها تعج بركاب مختلفين ومن مستويات اجتماعية متباينة، وليس بينها ركاب استثنائيون لكن بينها موظفون بسيطون وتجار صغار ومعلمات ومعلمون مكتئبون وبناؤون وعمال ورشات وعابرو سبيل ومرضى وسكان البوادي البعيدة والقريبة، الذين يجعلون الحافلة تتوقف باستمرار وتبطيء في الوصول. البعض يصعد والآخرون ينزلون قرب بئر ما أو (صاكا) أو عند عتبة دوار حاملين الكراطين والسلال القصبية والقفف البلاستيكية التي بها قناني زيت الزيتون والعسل والخضر والبيض والدجاج، وكل ما يبيعونه ولا يبيعون الأرض، وحيث يلتقط مساعدو السائقين الركاب الواقفين على الأرض الساخنة، والراغبين في الذهاب إلى الاتجاهات القريبة أو البعيدة أو إلى الأسواق الأسبوعية بسخط وشتائم لأنهم متعبون دوما وبلا مزاج.
ومن الصدف النادرة أن الحافلة الصفراء والخضراء التي صعدت إليها ركابها كانوا قليلين، مع أنها عادة تكون مكتظة مما يستدعي أن يظل المسافرون واقفين بالممر، وهذا ما يجعل السائق ـ حتى أحيانا من غير أن يضطر ـ ينفح الدركيين تلك الرشوة إياها التي تكون عبارة عن ورقة نقدية تافهة، يرميها السائق والحافلة منطلقة بنا أو يقذف بها مساعده من النافذة إلى الأرض.
كنت سأجلس بأحد المقاعد الأمامية لكن حظي التعس قادني قليلا إلى الخلف، وبدون أن أظهر قدرتي على التحكم في مشاعري عندما وجدتني وجها لوجه مع عجوز صغيرة كبعوضة تجلس لوحدها في الظل، توقفت ونظرت نحوها بمحبة غامرة وصار بإمكاني كأنما بشكل غريزي أن أجلس وأختار مقعدا إلى جنبها لأسليها وأرفه عنها.
رأيت من الممر الصغير الفاصل بيننا أنها لم تكن بصحة كافية كي تسافر لوحدها. يكفي أن تنظر إلى جماع جسدها الهش الضئيل، متجاوزا باقي التفاصيل كي يستحوذ عليك القهر وترثي لحالها.
لابد أن أهلها قد أصيبوا في عقولهم وهم يتركونها عرضة لتطويح الحافلة المتداعية وتعب المسير.
بداخلي إفراط شديد من المودة والحنان تدفعني إلى أن أبتسم لها. بدأت رأسا أخلق نحوها عالما من المشاعر والأفكار. المشاعر صرت أعبر عنها بالابتسامات والنظرات السخية، والأفكار ترجمتها لاحقا على شكل أسئلة وخدمات عينية ومساعدات.
ابتسمت لها كما قلت ابتسامة زاهية عريضة أولا كأنما أبتسم لطفلي النائم على ذراعي، لكن راعني أنها لم تستجب لي. ظلت هامدة كطير في عش. من المعقول افتراض أنها لا ترى جيدا. لم تر ابتسامتي العريضة التي بالتأكيد جعلت خدي يستديران ويبرزان إلى الأمام، ولا لاحظت شكل عيني كيف يضيقان بسبب الجيبين الصغيرين اللذين يبطناهما من تحت … ربما.. فالزمن كافر يفتك بكل شيء بدءا من البشرة اليانعة مرورا بكل عناصر الحياة الجيدة الأخرى.... لكن المفاجأة التي أجفلتني بعد برهة، كونها استجابت واستدارت نحوي بقوة وركزت علي نظرتها الحادة الصارمة كأنني واحد سوقي ولملمت أطراف ثوبها.
قلت مع نفسي هذه سيدة مسنة يوحي مظهرها بالقليل من البداوة من ألوان ثوبها المزوق الحامي، وربما عاشت تحت سيطرة زوج قذر رديء كان يمنع عنها الهواء.
أعرف بعض النساء التقليديات من العائلة في سنها كن خوافات بما يكفي كي تخبيء إحداهن في المساء عند جارتها كل سكاكين البيت خوفا من زوجها الجزار، لكنني جعلت نفسي كأنني لم أر تلك النظرة المقلقة، وابتسمت وهززت رأسي لها هذه المرة وعزمت على أن أكلمها. قلت في نفسي ربما لو كلمتها ستطمئن إلي وتبادلني الحديث وساعتها سأبدأ مباشرة في تقديم خدماتي لها.
سألتها ملاطفا:
ـ لا بااااس؟؟..
حدجتني للمرة الثانية بالنظرة إياها، لكنها كانت ممزوجة هذه المرة بكثير من الحذر والجفاء ولم ترد. لم أنكفيء على نفسي وصممت أن أخرجها من هذا الهبل الذي هي فيه. سيدتي أنت لا تعرفين أنني أود خدمتك فقط والله من كل قلبي، ويعز علي وأنت في هذا العمر الرث أن تكوني وحيدة في حافلة مهترئة. أعرف أن حياتك الآن مليئة بالاحتياجات الملحة، قد تكونين بحاجة إلى شيء وأنت عاجزة عنه. تودين مثلا كأس دانون من الحليب المغشوش إياه، أو موزة طرية أو ترغبين في قضاء حاجتك أو تضربك التلفة وتنسي أين أنت، أو تفقدين شيئا ما وتحتاجين أن تتفقدينه، أو تشرقين بالماء أو بالهواء أو تدوخين وتتقيئين، ساعتها أنا جاهز لك ولكل هذه المصائب. كنت أقول هذا لنفسي في صمت، وبسطت من باب التغيير كفي اليسرى أمامي في حركة عفوية سريعة، ولاحظت خفية أنها تراقبني ونظرت على عجل إلى خطوط كفي المتعرجة وتذكرت في لمحة صديقي السينمائي الذي نظر مرة إلى كفي وقرأ تفاصيلها. اندهش وهو يقول :
ـ كم هو طويل خط العمر في كفك يا عبد الكبير !! ..
يالله. ما أسوأ أن يكون العمر طويلا ونقضيه في الخيبات !!..
ـ مالك أميمتي؟؟..
هززت رأسي أسأل العجور بصوت ناعم كأنني ابن بار لها أو صهر حنون، ورفعت هي أيضا رأسها كأنني أغيظها وحدقت في بعينيها الملتهبتين لتفهمني شيئا لكن للأسف بدا لي أنه شيء عجيب. كانت النظرة رادعة كالوعيد. كأنها تقول لي أعرف قصدك أيها البائس الحقير، ثم أعقبت ذلك بأن انكمشت إلى الخلف بأقصى ما تستطيع وتمسكت بحضنها.
لم يكن أمامي من خيار سوى أن أحاول أن أحافظ على روحي المعنوية وأواصل بقدر ما أستطيع الابتسام وحرارة التقرب ودفء الكلمات، وطبعا لا أدري أي عقل نكد أوحى لي بأن أفعل ما فعلت.
كان المساعد غير البعيد عنا والجالس جنب الهبوات الصاعدة من ظهر المحرك الحار يلقي بين الفينة والأخرى بنظراته هنا وهناك، يمينا ويسارا وإلى الخلف، منشغلا بالحديث مع السائق ومراقبة الطريق لحمل الركاب الواقفين جماعات أو فرادى والذين يشيرون إليه بتلابيبهم، وكان أحيانا يبتسم لي هو أيضا ابتسامته العابرة التي فيها كم لائق من المودة والاحترام.
كنا قد وصلنا على الطريق عند سيدي عبد الجليل، وصارت تتبدى لي في الحصائد الكروم والزيتون والأركان، وعلى الجانبين شجر الأوكالبتوس الذي يلقي علينا بشيء من الظلال المسرعة والخضرة الكثيفة التي شكلت لدي وعلى عجل متعة جمالية خالصة. وضعت يدي في جيبي أفتش عن شيء يمكن أن أقدمه تحية لهذه السيدة، لكن للأسف لم أجد ما يستحق شرف المبادرة. غريب !!.. عادة ما تكون معي أشياء لذيذة وخفيفة كحبات شوكولاطة أوغريبة أو أي شيء آخر ذو نكهة طيبة أقطع به الطريق. عذرا سيدتي وآسف جدا لجيوبي الفارغة.
كنت أسمع الناس من حولي في الحافلات يقيمون الحوارات على عجل وبلا خلفيات، ويفتحون أبوابا للأحاديث والمرح من غير ما حرج، يحكون بصراحة ومن قلوبهم عن بيوتهم وهمومهم الخاصة وانشغالاتهم وقضاياهم في المحاكم والنزاعات، بل عن هموم ذويهم إن اقتضى الحال وعن أمراضهم وطلاقهم وزواجهم وبهائهم وقمحهم وشعيرهم وكل شيء، فما الذي يمنعني من أن أكسر جليد الترقب لدى هذه العجوز المسكينة، وأسألها أسئلة خاصة : من هي مثلا والى أين هي ذاهبة ولم أساسا هي وحدها في الحافلة وما هذه الصدفة الجميلة سبحان الله الذي ساقتها إلى طريقي !!. هذه أمور لا تحتاج إلى مقدمات ولا إلى تزويق.
ـ فين غاديا الحاجة؟؟...
ـ فين غاديا الحاجة؟؟ !!..
استغربت كيف أنها تردد السؤال بعدي بصوتها الحاد الشبيه بدجاجة بشكل متهكم غامض، ثم لا تنسى أن تتفحص وجهي بقوة وهي تحضن نفسها أكثر بأن تقوم بلم ذراعيها حول بطنها كأنما تحجب عني شيئا وهي ترمقني بغضب. فشلت حركتي هذه المرة أيضا ولم تنفع ( شطارتي ) التي كنت أعتبرها قوية وسريعة وبها قدر من الفهامات.
ـ أنت لوحدك؟؟ !!..
مصمم أنا كأن الحديث إليها سيقودني إلى مشروع. أهبل ألم أقل لكم وعاطفتي زائدة عن الحد وبوجادي إذا أحببتم أيضا.
بمجرد ما قال لي رأسي أن أقف لأجلس بجانبها وأنا أقترب منها مستندا إلى الأنبوب المعدني خلفي، اكتشفت كم هي مذعورة الحمقاء اللعينة التي طفقت تطلق صرخات حادة كقرد فوق شجرة :
ـ شفااااار شفاااااار!!..
طبعا التفت الكل نحوي متحفزين بعد أن قاموا من أماكنهم معتقدين فعلا أنني لص، بل وطار صواب بعضهم ووجدتني فعلا في حيص بيص. لأول مرة أفهم معنى هذا التعبير الصعب.
يمكنك أن تفهم معنى أن الأرض لم تعد توجد تحت قدميك ـ هذا إن كنت على الأرض أصلا ـ وأنك صرت توزع من حولك تلك الابتسامات البلهاء المشدوهة، مصدوما ومغتاظا وفزعا وغير قادر على الكلام والشرح أمام ما فعلته كومة العظام تلك، وناظرا تحديدا إلى لا شيء.
فعلا كنت في حال يستحق كل الرثاء الذي كان يمكن أن يتحول إلى ضرب ورفس وتبهديل بكل معنى الكلمة، لولا تدخل المعاون لسلامتي، وبين صدمة ما جرى ومحاولة إفهام الراكبين الأمر والتكيف مع المفاجأة وتلطيف الجو، كانت صورة العجوز الشمطاء الشبيهة بالخنفس قد انطبعت في ذهني وهي تتنفس بقوة وتكز بخبث وتحفيز مفسحة المجال لأسنانها المهرمشة كي تبدو لي جلية واضحة وهي تزعق.
ـ اضربوه. شفااااار ولد الحرام !!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...