منذ متى صرنا هكذا، فالوضع قديم قديم قديم، لدرجة أنني لم أعد أذكر شيئاً مما كانت تعيه الطفولة قبله، تاريخ الوعي في ذاكرتي يبدأ منذ رأيتني في هذا الوضع الذي نحن فيه، من قهر وإذلال وسخرة وجوع وعري وإنهاك على طول الخط، ما نبيت فيه نصبح فيه، وإن كان المبيت والإصباح غير واضحين تماماً في مخيلتي، حيث لا أنا ولا أي واحد من هذه الأعداد الهائلة من متاعيس البشر، يذكر متى كنا نياما، ولا متى استيقظنا، إن كنا قد تيقظنا بالفعل ذات لحظة من الزمن.
الواضح أننا في حالة نوم كأنه الصحو، وفى صحو كأنه النوم.. لا نذكر أن شمساً قد طلعت فأضاءت نهارا، ثم أخذته واختفت به في جنح الليل..
لا نذكر إلا ليلاً طويلاً سرمدياً، كَلَاحته تخفّ قليلاً في بعض الأوقات، ويصبح تحت أقدامنا أحياناً، فنمشى فوق ظهره تنحل أقدامنا وبرته السوداء ثم جلده كله، حتى تظهر عظامه البيضاء فتلمع في الأفق، وتبعث اللهب الحارق في أوصالنا، فيصعد مخترقا أدمغتنا الشقيانة واصلاً إلى السماء، حيث يتجمع متكوراً حول نفسه، ثم ما يلبث قرص اللهب حتى يصير فوقنا تماماً، ثم سرعان ما يصير خلفنا، ليكون الليل قد هزأ بأقدامنا، فانسرب من تحتها إلى أفئدتنا المقهورة التلفانة، فنبدو بأعدادنا الهائلة كأننا مصدر الظلام في هذا الكون الشاسع، أحياناً يألفنا الليل فيرقُّ علينا، فيزيح خُصل شعره الكثيف عن جنبيه، فنرى قمراً في السماء، لكنه سرعان ما يغدر بنا هو الآخر، إذ ما نكاد نعدّ فصوص برتقالته ونراه كرة مشابهة لقرص اللهب تماماً، إلا أنه يبعث بدلاً من اللهب ضوءاً يعطينا القليل من الشعور بالأمن حتى يغافلنا ويختفي، مع ذلك تغمض أعيننا فيما نحن نواصل السير.
لست أذكر أن أرجلنا توقفت عن حركة السير مطلقا، وإن كنا مع ذلك لم نعد نعرف لنا ثمة من وجهة محددة، كذلك لا نعرف كم من الطريق قطعنا، ولا كم من المسافة والآماد سوف نمشيها إليها، طول الليل وحلكته العميقة الدامسة هما الحقيقة الوحيدة التي ندركها وتدركنا.. صورة صدئة من ذكريات باهتة، أراها الآن ملقاة وسط حطام من ذكريات ميتة على هيئة ناس يبدو أنهم كانوا ذات يوم يمتون إلىّ بصلة قربى وثيقة، لعلهم من إخوتى وأصدقائي ورفاقي، أشلاء مشوهة، لعلها بقايا أهالينا الذين تساقطوا من الطابور منذ أزمنة سالفة، ولم نكن نستطيع أن نفعل لهم أى شىء سوى أن تدوس فوقهم غابة من الأقدام الضالة، همجية منسلكة في ميكنة المشي، ثم نسيت أنها تمشى مثلما نسيت حتى ذواتها وأسماءها، وصار الواحد منهم ممثلاً للكل، الواحد منهم في مقام مغرفة من حلة حساء تكفي للتعرف على كل الحساء.. بات هدفنا الأوحد في الحياة أن نمشى، نمشى فحسب، ولكن إلى أين؟ ومن ذا الذي حكم علينا بالسير في هذا الطابور، الذي لا أول له ولا آخر وسط هذا الظلام الكثيف؟ فحتى هذا لم نعد نذكره، أو ربما اقتنع الجميع بعدم جدوى التذكر.
الصورة الصدئة يدّب فيها الضوء شيئاً فشيئا، تلوح لي بعض الملامح من بعيد جداً، مشاعري تتهيج فجأة.. يا إلهي، إننى لأجدُّ في محاولات التذكر شغلا فيه بعض اللذة، ينسيني ألم السير وانحناء الظهر، وتسلّخ الكتفين والجنبين من خيزرانة الخولي وهراوة الباشخولي وكرباج الناظر، كل واحد منهم لا يشعر بنفسه بمركزه بقوته، بسلطته إلا حين يضربنا، من أراد أن يثبت لرئيسه ولنفسه أنه شايف شغله جيداً، يأخذنا طريحة ضرب، أحياناً يضربنا أحدهم لمجرد أنه يروق له أن يضربنا، أن يرانا نصرخ ونتوجع، أن يرى النسوان يقعن في عرضه بأن يعتقهن لله، أن يرى الفتيات يتمايصن تحت ضرباته متوجعات، بأنغام أنثوية تشعلل هياجه فيلتذ بمواصلة ضربهن من أجل الاستماع لأصوات مختلفة من التوجع الأنثوي، الذي كثيرا ما يميل إلى الغنج، دون أن تقصد الموجوعة، الألين مياصة منهن قد تنجو من الخيزرانة والكرباج معاً.
ها هي ذي الصورة الصدئة يتفكك عنها بعض الصدأ: ها نحن الأنفار قد جئنا من مختلف بلاد البر المصري، كي نعمل في وسية الأمير، أو لعله الباشا، أظنه محمد علي؟ ربما، وربما الأمير فؤاد أو الأمير شوكت أو الأمير زفت الطين، ولكن لا، لعله أكبر، أكبر بكثير جداً، ذلك أن وسيته التي نعمل فيها أنفارا تمتد طولا وعرضا بلا بداية ولا نهاية، والجرارات والترولات ذات القضبان الحديدية ويجرها الخيل، تسرح في أحشاء أراض شاسعة يتخللها عزب وكفور وقصور وبلدان وأجران مدروزة بأكوام القمح والدريس والأرز وأجولة القطن التي بلا حصر.. النفر منًَّا يستأجره المقاول لثلاثة أشهر، تتجدد بتجدد المزروعات طبقاً لما تحتاج إليه الزرعة من عمالة.. كان هذا هو المفترض تاريخياً، لكننا لا نذكر متى ولا كيف انتفى العمل بهذا النظام، فصرنا ملكية خاصة لأصحاب الوسية نعمل ما تطلبه منا الإدارة، نأكل ما يقدم إلينا من سكات، نلبس أسمالهم الخليعة، لا يحق لأحد أن يفتح فمه بأي شكوى أو تذمر، ممنوع حتى مجرد الزمزقة، إنما أنا متذكر متى أصبحت نفرا..
كنت صبيا في التاسعة من عمره، يروح المدرسة لكنه يسرح في الإجازة الصيفية نفرا في الوسية، أذكر أن مقاولا استأجرنى من أبى أيام ذاك ودفع له عربونا، ثم سُلِّمت إليه أحمل على كتفي مقطفا من الخوص فيه زوادتي لثلاثة أشهر: أرغفة خبز مشقوقة وآنية من الفخار فيها مش وخيار ولفت محدًَّق.. هل دفع المقاول لأبى بقية أجرى؟.. أظن أنني حتى الآن لم ألتق أحدا من أهلي بعد ذلك.. إن الصدأ المتراكم فوق الصورة قد أكل الكثير من معالمها في مخيلتي.. هل تراني قابلتهم ونسيت؟ هل عدت إلى بلدتي ومدرستي ثم جئت إلى هذا الطابور في إجازات صيفية متعددة؟.. صدأ خشن ولزج في آن.. أظن أننى لابد أن أكون قد فعلت، لأن شعورا كاليقين الغامض في صدرى، يشي بأننى تعلمت بالفعل في مدرسة، ربما مدارس، أغلب اليقين أني قد حصلت على شهادة، ربما شهادات.. أغلب الظن كذلك أن شيئاً من ذلك لم يحدث، وإلا فهل يعقل أن يكون ذلك بلا أثر في حياتي؟!.. لو كان قد حدث ما رأيتني واقفا هذه الوقفة التعيسة الذليلة في هذا الطابور الأبدي في هذه الحلكة..
الوجع في ظهرى نبتت له أظفار، جعلت تنخسني في قفاي وجنبي.. النغزات أرعشت بدني، سرعان ما فطنت إلى المنديل المحلاوي، الذي أصُرُّ فيه طعامي: رغيفين من رغفان المطرحة مشقوقين، مع زرّين من الخيار المَحدَّق الذي ندلعه ونسميه بحَمَام البلاص، مع فحل بصل، مع باذنجانة مسروقة من غيط الوسية، متورمة كالذنب الذي لا يغتفر، تغمص بالي، يشغلنى همُّ التفكير في كيفية أكلها، دون أن يلحظني أحد من الأنفار فيشي بي في الحال، حتى دون أن يفتح فمه بالكلام، لأن الفضيحة في الطابور - برغم الظلام - تعلن عن نفسها في سهولة من شدة ارتباك المحيطين بها، وخوفهم من أن سكوتهم عنها يعني أنهم مشاركون فيها بالصمت المتواطئ.. الخبز في منديلي المحلاوي قد نشف وتصلب، انهالت فوقه طرائح من العصي والهراوات والكرابيج، صار فتاتا مدببا يخزني بقسوة كقرصة البقّة كلما عدلت جسدي من عثرة وما أكثر العثرات!
بسّ بسّ بسّ!.. إن الجَيشَان السُخن في حرارة قلبي، يبدو أنه ضخَّ في مخيلتى سيولة شعورية غمرت الصورة الصدئة فحمضتها، حولتها من شبح كالعفريت إلى صورة واضحة، إلا أن التحميض لم يفلح في استجلاء الصورة كاملة، بقع سوداء كثيرة، لاتزال تفصل بين الكثير من الملامح، بين الكثير من الأزمنة، لكن ما وضح من المعالم صار جليا: رأيت الآن كيفية الترتيب الذي ننزل به إلى خطوط الحقول ساعة العمل، نظام صارم لا يمكن لأحد اختراقه أو الخروج عليه أو الإفلات منه، وإلا ديس بالأقدام ثم ووري التراب من تحتها، تتعاقب عليه، إذ هي مندفعة ملتزمة بمواقعها في الطابور، إلى أن تغيِّبه في جوف الأرض ربما دون أن تدري أو تشعر إلا بما يعترض عابر سبيل، أثناء سيره من حصى أو زلطة سرعان ما يتجاوزها مواصلاً سيره، كأن شيئاً لم يكن، فإن كانت الأرض جافة تحت الضحية، تولت الرمال طمره أو انحسرت عنه مع الريح التي أتت به، فإذا هو وليمة - غير دسمة مع الأسف - للذئاب والثعالب والضباع والنسور، فما أكثر آكلي الجيف حول جميع الطوابير.
النظام يحدده الخولي بحكم خبرته بقدرات الأنفار، ويراجعه الباشخولي بحكم تشككه الدائم في ذمة الخولي أو في شغله، ويحصيه الكاتب ما بين وقت وآخر، ليتأكد أن كل نفر باق في مطرحه، ويراجعه الباشكاتب ليسد جميع سبل الوِلْسِ والرشوة، ويعتمده الناظر، ويراقبه المفتش.. يتم تقسيم الأنفار إلى فرق، كل فرقة مكونة من خمسة وعشرين نفراً، الفرقة - سواء كان عملها نقاوة اللطع من شجيرات القطن، أو نقاوة الحشائش الشيطانية من شتلات الأرز، أو العزيق، أو جمع القطن - ستتملى في خطوط طويلة متجاورة في تقسيمة كل أرض مزروعة، كل نفر يمسك خطا، فإذا نظرت إلى الفرقة من خلفها وجدتها صفا متجاوراً من ظهور محنية تعمل في الأرض زاحفة ببطء شديد إلى الأمام.. يقضي النظام بأن يكون لكل فرقة «قَيِّدة»، و«ساقة».. «القيدة» لابد أن يكون أقوى نفر في الفرقة من ناحية، ومن ناحية أخرى حريفا ومتودكا على هذا النوع أو ذاك من العمل، يليه من هو أقل قليلاً في الكفاءة، وهكذا فإن الأنفار الثلاثة أو الأربعة الأوائل في الترتيب يشملهم لقب «القيدة»، بقية الأنفار هم «الساقة» - ولأنهم يتفاوتون في القدرات والوعي والذكاء من جيد إلى متوسط إلى ضعيف فإن النفر الأخير في صف الفرقة، هو الذي يلصق به اللقب وحده كاللعنة، سيَّما والساقة هم في العادة من ضعاف البنية قليلي الخبرة، إضافة إلى أن منهم الأعرج والأبرص والأعور وأبوكرش والأصفر أبو علة والعيان بكيفه، والرخو المخنث والعيال الأشبه بالبلح الرافح لا أمل في أن يتودكوا في العمل أو حتى يسترجلوا.. تزحف الفرقة، كل في خطه، يباشر عمله، حتى إذا ما وصل زحف الفرقة إلى نهاية الخط اصطفت الفرقة واقفة على الزُرّاق لبرهة، فيتقدم القيدة ماشياً على الزراق ليمسك بخط العودة، الخط المجاور لخط الساقة، فتمشي الفرقة وراءه لتصطف بجواره على نفس الترتيب في خطوط العودة مثلما كانت في خطوط الذهاب، على أن يتولى القيدة - نظراً لشطارته - مراجعة الخط الذي كان يشغله الساقة في الذهاب، ليرى إن كان قد غفل عن لطع في الشجيرات، أو تعويم في الشتلات، أو خشونة في العزيق، أو بقايا قطن في اللوزات المجموعة، فيعالج كل ذلك إلى جانب خطه في طريق العودة.. كل الفرق اندمجت في هذا النظام تنفذه حتى وهي نائمة على روحها، حتى وهي ماشية على السكك الزراعية في طريقها إلى الحوض، الذي ستتملى في خطوطه، حتى وهي في طريقها إلى ميدان السراى في الوسية لتركب الجرارات أو الترولات القضبانية.
حلو تذكرت: جميع الفرق انضمت إلى بعضها في طابور خرافى الطول، يتقدمه «قيدة»، وفى ذيله «ساقة»، اختفت الساقات بين القيِّدات، لكن يسهل على أي خولي أو كاتب أنفار أن يميز الساقات داخل الطابور بمجرد رؤيته هزال الأجسام وتقزم القامات وظهور العاهات.. ولكن منذ متى صرنا جميعاً في طابور واحد؟ بمن فينا الخولى والباشخولى والكاتب والباشكاتب والناظر والمفتش وصاروا كالأنفار أو أشد بؤسا؟.
يلوح لى من خلال الصورة الصدئة، أن في الأمر سردابا لعله السر في هذه المتاهة التي نحن فيها.. السرداب محفور في الذاكرة وإن طمسه ركام من ذكريات أزمنة ضبابية.. يلوح لى أن زلزالا كونيا، أو ما أشبه، كان قد حدث، وبناء عليه تم تجميع الفرق كلها في طابور واحد طويل أطول من الوادى الذي كان ذات يوم خصيبا، يساق بمسوقة واحدة غليظة في أيد متعددة.. متأكد أنا أنه لم يكن طابورا تتكاتف فيه لإنجاز مهمة ما مُهمة، أو للذهاب نحو غاية نرتجيها أو يرتجيها أسيادنا، أو للوقوف في وجه عدو.. لا لم يكن هكذا بكل تأكيد، إنما كان ولايزال طابور ذل وعبودية.. فلم كان إذاً يا ترى؟.. افصحي أيتها الصورة الصدئة.. آه.. هي عاجزة عن الإفصاح لكننى في هذه البقعة منها أشعر أن هذا الصدأ المتراكم عليها إن هو إلا ركام من الشعور بالذلة تكاثف وازداد قتامة بعرق المذلة..، لكني الآن أستطيع النفاذ إلى ما تحت الصدأ، سالكا طريق الشعور يرشدني إلى حقيقة ما جرى وكان.
طابور الذل بدأ بأن هطل الضرب فوق أبداننا من كل ناحية مع صيحة مدوية: اجمع! اجمع أنت وهو يا ابن الـ....! اجمع اجمع اجمع والضرب يمزقنا، فهمنا من رطانة الناظر والمفتش ومن بلبلة الكاتب وغطرسة الباشكاتب وشخطه ونطره ومن هرولة الخولة وارتياعهم، أن سرَّ هذا الزلزال هو - بالويم - أن أسيادنا قد تغيروا.. نعم هذا ما صرت متأكدا منه الآن.. قالوا لنا بالمفتشر إن إدارة أسيادنا الجدد قد طلبت أن ترانا لتعيد حصرنا وتفيئتنا من جديد على أجور جديدة، وكان الغضب العارم الشرير يغلى في صدور من يسوقوننا فيدلقونه فوق أبداننا، فيتضح لنا تلقائيًا أن السيادة الجديدة ربما تكون عازمة على تغييرهم ولربما زجوا بمعظمهم في السجون، نتيجة ما سوف يكتشفونه لا محالة من اختلاسات وتدليسات وخيانات وفساد ذمم وفجور، مما كنا نسمع عنه طوال السنين الفائتة بل ونراه بأعيننا كل يوم ثم نتجاهله على أساس أن الساقة من أمثالنا لم يعد يلفت نظرهم ولا يزعجهم حين يروا كبار مسئوليهم يسرقون وينهبون عيني عينك، وكأن ذلك من حقهم، ومن طبائع الأمور في هذه الوسية التي لم يعد لها أو لنا ثمة من صاحب.
بقايا أثر التعذيب هى ذاكرة التفاصيل، والبقع الثقيلة في هذه الصورة الصدئة هي ما تخثر من دم الجروح وأورام الهراوات وشروخ السياط، من قسوتها سكنت في صميم الفؤاد، من هولها يعمد الذهن إلى نسيان التفاصيل كيلا يقلب في المواجع، والمواجع طبقات فوق طبقات.. قد وصلت بى المواجع إلى حد استعذاب الألم، حيث أشعر الآن أن ذاكرتي - ذاكرتنا جميعا - أهم من إذلال النفس في سبيل إراحة الجسد بنسيان وقائع التعذيب، حتى لا يتجدد الألم.. الآن أقول: فليتجدد، أهلا به، سأنزع من لحم الجروح شرائح الألم، بأصابعى لا بأصابع الطبيب، سأفعص الدمامل وأزيح أم القيح.
فى لهوجة وخوف واضطراب، ساقونا في الطريق الذي قيل إنه يؤدى إلى السراي البعيدة، التي تقيم فيها معية سادتنا الجدد، حيث يتعين علينا أن نجعل سيدنا الجديد يشعر أن لديه رجالاً أشداء يعتمد عليهم، يجب علينا أن نقف أمامه مشدودي القامات، وأن يداري العمالقة منا بظلالهم على العوران والحولان والبرصان والعرجان والعيال الرامخة، فلعل سيادته ينعم علينا بالرضاء السامي، وهذا في حد ذاته يكفى بل هو شرف عظيم لنا لم نكن لنستحقه لولا هذا الظرف السعيد.
مع ذلك مشينا في هرولة همجية، مِسْوَقَةُ الخوف فوق ظهورنا كأننا حمير السباخ، الطريق مقلقل يشرخ الأقدام، الجو خانق رغم انطفاء وجه الشمس، أنهار من عرق ودموع وغبار، عجينة أغلقت العيون وليَّستها مثل ششم عيون الأطفال.. تمر السنون ونحن مستمرون في المشي، لا ندري إن كانت معالم الطريق والأراضي كلها متشابهة إلى حد التطابق لدرجة أننا لا نرى أى جديد يثبت أننا نتحرك بالفعل، أم أننا في حقيقة الأمر نتحرك في مطارحنا دون أن نتقدم خطوة واحدة على امتداد زمن يبدو موغلا في القدم.. الشيء الوحيد الذي يتغير هو أبداننا التي يصيبها الوهن والشيخوخة وصنوف من أمراض مجهولة تقصف الأعمار، أغلب الظن أنها أمراض إرادية يزرعها البني آدم منا في نفسه ويغذيها حتى تنمو وتأكل جسده على مهل، حتى تخلص روحه من أسرها في جسد مهان منحط، لا يستحق أن تضحي الروح في سبيله بأكثر مما في طوقها من قدرة على احتمال العذاب، وهكذا ما يكاد الواحد منا يدوخ حتى يتهاوى مسلما جسده لمفرمة أقدام الطابور التي تصلبت وصارت كالفئوس الحديد.
قيل لنا إننا - حسب الطريق الموصوف لقادتنا - يتعين علينا أن ندخل في سرداب ضيق سوف يؤدي إلى حرم السراي، لأننا لا يجدر بنا أن ندخل من البوابة السيادية ذات الميدان الخاص، لاستقبال الأوتومبيلات والكارتات والحناطير ناقلة السادة النُجُب.. من هذا السرداب ندخل إلى الساحة الخلفية المستخدمة كأجران عريضة تفصلها الحديقة عن السراي.. اتضح أن الأَدِلاَّء الموفدين من لدن السراي لإرشادنا إلى الطريق كانوا من العميان، اتضح أيضًا أنهم غير ملمين لا بجغرافيا ولا بتاريخ ولا حتى بخبرة قصاصي الأثر في الصحراء التي تحيط بنا.. كانوا عميانا بحق فضلا عن جهلهم وغطرستهم المستمدة من قوة مراكزهم المستمدة من ثقة الذين عينوهم أدلاءً لنا.
مع ذلك فوجئنا بالسرداب يقترب منا ونحن على وشك التساقط من اليأس والإعياء..
يا ربي!.. لا يمكن أن يكون هذا السرداب صالحًا إلا لمرور الهواء فقط، لا يتسع لجسد مهما كان ضئيل الحجم، يتسع بالكثير لجسد عنزة أو قط أو كلب صغير، فضلا عن أنه يبدو كالمسدود مما يشي بأنه متعرج متلولب، ربما كان مجرد شرخ في جدار ثم اتسع قليلاً، أما أن يمر منه طابور منظم في ترتيب معين، فلابد أن يكون طابورا من النمل المدرب على العبور من الشقوق..
يا ربي!.. ما كل هذه الإمكانية والمرونة في بني الإنسان؟ المستحيل قد حدث.. دخل الطابور من السرداب بنفس نظامه وترتيبه، صرنا أدق حجما من النمل الموصوف بالحرامي، لم يعد ثمة فرق بين نفر وخولي ومفتش، لا توجد مساحة يستقل بها أحد يحيط بها مركزه وتَميُزَه، انضغط الجميع في الطابور، لكنهم لسذاجتهم الفائقة - شأن كل عبدة المراكز والمناصب والكراسي والمواقع المتقدمة - وضعوا أنفسهم في المكانات التي هم عليها كقادة، فبدلا من سيرهم بحذاء الطابور على الجنبين، تقدموا على «القيِّدة» النفر، وضعوا أنفسهم في الطابور بحسب مراكزهم القيادية: المفتش ومن ورائه الناظر من ورائه الباشكاتب من ورائه الكاتب فالباشخولي فالخولي ثم النفر القيدة.
هكذا دخلنا السرداب وراءهم، صرنا نملاً يزحف ويتساند على جدارين خشنين باردين كالثلج اللاسع، من فوقنا خيمة السماء قد احتشدت بالطيور الجارحة، لاتني تهاجمنا هابطة فوقنا تنقر في رءوسنا وأكتافنا بسنابك حادة، تقتطع من الآذان والرقاب والعيون لقيمات خاطفة، لا يمنعها من المزمزة على مهل وهي واقفة فوق أكتافنا غارزة مخالبها في رقابنا إلا صرخاتنا الفزعة المنتفضة التي تفزعها فتطير محلقة فوقنا لبرهة وجيزة ثم تعاود الهبوط علينا، وكان من الواضح أن روائح أبداننا النتنة، قد أقنعت الجوارح بأننا مجرد جيف محشورة في شرخ بين جدارين.. سنون تمضي لا نعرف لها عددًا، بل لا ندري إن كانت سنين أم مجرد أيام وأسابيع وشهور، وأيًا ما كان عددها فإن اليوم فيها بمائة عام مما تعدون.
وكان من الواضح أن السرداب لا تبدو له نهاية، وأننا قد وقعنا في شر أعمالنا، أو بالأصح أعمال غيرنا، فلم نسمع ولم نقرأ في حياتنا عن منور مُسردب بهذا الضيق طوله مئات ألوف الملايين من الكيلو مترات ،إلا أن يكون في أغلب الظن شقا جبليا صخريا طبيعيا من عصور الفراعنة.. بعض الرجال الأشد وحشية من الحيوانات المفترسة كانوا يفلحون في القبض على أحد النسور وتكتيفه والشروع في تمزيقه والتهامه بريشه، إلا أن أصواتا آمرة سرعان ما تأتى متقهقرة عائمة فوقنا تحملها أجنحة الجوارح، تحذرنا من التعرض بالإيذاء لأيٍ من هذه الجوارح لأنها تابعة لأولياء أمورنا الجدد من حدائقهم الخاصة ولها من ثمة هي الأخرى حصانتها.
بعد لأىٍ وطلوع أرواح فوجئنا برجة أدت إلى اصطدام رءوسنا ببعضها وانكفاء الصدور على الأقفية، حدث لنا ما يحدث للسيارات الزاحفة على الطريق السريع حينما تتوقف إحدى السيارات فجأة، فيتكرر الصدام من خلفها في جميع السيارات.. اتضح أن القادة المتقدمين اصطدموا بحائط صلب يسد السرداب ولم يكن مرئيًا لهم، لعلهم قد أصابهم العمى والدوخان فلم يروا الجدار قبل الدخول فيه مباشرة.
يا للبؤس والحيرة والضلال، ماذا نفعل؟ كيف نعود؟ كيف يستدير الطابور عائدا يتقدمه القادة؟..مرغم أخوك، صدر الأمر من القادة بـ: للخلف در، صار كل واحد منا يرددها بصوت عال فيما يحاول الدوران حول نفسه، فيتلقفها الواقف وراءه - الذي صار الآن أمامه - ويدور هاتفا بها.. وإلى أن تمت استدارة أفراد الطابور كله كان دهرا طويلا قد مضى، ثم صدر الأمر بالسير، وهكذا انقلب الوضع في الطابور تماما. صار السَاقَة هو القَيَّدة، أصبح العميان والعوران والعرجان والبرصان والحولان والرامخون العاجزون هم القادة..
صار القادة مجرد ساقة في ذيل الطابور..
صار بعضنا يتلذذ بالوضع شامتا، صار الحكماء يضحكون في مرارة أسيفة، صار المطيباتية ينفسون عن شماتتهم وحقدهم وسخريتهم من الأمر برمته، بطمأنة الطابور بأنه وضع مؤقت تفرضه أزمة طارئة.. لكن واحسرتاه علينا جميعا: الأزمة طال مداها، اتسعت وتعقدت.. قفلنا راجعين تحت قيادة الساقة.. يا للعجب، السرداب الذي دخلناه في سنين رجعناه في دهور، أبدا ما صدقنا أننا مشينا كل هذه المسافة الخرافية دون أن نحقق شيئًا على الإطلاق، ورجعناها كلها إلى غير غاية.
غير أن اللغز الأعقد هو هذا الذي حدث: فحينما دخلنا السرداب منذ دهور مضت كان مدخله بالرغم من العناء لايزال ماثلا في الأذهان، والمفترض - طبقا لطبائع الأمور - أننا حين نرتد عائدين لابد أن يعيدنا إلى الخلاء الصحراوي، الذي وصلنا إليه قادمين من الواحة بحثا عن مدخل السرداب هذا، ولكن ما حدث أننا حينما خرجت فلولنا من جوف السرداب كانت طلائعنا وقادتنا الساقة قد امتدوا أمامنا في خط عبارة عن مدق من أرض صلبة ممدود كالجسر في قلب محيط مائى لا نهائى، المياه من الجانبين ومن الأمام راقدة ساكنة سكونا مريبا كالخديعة، المدق فيما تشعر به أقدامنا يبدو كأنه سنام جبل عظيم غمرته المياه وبقى منه هذا الشريط الضيق المرتفع لم يطله الماء، وها هو ذا يلمع من جوف الأفق البعيد حيث تنكفئ السماء على الماء فيتعاشقان، وتبدو مقدمة طابورنا غاطسة في خط التعاشق فكأنها أسراب من بعوض بين فكي حوت كوني خرافي، ولم يكن المدق الصخري ليتسع إلا لقدم واحدة، فعلى الواحد أن يحذر التساند على غيره، وأن يربط جأشه وينقل القدم بعد القدم في ترو وهدوء أعصاب، وإلا فقد توازنه وهوى في قلب هذا الماء الذي لا يني يلفظ أجنحة من لهب برتقالى داكن، وكنا نرى المتقدمين لا يلبثون حتى يختفوا تماما كأن خط الأفق قد ابتلعهم بين الماء والسماء، ولم نكن نملك إلا مواصلة الارتجاف زحفا على هذا الصراط إلى مصير غير معلوم.
خيري شلبي
مارس 2010
الواضح أننا في حالة نوم كأنه الصحو، وفى صحو كأنه النوم.. لا نذكر أن شمساً قد طلعت فأضاءت نهارا، ثم أخذته واختفت به في جنح الليل..
لا نذكر إلا ليلاً طويلاً سرمدياً، كَلَاحته تخفّ قليلاً في بعض الأوقات، ويصبح تحت أقدامنا أحياناً، فنمشى فوق ظهره تنحل أقدامنا وبرته السوداء ثم جلده كله، حتى تظهر عظامه البيضاء فتلمع في الأفق، وتبعث اللهب الحارق في أوصالنا، فيصعد مخترقا أدمغتنا الشقيانة واصلاً إلى السماء، حيث يتجمع متكوراً حول نفسه، ثم ما يلبث قرص اللهب حتى يصير فوقنا تماماً، ثم سرعان ما يصير خلفنا، ليكون الليل قد هزأ بأقدامنا، فانسرب من تحتها إلى أفئدتنا المقهورة التلفانة، فنبدو بأعدادنا الهائلة كأننا مصدر الظلام في هذا الكون الشاسع، أحياناً يألفنا الليل فيرقُّ علينا، فيزيح خُصل شعره الكثيف عن جنبيه، فنرى قمراً في السماء، لكنه سرعان ما يغدر بنا هو الآخر، إذ ما نكاد نعدّ فصوص برتقالته ونراه كرة مشابهة لقرص اللهب تماماً، إلا أنه يبعث بدلاً من اللهب ضوءاً يعطينا القليل من الشعور بالأمن حتى يغافلنا ويختفي، مع ذلك تغمض أعيننا فيما نحن نواصل السير.
لست أذكر أن أرجلنا توقفت عن حركة السير مطلقا، وإن كنا مع ذلك لم نعد نعرف لنا ثمة من وجهة محددة، كذلك لا نعرف كم من الطريق قطعنا، ولا كم من المسافة والآماد سوف نمشيها إليها، طول الليل وحلكته العميقة الدامسة هما الحقيقة الوحيدة التي ندركها وتدركنا.. صورة صدئة من ذكريات باهتة، أراها الآن ملقاة وسط حطام من ذكريات ميتة على هيئة ناس يبدو أنهم كانوا ذات يوم يمتون إلىّ بصلة قربى وثيقة، لعلهم من إخوتى وأصدقائي ورفاقي، أشلاء مشوهة، لعلها بقايا أهالينا الذين تساقطوا من الطابور منذ أزمنة سالفة، ولم نكن نستطيع أن نفعل لهم أى شىء سوى أن تدوس فوقهم غابة من الأقدام الضالة، همجية منسلكة في ميكنة المشي، ثم نسيت أنها تمشى مثلما نسيت حتى ذواتها وأسماءها، وصار الواحد منهم ممثلاً للكل، الواحد منهم في مقام مغرفة من حلة حساء تكفي للتعرف على كل الحساء.. بات هدفنا الأوحد في الحياة أن نمشى، نمشى فحسب، ولكن إلى أين؟ ومن ذا الذي حكم علينا بالسير في هذا الطابور، الذي لا أول له ولا آخر وسط هذا الظلام الكثيف؟ فحتى هذا لم نعد نذكره، أو ربما اقتنع الجميع بعدم جدوى التذكر.
الصورة الصدئة يدّب فيها الضوء شيئاً فشيئا، تلوح لي بعض الملامح من بعيد جداً، مشاعري تتهيج فجأة.. يا إلهي، إننى لأجدُّ في محاولات التذكر شغلا فيه بعض اللذة، ينسيني ألم السير وانحناء الظهر، وتسلّخ الكتفين والجنبين من خيزرانة الخولي وهراوة الباشخولي وكرباج الناظر، كل واحد منهم لا يشعر بنفسه بمركزه بقوته، بسلطته إلا حين يضربنا، من أراد أن يثبت لرئيسه ولنفسه أنه شايف شغله جيداً، يأخذنا طريحة ضرب، أحياناً يضربنا أحدهم لمجرد أنه يروق له أن يضربنا، أن يرانا نصرخ ونتوجع، أن يرى النسوان يقعن في عرضه بأن يعتقهن لله، أن يرى الفتيات يتمايصن تحت ضرباته متوجعات، بأنغام أنثوية تشعلل هياجه فيلتذ بمواصلة ضربهن من أجل الاستماع لأصوات مختلفة من التوجع الأنثوي، الذي كثيرا ما يميل إلى الغنج، دون أن تقصد الموجوعة، الألين مياصة منهن قد تنجو من الخيزرانة والكرباج معاً.
ها هي ذي الصورة الصدئة يتفكك عنها بعض الصدأ: ها نحن الأنفار قد جئنا من مختلف بلاد البر المصري، كي نعمل في وسية الأمير، أو لعله الباشا، أظنه محمد علي؟ ربما، وربما الأمير فؤاد أو الأمير شوكت أو الأمير زفت الطين، ولكن لا، لعله أكبر، أكبر بكثير جداً، ذلك أن وسيته التي نعمل فيها أنفارا تمتد طولا وعرضا بلا بداية ولا نهاية، والجرارات والترولات ذات القضبان الحديدية ويجرها الخيل، تسرح في أحشاء أراض شاسعة يتخللها عزب وكفور وقصور وبلدان وأجران مدروزة بأكوام القمح والدريس والأرز وأجولة القطن التي بلا حصر.. النفر منًَّا يستأجره المقاول لثلاثة أشهر، تتجدد بتجدد المزروعات طبقاً لما تحتاج إليه الزرعة من عمالة.. كان هذا هو المفترض تاريخياً، لكننا لا نذكر متى ولا كيف انتفى العمل بهذا النظام، فصرنا ملكية خاصة لأصحاب الوسية نعمل ما تطلبه منا الإدارة، نأكل ما يقدم إلينا من سكات، نلبس أسمالهم الخليعة، لا يحق لأحد أن يفتح فمه بأي شكوى أو تذمر، ممنوع حتى مجرد الزمزقة، إنما أنا متذكر متى أصبحت نفرا..
كنت صبيا في التاسعة من عمره، يروح المدرسة لكنه يسرح في الإجازة الصيفية نفرا في الوسية، أذكر أن مقاولا استأجرنى من أبى أيام ذاك ودفع له عربونا، ثم سُلِّمت إليه أحمل على كتفي مقطفا من الخوص فيه زوادتي لثلاثة أشهر: أرغفة خبز مشقوقة وآنية من الفخار فيها مش وخيار ولفت محدًَّق.. هل دفع المقاول لأبى بقية أجرى؟.. أظن أنني حتى الآن لم ألتق أحدا من أهلي بعد ذلك.. إن الصدأ المتراكم فوق الصورة قد أكل الكثير من معالمها في مخيلتي.. هل تراني قابلتهم ونسيت؟ هل عدت إلى بلدتي ومدرستي ثم جئت إلى هذا الطابور في إجازات صيفية متعددة؟.. صدأ خشن ولزج في آن.. أظن أننى لابد أن أكون قد فعلت، لأن شعورا كاليقين الغامض في صدرى، يشي بأننى تعلمت بالفعل في مدرسة، ربما مدارس، أغلب اليقين أني قد حصلت على شهادة، ربما شهادات.. أغلب الظن كذلك أن شيئاً من ذلك لم يحدث، وإلا فهل يعقل أن يكون ذلك بلا أثر في حياتي؟!.. لو كان قد حدث ما رأيتني واقفا هذه الوقفة التعيسة الذليلة في هذا الطابور الأبدي في هذه الحلكة..
الوجع في ظهرى نبتت له أظفار، جعلت تنخسني في قفاي وجنبي.. النغزات أرعشت بدني، سرعان ما فطنت إلى المنديل المحلاوي، الذي أصُرُّ فيه طعامي: رغيفين من رغفان المطرحة مشقوقين، مع زرّين من الخيار المَحدَّق الذي ندلعه ونسميه بحَمَام البلاص، مع فحل بصل، مع باذنجانة مسروقة من غيط الوسية، متورمة كالذنب الذي لا يغتفر، تغمص بالي، يشغلنى همُّ التفكير في كيفية أكلها، دون أن يلحظني أحد من الأنفار فيشي بي في الحال، حتى دون أن يفتح فمه بالكلام، لأن الفضيحة في الطابور - برغم الظلام - تعلن عن نفسها في سهولة من شدة ارتباك المحيطين بها، وخوفهم من أن سكوتهم عنها يعني أنهم مشاركون فيها بالصمت المتواطئ.. الخبز في منديلي المحلاوي قد نشف وتصلب، انهالت فوقه طرائح من العصي والهراوات والكرابيج، صار فتاتا مدببا يخزني بقسوة كقرصة البقّة كلما عدلت جسدي من عثرة وما أكثر العثرات!
بسّ بسّ بسّ!.. إن الجَيشَان السُخن في حرارة قلبي، يبدو أنه ضخَّ في مخيلتى سيولة شعورية غمرت الصورة الصدئة فحمضتها، حولتها من شبح كالعفريت إلى صورة واضحة، إلا أن التحميض لم يفلح في استجلاء الصورة كاملة، بقع سوداء كثيرة، لاتزال تفصل بين الكثير من الملامح، بين الكثير من الأزمنة، لكن ما وضح من المعالم صار جليا: رأيت الآن كيفية الترتيب الذي ننزل به إلى خطوط الحقول ساعة العمل، نظام صارم لا يمكن لأحد اختراقه أو الخروج عليه أو الإفلات منه، وإلا ديس بالأقدام ثم ووري التراب من تحتها، تتعاقب عليه، إذ هي مندفعة ملتزمة بمواقعها في الطابور، إلى أن تغيِّبه في جوف الأرض ربما دون أن تدري أو تشعر إلا بما يعترض عابر سبيل، أثناء سيره من حصى أو زلطة سرعان ما يتجاوزها مواصلاً سيره، كأن شيئاً لم يكن، فإن كانت الأرض جافة تحت الضحية، تولت الرمال طمره أو انحسرت عنه مع الريح التي أتت به، فإذا هو وليمة - غير دسمة مع الأسف - للذئاب والثعالب والضباع والنسور، فما أكثر آكلي الجيف حول جميع الطوابير.
النظام يحدده الخولي بحكم خبرته بقدرات الأنفار، ويراجعه الباشخولي بحكم تشككه الدائم في ذمة الخولي أو في شغله، ويحصيه الكاتب ما بين وقت وآخر، ليتأكد أن كل نفر باق في مطرحه، ويراجعه الباشكاتب ليسد جميع سبل الوِلْسِ والرشوة، ويعتمده الناظر، ويراقبه المفتش.. يتم تقسيم الأنفار إلى فرق، كل فرقة مكونة من خمسة وعشرين نفراً، الفرقة - سواء كان عملها نقاوة اللطع من شجيرات القطن، أو نقاوة الحشائش الشيطانية من شتلات الأرز، أو العزيق، أو جمع القطن - ستتملى في خطوط طويلة متجاورة في تقسيمة كل أرض مزروعة، كل نفر يمسك خطا، فإذا نظرت إلى الفرقة من خلفها وجدتها صفا متجاوراً من ظهور محنية تعمل في الأرض زاحفة ببطء شديد إلى الأمام.. يقضي النظام بأن يكون لكل فرقة «قَيِّدة»، و«ساقة».. «القيدة» لابد أن يكون أقوى نفر في الفرقة من ناحية، ومن ناحية أخرى حريفا ومتودكا على هذا النوع أو ذاك من العمل، يليه من هو أقل قليلاً في الكفاءة، وهكذا فإن الأنفار الثلاثة أو الأربعة الأوائل في الترتيب يشملهم لقب «القيدة»، بقية الأنفار هم «الساقة» - ولأنهم يتفاوتون في القدرات والوعي والذكاء من جيد إلى متوسط إلى ضعيف فإن النفر الأخير في صف الفرقة، هو الذي يلصق به اللقب وحده كاللعنة، سيَّما والساقة هم في العادة من ضعاف البنية قليلي الخبرة، إضافة إلى أن منهم الأعرج والأبرص والأعور وأبوكرش والأصفر أبو علة والعيان بكيفه، والرخو المخنث والعيال الأشبه بالبلح الرافح لا أمل في أن يتودكوا في العمل أو حتى يسترجلوا.. تزحف الفرقة، كل في خطه، يباشر عمله، حتى إذا ما وصل زحف الفرقة إلى نهاية الخط اصطفت الفرقة واقفة على الزُرّاق لبرهة، فيتقدم القيدة ماشياً على الزراق ليمسك بخط العودة، الخط المجاور لخط الساقة، فتمشي الفرقة وراءه لتصطف بجواره على نفس الترتيب في خطوط العودة مثلما كانت في خطوط الذهاب، على أن يتولى القيدة - نظراً لشطارته - مراجعة الخط الذي كان يشغله الساقة في الذهاب، ليرى إن كان قد غفل عن لطع في الشجيرات، أو تعويم في الشتلات، أو خشونة في العزيق، أو بقايا قطن في اللوزات المجموعة، فيعالج كل ذلك إلى جانب خطه في طريق العودة.. كل الفرق اندمجت في هذا النظام تنفذه حتى وهي نائمة على روحها، حتى وهي ماشية على السكك الزراعية في طريقها إلى الحوض، الذي ستتملى في خطوطه، حتى وهي في طريقها إلى ميدان السراى في الوسية لتركب الجرارات أو الترولات القضبانية.
حلو تذكرت: جميع الفرق انضمت إلى بعضها في طابور خرافى الطول، يتقدمه «قيدة»، وفى ذيله «ساقة»، اختفت الساقات بين القيِّدات، لكن يسهل على أي خولي أو كاتب أنفار أن يميز الساقات داخل الطابور بمجرد رؤيته هزال الأجسام وتقزم القامات وظهور العاهات.. ولكن منذ متى صرنا جميعاً في طابور واحد؟ بمن فينا الخولى والباشخولى والكاتب والباشكاتب والناظر والمفتش وصاروا كالأنفار أو أشد بؤسا؟.
يلوح لى من خلال الصورة الصدئة، أن في الأمر سردابا لعله السر في هذه المتاهة التي نحن فيها.. السرداب محفور في الذاكرة وإن طمسه ركام من ذكريات أزمنة ضبابية.. يلوح لى أن زلزالا كونيا، أو ما أشبه، كان قد حدث، وبناء عليه تم تجميع الفرق كلها في طابور واحد طويل أطول من الوادى الذي كان ذات يوم خصيبا، يساق بمسوقة واحدة غليظة في أيد متعددة.. متأكد أنا أنه لم يكن طابورا تتكاتف فيه لإنجاز مهمة ما مُهمة، أو للذهاب نحو غاية نرتجيها أو يرتجيها أسيادنا، أو للوقوف في وجه عدو.. لا لم يكن هكذا بكل تأكيد، إنما كان ولايزال طابور ذل وعبودية.. فلم كان إذاً يا ترى؟.. افصحي أيتها الصورة الصدئة.. آه.. هي عاجزة عن الإفصاح لكننى في هذه البقعة منها أشعر أن هذا الصدأ المتراكم عليها إن هو إلا ركام من الشعور بالذلة تكاثف وازداد قتامة بعرق المذلة..، لكني الآن أستطيع النفاذ إلى ما تحت الصدأ، سالكا طريق الشعور يرشدني إلى حقيقة ما جرى وكان.
طابور الذل بدأ بأن هطل الضرب فوق أبداننا من كل ناحية مع صيحة مدوية: اجمع! اجمع أنت وهو يا ابن الـ....! اجمع اجمع اجمع والضرب يمزقنا، فهمنا من رطانة الناظر والمفتش ومن بلبلة الكاتب وغطرسة الباشكاتب وشخطه ونطره ومن هرولة الخولة وارتياعهم، أن سرَّ هذا الزلزال هو - بالويم - أن أسيادنا قد تغيروا.. نعم هذا ما صرت متأكدا منه الآن.. قالوا لنا بالمفتشر إن إدارة أسيادنا الجدد قد طلبت أن ترانا لتعيد حصرنا وتفيئتنا من جديد على أجور جديدة، وكان الغضب العارم الشرير يغلى في صدور من يسوقوننا فيدلقونه فوق أبداننا، فيتضح لنا تلقائيًا أن السيادة الجديدة ربما تكون عازمة على تغييرهم ولربما زجوا بمعظمهم في السجون، نتيجة ما سوف يكتشفونه لا محالة من اختلاسات وتدليسات وخيانات وفساد ذمم وفجور، مما كنا نسمع عنه طوال السنين الفائتة بل ونراه بأعيننا كل يوم ثم نتجاهله على أساس أن الساقة من أمثالنا لم يعد يلفت نظرهم ولا يزعجهم حين يروا كبار مسئوليهم يسرقون وينهبون عيني عينك، وكأن ذلك من حقهم، ومن طبائع الأمور في هذه الوسية التي لم يعد لها أو لنا ثمة من صاحب.
بقايا أثر التعذيب هى ذاكرة التفاصيل، والبقع الثقيلة في هذه الصورة الصدئة هي ما تخثر من دم الجروح وأورام الهراوات وشروخ السياط، من قسوتها سكنت في صميم الفؤاد، من هولها يعمد الذهن إلى نسيان التفاصيل كيلا يقلب في المواجع، والمواجع طبقات فوق طبقات.. قد وصلت بى المواجع إلى حد استعذاب الألم، حيث أشعر الآن أن ذاكرتي - ذاكرتنا جميعا - أهم من إذلال النفس في سبيل إراحة الجسد بنسيان وقائع التعذيب، حتى لا يتجدد الألم.. الآن أقول: فليتجدد، أهلا به، سأنزع من لحم الجروح شرائح الألم، بأصابعى لا بأصابع الطبيب، سأفعص الدمامل وأزيح أم القيح.
فى لهوجة وخوف واضطراب، ساقونا في الطريق الذي قيل إنه يؤدى إلى السراي البعيدة، التي تقيم فيها معية سادتنا الجدد، حيث يتعين علينا أن نجعل سيدنا الجديد يشعر أن لديه رجالاً أشداء يعتمد عليهم، يجب علينا أن نقف أمامه مشدودي القامات، وأن يداري العمالقة منا بظلالهم على العوران والحولان والبرصان والعرجان والعيال الرامخة، فلعل سيادته ينعم علينا بالرضاء السامي، وهذا في حد ذاته يكفى بل هو شرف عظيم لنا لم نكن لنستحقه لولا هذا الظرف السعيد.
مع ذلك مشينا في هرولة همجية، مِسْوَقَةُ الخوف فوق ظهورنا كأننا حمير السباخ، الطريق مقلقل يشرخ الأقدام، الجو خانق رغم انطفاء وجه الشمس، أنهار من عرق ودموع وغبار، عجينة أغلقت العيون وليَّستها مثل ششم عيون الأطفال.. تمر السنون ونحن مستمرون في المشي، لا ندري إن كانت معالم الطريق والأراضي كلها متشابهة إلى حد التطابق لدرجة أننا لا نرى أى جديد يثبت أننا نتحرك بالفعل، أم أننا في حقيقة الأمر نتحرك في مطارحنا دون أن نتقدم خطوة واحدة على امتداد زمن يبدو موغلا في القدم.. الشيء الوحيد الذي يتغير هو أبداننا التي يصيبها الوهن والشيخوخة وصنوف من أمراض مجهولة تقصف الأعمار، أغلب الظن أنها أمراض إرادية يزرعها البني آدم منا في نفسه ويغذيها حتى تنمو وتأكل جسده على مهل، حتى تخلص روحه من أسرها في جسد مهان منحط، لا يستحق أن تضحي الروح في سبيله بأكثر مما في طوقها من قدرة على احتمال العذاب، وهكذا ما يكاد الواحد منا يدوخ حتى يتهاوى مسلما جسده لمفرمة أقدام الطابور التي تصلبت وصارت كالفئوس الحديد.
قيل لنا إننا - حسب الطريق الموصوف لقادتنا - يتعين علينا أن ندخل في سرداب ضيق سوف يؤدي إلى حرم السراي، لأننا لا يجدر بنا أن ندخل من البوابة السيادية ذات الميدان الخاص، لاستقبال الأوتومبيلات والكارتات والحناطير ناقلة السادة النُجُب.. من هذا السرداب ندخل إلى الساحة الخلفية المستخدمة كأجران عريضة تفصلها الحديقة عن السراي.. اتضح أن الأَدِلاَّء الموفدين من لدن السراي لإرشادنا إلى الطريق كانوا من العميان، اتضح أيضًا أنهم غير ملمين لا بجغرافيا ولا بتاريخ ولا حتى بخبرة قصاصي الأثر في الصحراء التي تحيط بنا.. كانوا عميانا بحق فضلا عن جهلهم وغطرستهم المستمدة من قوة مراكزهم المستمدة من ثقة الذين عينوهم أدلاءً لنا.
مع ذلك فوجئنا بالسرداب يقترب منا ونحن على وشك التساقط من اليأس والإعياء..
يا ربي!.. لا يمكن أن يكون هذا السرداب صالحًا إلا لمرور الهواء فقط، لا يتسع لجسد مهما كان ضئيل الحجم، يتسع بالكثير لجسد عنزة أو قط أو كلب صغير، فضلا عن أنه يبدو كالمسدود مما يشي بأنه متعرج متلولب، ربما كان مجرد شرخ في جدار ثم اتسع قليلاً، أما أن يمر منه طابور منظم في ترتيب معين، فلابد أن يكون طابورا من النمل المدرب على العبور من الشقوق..
يا ربي!.. ما كل هذه الإمكانية والمرونة في بني الإنسان؟ المستحيل قد حدث.. دخل الطابور من السرداب بنفس نظامه وترتيبه، صرنا أدق حجما من النمل الموصوف بالحرامي، لم يعد ثمة فرق بين نفر وخولي ومفتش، لا توجد مساحة يستقل بها أحد يحيط بها مركزه وتَميُزَه، انضغط الجميع في الطابور، لكنهم لسذاجتهم الفائقة - شأن كل عبدة المراكز والمناصب والكراسي والمواقع المتقدمة - وضعوا أنفسهم في المكانات التي هم عليها كقادة، فبدلا من سيرهم بحذاء الطابور على الجنبين، تقدموا على «القيِّدة» النفر، وضعوا أنفسهم في الطابور بحسب مراكزهم القيادية: المفتش ومن ورائه الناظر من ورائه الباشكاتب من ورائه الكاتب فالباشخولي فالخولي ثم النفر القيدة.
هكذا دخلنا السرداب وراءهم، صرنا نملاً يزحف ويتساند على جدارين خشنين باردين كالثلج اللاسع، من فوقنا خيمة السماء قد احتشدت بالطيور الجارحة، لاتني تهاجمنا هابطة فوقنا تنقر في رءوسنا وأكتافنا بسنابك حادة، تقتطع من الآذان والرقاب والعيون لقيمات خاطفة، لا يمنعها من المزمزة على مهل وهي واقفة فوق أكتافنا غارزة مخالبها في رقابنا إلا صرخاتنا الفزعة المنتفضة التي تفزعها فتطير محلقة فوقنا لبرهة وجيزة ثم تعاود الهبوط علينا، وكان من الواضح أن روائح أبداننا النتنة، قد أقنعت الجوارح بأننا مجرد جيف محشورة في شرخ بين جدارين.. سنون تمضي لا نعرف لها عددًا، بل لا ندري إن كانت سنين أم مجرد أيام وأسابيع وشهور، وأيًا ما كان عددها فإن اليوم فيها بمائة عام مما تعدون.
وكان من الواضح أن السرداب لا تبدو له نهاية، وأننا قد وقعنا في شر أعمالنا، أو بالأصح أعمال غيرنا، فلم نسمع ولم نقرأ في حياتنا عن منور مُسردب بهذا الضيق طوله مئات ألوف الملايين من الكيلو مترات ،إلا أن يكون في أغلب الظن شقا جبليا صخريا طبيعيا من عصور الفراعنة.. بعض الرجال الأشد وحشية من الحيوانات المفترسة كانوا يفلحون في القبض على أحد النسور وتكتيفه والشروع في تمزيقه والتهامه بريشه، إلا أن أصواتا آمرة سرعان ما تأتى متقهقرة عائمة فوقنا تحملها أجنحة الجوارح، تحذرنا من التعرض بالإيذاء لأيٍ من هذه الجوارح لأنها تابعة لأولياء أمورنا الجدد من حدائقهم الخاصة ولها من ثمة هي الأخرى حصانتها.
بعد لأىٍ وطلوع أرواح فوجئنا برجة أدت إلى اصطدام رءوسنا ببعضها وانكفاء الصدور على الأقفية، حدث لنا ما يحدث للسيارات الزاحفة على الطريق السريع حينما تتوقف إحدى السيارات فجأة، فيتكرر الصدام من خلفها في جميع السيارات.. اتضح أن القادة المتقدمين اصطدموا بحائط صلب يسد السرداب ولم يكن مرئيًا لهم، لعلهم قد أصابهم العمى والدوخان فلم يروا الجدار قبل الدخول فيه مباشرة.
يا للبؤس والحيرة والضلال، ماذا نفعل؟ كيف نعود؟ كيف يستدير الطابور عائدا يتقدمه القادة؟..مرغم أخوك، صدر الأمر من القادة بـ: للخلف در، صار كل واحد منا يرددها بصوت عال فيما يحاول الدوران حول نفسه، فيتلقفها الواقف وراءه - الذي صار الآن أمامه - ويدور هاتفا بها.. وإلى أن تمت استدارة أفراد الطابور كله كان دهرا طويلا قد مضى، ثم صدر الأمر بالسير، وهكذا انقلب الوضع في الطابور تماما. صار السَاقَة هو القَيَّدة، أصبح العميان والعوران والعرجان والبرصان والحولان والرامخون العاجزون هم القادة..
صار القادة مجرد ساقة في ذيل الطابور..
صار بعضنا يتلذذ بالوضع شامتا، صار الحكماء يضحكون في مرارة أسيفة، صار المطيباتية ينفسون عن شماتتهم وحقدهم وسخريتهم من الأمر برمته، بطمأنة الطابور بأنه وضع مؤقت تفرضه أزمة طارئة.. لكن واحسرتاه علينا جميعا: الأزمة طال مداها، اتسعت وتعقدت.. قفلنا راجعين تحت قيادة الساقة.. يا للعجب، السرداب الذي دخلناه في سنين رجعناه في دهور، أبدا ما صدقنا أننا مشينا كل هذه المسافة الخرافية دون أن نحقق شيئًا على الإطلاق، ورجعناها كلها إلى غير غاية.
غير أن اللغز الأعقد هو هذا الذي حدث: فحينما دخلنا السرداب منذ دهور مضت كان مدخله بالرغم من العناء لايزال ماثلا في الأذهان، والمفترض - طبقا لطبائع الأمور - أننا حين نرتد عائدين لابد أن يعيدنا إلى الخلاء الصحراوي، الذي وصلنا إليه قادمين من الواحة بحثا عن مدخل السرداب هذا، ولكن ما حدث أننا حينما خرجت فلولنا من جوف السرداب كانت طلائعنا وقادتنا الساقة قد امتدوا أمامنا في خط عبارة عن مدق من أرض صلبة ممدود كالجسر في قلب محيط مائى لا نهائى، المياه من الجانبين ومن الأمام راقدة ساكنة سكونا مريبا كالخديعة، المدق فيما تشعر به أقدامنا يبدو كأنه سنام جبل عظيم غمرته المياه وبقى منه هذا الشريط الضيق المرتفع لم يطله الماء، وها هو ذا يلمع من جوف الأفق البعيد حيث تنكفئ السماء على الماء فيتعاشقان، وتبدو مقدمة طابورنا غاطسة في خط التعاشق فكأنها أسراب من بعوض بين فكي حوت كوني خرافي، ولم يكن المدق الصخري ليتسع إلا لقدم واحدة، فعلى الواحد أن يحذر التساند على غيره، وأن يربط جأشه وينقل القدم بعد القدم في ترو وهدوء أعصاب، وإلا فقد توازنه وهوى في قلب هذا الماء الذي لا يني يلفظ أجنحة من لهب برتقالى داكن، وكنا نرى المتقدمين لا يلبثون حتى يختفوا تماما كأن خط الأفق قد ابتلعهم بين الماء والسماء، ولم نكن نملك إلا مواصلة الارتجاف زحفا على هذا الصراط إلى مصير غير معلوم.
خيري شلبي
مارس 2010