هو وحده من يدري لماذا أهديه هذا النص..
إلى: القذافي يوسف
أَخْبَرتَ أنّ:
بلة أب دِميعات، حسن سِنّة، وموسى الأصلي، أصدقاء يمتهنون صيد القماري. اختاروا مكاناً على ضفة النهر. المكان بعيدٌ عن المُشرَع وقريبٌ من كَمْبُو كَجَانَا. صيد طائر القمري يحتاج مهارة ودربة لا تتوفر إلا لاثنين منهما، – بالأحرى هو واحد فقط – موسى الأصلي، الذي علّم حسن سِنّة سر المهنة. بلة أب دِميعات شرير وماكر، لا يصلح لشيء إلا لإقناع السكارى بشراء القماري واستخدامها كـ(مَزَّة).
كل مساء، يأخذ ما اصطاده صديقاه من قماري، ويتجه صوب كمبو كجانا لبيعه هناك. يشتري بثمنه لحماً ورغيفاً، شاياً ورطلاً من السُّكَّر، وبعض أشياء يوصيه بها رفيقاه كل مرة. أحياناً يجد تعنتاً وعدم رغبة من بعض السكارى في شراء القُمري، فيستخدم أساليب ماكرة لإقناعهم، تارة يقول لهم إن القماري من سلالة طائر المَن الذي ورد ذكره في الكتاب المسطور، وأنها طيور مقدسة، من تناولها على سُكرٍ، لن يصيبه مكروه أبداً حتى يفيق. وتارة يقنعهم بأن سر نشوة السُكر تكمن في جناحي طائر القمري. مَنْ أكل مِنْ الجناحِ الأيسر بعد الكأس الأولى، وواظب على المنوال الفردي لعدد الكؤوس، سينتشي نشوة ما بعدها نشوة، وتكتمل سعادته إذا واقع من خُلقت من ضلعه الأيسر.. وسوف لن تستبدل بعده رجلاً طيلة حياتها. أما الجناح الأيمن، لكي تتبدى سطوته على جلب النشوة عند السُكر، يُقَسّم إلى قسمين غير متساويين، القسم الأكبر يأكله من أراد السُكر قبل الشروع في السُكر، والقسم الآخر يجب تناوله بعد الكأس الأخيرة مباشرة. من فعل ذلك – يقول بلة أب دميعات – سينام قليلاً ثم يصحو، فيرى الرجال مثل النمل، والنساء كفاكهة، ورجال الشرطة أقزاماً يجب وطؤهم بالأقدام.
وقلتَ إنهم:
كل مساء، قبيل مغيب الشمس، ينشرون شباكهم على حيز مقدر قرب ضفة النهر، ينثرون الذرة عليها لخداع القماري التي ستحط مثل كل مرة وتتورط في فخاخ تقودها إلى الفناء. عندما تحبل الشباك بالصيد، يبدأ كل منهما طقسه الذي يسبق الذبح. موسى الأصلي يتوضأ ويصلي ركعتين في وقت لا تجوز فيه صلاة النافلة. يقرأ في الركعة الأولى الفاتحة وآية (وأرسلنا عليهم طيراً أبابيل)، وفي الركعة الثانية يقرأ الفاتحة وآية. بعد أن ينهي صلاته يحمل سكينه ويتجه ناحية القماري في فخها، يُكبِّر ثلاثاً ثم يبدأ الذبح. حسن سِنّة لا يصلي.. ولكنه يبتدر طقساً يخصه في كل يوم، مرة ينتقي بعض القمريات ويطلق سراحها، متعللاً بأن لها صغاراً تركتهم في مكان ما.. الأمر الذي يغضب بلة أب دميعات ويقسم كل مرة بأنه لن يحمل القماري إلى السكارى – ولكنه يفعل- وتارة يقوم بذبح أعداد فردية لا تتعدى الثلاث. ومرة يدخل النهر عارياً ويخرج ليكمل الذبح مع موسى الأصلي. بلة أب دميعات بوجهه الطفولي وعينيه الدامعتين على الدوام بسبب التراكوما، وحجمه الضئيل وهيئته الرثة، يرصد كل ذلك وهو جالس تحت ظل شجرة ينتظر دوره في حمل القماري إلى كمبو كجانا، حيث الزبائن ينتظرون أو لا ينتظرون مجيئه.
وذكرتَ أن:
حسن سِنّة وموسى الأصلي استرابا في أمر اللحم الرديء الذي يجلبه بلة أب دميعات من سوق كمبو كجانا.. فاستفسرا منه أكثر من مرة، وحجته دائماً أن الجزارين لا أخلاق لهم، يذبحون البهائم الباطلة ليزداد ربحهم. لكن موسى الأصلي اكتشف الأمر ذات يوم صدفة عندما ذهب لإصلاح مذياعه. رأى بلة أب دميعات جالساً في مطعم السناري يتناول وجبة دسمة – السناري طباخ ماهر، اشتهر بتقديم وجبة لحم الضأن المشوي، المتبل ببهارات لم يكشف سرها لأحد. ومطعمه لا يرتاده إلا ذوو المقدرة المالية الوافرة – موسى الأصلي رأى بلة أب دِميعات هنالك، انتظر حتى فرغ من تناول وجبته وصار يراقبه من بعيد. رآه يتجه صوب صف الجزارين.
ما لم يتوقعه موسى الأصلي هو أن يستقل بلة أب دميعات هيئته الرثة في التسول. رأى الجزارين يرمون بقايا اللحم التالف والمعضمية وكل ما لا يصلح للاستخدام الآدمي في إناء بلة أب دميعات. بعد أن امتلأ الإناء، أفرغه في كيس بلاستيكي واتجه صوب النهر. باغته موسى الأصلي من الخلف وأراد أن يفتك به، لكنه أفلت من قبضته وأطلق ساقيه للريح.
وقلتَ إن:
بلة أب دميعات لم يتوقف عن الركض حتى تسلق لوري الصول عجبنا المنطلق إلى المدينة.
بعد مدة جاءت الأخبار بأنه عمل بستانياً في إحدى الجامعات.
بالأمس أخبرتَ:
أن ثمة طالبين وافدين من دولة آسيوية يدرسان في ذات الجامعة التي تتلقى فيها العلم.. يمارسان صيد القماري داخل حرم الجامعة. رأيتهما عابرين تحت الأشجار الوريفة، يتلصصان على أعشاش القماري فوق الأغصان. أحدهما يحمل نبلةً، والآخر يحمل سكيناً ومخلاة. قلت إنك أبصرت الأول يرمي قمرية ركّت على أحد الأغصان، فأصابها حتى طارت ريشتان من جناحها وحطتا عمودياً على جانبي رأسه، فبدا مثل هندي أحمر – لو أنه وضع يده على فمه وصاح، لصار مثله تماماً - والآخر تلقف الطائر المسكين قبل أن يسقط على الأرض وذبحه وهو واقف. لو أنهما يدريان أن خلف أسوار الجامعة وعلى بعد كيلو مترات قليلة، ثمة مكان تباع فيه مريسة كافرة.. لو تذوقاها واستخدما صيدهما الثمين كَـ(مَزّة).. لا محالة فهما باقيان هنالك إلى الأبد.
ولكنهما لا يدريان..
أو..
ربما سيدريان، طالما أنك لمحت بلة أب دميعات (يتحاوم بهناك)، يسقي الأشجار الوريفة.
قصص قصيرة سودانية: الهادي راضي
إلى: القذافي يوسف
أَخْبَرتَ أنّ:
بلة أب دِميعات، حسن سِنّة، وموسى الأصلي، أصدقاء يمتهنون صيد القماري. اختاروا مكاناً على ضفة النهر. المكان بعيدٌ عن المُشرَع وقريبٌ من كَمْبُو كَجَانَا. صيد طائر القمري يحتاج مهارة ودربة لا تتوفر إلا لاثنين منهما، – بالأحرى هو واحد فقط – موسى الأصلي، الذي علّم حسن سِنّة سر المهنة. بلة أب دِميعات شرير وماكر، لا يصلح لشيء إلا لإقناع السكارى بشراء القماري واستخدامها كـ(مَزَّة).
كل مساء، يأخذ ما اصطاده صديقاه من قماري، ويتجه صوب كمبو كجانا لبيعه هناك. يشتري بثمنه لحماً ورغيفاً، شاياً ورطلاً من السُّكَّر، وبعض أشياء يوصيه بها رفيقاه كل مرة. أحياناً يجد تعنتاً وعدم رغبة من بعض السكارى في شراء القُمري، فيستخدم أساليب ماكرة لإقناعهم، تارة يقول لهم إن القماري من سلالة طائر المَن الذي ورد ذكره في الكتاب المسطور، وأنها طيور مقدسة، من تناولها على سُكرٍ، لن يصيبه مكروه أبداً حتى يفيق. وتارة يقنعهم بأن سر نشوة السُكر تكمن في جناحي طائر القمري. مَنْ أكل مِنْ الجناحِ الأيسر بعد الكأس الأولى، وواظب على المنوال الفردي لعدد الكؤوس، سينتشي نشوة ما بعدها نشوة، وتكتمل سعادته إذا واقع من خُلقت من ضلعه الأيسر.. وسوف لن تستبدل بعده رجلاً طيلة حياتها. أما الجناح الأيمن، لكي تتبدى سطوته على جلب النشوة عند السُكر، يُقَسّم إلى قسمين غير متساويين، القسم الأكبر يأكله من أراد السُكر قبل الشروع في السُكر، والقسم الآخر يجب تناوله بعد الكأس الأخيرة مباشرة. من فعل ذلك – يقول بلة أب دميعات – سينام قليلاً ثم يصحو، فيرى الرجال مثل النمل، والنساء كفاكهة، ورجال الشرطة أقزاماً يجب وطؤهم بالأقدام.
وقلتَ إنهم:
كل مساء، قبيل مغيب الشمس، ينشرون شباكهم على حيز مقدر قرب ضفة النهر، ينثرون الذرة عليها لخداع القماري التي ستحط مثل كل مرة وتتورط في فخاخ تقودها إلى الفناء. عندما تحبل الشباك بالصيد، يبدأ كل منهما طقسه الذي يسبق الذبح. موسى الأصلي يتوضأ ويصلي ركعتين في وقت لا تجوز فيه صلاة النافلة. يقرأ في الركعة الأولى الفاتحة وآية (وأرسلنا عليهم طيراً أبابيل)، وفي الركعة الثانية يقرأ الفاتحة وآية. بعد أن ينهي صلاته يحمل سكينه ويتجه ناحية القماري في فخها، يُكبِّر ثلاثاً ثم يبدأ الذبح. حسن سِنّة لا يصلي.. ولكنه يبتدر طقساً يخصه في كل يوم، مرة ينتقي بعض القمريات ويطلق سراحها، متعللاً بأن لها صغاراً تركتهم في مكان ما.. الأمر الذي يغضب بلة أب دميعات ويقسم كل مرة بأنه لن يحمل القماري إلى السكارى – ولكنه يفعل- وتارة يقوم بذبح أعداد فردية لا تتعدى الثلاث. ومرة يدخل النهر عارياً ويخرج ليكمل الذبح مع موسى الأصلي. بلة أب دميعات بوجهه الطفولي وعينيه الدامعتين على الدوام بسبب التراكوما، وحجمه الضئيل وهيئته الرثة، يرصد كل ذلك وهو جالس تحت ظل شجرة ينتظر دوره في حمل القماري إلى كمبو كجانا، حيث الزبائن ينتظرون أو لا ينتظرون مجيئه.
وذكرتَ أن:
حسن سِنّة وموسى الأصلي استرابا في أمر اللحم الرديء الذي يجلبه بلة أب دميعات من سوق كمبو كجانا.. فاستفسرا منه أكثر من مرة، وحجته دائماً أن الجزارين لا أخلاق لهم، يذبحون البهائم الباطلة ليزداد ربحهم. لكن موسى الأصلي اكتشف الأمر ذات يوم صدفة عندما ذهب لإصلاح مذياعه. رأى بلة أب دميعات جالساً في مطعم السناري يتناول وجبة دسمة – السناري طباخ ماهر، اشتهر بتقديم وجبة لحم الضأن المشوي، المتبل ببهارات لم يكشف سرها لأحد. ومطعمه لا يرتاده إلا ذوو المقدرة المالية الوافرة – موسى الأصلي رأى بلة أب دِميعات هنالك، انتظر حتى فرغ من تناول وجبته وصار يراقبه من بعيد. رآه يتجه صوب صف الجزارين.
ما لم يتوقعه موسى الأصلي هو أن يستقل بلة أب دميعات هيئته الرثة في التسول. رأى الجزارين يرمون بقايا اللحم التالف والمعضمية وكل ما لا يصلح للاستخدام الآدمي في إناء بلة أب دميعات. بعد أن امتلأ الإناء، أفرغه في كيس بلاستيكي واتجه صوب النهر. باغته موسى الأصلي من الخلف وأراد أن يفتك به، لكنه أفلت من قبضته وأطلق ساقيه للريح.
وقلتَ إن:
بلة أب دميعات لم يتوقف عن الركض حتى تسلق لوري الصول عجبنا المنطلق إلى المدينة.
بعد مدة جاءت الأخبار بأنه عمل بستانياً في إحدى الجامعات.
بالأمس أخبرتَ:
أن ثمة طالبين وافدين من دولة آسيوية يدرسان في ذات الجامعة التي تتلقى فيها العلم.. يمارسان صيد القماري داخل حرم الجامعة. رأيتهما عابرين تحت الأشجار الوريفة، يتلصصان على أعشاش القماري فوق الأغصان. أحدهما يحمل نبلةً، والآخر يحمل سكيناً ومخلاة. قلت إنك أبصرت الأول يرمي قمرية ركّت على أحد الأغصان، فأصابها حتى طارت ريشتان من جناحها وحطتا عمودياً على جانبي رأسه، فبدا مثل هندي أحمر – لو أنه وضع يده على فمه وصاح، لصار مثله تماماً - والآخر تلقف الطائر المسكين قبل أن يسقط على الأرض وذبحه وهو واقف. لو أنهما يدريان أن خلف أسوار الجامعة وعلى بعد كيلو مترات قليلة، ثمة مكان تباع فيه مريسة كافرة.. لو تذوقاها واستخدما صيدهما الثمين كَـ(مَزّة).. لا محالة فهما باقيان هنالك إلى الأبد.
ولكنهما لا يدريان..
أو..
ربما سيدريان، طالما أنك لمحت بلة أب دميعات (يتحاوم بهناك)، يسقي الأشجار الوريفة.
قصص قصيرة سودانية: الهادي راضي