سعد الدين عثمان العوض - أم دلدلو.. قصة قصيرة

في العصاري... هو الوقت الوحيد الذي تستطيع فيه تلك العصافير محادثتي .. برغم وجود رفيقي.... حيث اتاني كالعادة حاملا كيسه الملئ بالحصي ذي الألوان الجميلة .. نستطيع التخاطب ومعرفة اسرار الكون ...بلغة لا يفهمها سوانا ..أنا و تلك العصافير الصفراء الجميلة.
دائما عند حضوري للقرية ما يأتيني رفيقي هذا.. حتي أنني في هذه المرة كنت حادا في خطابي له ... بنسيان هذا الوهم .. و الالتفات لأمور اكثر جدية واهمية تنبني عليها حياة و معيشة اطفاله الكثر و زوجته الطيبة.
ام دلدلو .. كانتا عصفورتين جميلتين,, تماما في حجم (ود ابرق) .... التي في إتجاه الغرب ... ناحية البحر كانت تعمل علي فك العش... بعد أن استطاع صغيرها و الذي صار كبيرا.. استطاع الطيران و مضيه الي حال سبيله ...اظنها عملية شاقة فعلا.. وحتي الآن وعلي كثرة أسئلتي لم أستدرك حكمتها في رفضها لاستبقاء العش مكانه ..حيث هنالك كمية كبيرة من الاعشاش ملقاة علي الارض دون أن يستفاد منها .. أو حتي هي عليها العمل في بناء عش جديد لصغير قادم ..اقول رفضها لانه من الجائز تماما أن تسخدمه أخري ,,,هل هي رسالة تبعثها للغير في حب العمل و التفاني من أجل صغارهن .. فربما لو اصابتها بعض الشفقة كان عليها ان تعطف مجددا في بحث الغذاء .. و المشاركة في تربية الصغار... كنت كلما احضر الي القرية احب الذهاب الي التحتانية ..حيث الحواشات ... وبالتحديد الي تلك النخلات الثلاثة الملتصقة الي بعضها ... حيث تستلقي تحتها وفي مساحة كبيرة الأرض الخاصة بأبي وأعمامي ... ومساحات لا تحد تتجه جنوبا و شمالا .. جزء تكسوه ملامح البصل الخضراء .. اجزاء تمتلئ بربطات الفول المصري الكثيرة في انتظار الدقاقة ...كانت ايام حصاد الفول.. و الي الشرق مساحة كبيرة ... يكسوها البوار ... هذا هو العام الثالث .. لم تجد من يرأف عليها بجدع بعض التيراب .. فول او قمح او حتي شتل القليل من البرسيم ... كانت لابناء جدتي .. رفيقي الذي في معيتي الآن ... باعها هو وأخوته .. بعد أن وعدهم فكي من المناطق غير المجاورة بذهب كثير نظير هذه البيعة... يقال أن الشاري هو من دبر كل هذا.. و لأنه من الذين استوطنوا مؤخرا هو وأهله ... منذ عشرون عاما تقريبا.. استنكر له جميع اهل قريتنا في هذه البيعة واتهموه بالتزوير ... الا أن الأجاويد استطاعوا اقناعهم بتقاسم المساحة درءا للمشاكل وحفاظا علي مشاعر الاخوة والعشرة .. كان هذا بعد بداية الموسم الحالي ...
هنا في الظل.. للحديث... او العزلة... طعم برائحة الأصالة ... الإنتماء ... و الشوق الي الأهل وما يحملونه من ود والفة جميلة ..... الأخري و التي كانت الي الشرق في ذات النخلة في إتجاه البيوتات الكثيرة.... القرية المرتفعة ,,, كانت قد بدأت في انشاء العش منذ فترة قريبة و ما زال أمامها شهور حتي تنتهي ... نعم كانت هناك مجموعات أخري وفي مراحل مختلفة .. منهم من كانت تحضر الغذاء الي صغيرها والبعض يذهب ويجئ ... ولكن هاتين العصفورتين لهما شأن خاص...
استخدمت عقلي في إستنتاج شئ واحد مما رأيته في صناعة ذلك العش .. الشبيه بحذاء الطفل الصغير .. فدائما ما تكون فتحته الوحيدة والتي من خلالها تواصل الأم صغيرها لتغذيته والأطمئنان عليه .. دائما ماتكون لأسفل ..اتقاء حرارة الشمس وزخات المطر.. اما وجوده في طرف الجريد البعيدة عن مركز النخلة .. علمت ان ذلك يكون وقاية وابعادا لها من الافاعي وما شابه ..... حتي في كمية الأعشاش الكثيرة الملقاة علي الأرض .. تجد نفس الحجم تقريبا .. ونفس التصميم
عصفورة الغرب ...ما زلت ابدي لها تعجبي من صبرها و قدرتها الفائقة علي صناعة تلك الأعشاش .. وحكمتها .. حادثتني بصوت رزين .. وهادئ.. بعد أن استطاعت أن تجذبني كلية .. ونسيان ثرثرة رفيقي..
- كنت استمتع اينما استمتاع وأنا اشاهد قريتكم من هذا المكان العالي ... في ذلك الزمان كنت استطيع رؤية ابتسامتها الطيبة ..فقد كانت ملامح وجنتيها المنشرحتين بارزة للعيان... كما كان علي أن ارتفع ببصري لمشاهدة عينيها الواضحتين ..كانت ثمة صلة بين تلك الأرض الممتدة امام ناظريك و بين ضحكة الحبوبات داخل البيوت ولعب الاطفال في الشوارع.. وفي مزح الرجال وقهقاتهم التي تملأ المكان ..الأمهات يجئن اليها حاملات للغناء و المناكفات الجميلة .. حتي علي كبرهن قليلا كن يحببن القفز و الجري وراء بعضهن .. كانت هي تبتسم لتعطيهن ما فاض منها من بطاطس وفول و رجلة و طماطم .. مكافأة لهن علي ما زرعنه من بهجة ورقة في المكان ... حتي انني اتذكر كيف كانت الاشجار الكثيفة تعمل علي حماية القرية من ريح الشمال العاتية.. الخير الوفير والتي كانت تنتجه تلك الأرض جعلني أشاهد اجمل قرية في العالم .. وأنا التي شاهدت ما شاهدت في هذا العالم علي اتساعه .. حكماء القرية .. أذكر ملامحهم الوضاءة جيدا.. وأبدا حتي هذه اللحظة لم يفتروا من نصحكم .. جلسوا كثيرا مع شباب القرية وشيبها..وحتي النساء كانوا يحضرون مجمعهم .. كانوا يعلمون جيدا بالغريب القادم كانوا يعرفون تماما مدي جشعه و حبه للمال..لم تخدعهم كلماته البراقة المليئة بالحب و الإلفة .. اكثروا من التنبيه وضرورة المحافظة علي الأرض .. و علي نقاء الإنسان .. قالوا كثيرا .. ولم يعيهم الحديث .. لم يجدوا منصتا او مهتما.. ولكن عليك أن تخبرني لماذا تصبحون أغبياء الي هذه الدرجة... الطيبة الساذجة أخذت منكم كل شئ .. كنتم تحبون هذه الارض حتي الموت ... و الآن صرتم كالضيوف عليها... الغريب دخل عليكم من باب المحبة و اللطف .. ولأنه أول غريب قد جاءكم ..لم تكونوا تعرفون كيف يختيئ الشر .. و الظلم ...الآن و بعد أن اعيتكم الجوادات و الاسترحامات و الدعوة الي الرأفة ... لم يتبقي لكم الا...
ولكن رفيقي لم يتركني في شأني ... إصراره يزداد سوءا .. فكلما تأتيه أدلتي الدامغة ببطلان زعمه .. يقول بأن الناس لا يعرفون شئ بتاتا ..لذا هم ليس من اصحاب الشأن حتي يخبروه بأن ما يحمله ليس الا حصي .. واصحاب الشأن الزائرون او ممن ذهب اليهم حاملا كيسه .. يجعل من الذي يخبره فشل مزاعمه جاهلا.. لم يتعلم جيدا.. بعضهم و خوفا علي مشاعره تجاوب معه واخبره بأنه يستطيع اجراء بعض الاختبارات و التي حتما ستحمل له أخبارا سعيدة.. ستجعل منه من أغني اغنياء العالم .... هذا ما يحمله بداخل هذا الكيس .. آمال عراض .. و مستقبل سعيد له و لزوجته الصبورة وأولاده .. وللبلدة بأجمعها .. زراعة الأرض كانت قد اثقلت كاهله .. واستحال عليه الاستمرار في تكاليف الزراعة الباهظة .. اعطاها لمستثمر من خارج القرية .. ولكن دائما ما كان نصيبه يأتي قليلا جدا نهاية الموسم ...اجتزأ منها مساحة صغيرة ليزرع عليها بعض الخضروات من بطاطس و رجلة وغيرها.. الأ انه و في احد المرات و اثناء حرثه عثر علي حصي لونه اكثر بياضا و اكثر لمعانا .. مثل الذهب .. في البداية شكك في كلام بعضهم.. المهظارين من ابناء القرية.. أخبروه بأن هذا لا يمكن الا أن يكون شيئا ثمينا.. المستثمر الغريب استغل هذه الفكرة و هو يدري تماما مدي يأس هذا الرجل و ضعفه .. لذا كان قد حرض بعضا من ابناءه ليدعموا هذه الفكرة في رأسه الصغيرة.. واستعان بفكي من خارج القرية .. و قليلا قليلا استطاع أن يشتري منه جميع ارضه ليتمكن رفيقي الساذج من دفع مطالب الفكي .. كل المساحة و حتي المال المدفوع كان من نصيب الغريب .. وأنا مازلت احلم بلحظة قد تكون جيدة أن استطعت اقناعه بنسيان هذا الوهم .. وبأن كل شئ لم يكن سوي خدعة كبيرة انطلت عليه .. و لكن هيهات ..
عصفورة الشرق .. الآن فقط صارت تتحدث..
- لم اعرف حظا أسوأ من هذا ..فأنا دائما أحب الاستمتاع بالأشياء الجميلة .. و لكن كأنه كل شناعة العالم قد جاءوا بها امامي ..كي تكون رفيقتي.. حتي انني اتهم تلك التي قد حادثتك منذ قليل بالكذب و الخرف.. و الخيال الجامح .. حتي أنت تهذي في محاولات فاشلة ..لأن الذي اراه أمامي ليس سوي مكان مقفر .. داخل البيوت أري احد الامهات النحيلة .. يئن اطفالها من الجوع .. وهي عائدة بطبق فيه القليل من الزاد .. بعد أن تسولت جاراتها الأكثر فقرا ... وحتي حكماؤكم ها هم يجلسون للمرة الخامسة .. و لكنني أري مجلسهم تغشاه الكثير من الضبابية .. و بعضا منهم لا أري عليه غير السواد .. يجلسون حول ضوء خافت للغاية و قد صار حديثهم همسا.. رغما عن هذا ربما قد يكونون الوحيدين الذين سيفعلون شيئا اقرب للمعجزة من أجل هذه الأم .. و لكنني أري من الاستحالة ايقاف هذا المجنون القادم للقرية و من خلفة تلك الكلاب التي تتسلي بالجري خلفه.


الخرطوم- اكتمل في 8-4-2008

قصص قصيرة سودانية: سعد الدين عثمان العوض

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...