ومما يحكى أيضاً أيها الملك السعيد أن المعتضد بالله كان عالي الهمة شريف النفس وكان له ببغداد ستمائة وزير وما كان يخفى عليه من أمور الناس شيء، فخرج يوماً هو وابن خلدون يتفرجان على الرعايا ويسمعان ما يتجدد من أخبار الناس فحمي عليهما الحر والهجير وقد انتهيا إلى زقاقٍ لطيفٍ في شارعٍ فدخلا ذلك الزقاق فرأيا في صدر الزقاق داراً حسنةً شامخة البناء تفصح عن صاحبها بلسان الثناء فقعدا على الباب يستريحان فخرج من تلك الدار خادمان وجه كل منهما كالقمر ليلة أربعة عشر فقال أحدهما لصاحبه: لو استأذن اليوم ضيف لأن سيدي لا يأكل إلا مع الضيفان، وقد صرنا إلى هذا الوقت ولم أر أحداً.
فتعجب الخليفة من كلامهما وقال: إن هذا دليلٌ على كرم صاحب الدار ولا بد أن ندخل داره وننظر مرؤوته ويكون ذلك سبباً في نعمة تصل إليه منه. ثم قال للخادم: استأذن سيدك في قدوم جماعة أغراب، وكان الخليفة في ذلك الزمان إذا أراد الفرجة على الرعية تنكر في زي التجار فدخل الخادم على سيده وأخبره ففرح وقام وذهب إليهما بنفسه وإذا به جميل الوجه حسن الصورة وعليه قميص نيسابوري ورداءٍ مذهب وهو مضمخ بالطيب وفي يده خاتمٌ من الياقوت، فلما رآهما قال: أهلاً وسهلاً بالسادة المنعمين علينا غاية الإنعام بقدومهما، فلما دخلا تلك الدار رأياها تنسي الأهل الأوطان كأنها قطعة من الجنان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما دخل الدار هو ومن معه رأياها تنسي الأهل والأوطان كأنها قطعة من الجنان ومن داخلها بستان فيه من سائر الأشجار وهي تدهش الأبصار وأماكنها مفروشةً بنفائس الفرش فجلسوا وجلس المعتضد يتأمل في الدار والفرش، فقال ابن حمدان: فنظرت إلى الخليفة فرأيت وجهه قد تغير وكنت أعرف من وجهه حال الرضا والغضب، فلما رأيته قلت في نفسي، يا ترى ما باله حتى غضب؟ ثم جاؤوا بطشت من الذهب فغسلنا أيدينا ثم جاؤوا بسفرةٍ من الحرير وعليها مائدة من الخيزران فلما انكشفت الأغطية عن الأواني رأينا طعاماً كزهر الربيع في عز الأوان صنوان وغير صنوان. ثم قال صاحب الدار: بسم الله يا سادتنا والله أن الجوع قد أضناني فأنعموا علي بالأكل من هذا الطعام كما هو أخلاق الكرام وصاحب الدار يفسخ الدجاج ويضعه بين أيدينا ويضحك وينشد الأشعار ويورد الأخبار ويتكلم بلطيف ما يليق بالمجلس.
وقال ابن حمدان: فأكلنا وشربنا ثم نقلنا إلى مجلسٍ آخر يدهش الناظرين تفوح منه الروائح الزكية، ثم قدم لنا سفرة فاكهةٍ جنيةٍ وحلوياتٍ شهيةٍ فزادت أفراحنا وزالت أتراحنا. قال ابن حمدان: ولم يزل الخليفة في عبوس ولم يبتسم لما فيه فرح النفوس مع أن عادته أنه يحب اللهو والطرب ودفع الهموم وأنا أعرف أنه غير حسودٍ ولا ظلومٍ فقلت في نفسي يا ترى ما سبب عبوسه وعدم زوال بؤسه؟ ثم جاؤوا بطبق الشراب ومجمع شمل الأحباب وأحضروا الشراب المروق وبواطي الذهب والبخور والفضة وضرب صاحب الدار على باب مقصورةٍ بقضيبٍ من الخيزران وإذا بباب المقصورة قد فتح وخرج منه ثلاث جوار نهد أبكارٍ وجوههن كالشمس في رابعة النهار وتلك الجواري ما بين عوادةٍ وجنكيةٍ ورقاصةٍ، ثم قدم لنا النقل والفواكه.
قال ابن حمدان: فضرب بيننا وبين الثلاث جوارٍ ستارةً من الديباج وشراريبها من الأبريسيم وحلقاتها من الذهب فلم يلتفت الخليفة إلى هذا جميعه وصاحب الدار لم يعلم من هو الذي عنده، فقال الخليفة لصاحب الدار: أشريفٌ أنت؟ لا يا سيدي إنما أنا رجلٌ من أولاد التجار أعرف بين الناس بأبي الحسن علي ابن أحمد الخراساني، فقال له الخليفة: أتعرفني يا رجل؟ قال له: والله يا سيدي ليس لي معرفةٌ بأحدٍ من جنابكم الكريم، فقال له ابن حمدان: يا رجل هذا أمير المؤمنين المعتضد بالله حفيد المتوكل على الله، فقام الرجل وقبل الأرض بين يدي الخليفة وهو يرتعد من خوفه، وقال: يا أمير المؤمنين بحق آبائك الطاهرين أن كنت رأيت مني تقصيراً أو قلة أدبٍ بحضرتك أن تعفو عني.
فقال الخليفة: أما ما صنعته معنا من الإكرام فلا مزيد عليه، وأما ما أنكرته عليك هنا فإن صدقتني حديثه واستقر ذلك بعقلي نجوت مني وأن لم تعرفني حقيقته أخذتك بحجةٍ واضحةٍ وعذبتك عذابا لم أعذب أحداً مثله. قال: معاذ الله أن أحدث بالمحال، وما الذي أنكرته على أمير المؤمنين؟ فقال الخليفة: أنا من حين دخلت الدار وأنا أنظر إلى حسنها وأوانيها وفراشها وزينتها، حتى ثيابك ولماذا عليها اسم جدي المتوكل على الله؟ قال: نعم أعلم يا أمير المؤمنين أيدك الله الحق شعارك والصدق وداءك ولا قدرة لأحدٍ على أن يتكلم بغير الصدق في حضرتك، فأمره بالجلوس فجلس فقال له: حدثني فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أيدك الله بنصره وحقك بلطائف أمره أنه لم يكن ببغداد أحداً يسر مني ولا من أبي ولكن أخل لي ذهنك وسمعك وبصرك حتى أحدثك بسبب ما أنكرته علي، فقال له الخليفة: قل حديثك فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان أبي يسوق الصيارف والعطارين والبزازين وكان له في كل سوقٍ حانوت ووكيل وبضائع من سائر الأصناف وكان له حجرةً من داخل الدكان التي بسوق الصيارف لأجل الخلوة فيها وجعل الدكان لأجل البيع والشراء وكان ماله يكثر عن العد ويزيد عن الحد ولم يكن له ولد غيري وكان محباً لي وشفوقاً علي فلما حضرته الوفاة دعاني وأوصاني بوالدتي وبتقوى الله تعالى ثم مات رحمه الله وأبقى أمير المؤمنين فاشتغلت باللذات وأكلمت وشربت ثم اتخذت الأصحاب والأصدقاء وكانت أمي تنهاني عن ذلك وتلومني عليه فلم أسمع كلامها حتى ذهب المال جميعه وبعت العقار ولم يبق لي شيءٌ غير الدار التي أنا فيها وكانت داراً حسنةً يا أمير المؤمنين. فقلت لأمي: أريد أن أبيع الدار فقالت: يا ولدي أن بعتها تفتضح ولا تعرف مكاناً تأوي إليه فقلت: هي تساوي خمسة الألف دينارٍ فأشتري من جملة ثمنها داراً بألف دينارٍ ثم أتجر بالباقي فقالت: أتبيعني هذه الدار بهذا المقدار؟ قلت: نعم فجاءت إلى طابقٍ وفتحته وأخرجت منه إناءً من الصيني فيه خمسةً الآلف دينارٍ فخيل إلي أن الدار كلها ذهب فقالت لي: يا ولدي لا تظن أن هذا المال مال أبيك والله يا ولدي أنه من مال أبي وكنت أدخرته لوقت الحاجة إليه فأني كنت في زمن أبيك غنية عن الاحتياج إلى هذا المال فاتخذت المال منها يا أمير المؤمنين وعدت لما كنت عليه من المأكل والمشرب والصحبة حتى نفذت الخمسة الألف دينارٍ ولم أقبل من أمي كلاماً ولا نصيحةً ثم قلت لها: مرادي أن أبيع الدار فقالت: يا ولدي قد نهيتك عن بيعها لعلمي أنك محتاج إليها فكيف تريد بيعها ثانياً؟ فقلت لها: لا تطيلي علي الكلام فلا بد من بيعها فقالت: بعني إياها بخمسة عشر ألف دينارٍ بشرط أن أتولى شؤونك بنفسي فبعتها لها بذلك المبلغ على أن تتولى أموري بنفسها فطلبت وكلاء أبي وأعطت كل واحدٍ منهم ألف دينار ووضعت المال تحت يدها والأخذ والعطاء معها وأعطتني بعضاً من المال لأتجر فيه وقالت لي: أقعد أنت في دكان أبيك فعملت ما قالت أمي يا أمير المؤمنين وجئت إلى الحجرة التي في سوق الصيارف وجاء أصحابي وصاروا يشترون مني وأبيع لهم وطاب لي الربح وكثر مالي.
فلما رأتني أمي على هذه الحالة الحسنة أظهرت لي ما كان مدخراً عندها من جواهرٍ ومعادنٍ ولؤلؤٍ وذهبٍ ثم أعادت أملاكي التي كان وقع فيها التفريط وكثر مالي كما كان ومكثت على هذه الحال مدة وجاء وكلاء أبي فأعطيتهم البضائع ثم بنيت حجرةً ثانيةً من داخل الدكان.
فبينما أنا قاعدٌ فيها يا أمير المؤمنين وإذا بجاريةٍ قد جاءت إلي لم تر العيون أجمل منها منظراً فقالت: هذه حجرة أبي الحسن علي بن أحمد الخراساني؟ قلت لها: نعم، قالت: أين هو؟ فقلت: هو أنا، ولكن اندهش عقلي من فرط جمالها يا أمير المؤمنين، ثم أنها قعدت وقالت لي: قل للغلام يزن لي ثلاثمائة دينار فأمرته أن يزن لها المقدار فوزنه لها فأخذته وانصرفت وأنا ذاهل العقل فقال لي غلامي: أتعرفها؟ قلت: لا والله قال: فلم قلت لي زن لها؟ فقلت: والله أني لم أدر ما أقول مما بهرني من حسنها وجمالها.
فقام الغلام وتبعها من غير علمي ثم رجع وهو يبكي وبوجهه أثر ضربةٍ، فقلت له: ما بالك؟ فقال: أني تبعت الجارية لأنظر أين تذهب فلما أحست بي رجعت وضربتني هذه الضربة فكادت أن تتلف عيني، ثم مكثت شهراً لم أرها ولم تأت وأنا ذاهل العقل في هواها يا أمير المؤمنين، فلما كان آخر الشهر وإذا بها جاءت وسلمت على فكدت أن أطير فرحاً فسألتني عن خبري وقالت: لعلك قلت في نفسك ما شأن هذه المحتالة كيف أخذت مالي وانصرفت فقلت: والله يا سيدتي أن مالي وروحي ملكٌ لك، فأسفرت عن وجهها وجلست لتستريح والحلي والحلل تلعب على وجهها وصدرها ثم قالت: زن لي ثلاثمائة دينار فقلت سمعاً وطاعةً.
ثم وزنت لها الدنانير فأخذتها وانصرفت فقلت للغلام: أتبعها فتبعها ثم عاد لي وهو مبهوتٌ ومضت، فبينما أنا جالسٌ في بعض الأيام وإذا بها قد جاءت إلي وتحدثت ساعةً ثم قالت لي: زن لي خمسمائة دينارٍ فأني قد أحتجت إليها، فأردت أن أقول لها على أي شيءٍ أعطيك مالي فمنعني فرط الغرام من الكلام وأنا يا أمير المؤمنين كلما رأيتها ترتعد مفاصلي ويصفر لوني وأنسى ما أريد أن أقول وأصير أقول كما قال الشاعر:
كما هو إلا أن أراها فجأة فأبهت حتى لا أكاد أجيب
ثم وزنت لها الخمسمائة دينارٍ فأخذتها وانصرفت فقمت وتبعتها بنفسي إلى أن وصلت إلى سوق الجواهر فوقفت عند إنسانٍ فأخذت منه عقداً والتفتت فرأتني فقالت: زن لي خمسمائة دينار، فلما نظرني صاحب العقد قام إلي وعظمني فقلت له: أعطها العقد وثمنه علي فقال: سمعاً وطاعةً فأخذت العقد وانصرفت.
سفرت عنوأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الستين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن الخراساني قال: فقلت له أعطها العقد وثمنه علي فأخذت العقد وانصرفت فتبعتها حتى جاءت إلى الدجلة ونزلت في مركبٍ فأومأت إلى الأرض لأقبلها بين يديها فذهبت وضحكت ومكثت واقفاً انظرها إلى أن دخلت قصراً فتأملتها فإذا هو قصر الخليفة المتوكل فرجعت يا أمير المؤمنين وقد حل بقلبي كل همٍ في الدنيا وكانت قد أخذت مني ثلاثة آلاف دينارٍ فقلت في نفسي: قد أخذت مالي وسلبت عقلي وربما تلفت نفسي في هواها.
ثم رجعت إلى داري وقد حدثت أمي بجميع ما جرى لي فقالت لي: يا ولدي إياك أن تتعرض لها بعد ذلك فتهلك، فلما رحت إلى دكاني جاءني وكيلي الذي بسوق العطارين وكان شيخاً كبيراً فقال لي: يا سيدي ما لي أراك متغير الحال يظهر عليك أثر الكآبة فحدثني بخبرك؟ فحدثته بجميع ما جرى لي معها فقال لي: يا ولدي أن هذه من جواري قصر أمير المؤمنين وهي محظية الخليفة فاحتسب المال لله تعالى ولا تشغل نفسك بها وإذا جاءتك فاحذر أن تتعرض لها وأعلمني بذلك حتى أدبر لك أمراً لئلا يحصل لك ثم تركني وذهب وفي صدري لهيب النار.
فلما كان أخر الشهر إذ بها جاءت إلي ففرحت بها غاية الفرح، فقالت لي: ما حملك على أن تتبعني؟ فقلت لها: حملني على ذلك فرط الوجد الذي بقلبي وبكيت بين يديها فبكت رحمةً وقالت: والله ما في قلبك شيءٌ من الغرام إلا وفي قلبي أكثر منه ولكن كيف أعمل، والله ما لي من سبيل غير أني أراك في كل شهرٍ مرةٍ.
ثم دفعت إلي ورقةً وقالت: خذ هذه إلى فلان الفلاني فأنه وكيلي وأقبض منه ما فيها فقلت: ليس لي حاجة بمال ومالي وروحي فداك، فقالت: سوف أدبر لك أمراً يكون فيه وصولك إلي وأن كان فيه تعبٌ ثم ودعتي وانصرفت فجئت إلى الشيخ وأخبرته بما جرى فجاء معي إلى دار المتوكل فرأيتها هي والمكان الذي دخلت فيه الجارية فصار الشيخ متحيراً في حيلةٍ يفعلها فرأى خياطاً قبل الشباك المطل على الشاطئ وعنده صناعٌ فقال: بهذا تنال مرادك ولكن أفتق جيبك وتقدم إليه وقل له أن يخيطه فإذا خاطه فادفع له عشرة دنانيرٍ فقلت: سمعاً وطاعةً، ثم توجهت إلى الخياط وأخذت معي شقتين من الديباج الرومي وقلت له: فصل لي هاتين أربعة ملابسٍ اثنين فرجية واثنين غير فرجية.
فلما فرغ الخياط من تفصيل الملابس وخياطتها أعطيته أجريتها زيادة عن العادة بكثيرٍ، ثم مد يده إلى تلك الملابس فقلت: خذها لك ولمن حضر عندك، وصرت أقعد عنده وأطيل القعود معه ثم فصلت عنده غيرها وقلت له: علقه على وجه الدكان لمن ينظره فيشتريه ففعل، وصار كل من خرج من قصر الخليفة وأعجبه شيءٌ من الملابس وهبته له حتى البواب، فقال الخياط: يا مأمن الأيام أريد يا ولدي أن تصدقني حديثك لأنك فصلت عندي مائة حلةٍ ثمينةٍ ولك حلةٌ تساوي جملةً من المال ووهبت غالبها للناس وهذا ما هو فعل تاجرٍ لأن التاجر يحاسب على الدرهم وما مقدار رأس مالك حتى تعطي هذه العطايا وما يكون مكسبك في كل يومٍ فأخبرني خبراً صحيحاً حتى أعاونك على مرادك ثم قال: أناشدك الله أما أنت عاشقٌ؟ قلت: نعم، فقال: لمن؟ قلت: لجاريةٍ من جواري قصر الخليفة فقال: قبحهن الله كم يفتن الناس ثم قال: هل تعرف اسمها؟ قلت: لا فقال: صفها لي، فوصفتها له فقال: ويلاه هذه عوادة الخليفة المتوكل والمحظية عنده لكن لها مملوك فأجعل بينك وبينه صداقةً لعله يكون سبباً في اتصالك بها فبينما نحن في الحديث وإذا بالملوك مقبلٌ من الخليفة وهو كأنه القمر في ليلة أربعة عشر وبين يدي الثياب التي خاطها لي الخياط وكانت من الديباج من سائر الألوان فصار ينظر إليها ويتأمل ثم أقبل علي فقمت وسلمت عليه فقال: من أنت؟ فقلت: رجلٌ من التجار، قال: أتبيع هذه الثياب؟ قلت: نعم فأخذ منها خمسةٌ وقال: بكم الخمسة؟ فقلت: هي هدية مني إليك عقد صحبةٍ بيني وبينك ففرح بها ثم جئت إلى بيتي وأخذت له ملبوساً مرصعاً بالجواهر واليواقيت قيمته ثلاثة ألاف دينارٍ وتوجهت به إليه فقبل مني ثم أخذني ودخل بي حجرةً في داخل القصر وقال: ما اسمك بين التجار؟ فقلت له: رجلاً منهم فقال: قدر ابني أمرك فقلت: لماذا؟ قال: أنك أهديت لي شيئاً كثيراً ملكت قلبي به وقد صح عندي أنك أبو الحسن الخراساني أكثر الصيرفي، فبكيت يا أمير المؤمنين فقال لي: لم تبكي؟ فو الله التي تبكي من أجلها عندها من الغرام بك أكثر مما عندك من الغرام بها وأعظم وقد شاع عند جميع جواري القصر خبرها معك. ثم قال لي: وأي شيءٍ تريد؟ فقلت: أريد أنك تساعدني في بليتي فوعدني إلى الغد، فمضيت إلى داري، فلما أصبحت وتوجهت إليه ودخلت حجرته قال: أعلم أنها لما فرغت من خدمتها عند الخليفة بالأمس ودخلت حجرتها حدثتها بحديثك جميعه وقد عزمت على الاجتماع بك فاقعد عندي إلى آخر النهار فقعدت عنده.
فلما جن الليل إذا بالمملوك أتى ومعه قميصٌ منسوجٌ من الذهب وحلةٌ من حلل الخليفة فألبسني إياها وبخرني فصرت أشبه بالخليفة ثم أخذني إلى محلٍ فيه الحجر صفين من الجانبين وقال: هذه حجرة الجواري الخواص فإذا مررت عليها فضع على كل بابٍ من الأبواب حبةً من الفول لأنه من عادة الخليفة أن يفعل هكذا في كل ليلةٍ.
وفي الليلة الواحدة والستين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المملوك لما قال لأبي الحسن: فإذا مررت عليها فضع على كل بابٍ من الأبواب حبةً من الفول لأن من عادة الخليفة أن يفعل هكذا إلى أن تأتي إلى الدرب الثاني الذي على يدك اليمنى فترى حجرةً عتبة بابها من المرمر فإذا قدمت إليها فمسها بيدك أن شئت فعد الأبواب فهي كذا وكذا باباً فأدخل الباب الذي علامته كذا وكذا فتراك صاحبتك وتأخذك عندها، وأما خروجك فإن الله يهون علي فيه ولو أخرجك في صندوقٍ.
ثم تركني ورجع وصرت أمشي وأعد الأبواب واضع على كل بابٍ حبة فولٍ: فلما صرت في وسط الحجر سمعت ضجةً عظيمةً ورأيت ضوء شموع وأقبل ذلك الضوء نحوي حتى قرب مني فتأملته فإذا هو الخليفة وحوله الجواري ومعهن الشموع فسمعت واحدةً منهن تقول لصاحبتها: يا أختي هل نحن لنا خليفتان؟ على أن الخليفة قد جاز حجرتي وشممت رائحة العطر والطيب ووضع حبة الفول على حجرتي كعادته، وفي هذه الساعة أرى ضوء شموع للخليفة وها هو مقبلٌ. فقالت: أن هذا الأمر عجيب لأن التزيي بزي الخليفة لا يجسر عليه أحدٌ، ثم قرب الضوء مني فارتعدت أعضائي وإذا بخادمٍ يصيح على الجواري ويقول: ههنا، فانعطفوا إلى حجرةٍ من الحجر ودخلوا ثم خرجوا ومشوا حتى وصلوا إلى بيت صاحبتي فسمعت الخليفة يقول: حجرة من هذه؟ فقالوا: هذه حجرة شجرة الدر فقال: نادوها فنادوها فخرجت وقبلت أقدام الخليفة فقال لها: أتشربين الليلة؟ فقالت: أن لم يكن لحضرتك والنظر إلى طلعتك فلا أشرب فأنني لا أميل إلى الشراب في هذه الليلة، فقال للخازن: ادفع لها العقد الفلاني.
ثم أمر بالدخول إلى حجرتها فدخلت بين الشموع وإذا بجاريتها أمامهم وضوء وجهها غالبٌ على ضوء الشمعة التي بيدها فقربت مني وقالت: من هذا؟ ثم قبضت علي وأخذتني إلى حجرةٍ من الحجر وقالت لي: من أنت؟ فقلبت الأرض بين يديها وقالت لها: أناشدك الله يا مولاتي أن تحقني دمي وترحميني وتتقربي إلى الله بانقاذ مهجتي وبكيت فزعاً من الموت، فقالت: لا ريب أنك لصٌ؟ فقلت: لا والله ما أنا لصٌ فهل ترين علي أثر اللصوص؟ فقالت: أصدقني خبرك وأنا أجعلك في أمانٍ، فقلت: أنا جاهلٌ أحمقٌ قد حملتني الصبابة وجهلي على ما ترين مني حتى وقعت في هذه الورطة، فقالت: قف هنا أجيء إليك.
ثم خرجت وجاءتني بثياب جاريةٍ من جواريها وألبستني تلك الثياب في تلك الزاوية وقالت: تعال خلفي فمشيت خلفها حتى وصلت إلى حجرتها وقالت: ادخل هنا فدخلت حجرتها فجاءت بي إلى سريرٍ وعليه فرشٌ عظيمٌ وقالت: أجلس لا بأس عليك أما أنت أبو الحسن الخراساني؟ قلت: بلى قالت: قد حقن الله دمك أن كنت صادقاً ولم تكن لصاً فأنك تهلك لا سيما وأنت في زي الخليفة ولباسه وبخوره، وأما أن كنت أبا الحسن الخراساني الصيرفي فأنك قد أمنت ولا بأس عليك فأنك صاحب شجرة الدر التي هي أختي فأنها لا تقطع خبرها عنك أبداً وتخبرنا كيف أخذت منك المال ولم تتغير وكيف جئت وراءها إلى الشاطئ وأومأت لها إلى الأرض تعظيماً وفي قلبها منك الحب أكثر مما في قلبك منها، ولكن كيف وصلت إلى ههنا بأمرها أم بغير أمرها بل خاطرت بنفسك وما مرادك من الاجتماع؟ فقلت: والله يا سيدتي أني أنا الذي خاطرت بنفسي وما غرضي من الاجتماع بها إلا النظر والإستماع لحديثها فقالت: أحسنت فقلت: يا سيدتي الله شهيد على ما أقول أن نفسي لم تحدثني في شأنها بمعصيةٍ، فقالت: بهذه النية نجاك الله ووقعت رحمتك في قلبي، ثم قالت لجاريتها فلانه: أمضي إلى شجرة الدر وقولي لها: أن أختك تسلم عليك فتفضلي عندها في هذه الليلة على جري عادتك فأن صدرها ضيقٌ.
فتوجهت إليها ثم عادت وأخبرتها أنها تقول: متعني الله بطول حياتك وجعلني فداك الله لو دعوتيني إلى غير ما توقفت لكن يضرني صداع الخليفة وأنت تعلمين منزلتي عنده، فقالت للجارية: أرجعي إليها وقولي لها: أنه لا بد من حضورك لسرٍ بينك وبينها، فتوجهت إليها الجارية وبعد ساعةٍ جاءت الجارية ووجهها يضيء كأنه البدر فقابلتها واعتنقتها وقالت: يا أبا الحسن أخرج إليها وقبل يديها.
وكنت في مخدعٍ في داخل الحجرة فخرجت إليها يا أمير المؤمنين فلما رأتني ألقت نفسها علي وضمتني إلى صدرها وقالت لي: كيف صرت بلباس الخليفة وزينته وبخوره؟ ثم قالت: حدثني بما جرى لك، فحدثتها بما جرى لي وبما قاسيته من الخوف وغيره فقالت: يعز عليَّ ما قاسيته من أجلي والحمد لله الذي جعل العاقبة إلى السلامة وتمام السلامة دخولك في منزلي ومنزل أختي.
ثم أخذتني إلى حجرتها وقالت لأختها: أني قد عاهدته أن لا أجتمع معه في الحرام ولكن كما خاطر بنفسه وارتكب هذا الهول لأكونن أرضاً لوطء قدميه وتراباً على نعليه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والستين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت لأختها: أني قد عاهدته أني لا أجتمع معه في الحرام ولكن كما خاطر بنفسه وارتكب هذه الأهوال لأكونن أرضاً لوطء قدميه وتراباً لنعليه، فقالت لها أختها: بهذه النية تجاه الله تعالى فقالت: سوف ترين ما أصنع حتى اجتمع معه في الحلال، فلا بد أن أبذل مهجتي في التحيل.
فبينما نحن في الحديث وإذا بضجةٍ عظيمةٍ فالتفتنا فرأينا الخليفة قد جاء يريد حجرتها من كثرة ما هو كلفٌ بها فأخذتني يا أمير المؤمنين ووضعتني في سردابٍ وطبقته علي وخرجت تقابل الخليفة فلاقته ثم جلس فوقفت بين يديه وخدمته ثم أمرت بإحضار الشراب، وكان الخليفة يحب جاريةً اسمها البنجة وهي أم المعتز بالله وكانت الجارية قد هجرته وهجرها فلعز الحسن والجمال تصالحه والمتوكل لعزة الخلافة والملك لا يصالحها ولا يكسر نفسه لها مع أن في قلبه منها لهيب النار ولكنه تشاغل عنها بنظائرها من الجواري والدخول إليهن في حجراتهن، وكان يحب غناء شجرة الدر فأمرها بالغناء وتناولت العود وشدت الأوتار وغنت بهذه الأشعار:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينهـا فلما انقضى ما بيننا سكن الدهـر
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى وزرتك حتى قيل ليس له صبـر
فيا حبها زدني جـوىً كـل لـيلةٍ ويا سلوة الأيام موعدك الحشـر
لها بشرٌ مثل الحرير ومنـطـقٌ رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
وعينان قال الله كونا فـكـانـتـا فعولان بالألباب ما يفعل السحـر
فلما سمعها الخليفة طرب طرباً شديداً وطربت أنا يا أمير المؤمنين في السرداب، ولولا لطف الله تعالى لصحت وافتضحنا، ثم أنشدت هذه الأبيات:
أعانقه والنفس بعـد مـشـوقةٌ إليه وهل بعد العنـاق تـدانـي
وألثم فاه كي تزول حـرارتـي فيشتد ما ألقى من الـهـيمـان
كأن فؤادي ليس يبري غلـيلـه سوى أن ترى الروحان يمتزجان
فطرب الخليفة وقال: تمني عليَّ يا شجرة الدر فقالت: أتمنى عليك عتقي يا أمير المؤمنين لما فيه الثواب فقال: أنت حرةٌ لوجه الله تعالى فقبلت الأرض بين يديه فقال: خذي العود وقولي لنا شيئاً في شأن جاريتي التي أنا متعلقٌ بهواها والناس تطلب رضاي وأنا أطلب رضاها، فأخذت العود وأنشدت هذين البيتين:
أيا ربة الحسن التي اذهبت نسكي على كل أحوالي فلا بد لي منك
فأما بذل وهو أليق بـالـهـوى وأما بعزٍ وهو أليق بالـمـلـك
فطرب الخليفة وقال: خذي العود وغني شهراً يتضمن شرح حال مع ثلاث جوار ملكن قيادي ومنعن رقادي وهن: أنت وتلك الجارية أهاجرة وأخرى لا أسميها لها مناظرة، فأخذت العود، وأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:
ملك الثلاث الغانيات عنانـي وحللن من قلبي أعز مكـان
ما لي مطاوع في البرية كلها وأطيعن وهو في عصيانـي
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه غلبن أعز من سلطاني
فتعجب الخليفة من موافقة هذا الشعر لحاله غاية العجب ومال به إلى مصالحة الجارية الهاجرة الطرب ثم خرج وقصد حجرتها فسبقته جاريةٌ وأخبرتها بقدوم الخليفة فأستقبلته وقبلت الأرض بين يده ثم قبلت قدميه فصالحها وصالحته. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر شجرة الدر فأنها جاءت إلي وهي فرحانةٌ وقالت: أني صرت حرةً بقدومك المبارك ولعل الله يعينني على ما أدبره حتى اجتمع بك في الحلال فقلت: الحمد لله.
فبينما نحن في الحديث وإذا بخادمها قد دخل علينا فحدثناه بما جرى لنا فقال: الحمد لله الذي جعل آخره خيراً ونسأل الله أن يتم ذلك بخروجك سالماً فبينما نحن في الحديث وإذا بالجارية أختها وقد جاءت وكان اسمها فاتر فقالت: يا أختي كيف نعمل حتى نخرجه من القصر سالماً فأن الله تعالى منَّ علي بالعتق وصرت حرةً ببركة قدومه فقالت لها: ليس لي حيلةٌ في خروجه إلا بأن ألبسه ثياب النساء ثم جاءت ببدلةٍ من ثياب النساء فألبستني إياها ثم خرجت يا أمير المؤمنين في ذلك الوقت فلما جئت إلى وسط القصر إذا بأمير المؤمنين جالسٌ والخدم بين يديه فنظر إلي وأنكرني غاية الإنكار وقال لحاشيته: اسرعوا ائتوني بهذه الجارية فلما أتوا بي رفعوا نقابي فلما رآني عرفني وسألني فأخبرته بالخبر ولم أخف عليه شيئاً فلما سمع حديثي تفكر في أمري ثم قام من وقته وساعته ودخل حجرة شجرة الدر فقال: كيف تختارين علي بعض أولاد التجار؟ فقلبت الأرض بين يديه وحدثته بحديثها من أوله إلى آخره على وجه ثم انصرف ودخل عليها خادمها وقال: طيبي نفساً أن صاحبك لما حضر بين يدي الخليفة سأله فأخبره كما أخبرته حرفاً بحرفٍ ثم رجع الخليفة وأحضرني بين يديه وقال: ما حملك على التجارة على دار الخلافة؟ فقلت: يا أمير المؤمنين حملني على ذلك جهلي والصبابة والإقبال على عفوك وكرمك ثم بكيت وقلبت الأرض بين يديه فقال: عفوت عنكما ثم أمرني بالجلوس فجلست فدعا بالقاضي أحمد ابن أبي داؤد وزوجني بها وأمر بحمل جميع ما عندها إلي وزفوها علي في حجرتها.
وبعد ثلاثة أيامٍ خرجت ولقيت جميع ذلك إلى بيتي فجميع ما تنظره يا أمير المؤمنين في بيتي وتنكره كله من جهازها ثم أنها قالت لي يوماً من الأيام: اعلم أن المتوكل رجلٌ كريمٌ وأخاف أن يتذكرنا أو يذكرنا عنده أحدٌ من الحساد فأريد أن أعمل شيئاً يكون فيه الخلاص من ذلك قلت: وما هو؟ قالت: أريد أن استأذنه في الحج والتوبة من الغناء فقلت لها: نعم الرأي الذي أشرت إليه فبينما نحن في الحديث وإذا برسول الخليفة قد جاء في طلبها لأنه كان يحب غناءها فمضت وخدمته فقال لها: لا تنقطعي عنا فقالت سمعاً وطاعةً فاتفق أنها ذهبت إليه في بعض الأيام وكان قد أرسل إليها على جري العادة فلم أشعر إلا وقد جاءت من عنده ممزقة الثياب باكية العين ففزعت من ذلك، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون وتوهمت أنه أمر بالقبض علينا فقلت لها: هل المتوكل غضب علينا؟ فقالت: وأين المتوكل؟ أن المتوكل قد انقضى حكمه وانحى رسمه فقلت: أخبريني بحقيقة الأمر فقالت له: أنه كان جالساً خلف الستارة يشرب وعنده الفتح بن خافان وصدقة بن صدقة فهجم عليه ولده المنتصر هو وجماعته من الأتراك فقتله وانقلب السرور بالشرور والخد الجميل بالبكاء والعويل فهربت أنا والجارية وسلمنا الله. ثم قمت في الحال يا أمير المؤمنين وانحدرت إلى البصرة وجاءني الخبر بعد ذلك بوقوع فتنةٍ بين المنتصر والمستعين فخفت ونقلت زوجتي وجميع مالي إلى البصرة. وهذه حكايتي يا أمير المؤمنين لا زدتها حرفاً ولا نقصتها حرفاً فجميع ما نظرته في بيتي يا أمير المؤمنين مما عليه اسم جدك المتوكل هو من نعمته علينا لأن أصل نعمتنا من أصول الأكرمين وأنتم أهل النعم ومعدن الكرم ففرح الخليفة بذلك فرحاً عظيماً وتعجب من حديثه ثم أخرجت للخليفة الجارية وأولادي منها فقبلوا الأرض بين يديه فتعجب من جمالها واستدعى بدواة وقرطاس وكتب لنا برفع الخراج من أملاكنا عشرين سنةً ثم خرج الخليفة واتخذه نديماً إلى أن فرق الدهر بينهم وسكنوا القبور بعد القصور وسبحان الملك الغفور.
فتعجب الخليفة من كلامهما وقال: إن هذا دليلٌ على كرم صاحب الدار ولا بد أن ندخل داره وننظر مرؤوته ويكون ذلك سبباً في نعمة تصل إليه منه. ثم قال للخادم: استأذن سيدك في قدوم جماعة أغراب، وكان الخليفة في ذلك الزمان إذا أراد الفرجة على الرعية تنكر في زي التجار فدخل الخادم على سيده وأخبره ففرح وقام وذهب إليهما بنفسه وإذا به جميل الوجه حسن الصورة وعليه قميص نيسابوري ورداءٍ مذهب وهو مضمخ بالطيب وفي يده خاتمٌ من الياقوت، فلما رآهما قال: أهلاً وسهلاً بالسادة المنعمين علينا غاية الإنعام بقدومهما، فلما دخلا تلك الدار رأياها تنسي الأهل الأوطان كأنها قطعة من الجنان.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لما دخل الدار هو ومن معه رأياها تنسي الأهل والأوطان كأنها قطعة من الجنان ومن داخلها بستان فيه من سائر الأشجار وهي تدهش الأبصار وأماكنها مفروشةً بنفائس الفرش فجلسوا وجلس المعتضد يتأمل في الدار والفرش، فقال ابن حمدان: فنظرت إلى الخليفة فرأيت وجهه قد تغير وكنت أعرف من وجهه حال الرضا والغضب، فلما رأيته قلت في نفسي، يا ترى ما باله حتى غضب؟ ثم جاؤوا بطشت من الذهب فغسلنا أيدينا ثم جاؤوا بسفرةٍ من الحرير وعليها مائدة من الخيزران فلما انكشفت الأغطية عن الأواني رأينا طعاماً كزهر الربيع في عز الأوان صنوان وغير صنوان. ثم قال صاحب الدار: بسم الله يا سادتنا والله أن الجوع قد أضناني فأنعموا علي بالأكل من هذا الطعام كما هو أخلاق الكرام وصاحب الدار يفسخ الدجاج ويضعه بين أيدينا ويضحك وينشد الأشعار ويورد الأخبار ويتكلم بلطيف ما يليق بالمجلس.
وقال ابن حمدان: فأكلنا وشربنا ثم نقلنا إلى مجلسٍ آخر يدهش الناظرين تفوح منه الروائح الزكية، ثم قدم لنا سفرة فاكهةٍ جنيةٍ وحلوياتٍ شهيةٍ فزادت أفراحنا وزالت أتراحنا. قال ابن حمدان: ولم يزل الخليفة في عبوس ولم يبتسم لما فيه فرح النفوس مع أن عادته أنه يحب اللهو والطرب ودفع الهموم وأنا أعرف أنه غير حسودٍ ولا ظلومٍ فقلت في نفسي يا ترى ما سبب عبوسه وعدم زوال بؤسه؟ ثم جاؤوا بطبق الشراب ومجمع شمل الأحباب وأحضروا الشراب المروق وبواطي الذهب والبخور والفضة وضرب صاحب الدار على باب مقصورةٍ بقضيبٍ من الخيزران وإذا بباب المقصورة قد فتح وخرج منه ثلاث جوار نهد أبكارٍ وجوههن كالشمس في رابعة النهار وتلك الجواري ما بين عوادةٍ وجنكيةٍ ورقاصةٍ، ثم قدم لنا النقل والفواكه.
قال ابن حمدان: فضرب بيننا وبين الثلاث جوارٍ ستارةً من الديباج وشراريبها من الأبريسيم وحلقاتها من الذهب فلم يلتفت الخليفة إلى هذا جميعه وصاحب الدار لم يعلم من هو الذي عنده، فقال الخليفة لصاحب الدار: أشريفٌ أنت؟ لا يا سيدي إنما أنا رجلٌ من أولاد التجار أعرف بين الناس بأبي الحسن علي ابن أحمد الخراساني، فقال له الخليفة: أتعرفني يا رجل؟ قال له: والله يا سيدي ليس لي معرفةٌ بأحدٍ من جنابكم الكريم، فقال له ابن حمدان: يا رجل هذا أمير المؤمنين المعتضد بالله حفيد المتوكل على الله، فقام الرجل وقبل الأرض بين يدي الخليفة وهو يرتعد من خوفه، وقال: يا أمير المؤمنين بحق آبائك الطاهرين أن كنت رأيت مني تقصيراً أو قلة أدبٍ بحضرتك أن تعفو عني.
فقال الخليفة: أما ما صنعته معنا من الإكرام فلا مزيد عليه، وأما ما أنكرته عليك هنا فإن صدقتني حديثه واستقر ذلك بعقلي نجوت مني وأن لم تعرفني حقيقته أخذتك بحجةٍ واضحةٍ وعذبتك عذابا لم أعذب أحداً مثله. قال: معاذ الله أن أحدث بالمحال، وما الذي أنكرته على أمير المؤمنين؟ فقال الخليفة: أنا من حين دخلت الدار وأنا أنظر إلى حسنها وأوانيها وفراشها وزينتها، حتى ثيابك ولماذا عليها اسم جدي المتوكل على الله؟ قال: نعم أعلم يا أمير المؤمنين أيدك الله الحق شعارك والصدق وداءك ولا قدرة لأحدٍ على أن يتكلم بغير الصدق في حضرتك، فأمره بالجلوس فجلس فقال له: حدثني فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أيدك الله بنصره وحقك بلطائف أمره أنه لم يكن ببغداد أحداً يسر مني ولا من أبي ولكن أخل لي ذهنك وسمعك وبصرك حتى أحدثك بسبب ما أنكرته علي، فقال له الخليفة: قل حديثك فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان أبي يسوق الصيارف والعطارين والبزازين وكان له في كل سوقٍ حانوت ووكيل وبضائع من سائر الأصناف وكان له حجرةً من داخل الدكان التي بسوق الصيارف لأجل الخلوة فيها وجعل الدكان لأجل البيع والشراء وكان ماله يكثر عن العد ويزيد عن الحد ولم يكن له ولد غيري وكان محباً لي وشفوقاً علي فلما حضرته الوفاة دعاني وأوصاني بوالدتي وبتقوى الله تعالى ثم مات رحمه الله وأبقى أمير المؤمنين فاشتغلت باللذات وأكلمت وشربت ثم اتخذت الأصحاب والأصدقاء وكانت أمي تنهاني عن ذلك وتلومني عليه فلم أسمع كلامها حتى ذهب المال جميعه وبعت العقار ولم يبق لي شيءٌ غير الدار التي أنا فيها وكانت داراً حسنةً يا أمير المؤمنين. فقلت لأمي: أريد أن أبيع الدار فقالت: يا ولدي أن بعتها تفتضح ولا تعرف مكاناً تأوي إليه فقلت: هي تساوي خمسة الألف دينارٍ فأشتري من جملة ثمنها داراً بألف دينارٍ ثم أتجر بالباقي فقالت: أتبيعني هذه الدار بهذا المقدار؟ قلت: نعم فجاءت إلى طابقٍ وفتحته وأخرجت منه إناءً من الصيني فيه خمسةً الآلف دينارٍ فخيل إلي أن الدار كلها ذهب فقالت لي: يا ولدي لا تظن أن هذا المال مال أبيك والله يا ولدي أنه من مال أبي وكنت أدخرته لوقت الحاجة إليه فأني كنت في زمن أبيك غنية عن الاحتياج إلى هذا المال فاتخذت المال منها يا أمير المؤمنين وعدت لما كنت عليه من المأكل والمشرب والصحبة حتى نفذت الخمسة الألف دينارٍ ولم أقبل من أمي كلاماً ولا نصيحةً ثم قلت لها: مرادي أن أبيع الدار فقالت: يا ولدي قد نهيتك عن بيعها لعلمي أنك محتاج إليها فكيف تريد بيعها ثانياً؟ فقلت لها: لا تطيلي علي الكلام فلا بد من بيعها فقالت: بعني إياها بخمسة عشر ألف دينارٍ بشرط أن أتولى شؤونك بنفسي فبعتها لها بذلك المبلغ على أن تتولى أموري بنفسها فطلبت وكلاء أبي وأعطت كل واحدٍ منهم ألف دينار ووضعت المال تحت يدها والأخذ والعطاء معها وأعطتني بعضاً من المال لأتجر فيه وقالت لي: أقعد أنت في دكان أبيك فعملت ما قالت أمي يا أمير المؤمنين وجئت إلى الحجرة التي في سوق الصيارف وجاء أصحابي وصاروا يشترون مني وأبيع لهم وطاب لي الربح وكثر مالي.
فلما رأتني أمي على هذه الحالة الحسنة أظهرت لي ما كان مدخراً عندها من جواهرٍ ومعادنٍ ولؤلؤٍ وذهبٍ ثم أعادت أملاكي التي كان وقع فيها التفريط وكثر مالي كما كان ومكثت على هذه الحال مدة وجاء وكلاء أبي فأعطيتهم البضائع ثم بنيت حجرةً ثانيةً من داخل الدكان.
فبينما أنا قاعدٌ فيها يا أمير المؤمنين وإذا بجاريةٍ قد جاءت إلي لم تر العيون أجمل منها منظراً فقالت: هذه حجرة أبي الحسن علي بن أحمد الخراساني؟ قلت لها: نعم، قالت: أين هو؟ فقلت: هو أنا، ولكن اندهش عقلي من فرط جمالها يا أمير المؤمنين، ثم أنها قعدت وقالت لي: قل للغلام يزن لي ثلاثمائة دينار فأمرته أن يزن لها المقدار فوزنه لها فأخذته وانصرفت وأنا ذاهل العقل فقال لي غلامي: أتعرفها؟ قلت: لا والله قال: فلم قلت لي زن لها؟ فقلت: والله أني لم أدر ما أقول مما بهرني من حسنها وجمالها.
فقام الغلام وتبعها من غير علمي ثم رجع وهو يبكي وبوجهه أثر ضربةٍ، فقلت له: ما بالك؟ فقال: أني تبعت الجارية لأنظر أين تذهب فلما أحست بي رجعت وضربتني هذه الضربة فكادت أن تتلف عيني، ثم مكثت شهراً لم أرها ولم تأت وأنا ذاهل العقل في هواها يا أمير المؤمنين، فلما كان آخر الشهر وإذا بها جاءت وسلمت على فكدت أن أطير فرحاً فسألتني عن خبري وقالت: لعلك قلت في نفسك ما شأن هذه المحتالة كيف أخذت مالي وانصرفت فقلت: والله يا سيدتي أن مالي وروحي ملكٌ لك، فأسفرت عن وجهها وجلست لتستريح والحلي والحلل تلعب على وجهها وصدرها ثم قالت: زن لي ثلاثمائة دينار فقلت سمعاً وطاعةً.
ثم وزنت لها الدنانير فأخذتها وانصرفت فقلت للغلام: أتبعها فتبعها ثم عاد لي وهو مبهوتٌ ومضت، فبينما أنا جالسٌ في بعض الأيام وإذا بها قد جاءت إلي وتحدثت ساعةً ثم قالت لي: زن لي خمسمائة دينارٍ فأني قد أحتجت إليها، فأردت أن أقول لها على أي شيءٍ أعطيك مالي فمنعني فرط الغرام من الكلام وأنا يا أمير المؤمنين كلما رأيتها ترتعد مفاصلي ويصفر لوني وأنسى ما أريد أن أقول وأصير أقول كما قال الشاعر:
كما هو إلا أن أراها فجأة فأبهت حتى لا أكاد أجيب
ثم وزنت لها الخمسمائة دينارٍ فأخذتها وانصرفت فقمت وتبعتها بنفسي إلى أن وصلت إلى سوق الجواهر فوقفت عند إنسانٍ فأخذت منه عقداً والتفتت فرأتني فقالت: زن لي خمسمائة دينار، فلما نظرني صاحب العقد قام إلي وعظمني فقلت له: أعطها العقد وثمنه علي فقال: سمعاً وطاعةً فأخذت العقد وانصرفت.
سفرت عنوأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الستين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن الخراساني قال: فقلت له أعطها العقد وثمنه علي فأخذت العقد وانصرفت فتبعتها حتى جاءت إلى الدجلة ونزلت في مركبٍ فأومأت إلى الأرض لأقبلها بين يديها فذهبت وضحكت ومكثت واقفاً انظرها إلى أن دخلت قصراً فتأملتها فإذا هو قصر الخليفة المتوكل فرجعت يا أمير المؤمنين وقد حل بقلبي كل همٍ في الدنيا وكانت قد أخذت مني ثلاثة آلاف دينارٍ فقلت في نفسي: قد أخذت مالي وسلبت عقلي وربما تلفت نفسي في هواها.
ثم رجعت إلى داري وقد حدثت أمي بجميع ما جرى لي فقالت لي: يا ولدي إياك أن تتعرض لها بعد ذلك فتهلك، فلما رحت إلى دكاني جاءني وكيلي الذي بسوق العطارين وكان شيخاً كبيراً فقال لي: يا سيدي ما لي أراك متغير الحال يظهر عليك أثر الكآبة فحدثني بخبرك؟ فحدثته بجميع ما جرى لي معها فقال لي: يا ولدي أن هذه من جواري قصر أمير المؤمنين وهي محظية الخليفة فاحتسب المال لله تعالى ولا تشغل نفسك بها وإذا جاءتك فاحذر أن تتعرض لها وأعلمني بذلك حتى أدبر لك أمراً لئلا يحصل لك ثم تركني وذهب وفي صدري لهيب النار.
فلما كان أخر الشهر إذ بها جاءت إلي ففرحت بها غاية الفرح، فقالت لي: ما حملك على أن تتبعني؟ فقلت لها: حملني على ذلك فرط الوجد الذي بقلبي وبكيت بين يديها فبكت رحمةً وقالت: والله ما في قلبك شيءٌ من الغرام إلا وفي قلبي أكثر منه ولكن كيف أعمل، والله ما لي من سبيل غير أني أراك في كل شهرٍ مرةٍ.
ثم دفعت إلي ورقةً وقالت: خذ هذه إلى فلان الفلاني فأنه وكيلي وأقبض منه ما فيها فقلت: ليس لي حاجة بمال ومالي وروحي فداك، فقالت: سوف أدبر لك أمراً يكون فيه وصولك إلي وأن كان فيه تعبٌ ثم ودعتي وانصرفت فجئت إلى الشيخ وأخبرته بما جرى فجاء معي إلى دار المتوكل فرأيتها هي والمكان الذي دخلت فيه الجارية فصار الشيخ متحيراً في حيلةٍ يفعلها فرأى خياطاً قبل الشباك المطل على الشاطئ وعنده صناعٌ فقال: بهذا تنال مرادك ولكن أفتق جيبك وتقدم إليه وقل له أن يخيطه فإذا خاطه فادفع له عشرة دنانيرٍ فقلت: سمعاً وطاعةً، ثم توجهت إلى الخياط وأخذت معي شقتين من الديباج الرومي وقلت له: فصل لي هاتين أربعة ملابسٍ اثنين فرجية واثنين غير فرجية.
فلما فرغ الخياط من تفصيل الملابس وخياطتها أعطيته أجريتها زيادة عن العادة بكثيرٍ، ثم مد يده إلى تلك الملابس فقلت: خذها لك ولمن حضر عندك، وصرت أقعد عنده وأطيل القعود معه ثم فصلت عنده غيرها وقلت له: علقه على وجه الدكان لمن ينظره فيشتريه ففعل، وصار كل من خرج من قصر الخليفة وأعجبه شيءٌ من الملابس وهبته له حتى البواب، فقال الخياط: يا مأمن الأيام أريد يا ولدي أن تصدقني حديثك لأنك فصلت عندي مائة حلةٍ ثمينةٍ ولك حلةٌ تساوي جملةً من المال ووهبت غالبها للناس وهذا ما هو فعل تاجرٍ لأن التاجر يحاسب على الدرهم وما مقدار رأس مالك حتى تعطي هذه العطايا وما يكون مكسبك في كل يومٍ فأخبرني خبراً صحيحاً حتى أعاونك على مرادك ثم قال: أناشدك الله أما أنت عاشقٌ؟ قلت: نعم، فقال: لمن؟ قلت: لجاريةٍ من جواري قصر الخليفة فقال: قبحهن الله كم يفتن الناس ثم قال: هل تعرف اسمها؟ قلت: لا فقال: صفها لي، فوصفتها له فقال: ويلاه هذه عوادة الخليفة المتوكل والمحظية عنده لكن لها مملوك فأجعل بينك وبينه صداقةً لعله يكون سبباً في اتصالك بها فبينما نحن في الحديث وإذا بالملوك مقبلٌ من الخليفة وهو كأنه القمر في ليلة أربعة عشر وبين يدي الثياب التي خاطها لي الخياط وكانت من الديباج من سائر الألوان فصار ينظر إليها ويتأمل ثم أقبل علي فقمت وسلمت عليه فقال: من أنت؟ فقلت: رجلٌ من التجار، قال: أتبيع هذه الثياب؟ قلت: نعم فأخذ منها خمسةٌ وقال: بكم الخمسة؟ فقلت: هي هدية مني إليك عقد صحبةٍ بيني وبينك ففرح بها ثم جئت إلى بيتي وأخذت له ملبوساً مرصعاً بالجواهر واليواقيت قيمته ثلاثة ألاف دينارٍ وتوجهت به إليه فقبل مني ثم أخذني ودخل بي حجرةً في داخل القصر وقال: ما اسمك بين التجار؟ فقلت له: رجلاً منهم فقال: قدر ابني أمرك فقلت: لماذا؟ قال: أنك أهديت لي شيئاً كثيراً ملكت قلبي به وقد صح عندي أنك أبو الحسن الخراساني أكثر الصيرفي، فبكيت يا أمير المؤمنين فقال لي: لم تبكي؟ فو الله التي تبكي من أجلها عندها من الغرام بك أكثر مما عندك من الغرام بها وأعظم وقد شاع عند جميع جواري القصر خبرها معك. ثم قال لي: وأي شيءٍ تريد؟ فقلت: أريد أنك تساعدني في بليتي فوعدني إلى الغد، فمضيت إلى داري، فلما أصبحت وتوجهت إليه ودخلت حجرته قال: أعلم أنها لما فرغت من خدمتها عند الخليفة بالأمس ودخلت حجرتها حدثتها بحديثك جميعه وقد عزمت على الاجتماع بك فاقعد عندي إلى آخر النهار فقعدت عنده.
فلما جن الليل إذا بالمملوك أتى ومعه قميصٌ منسوجٌ من الذهب وحلةٌ من حلل الخليفة فألبسني إياها وبخرني فصرت أشبه بالخليفة ثم أخذني إلى محلٍ فيه الحجر صفين من الجانبين وقال: هذه حجرة الجواري الخواص فإذا مررت عليها فضع على كل بابٍ من الأبواب حبةً من الفول لأنه من عادة الخليفة أن يفعل هكذا في كل ليلةٍ.
وفي الليلة الواحدة والستين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المملوك لما قال لأبي الحسن: فإذا مررت عليها فضع على كل بابٍ من الأبواب حبةً من الفول لأن من عادة الخليفة أن يفعل هكذا إلى أن تأتي إلى الدرب الثاني الذي على يدك اليمنى فترى حجرةً عتبة بابها من المرمر فإذا قدمت إليها فمسها بيدك أن شئت فعد الأبواب فهي كذا وكذا باباً فأدخل الباب الذي علامته كذا وكذا فتراك صاحبتك وتأخذك عندها، وأما خروجك فإن الله يهون علي فيه ولو أخرجك في صندوقٍ.
ثم تركني ورجع وصرت أمشي وأعد الأبواب واضع على كل بابٍ حبة فولٍ: فلما صرت في وسط الحجر سمعت ضجةً عظيمةً ورأيت ضوء شموع وأقبل ذلك الضوء نحوي حتى قرب مني فتأملته فإذا هو الخليفة وحوله الجواري ومعهن الشموع فسمعت واحدةً منهن تقول لصاحبتها: يا أختي هل نحن لنا خليفتان؟ على أن الخليفة قد جاز حجرتي وشممت رائحة العطر والطيب ووضع حبة الفول على حجرتي كعادته، وفي هذه الساعة أرى ضوء شموع للخليفة وها هو مقبلٌ. فقالت: أن هذا الأمر عجيب لأن التزيي بزي الخليفة لا يجسر عليه أحدٌ، ثم قرب الضوء مني فارتعدت أعضائي وإذا بخادمٍ يصيح على الجواري ويقول: ههنا، فانعطفوا إلى حجرةٍ من الحجر ودخلوا ثم خرجوا ومشوا حتى وصلوا إلى بيت صاحبتي فسمعت الخليفة يقول: حجرة من هذه؟ فقالوا: هذه حجرة شجرة الدر فقال: نادوها فنادوها فخرجت وقبلت أقدام الخليفة فقال لها: أتشربين الليلة؟ فقالت: أن لم يكن لحضرتك والنظر إلى طلعتك فلا أشرب فأنني لا أميل إلى الشراب في هذه الليلة، فقال للخازن: ادفع لها العقد الفلاني.
ثم أمر بالدخول إلى حجرتها فدخلت بين الشموع وإذا بجاريتها أمامهم وضوء وجهها غالبٌ على ضوء الشمعة التي بيدها فقربت مني وقالت: من هذا؟ ثم قبضت علي وأخذتني إلى حجرةٍ من الحجر وقالت لي: من أنت؟ فقلبت الأرض بين يديها وقالت لها: أناشدك الله يا مولاتي أن تحقني دمي وترحميني وتتقربي إلى الله بانقاذ مهجتي وبكيت فزعاً من الموت، فقالت: لا ريب أنك لصٌ؟ فقلت: لا والله ما أنا لصٌ فهل ترين علي أثر اللصوص؟ فقالت: أصدقني خبرك وأنا أجعلك في أمانٍ، فقلت: أنا جاهلٌ أحمقٌ قد حملتني الصبابة وجهلي على ما ترين مني حتى وقعت في هذه الورطة، فقالت: قف هنا أجيء إليك.
ثم خرجت وجاءتني بثياب جاريةٍ من جواريها وألبستني تلك الثياب في تلك الزاوية وقالت: تعال خلفي فمشيت خلفها حتى وصلت إلى حجرتها وقالت: ادخل هنا فدخلت حجرتها فجاءت بي إلى سريرٍ وعليه فرشٌ عظيمٌ وقالت: أجلس لا بأس عليك أما أنت أبو الحسن الخراساني؟ قلت: بلى قالت: قد حقن الله دمك أن كنت صادقاً ولم تكن لصاً فأنك تهلك لا سيما وأنت في زي الخليفة ولباسه وبخوره، وأما أن كنت أبا الحسن الخراساني الصيرفي فأنك قد أمنت ولا بأس عليك فأنك صاحب شجرة الدر التي هي أختي فأنها لا تقطع خبرها عنك أبداً وتخبرنا كيف أخذت منك المال ولم تتغير وكيف جئت وراءها إلى الشاطئ وأومأت لها إلى الأرض تعظيماً وفي قلبها منك الحب أكثر مما في قلبك منها، ولكن كيف وصلت إلى ههنا بأمرها أم بغير أمرها بل خاطرت بنفسك وما مرادك من الاجتماع؟ فقلت: والله يا سيدتي أني أنا الذي خاطرت بنفسي وما غرضي من الاجتماع بها إلا النظر والإستماع لحديثها فقالت: أحسنت فقلت: يا سيدتي الله شهيد على ما أقول أن نفسي لم تحدثني في شأنها بمعصيةٍ، فقالت: بهذه النية نجاك الله ووقعت رحمتك في قلبي، ثم قالت لجاريتها فلانه: أمضي إلى شجرة الدر وقولي لها: أن أختك تسلم عليك فتفضلي عندها في هذه الليلة على جري عادتك فأن صدرها ضيقٌ.
فتوجهت إليها ثم عادت وأخبرتها أنها تقول: متعني الله بطول حياتك وجعلني فداك الله لو دعوتيني إلى غير ما توقفت لكن يضرني صداع الخليفة وأنت تعلمين منزلتي عنده، فقالت للجارية: أرجعي إليها وقولي لها: أنه لا بد من حضورك لسرٍ بينك وبينها، فتوجهت إليها الجارية وبعد ساعةٍ جاءت الجارية ووجهها يضيء كأنه البدر فقابلتها واعتنقتها وقالت: يا أبا الحسن أخرج إليها وقبل يديها.
وكنت في مخدعٍ في داخل الحجرة فخرجت إليها يا أمير المؤمنين فلما رأتني ألقت نفسها علي وضمتني إلى صدرها وقالت لي: كيف صرت بلباس الخليفة وزينته وبخوره؟ ثم قالت: حدثني بما جرى لك، فحدثتها بما جرى لي وبما قاسيته من الخوف وغيره فقالت: يعز عليَّ ما قاسيته من أجلي والحمد لله الذي جعل العاقبة إلى السلامة وتمام السلامة دخولك في منزلي ومنزل أختي.
ثم أخذتني إلى حجرتها وقالت لأختها: أني قد عاهدته أن لا أجتمع معه في الحرام ولكن كما خاطر بنفسه وارتكب هذا الهول لأكونن أرضاً لوطء قدميه وتراباً على نعليه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والستين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت لأختها: أني قد عاهدته أني لا أجتمع معه في الحرام ولكن كما خاطر بنفسه وارتكب هذه الأهوال لأكونن أرضاً لوطء قدميه وتراباً لنعليه، فقالت لها أختها: بهذه النية تجاه الله تعالى فقالت: سوف ترين ما أصنع حتى اجتمع معه في الحلال، فلا بد أن أبذل مهجتي في التحيل.
فبينما نحن في الحديث وإذا بضجةٍ عظيمةٍ فالتفتنا فرأينا الخليفة قد جاء يريد حجرتها من كثرة ما هو كلفٌ بها فأخذتني يا أمير المؤمنين ووضعتني في سردابٍ وطبقته علي وخرجت تقابل الخليفة فلاقته ثم جلس فوقفت بين يديه وخدمته ثم أمرت بإحضار الشراب، وكان الخليفة يحب جاريةً اسمها البنجة وهي أم المعتز بالله وكانت الجارية قد هجرته وهجرها فلعز الحسن والجمال تصالحه والمتوكل لعزة الخلافة والملك لا يصالحها ولا يكسر نفسه لها مع أن في قلبه منها لهيب النار ولكنه تشاغل عنها بنظائرها من الجواري والدخول إليهن في حجراتهن، وكان يحب غناء شجرة الدر فأمرها بالغناء وتناولت العود وشدت الأوتار وغنت بهذه الأشعار:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينهـا فلما انقضى ما بيننا سكن الدهـر
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى وزرتك حتى قيل ليس له صبـر
فيا حبها زدني جـوىً كـل لـيلةٍ ويا سلوة الأيام موعدك الحشـر
لها بشرٌ مثل الحرير ومنـطـقٌ رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
وعينان قال الله كونا فـكـانـتـا فعولان بالألباب ما يفعل السحـر
فلما سمعها الخليفة طرب طرباً شديداً وطربت أنا يا أمير المؤمنين في السرداب، ولولا لطف الله تعالى لصحت وافتضحنا، ثم أنشدت هذه الأبيات:
أعانقه والنفس بعـد مـشـوقةٌ إليه وهل بعد العنـاق تـدانـي
وألثم فاه كي تزول حـرارتـي فيشتد ما ألقى من الـهـيمـان
كأن فؤادي ليس يبري غلـيلـه سوى أن ترى الروحان يمتزجان
فطرب الخليفة وقال: تمني عليَّ يا شجرة الدر فقالت: أتمنى عليك عتقي يا أمير المؤمنين لما فيه الثواب فقال: أنت حرةٌ لوجه الله تعالى فقبلت الأرض بين يديه فقال: خذي العود وقولي لنا شيئاً في شأن جاريتي التي أنا متعلقٌ بهواها والناس تطلب رضاي وأنا أطلب رضاها، فأخذت العود وأنشدت هذين البيتين:
أيا ربة الحسن التي اذهبت نسكي على كل أحوالي فلا بد لي منك
فأما بذل وهو أليق بـالـهـوى وأما بعزٍ وهو أليق بالـمـلـك
فطرب الخليفة وقال: خذي العود وغني شهراً يتضمن شرح حال مع ثلاث جوار ملكن قيادي ومنعن رقادي وهن: أنت وتلك الجارية أهاجرة وأخرى لا أسميها لها مناظرة، فأخذت العود، وأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:
ملك الثلاث الغانيات عنانـي وحللن من قلبي أعز مكـان
ما لي مطاوع في البرية كلها وأطيعن وهو في عصيانـي
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه غلبن أعز من سلطاني
فتعجب الخليفة من موافقة هذا الشعر لحاله غاية العجب ومال به إلى مصالحة الجارية الهاجرة الطرب ثم خرج وقصد حجرتها فسبقته جاريةٌ وأخبرتها بقدوم الخليفة فأستقبلته وقبلت الأرض بين يده ثم قبلت قدميه فصالحها وصالحته. هذا ما كان من أمره.
وأما ما كان من أمر شجرة الدر فأنها جاءت إلي وهي فرحانةٌ وقالت: أني صرت حرةً بقدومك المبارك ولعل الله يعينني على ما أدبره حتى اجتمع بك في الحلال فقلت: الحمد لله.
فبينما نحن في الحديث وإذا بخادمها قد دخل علينا فحدثناه بما جرى لنا فقال: الحمد لله الذي جعل آخره خيراً ونسأل الله أن يتم ذلك بخروجك سالماً فبينما نحن في الحديث وإذا بالجارية أختها وقد جاءت وكان اسمها فاتر فقالت: يا أختي كيف نعمل حتى نخرجه من القصر سالماً فأن الله تعالى منَّ علي بالعتق وصرت حرةً ببركة قدومه فقالت لها: ليس لي حيلةٌ في خروجه إلا بأن ألبسه ثياب النساء ثم جاءت ببدلةٍ من ثياب النساء فألبستني إياها ثم خرجت يا أمير المؤمنين في ذلك الوقت فلما جئت إلى وسط القصر إذا بأمير المؤمنين جالسٌ والخدم بين يديه فنظر إلي وأنكرني غاية الإنكار وقال لحاشيته: اسرعوا ائتوني بهذه الجارية فلما أتوا بي رفعوا نقابي فلما رآني عرفني وسألني فأخبرته بالخبر ولم أخف عليه شيئاً فلما سمع حديثي تفكر في أمري ثم قام من وقته وساعته ودخل حجرة شجرة الدر فقال: كيف تختارين علي بعض أولاد التجار؟ فقلبت الأرض بين يديه وحدثته بحديثها من أوله إلى آخره على وجه ثم انصرف ودخل عليها خادمها وقال: طيبي نفساً أن صاحبك لما حضر بين يدي الخليفة سأله فأخبره كما أخبرته حرفاً بحرفٍ ثم رجع الخليفة وأحضرني بين يديه وقال: ما حملك على التجارة على دار الخلافة؟ فقلت: يا أمير المؤمنين حملني على ذلك جهلي والصبابة والإقبال على عفوك وكرمك ثم بكيت وقلبت الأرض بين يديه فقال: عفوت عنكما ثم أمرني بالجلوس فجلست فدعا بالقاضي أحمد ابن أبي داؤد وزوجني بها وأمر بحمل جميع ما عندها إلي وزفوها علي في حجرتها.
وبعد ثلاثة أيامٍ خرجت ولقيت جميع ذلك إلى بيتي فجميع ما تنظره يا أمير المؤمنين في بيتي وتنكره كله من جهازها ثم أنها قالت لي يوماً من الأيام: اعلم أن المتوكل رجلٌ كريمٌ وأخاف أن يتذكرنا أو يذكرنا عنده أحدٌ من الحساد فأريد أن أعمل شيئاً يكون فيه الخلاص من ذلك قلت: وما هو؟ قالت: أريد أن استأذنه في الحج والتوبة من الغناء فقلت لها: نعم الرأي الذي أشرت إليه فبينما نحن في الحديث وإذا برسول الخليفة قد جاء في طلبها لأنه كان يحب غناءها فمضت وخدمته فقال لها: لا تنقطعي عنا فقالت سمعاً وطاعةً فاتفق أنها ذهبت إليه في بعض الأيام وكان قد أرسل إليها على جري العادة فلم أشعر إلا وقد جاءت من عنده ممزقة الثياب باكية العين ففزعت من ذلك، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون وتوهمت أنه أمر بالقبض علينا فقلت لها: هل المتوكل غضب علينا؟ فقالت: وأين المتوكل؟ أن المتوكل قد انقضى حكمه وانحى رسمه فقلت: أخبريني بحقيقة الأمر فقالت له: أنه كان جالساً خلف الستارة يشرب وعنده الفتح بن خافان وصدقة بن صدقة فهجم عليه ولده المنتصر هو وجماعته من الأتراك فقتله وانقلب السرور بالشرور والخد الجميل بالبكاء والعويل فهربت أنا والجارية وسلمنا الله. ثم قمت في الحال يا أمير المؤمنين وانحدرت إلى البصرة وجاءني الخبر بعد ذلك بوقوع فتنةٍ بين المنتصر والمستعين فخفت ونقلت زوجتي وجميع مالي إلى البصرة. وهذه حكايتي يا أمير المؤمنين لا زدتها حرفاً ولا نقصتها حرفاً فجميع ما نظرته في بيتي يا أمير المؤمنين مما عليه اسم جدك المتوكل هو من نعمته علينا لأن أصل نعمتنا من أصول الأكرمين وأنتم أهل النعم ومعدن الكرم ففرح الخليفة بذلك فرحاً عظيماً وتعجب من حديثه ثم أخرجت للخليفة الجارية وأولادي منها فقبلوا الأرض بين يديه فتعجب من جمالها واستدعى بدواة وقرطاس وكتب لنا برفع الخراج من أملاكنا عشرين سنةً ثم خرج الخليفة واتخذه نديماً إلى أن فرق الدهر بينهم وسكنوا القبور بعد القصور وسبحان الملك الغفور.