محمد أبو المعاطي أبو النجا - (دموع). قصة قصيرة

للقصصي الشاب أبو المعاطي أبو النجا



لا شيء، لا شيء، غير أن الأقدار أرادت أن تسخر فلم تجد غيري لتسخر منه، أو أنها أرادت أن تمثل مأساة ساخرة فلم تجد غير قلبي مسرحا يصلح للتمثيل!!

لا شيء غير ذلك؛ وإذا لم تصدقني فأستمع قصتي. . .

كانت أواصر القرابة الوثيقة هي التي تجعلني أتردد على منزل (فتحية)، وكانت نفحات جمالها الساحر هي التي تجعلني أكثر من هذا التردد. . ولم يكن جمالها وحده هو سر تلك الجاذبية التي تنفرد بها عن سائر الفتيات، والتي تجعلها أملاً حلواً يخطر في قلوب الشباب. . . ولكن شيئا آخر هو الذي جعلها كذلك. . . شيئا آخر يتمثل في عذوبة الروح وخفة الظل ورشاقة التكوين لم أكن ألقاها حتى أشعر بأن في عينيها بحيرة هادئة ضل فيها زورق السعادة، فهو لا يفتأ يروح ويجيء ى يعثر على الشاطئ المنشود. . . أما ثغرها الحلو الفاتن فكأنما عشقته البسمات فهي لا تزال تعانقه في شغف ملح دائم. . .

وكان يكفي إن تتكلم حتى تود أن تستحيل كل جوارحك إلى آذان مرهفة كي تسمع كل ما تقول من كلمات!! كلما ما كان أبرعها في ابتعاث الضحكات من الشفاء، وما كان أروعها حين تتناول بالتعليق شخصية من الشخصيات أو حادثة من الحوادث. . .

لا أظنك تدهش إذن حين تعرف أنني كنت دائما أحرص على أن ألقاها مفتعلاً لذلك أوهن الأسباب. . . وأنني كنت أتعمد أن أطيل معها الحديث وأن أظهر لها من ضروب الاهتمام وألوان الود ما جعلها تأنس بي وترتاح لرؤيتي وتغرقني معها في فيض ذاخر من المسرة والإمتاع.

ولكنك سوف تدهش من غير شك حين أؤكد لك أنني لم أكن أحبها. . . أجل يا صديقي لم أكن أحمل لها ذلك الشعور النبيل الجميل الذي يسمونه الحب. . . هذا الحب الذي كان يجب أن يبعثر كلماتي حين أتحدث إليها، وأن يشرد نظراتي حين أتحدث عنها، وأن يحيل حياتي إلى إطار جميل لا يبرر إلا صورتها الفاتنة هذا الحب يا صديقي لم أكن أكنه لها. هذه هي الحقيقة التي يسهل عليك وحدك أن تتصورها. تعرف يا صديقي أن قلبي لا يهتز لشيء في الوجود مثلما يهتز لرأي الدموع. . . إنها الدليل الفذ على أن القلب يملك رصيدا موفورا في دنيا المشاعر والأحاسيس، وأنه يمت إلى الإنسانية بأوثق الصلات. . . وتعرف أيضاً أن دموع المرأة هي المحراب الوحيد الذي يمنحه قلبي أخلص صلواته وأحر دعواته، ويقدم إليه من أحلامه أثمن القرابين

ولعلك تذكر أنني حين كنت أحدثك عن فتاة أحلامي كنت أطيل الحديث عن نظراتها المبللة بالدموع وعن قسماتها المغلفة بالأسى والشجن. . . كنت لا أخفى هيامي بالبسمات السائحة حين تفر في دروب الخجل، والكلمات الهامسة حين تختبئ في زوايا الصمت، والجمال الفاتن حين يبدو إلى العين في إطار حزين!! أظن أنه من السهل عليك الآن أن تتصور لماذا لم أكن أحبها. . لأنها في نظري فتاة فارغة؛ وهل تستطيع ضحكاتها المرحة اللاهية أن تحدد مكانتها في دنيا الشعور إلا كما تحدد رنات الطبلة الضخمة مكانها في دنيا الموسيقى؛ ومع ذلك فإنني كنت دائما أتعمد أن أطيل معها الحديث وأن أظهر لها من ضروب الود وألوان الاهتمام ما جعلها تأنس بي وترتاح لرؤيتي وتغرقني معها في فيض ذاخر من المسرة والإمتاع!!

ولا تعجب يا صديقي فأنا كما تعلم أطرق بعصا الشباب أبواب العشرين. . . والشاب في تلك السن يجد نوعا من الزهو وأنواعاً من اللذة حين تؤثره عذراء بالحديث وتخصه بالود وتعطر حياته بأنفاس سبابها الغض النضير

ومن هنا يا صديقي تدخل القدر ليجعل من تلك التسلية الساذجة غراما تحترق فيه القلوب ولا تجد ما يطفئها غير الدموع!

كان ذلك حين أراش (كيوييد) اللعين سهمه الطائش إلى قلب (فتحية) الفتاة التي عمر الزهور. . وفتحت المسكينة عينيها لتراني فتاها المحبوب وهواها المأمول ورجاءها الباسم!!

وفتحت أنا عيني لأرى وجهها الجميل تلك الخميرة الخفيفة التي هي أشهى ما تقدم المرأة على مائدة الشباب. وأرهفت أذني لأسمع في صوتها المرح تلك الربكة الظاهرة التي هي أصدق ما تقول المرأة في قصة الحب.

وفتحت عيني مرة أخرى على قلبي فإذا به هادئ ليس كهذه القلوب التي يهزها الحب ويذبلها الغرام

وهنا يا صديقي أغمضت عيني حتى لا أرى المصير المظلم الذي ينتظر المسكينة هناك في نهاية الطريق!

ماذا تريدني أن أقول بعد ذلك؟

اقسم لك أنني ما أحسست بالألم الممض العميق مثلما أحسست به وأنا أراها تحت خطى الأحلام في صحراء الوهم وتنثر حبات الأمل في حقول الخيال!!

كنت أعرف أنني الدليل الخادع الذي يقود تلك القافلة من الأحلام نحو المصير المجهول. . .

كنت أحس لنظراتها التي يرتع فيها الأمل ولكلماتها التي يخفق فيها الحنان ولبسماتها التي تنبض فيها السعادة. . . كنت أحس لكل أولئك وخز الإبر ووقع السياط

وما اعنف الآلام يا صديقي حين يقدمه إلى القلب ثغر يبتسم، أو عين تختلج، أو أمل يخطر في قلب عذراء.

كان يجب أن أضع حداً لهذه المهزلة وأن أجد حلا لهذه القصة يخرج بها عن دائرة المأساة. . . كنت أعلم أن كل يوم يمضي جناية لا تغتفر في حق هذه الأحلام العذراء. . . هذه الأحلام التي تنسج خيوطها على نول الأوهام!

حاولت أن أخرج من حياتها برفق ولكن قلبها كان ساحراً فلم يترك باباً واحداً أخرج منه، وحاولت أن أحبها وأن أفتح لها أبواب قلبي وروحي، ولكن قلبي كان عنيدا فلم يترك لها باباً واحد منه تدخل!!

لم يكن هناك غير باب واحد كنت أعلم أن الضوء الذي سينفذ منه سوف يوقظ من غير شك تلك النائمة في فراش الأوهام. كان ذلك حين قابلتها ذات صباح وأنا أضغط على أعصابي حتى لا أرتعش، ورحت أقول لها في صوت تعثرت حروفه وهي تنطلق بين شفتي. . . يا لك من صديقة مهملة لا تعرف حقوق الأصدقاء! فأجابت في لهفة كيف ذلك؟ فقلت وأنا أنظر إلى الأرض حتى لا أرى أثر الصدمة على قسماتها البريئة. . . لماذا لم تأت ليلة أمس لتهنئتي؟! ألم تعلمني أني خطبت (. . .) بنت عمي. وحين رفعت وجهي رحت أحملق فيها بذهول غريب. . . كانت شيئا آخر لا يمت إلى الفتاة الأولى بصلة. . .

العيون التي كنت أرى فيها بحيرة هادئة ضل بها زورق السعادة ماذا بها؟ لكأن الزورق عثر على الشاطئ المنشود وخلف البحيرة الهادئة تصخب بأمواج الدموع!

الثغر النشوان الذي عشقته البسمات ما له ينتقض كأنه جناح طائر خضبه دم السكين!!

أين يا رب ذهبت فتحية الأولى؟ ومن أين جاءت تلك الأخرى؟ أجل تلك الأخرى لم أرها من قبل! أوه لم أرها من قبل؟ ذاك محض افتراء. أنني رأيتها، أجل رأيتها ولكن أين كان ذلك؟ أفي الحلم؟ أم في اليقظة؟ أم في الخيال؟. . . آه يا رب أنها هي. . . فتاة أحلامي التي كنت أصفها في الخيال تلك التي كانت تقف دائما وراء قلبي لا تترك الفتاة الأولى تدخل فيه. . .

العيون المبللة بالدموع، القسمات المغلفة بالأسى والشجن، الجمال الفاتن حين يبدو إلى العين في إطار حزين. . . كل ذلك أصبح الآن أمامي يهز قلبي في عنف. . . ولكنني لا أستطيع أن لأمد يدي إليه. . . يدي التي كانت منذ لحظات توصد أمامه أبواب الأمل. . لم أفق من تأملاتي الثائرة إلا حين أرادت هي أن تنفلت في هدوء وهي تتمتم بصوت جريح مبروك. . . مبروك. . . حاولت عبثا أن أستبقيها بين ذراعي وأنا أهتف بها كالمجنون أقسم لك أنني أحبك. . . أحبك: ولكن أعظم قوة في الوجود لا تستطيع أن تقنعها بأنني أحبها، ولست أعطف عليها فقط وإلا؛ فما الذي دفعني إلى هذا المسلك؟!

وهكذا ترى أنني حين حاولت أن أستبقيها بين ذراعي كنت أشبه بمجرم يحاول أن ينكر اعترافه أمام حبل المشنقة. . . لقد ذهبت يا صديقي وخلفتني وحدي لأقول نفس القافلة إلى المصير المجهول، ولأهمس في أذنيك هذا الهمس الحزين: لاشيء، لا شيء غير أن الأقدار أرادت أن تسخر فلم تجد غيري لتسخر منه، أو أنها أرادت أن تمثل مأساة ساخرة فلم تجد غير قلبي مسرحا يصلح للتمثيل. . .

محمد أبو المعاطي أبو النجا



مجلة الرسالة - العدد 902
بتاريخ: 16 - 10 - 1950




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...