محمد البساطي - عطـر خفيف.. قصة قصيرة

في كل مرة تذهب للقائه تأخذني معها، أسمع صوتها في الصالة تطلب من أمي أن أصحبها.

تضحك أمي وتسألها عمّا ستشتريه؟

تقول: خيط تريكو، أو صوف، أو متري قماش حرير لبلوزة.

وتسألها أمي: من أين ستشترين؟

وتقول: من العتبة، فالأسعار بها أرخص كثيراً.

أوضحت فيما بيننا أنها تقول العتبة لأنها الأبعد، مما يسمح لنا بالتغيب ساعتين أو ثلاثا.

تقول أمي: خذيه يا أختي.

تأتي إلى حجرتي لتختار ما ألبسه، تقف أمام الدولاب تقلب متعجلة في ملابسي، تعطيني البنطلون والقميص والشراب، وتقذف لي بغيار وتستدير حتى أنتهي من لبسه. تمشط شعري وتضع لمستين من زجاجة عطرها حول أذني ورقبتي، تحدّق في عيني، شحوب وجهها، نظرتها القلقة، تقرصني في خدي.

لدى خروجنا أرى باب شقتها مفتوحاً وأمها تقف بالمدخل وكأنما تنتظرها. تقول:

- لا تتأخري.

وتغلق الباب.

تهمس لي ونحن في الشارع الواسع بأننا ذاهبان إليه. تستقر عيناها لحظة على وجهي ثم توسع من خطوتها.

كنت في الثامنة، وأستطيع أن أرعى نفسي في الطريق، غير أنها لا تترك يدي.

في الترام الذي كنت أفضّله عن الأوتوبيس تجلسني بجوار النافذة كما أحب، هي بجواري شاردة أحياناً، تغمغم بكلام لا أسمعه، وتقول فجأة:

- سينتظر. حتى لو تأخرنا.

وتقول إنها في كل مرة تحاول أن تبكّر في الخروج، غير أن أمها دائماً ما تشغلها بشيء بعد أن تكون استعدت.

تتمهل بمدخل الكازينو، تسوي شعرها وصدر البلوزة أو الفستان، ترمقني وكأنما ستقول شيئاً، ولا تقول، أنظر معها إلى المناضد المصفوفة بجوار السياج المطل على النيل، ألمحه هناك ساكناً، منطوياً ينظر إلى المياه، أحياناً ينتبه قبل أن نصل إليه. يومئ لنا، وتدب الحركة في جسده، ويداه تتأهبان على سطح المنضدة، هي بجواري تفلت يدي، تنقل حقيبتها الصغيرة إلى اليد الأخرى، ثم تعلقها بكتفها، وتكون سبقتني بخطوتين، يحلو لي لحظتها أن أبطئ من مشيتي، تلتفت إليّ ولا تراني، ثم تراني، الدهشة التي تبدو في عينيها، ضحكتها الصامتة، وجهها المتألق، ثم تحلق نظرتها فوقي، وأسرع إليها.

يقفان في صمت، يتبادلان النظرات خطفاً ويطرقان، ابتسامة صغيرة تظهر وتختفي على وجهيهما، يكاد يقول شيئاً ثم يمسك، تتحسس ظهر مقعدها وتجلس. كان ولداً كبيراً له شارب خفيف، يتلفت باحثاً عن الجرسون، ويقترب بمقعده منها، يخرج من كيس معه لعبة الألغاز، اللعبة التي لم أفلح أبداً في حلّها، وكان يأخذها دائماً في عودته، أجلس باللعبة إلى منضدة غير بعيدة عنهما، أحاول معها مرة أخرى.

الشمس خفت حدّتها مع مقدم الغروب، وزحفت بعيداً عن المقاعد، وتألقت ألوان أشعتها على سطح الماء، يأتيني الجرسون بكأس كبيرة من الآيس كريم، أزيح اللعبة جانباً، أنصت لهمسهما وضحكاتهما، يحكي لها عن الفيلم الذي شاهده من يومين هو وأصحابه، وتحكي عن المسلسل الذي تراه في التلفزيون، أمها تحب المسلسل كثيراً، وتستعد لمجيئه بأطباق المسليات ووجبات خفيفة، وأبوها النافر منه يحرص على مشاركتهم، ولا يكف عن التعليق على أحداثه.

ويحكيان عن الأطعمة التي يحبّانها وما تجيده من طهيها، قال يوماً إنه يفضّل عصير البرتقال عن أي عصير آخر.

ابتسمت وأصابعها تدير الكوب، وقالت إن عصير الجزر أفضل.

وقال: إنه بمجرد أن تتعود عليه لن ترغب في غيره.

قالت: إن طعمه لاذع ولا تطيقه.

وقال: إنها المرات الأولى فقط.

قالت: إن أمها تعد عصير الجزر لأبيها في الصباح أثناء الفطور، عندهم عصارة، وعندهم أيضاً عصارة برتقال لا يستخدمونها.

أختلس النظر إليهما وقد طال صمتهما. ألمحه متكئاً على كوعيه وعيناه على وجهها، هي خافضة بصرها تبتسم، وأصبعها تتحسس نقوشاً مطرّزة بمفرش المنضدة، تقترب يده، تتحسس أيضاً النقوش، تتلامس أناملهما، تنقبض أصابع يدها، تظل أصابعه بجوارها مترقّبة.

يسألها إن كانت ستذهب معه يوماً إلى السينما؟

تقول إنها لا تستطيع فهي تخرج بالعافية.

يسألها: لم لا تغيب يوماً عن المدرسة؟

تهز كتفها، تستدير لتنظر إلى النهر، تقول أن أهلها سيعرفون، إن لم يكن من المدرسة فمن زميلات لها.

وتكون يدها اختفت في قبضته. يقول: إنه مجرد عام وتلحق به في الجامعة، وساعتها يتلاقيان براحتهما.

تسحب يدها. تلتفت باحثة عني، وتقول إن الوقت تأخر.

ويقول: إنها دائماً تقول ذلك ولم تمض الساعة.

يرجع بظهره إلى مسند المقعد مستديراً إلى النهر.

يداها في حجرها تنظر إليه. تقول إن الأمر لو بيدها لما تركته.

هو صامت يتبع بعينيه مركباً تبتعد.

وتقول إنها في المرة القادمة ستأتي مبكّراً.

يسند قدميه إلى السياج ويخرج علبة سجائر من جيبه.

تقول: إنه وعدها ألاّ يدخّن.

العلبة في يدها لم يفتحها، ثم يفتحها.

تنهض، تقول: إنها ذاهبة.

تعطيه ظهرها وعيناها تبحثان عني، وأكون وقفت بجوارها، ألمس يدها، تنتبه لوجودي.

يلحق بنا بعد أن ابتعدنا قليلاً، يسيران متجاورين، تسعى يده لتمسك يدها فتبعدها.

يظل واقفاً بمدخل الكازينو إلى أن نعبر الشارع ثم يمضي.

في عودتنا، تشتري ما تريده من أقرب محل ونستقل الترام.

ما نكاد ندخل البيت ونصل إلى بسطة السلم الأولى حتى تنحني وتضمني بشدة إلى صدرها، وجهها الساخن ملتصقاً بخدّي، تقبّلني مرة وأخرى ثم نواصل صعودنا.


محمد البساطي
يناير 2001

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...