يدي المرتعشة كقلبي تفتح الخزائن المهجورة، تبعثر الأشياء، تبحث عن بقشة قديمة ترقد فيها تلك التي بيني وبينها عداوة شديدة. منذ أن حملها أبي بلونها الأسود الكريه. كنت في أول فرحي بتفتح الورد ورءوس الـرمّان. كز على أسنانه حين لاحظ امتعاض وجهي وحزنه، وخرج صوته خشنا:
- كبرت. ويجب أن ترتديها!
ليلتها بكيت. ظللت أرمقها مكومة فوق الأريكة بجانب حقيبتي المدرسية تنازعنى الرغبة أن أمزقها بأسناني، أو أقرضها كما يقرض الفار الليلي بابنا الخشبي. لكن وجه أبي يقفز بالأمر الأسود. فألجم نفسي، أتوسد وأنام، وأحلم أنني تحولت خفاشا أسود.
في الصباح ارتديتها وكأنها كفن يعلن موتي. تعثرت فيها ألف مرة قبل أن أصل باب المدرسة فوجئت بي زميلاتي وهزئن لمنظري الجديد.
***
أكثر من عشرين سنة قاطعتها، تحررت من أسرها، واليوم أبحث عنها بكراهية تتضاعف. بين الأشياء وجدتها مكرمشة تفوح منها رائحة طفولتي وصباي الجميل المفروم تحت سطوة العصا، استللتها. لففت بها جسدي وكأنني مازلت تلك "الغنمة" التي يجب أن تحرس أثداءها عن أعين الرجال. هرولت إلى الباب، ما كدت أفتحه حتى انتصب بيني وبين الفضاء الحزين:
- إلى أين؟؟
- سأخرج.
أغلق الباب. فأحسست قبرا يوصد فوق جثتي:
- ليس اليوم.
صرخت:
- ثلاثة أيام مضت. لابد أن أخرج.
حاول منعي، واتتني قوة، دفعته، شدني محاولا أن يلم نثار غضبي وإصراري، فكررت صرختي:
- سأخرج.
سد الباب بطوله وصدره الذي نسيت أنه يخصني. قذفت برفضه، دككت صدره وزاد صراخي، زفر ضعفه أمام قوتي وتنحى عن الباب:
- أنت مسئولة عن جنونك.
***
فتحت الباب وانطلقت، تعثرت بالعباءة قبل أن أصل السيارة وأجلس خلف المقود، كببت رأسي عليه وقد فاجأني إحساس باليتم الكبير، التحفني حتى عظمي: هل مات وطني؟ هل مات كل شيء؟ حلم عروستي التي لأجلها أفرغنا البيت من المئونة وملأناه بحقائب السفر. لم يبق سوى المجهول الذي سنجتر بدروبه ذكريات حلوة قديمة لمدينة الحب.
ما أن خرجت إلى الشارع العام حتى صدمني المنظر. سيارات متصادمة، وأخرى تطير مجنونة لا تلتزم بإشارات المرور التي انحنى بعضها وسقط بعضها الآخر. هرج غريب. ووجه مدينتي شاحب كوجه أرملة وحيدة. كل شيء أسود. كل الوجوه ارتدت حواجز سـوداء. أطلق الرجال لحاهم وارتدت النساء "بوشيات" تلتصق بالأنـوف المبللة كأنفي بالدموع. عباءات توحّد فيها الحزن. وجوه سوداء لغرباء يتوزعون محمّلين بسلاحهم الأكثر سوادا. حواجز. غير مألوفة، حاجز يقذفني إلى جحيم حاجز. وجوه لا أجرؤ أن أرفع نحوها بصري خشية ينتصر حقدي، وأبصق عليها فأموت. عبارات كانت بالأمس تمس المشاعر بحنان، واليوم تخرق الأذن وتخدش غشاء القلب. أسئلة غريبة، وامتهان للكرامة، وشجـب للـدموع وطيوف الحزن الرابضة في الوجه.
***
ليس هو وجـه مدينتي، وجـه غريب عني. يتحول أمامي عينا واحدة تبكي فأتمنى لو أشرب دمعها وألقحها بالفرح. لكن الفرح فر. وحـده الموت قـد يأتي في أي لحظة، وصوته بغضب يأتيني: "ستموتين يا مجنونة".
بشهية انتفضت رغبتي للموت. أنا التي أكره مجرد سماعه، اليأس هو المنتصر الوحيد في اللحظة. لو أموت الآن لأنسى الواقع المر!!
الطريق الأسود يواصل قذفي نحو الحواجز والأسئلة والتفتيش. تلوح الجمعية التعاونية، الطريق إليها مغلق، أركن سيارتي عند الدوار. أمشي وعباءتي التي لم تتآلف وجسدي تتطاير. أحسها تتمزق، تصرخ، تصنع الروائح الغريبـة. أصوات طلقات تأتي من البعيـد. أتوقع الموت.. ظهري مكشوف للمجهول، ووجهي نحو مبنى الجمعية. وصلت الساحة. مشهد غريب رج ذاكرتي باتجاه ساحة في مدينتي القديمة أيام- عاشوراء- المكللة بالحزن وبالسواد. حشـد النساء المنتظرات مفجع. أطفال زرع الرعب أشواكه الصفراء على براءة وجـوههم. سؤالات في العيون تخشى أن تترجم أو تتنفس فتموت. حـداد. صلوات صامتـة تصب في طوابير الصبر إلى أن يفتح باب الجنة الذي تصلب أمامه جنود اشرأبت رشاشاتهم كوجه عزرائيل. قلوب صابرة. أقدام صابرة. محاصرة بالقهر. ألف "حسن وحسين" مقتـولـون بلا ذنب. ولا أحـد يصرخ ويرفع السيف. فقط بكاء صامت، وبركان حزني يتفجر. خـرج نشيجي عاليـا مثل العواء. صوت عجوز بقربي:
- يا بنتي ما يفيد البكاء. الشكوى لله.
لون عينيها المقهور يضـاعف شجني، هسيس اليباس في شفتيها يذيقني طعـم العلقم. ارتجاف الأطفال يعيدني طفلة مرتعشة أمام أبي وعصاه الثخينة وصوته الغاضب:
- الضرب يوجعكـم ويبرى، وبعد الضرب تلقون الصلاحا.
مـا أحـلاه يسقط وردا على جسـدي، وينبت أدبـا حسـدتني عليه كل زميلات الفصول. من الذي يؤدبنـا اليوم؟ وهذا القصاص تحت شمس آب اللاهبة ينضح عرق الأجساد فتفوح رائحـة مقابر وأكفـان وأنفاس أموات فزعين.
- ماذا ننتظر؟؟
صوت امرأة يتملل. وإجابة تكسر حواجز القلب:
جنودهم في الداخل ينهبون، ونحن كلاب الأسياد بانتظار الفتات.
فتـات؟؟ مـاذا سأجلب إلى البيت؟ اعتـدت أكتب لائحة بالأشياء الضرورية.
اليوم لا تفيد اللوائح. وأي "فتات" ألقاه سيكون ضروريا. البيت خال تماما من المواد الغذائية. هو الجوع قادم.
اشتعل أمامي حريق بيروت بأعنف مشاهده. فزع تحت قصف الرصاص. سيقان الأطفال المتراكضـة نحو مأوى حائط متهتك أو ربما برميل ماء صدىء. موت. دم مرشـوش فوق الحوائط المليئة بالشعـارات. أكـوام القمامات يتراكم فوقها الذباب وأيـدي العجائز هاج بها الجوع تبحث عن فتات يسكت العراك.
صوتها من عمق ذاكـرتي ينبهني: "كل شيء قـابل للتلف. المعلبات أفضل الأشياء".
استعرضت الضروريات،"مـاء، معلبات، سكـر، حليب، أول الأشيـاء حليب الأطفـال،. أطفال بـيروت ناموا بلا حليب. أنّت حنجرتي بشهيق لافت. امتد عنقه يبحث عن مصـدر الصوت، ترك مكـانه، أقبل نحـوي، صرخ بلا رحمة:
- بنت الكلب. ليش الصراخ؟
انتفض حبي لأبي الذي أدبني:
- لا تشتم أبي!
- وأشتم أمك بعد.
شد على زندي الهشيم.
- عندك اعتراض؟ قولي.
تلاشت قوتي. استدرت بوجهي الجاهش عنه، بوقاحة مد كفـه ذات الأظافـر الطويلـة، سحب وجهي ناحيته، لمحت شرار عينيه:
- مو عاجبك الطابور؟؟
واتتني بعض شجاعة رغم ارتجاف أوصالي كلها:
- لم نعتد على الطوابير.
بغرور لا يليق به فتح شدقين أصفرين:
- جئنا لنعلمكم النظام.
قبل أن يبادر فمي بانبلاجة صغيرة كانت يد العجوز تقرصني فأبتلع لساني. حين تأكـد من خرسي غادرني وهمس العجوز يصلني:
- يا بنتي هذول ما يعرفون الرحمة.
كانت النسوة قد انتهزن فرصة ابتعاده عن البـاب وتدافعن نحوه. اقتحم زحامهن. رفع رشاشة، أطلق منه صرختين في الهواء. تبعثرت الخطوات والوجوه. تساقط من تساقط واهتزت الرموش المبللة بالوجع.
- نظام.. وإلا لن تدخل واحدة.
أذلاّء وقفنا، وصـوت الرصاص مـازال يصخب المكان.
***
جنود يخرجون محملين بالأكيـاس. عيوننا ترمق السرقات. أصواتهم تتـداخل وهم يقلبون بعض الأشياء يتساءلون عن كيفية استعمالها. أشياء لا يعرفونها. لم يروها من قبل. سيأكلون ما لا يؤكل. الجوع فّتاك. سيفتك بنا لو ظلوا ينهبون كل شيء. ببطء شديد يتحـرك الطابور. كل خطوة تترك أثرها ذلا ودمعا، وصلاة، وأدعية.
انفتح البـاب، تدافعنا والمشهد قـاس لا يـرحم. مثل الفئران توزعنا بين الأرفف التي فرغ أغلبها وبين الأشياء المتناثرة المدلوقة بسوائلها. أيدينا تتخاطف أي شيء تبقى لم يعد للذي فكرت به أية أهمية. يدي تأخذ ما يواجهها. أخضر ويابس كل شيء سيفيد. الحليب فقط يذكرني بنفسه معتمرا أصوات الطفلتين. أبحث بلهفة. أجد علبة مبعوجة. لا يهم وثانية. و.. يد تلكزني:
- خذي أكثر.
أهمس:
- أطفال آخرون يحتاجون.
- معك حق.. خذي طحين.
- ما أفعل به؟؟!
- قد نضطر نخبز في البيوت.
***
عطر الماضي. "التاوه" السوداء يشتعل لهب السعف تحتهـا ويـد زوجـة أخي تفـرش دائرة العجين. تبقبق وتستوي، ترفع القرص. تدهن وجه التاوه بقطعة الشحم وتأمرني:
- اخبزي!
أرتجف وصوتي:
- لا أعرف.
تفلع رأسي بطاسة الماء المتعكرة ببعض الطحين:
- تعلمي. ستخبزين ذات يوم.
خبزت. أحرقت التـاوه المشتعلة كفي وانتفخت أورام الماء فيهـا. تعلمت. آه يا زوجـة أخي القاسيـة، لكن الضرب يوجعكم.... وبعد الضرب....
***
ألتفت نحو المرأة:
- أين أجد الطحين؟
تنكش أغراضها. تشد كيسا:
- لن تجدي. خذي هذا.
رأفة تبكيني. أقبل كرمها بعيني. والممر يضيق بالعباءة والأطفـال وعـربات الأغراض الفقيرة. كـانت تلك الجمعية تشكو تكدس الأشياء، واليوم شبه عارية إلا من بقايا أيديهم الجشعة.
طابور آخر بانتظار المحاسبة. نظرات شامتة تصدر من عيون الجنود الموزعين يحرسون المكان- وحاميها حراميها - همهمات. بكاء مخنوق وتوسل أطفال:
- أريد " كاكا و"، حلاوة، علك.
تدحر الأمنيات. لا أولوية للحلوى. الشاي. السكر. الحليب. الغد يوم مجهول. تقع عيني على العربة التي أمامي. بعض ألـواح " الكت كات" الذائبة. أجرؤ أسألها بحزن:
- أين وجدت الكاكاو؟؟
مدفـوعة بحنـان رقيق. مدت كفها، سحبت لو حين، قدمتهما:
- خذي هذا.
أبيت رغم اشتهائي أن أسقطه في ثغر الصغـيرتين:
- شكرا. هذا حقك. أين أجده؟
ترقرق صوتها: - لن تجدي. خذي. عليهم بالعافية.
أشد على الذي أحلم أن أدسه في الثغـور التي عرفت طعم المر مبكـرا. أتابـع أيدي الرجال، والنساء تتبادل الأشياء. دغدغتني إيثارية الناس رغم حزني. كل يحتاج لأي شيء لكنه بيسر ومحبـة يقدمها للآخر. رائحة الحب شهية تبدد خوفي. تزف إلي بشرى روح الأسرة الواحدة التي كانت مجرد كلمات جوفـاء. الروح تتجسد ونحن في أيامنا الأولى من احتلالهم البغيض، أشعر أني قوية. أسحق ذلي، أتباهى بناسي ومشاعرهم. تلوح ابتسـامات واعدة بالتواصل، نخرج أفواجا، نتساعـد بأحمالنا حتى نصل موقع السيارات، تبادلنا أرقـام الهواتف، وعناوين البيوت والدعوات المفتوحة:
- لو احتجتم شيئا.
- نحتاج نسفك دمهم.
الخوف:
-هس. لهم آذان كلاب.
وجوه الشباب رغم المحنة والحداد تنطق بتعابير لا تخطئها العين. ألـوان أمل جديد تلوح. أتلفع ألـوانهم المرفوفـة كالرايـات قبل أن تدوسها الأقدام. أنسى زمن الساعات الأربع في طابور الانتظار الموحش.
حين دسست الأشيـاء في صنـدوق السيـارة، عزلت الكيس الذي يرقـد بداخله لوحا- الكت كـات- ووجها الصغيرتين يلوحان أمامي فرحين رغم الفزع بما سأجلب لهما. أدس نفسي داخل الفرن الحديد. وأنطلق.
***
حـاجزان. ثلاثة. احتملت سماجـة الأسئلـة. أرغب الفكـاك لأصل، لكن سيارة عسكـريـة تقطع الطريق. توقفت. نزل اثنان. صوت أحدهم آمرا:
- افتحي الصندوق.
هلع قلبي. الأمر لا يرد. المجهول بانتظاري. ضغطت الزر الأمـامي. انفتح الصندوق وصوت خشن يطرق سمعي حاقدا:
إعيال الكلب. "كل شي عدهم بالزراير".
رأساهما داخل الصندوق. هتافات فرح، وضحكات، في المرآة الجانبية لمحتهم ينقلون الأكياس. استفزني الفعل. خلعت اتـزاني. فتحت البـاب لكن أحـدهم قفـز من السيارة شاهرا رشاشه، رفس الباب كاد يكسر قدمي:
- وين؟
تنوء قوتي. يتقاطر ذلى:
- لو سمحت، هذي أغراض البيت.
أتى أمره مشحونا بالعنف:
- "أكلي تبن ولا تتحركين!! ".
تجمدت مرغمة، والنار تشب بضلوعي، ولهيبها ينضح من عيني. صفق غطاء الصنـدوق. وقلبي: "يارب ما يشوف الكت كات". طرق على ظهر السيارة:
- يا لله روحي.
حركت السيارة بخيبة. عيني تنظرهم في المرآة. كف أحدهم تلوح بلوح "الكت كات" وتقذفه إلى فمه. أقضم حسرتي. أحمل عمـري الجديـد. أصـب الغضب على الدواسـة. أمر على خمسة حواجز حجبت وجوهها دموعي المتجمدة قبل أن أصل البيت. أطرق البـاب. تواجهني العيون التي ابتلعت فزعها المتراكـم فرحـة بعودتي، نحوي انهمرت الصغيرتان:
- هل أحضرت لنا- كاكاو-؟؟
- أخذوا كل شيء.
أجهشت.
التفوا جميعهم حولي. احتضنوا حزني بهتاف قلوبهم. في لحظـة تحولت بين أحضـانهم طفلة يحتفلون بمولـدها الجديد بحلوى الفرح.
ليلى العثمان
ديسمبر 1993
- كبرت. ويجب أن ترتديها!
ليلتها بكيت. ظللت أرمقها مكومة فوق الأريكة بجانب حقيبتي المدرسية تنازعنى الرغبة أن أمزقها بأسناني، أو أقرضها كما يقرض الفار الليلي بابنا الخشبي. لكن وجه أبي يقفز بالأمر الأسود. فألجم نفسي، أتوسد وأنام، وأحلم أنني تحولت خفاشا أسود.
في الصباح ارتديتها وكأنها كفن يعلن موتي. تعثرت فيها ألف مرة قبل أن أصل باب المدرسة فوجئت بي زميلاتي وهزئن لمنظري الجديد.
***
أكثر من عشرين سنة قاطعتها، تحررت من أسرها، واليوم أبحث عنها بكراهية تتضاعف. بين الأشياء وجدتها مكرمشة تفوح منها رائحة طفولتي وصباي الجميل المفروم تحت سطوة العصا، استللتها. لففت بها جسدي وكأنني مازلت تلك "الغنمة" التي يجب أن تحرس أثداءها عن أعين الرجال. هرولت إلى الباب، ما كدت أفتحه حتى انتصب بيني وبين الفضاء الحزين:
- إلى أين؟؟
- سأخرج.
أغلق الباب. فأحسست قبرا يوصد فوق جثتي:
- ليس اليوم.
صرخت:
- ثلاثة أيام مضت. لابد أن أخرج.
حاول منعي، واتتني قوة، دفعته، شدني محاولا أن يلم نثار غضبي وإصراري، فكررت صرختي:
- سأخرج.
سد الباب بطوله وصدره الذي نسيت أنه يخصني. قذفت برفضه، دككت صدره وزاد صراخي، زفر ضعفه أمام قوتي وتنحى عن الباب:
- أنت مسئولة عن جنونك.
***
فتحت الباب وانطلقت، تعثرت بالعباءة قبل أن أصل السيارة وأجلس خلف المقود، كببت رأسي عليه وقد فاجأني إحساس باليتم الكبير، التحفني حتى عظمي: هل مات وطني؟ هل مات كل شيء؟ حلم عروستي التي لأجلها أفرغنا البيت من المئونة وملأناه بحقائب السفر. لم يبق سوى المجهول الذي سنجتر بدروبه ذكريات حلوة قديمة لمدينة الحب.
ما أن خرجت إلى الشارع العام حتى صدمني المنظر. سيارات متصادمة، وأخرى تطير مجنونة لا تلتزم بإشارات المرور التي انحنى بعضها وسقط بعضها الآخر. هرج غريب. ووجه مدينتي شاحب كوجه أرملة وحيدة. كل شيء أسود. كل الوجوه ارتدت حواجز سـوداء. أطلق الرجال لحاهم وارتدت النساء "بوشيات" تلتصق بالأنـوف المبللة كأنفي بالدموع. عباءات توحّد فيها الحزن. وجوه سوداء لغرباء يتوزعون محمّلين بسلاحهم الأكثر سوادا. حواجز. غير مألوفة، حاجز يقذفني إلى جحيم حاجز. وجوه لا أجرؤ أن أرفع نحوها بصري خشية ينتصر حقدي، وأبصق عليها فأموت. عبارات كانت بالأمس تمس المشاعر بحنان، واليوم تخرق الأذن وتخدش غشاء القلب. أسئلة غريبة، وامتهان للكرامة، وشجـب للـدموع وطيوف الحزن الرابضة في الوجه.
***
ليس هو وجـه مدينتي، وجـه غريب عني. يتحول أمامي عينا واحدة تبكي فأتمنى لو أشرب دمعها وألقحها بالفرح. لكن الفرح فر. وحـده الموت قـد يأتي في أي لحظة، وصوته بغضب يأتيني: "ستموتين يا مجنونة".
بشهية انتفضت رغبتي للموت. أنا التي أكره مجرد سماعه، اليأس هو المنتصر الوحيد في اللحظة. لو أموت الآن لأنسى الواقع المر!!
الطريق الأسود يواصل قذفي نحو الحواجز والأسئلة والتفتيش. تلوح الجمعية التعاونية، الطريق إليها مغلق، أركن سيارتي عند الدوار. أمشي وعباءتي التي لم تتآلف وجسدي تتطاير. أحسها تتمزق، تصرخ، تصنع الروائح الغريبـة. أصوات طلقات تأتي من البعيـد. أتوقع الموت.. ظهري مكشوف للمجهول، ووجهي نحو مبنى الجمعية. وصلت الساحة. مشهد غريب رج ذاكرتي باتجاه ساحة في مدينتي القديمة أيام- عاشوراء- المكللة بالحزن وبالسواد. حشـد النساء المنتظرات مفجع. أطفال زرع الرعب أشواكه الصفراء على براءة وجـوههم. سؤالات في العيون تخشى أن تترجم أو تتنفس فتموت. حـداد. صلوات صامتـة تصب في طوابير الصبر إلى أن يفتح باب الجنة الذي تصلب أمامه جنود اشرأبت رشاشاتهم كوجه عزرائيل. قلوب صابرة. أقدام صابرة. محاصرة بالقهر. ألف "حسن وحسين" مقتـولـون بلا ذنب. ولا أحـد يصرخ ويرفع السيف. فقط بكاء صامت، وبركان حزني يتفجر. خـرج نشيجي عاليـا مثل العواء. صوت عجوز بقربي:
- يا بنتي ما يفيد البكاء. الشكوى لله.
لون عينيها المقهور يضـاعف شجني، هسيس اليباس في شفتيها يذيقني طعـم العلقم. ارتجاف الأطفال يعيدني طفلة مرتعشة أمام أبي وعصاه الثخينة وصوته الغاضب:
- الضرب يوجعكـم ويبرى، وبعد الضرب تلقون الصلاحا.
مـا أحـلاه يسقط وردا على جسـدي، وينبت أدبـا حسـدتني عليه كل زميلات الفصول. من الذي يؤدبنـا اليوم؟ وهذا القصاص تحت شمس آب اللاهبة ينضح عرق الأجساد فتفوح رائحـة مقابر وأكفـان وأنفاس أموات فزعين.
- ماذا ننتظر؟؟
صوت امرأة يتملل. وإجابة تكسر حواجز القلب:
جنودهم في الداخل ينهبون، ونحن كلاب الأسياد بانتظار الفتات.
فتـات؟؟ مـاذا سأجلب إلى البيت؟ اعتـدت أكتب لائحة بالأشياء الضرورية.
اليوم لا تفيد اللوائح. وأي "فتات" ألقاه سيكون ضروريا. البيت خال تماما من المواد الغذائية. هو الجوع قادم.
اشتعل أمامي حريق بيروت بأعنف مشاهده. فزع تحت قصف الرصاص. سيقان الأطفال المتراكضـة نحو مأوى حائط متهتك أو ربما برميل ماء صدىء. موت. دم مرشـوش فوق الحوائط المليئة بالشعـارات. أكـوام القمامات يتراكم فوقها الذباب وأيـدي العجائز هاج بها الجوع تبحث عن فتات يسكت العراك.
صوتها من عمق ذاكـرتي ينبهني: "كل شيء قـابل للتلف. المعلبات أفضل الأشياء".
استعرضت الضروريات،"مـاء، معلبات، سكـر، حليب، أول الأشيـاء حليب الأطفـال،. أطفال بـيروت ناموا بلا حليب. أنّت حنجرتي بشهيق لافت. امتد عنقه يبحث عن مصـدر الصوت، ترك مكـانه، أقبل نحـوي، صرخ بلا رحمة:
- بنت الكلب. ليش الصراخ؟
انتفض حبي لأبي الذي أدبني:
- لا تشتم أبي!
- وأشتم أمك بعد.
شد على زندي الهشيم.
- عندك اعتراض؟ قولي.
تلاشت قوتي. استدرت بوجهي الجاهش عنه، بوقاحة مد كفـه ذات الأظافـر الطويلـة، سحب وجهي ناحيته، لمحت شرار عينيه:
- مو عاجبك الطابور؟؟
واتتني بعض شجاعة رغم ارتجاف أوصالي كلها:
- لم نعتد على الطوابير.
بغرور لا يليق به فتح شدقين أصفرين:
- جئنا لنعلمكم النظام.
قبل أن يبادر فمي بانبلاجة صغيرة كانت يد العجوز تقرصني فأبتلع لساني. حين تأكـد من خرسي غادرني وهمس العجوز يصلني:
- يا بنتي هذول ما يعرفون الرحمة.
كانت النسوة قد انتهزن فرصة ابتعاده عن البـاب وتدافعن نحوه. اقتحم زحامهن. رفع رشاشة، أطلق منه صرختين في الهواء. تبعثرت الخطوات والوجوه. تساقط من تساقط واهتزت الرموش المبللة بالوجع.
- نظام.. وإلا لن تدخل واحدة.
أذلاّء وقفنا، وصـوت الرصاص مـازال يصخب المكان.
***
جنود يخرجون محملين بالأكيـاس. عيوننا ترمق السرقات. أصواتهم تتـداخل وهم يقلبون بعض الأشياء يتساءلون عن كيفية استعمالها. أشياء لا يعرفونها. لم يروها من قبل. سيأكلون ما لا يؤكل. الجوع فّتاك. سيفتك بنا لو ظلوا ينهبون كل شيء. ببطء شديد يتحـرك الطابور. كل خطوة تترك أثرها ذلا ودمعا، وصلاة، وأدعية.
انفتح البـاب، تدافعنا والمشهد قـاس لا يـرحم. مثل الفئران توزعنا بين الأرفف التي فرغ أغلبها وبين الأشياء المتناثرة المدلوقة بسوائلها. أيدينا تتخاطف أي شيء تبقى لم يعد للذي فكرت به أية أهمية. يدي تأخذ ما يواجهها. أخضر ويابس كل شيء سيفيد. الحليب فقط يذكرني بنفسه معتمرا أصوات الطفلتين. أبحث بلهفة. أجد علبة مبعوجة. لا يهم وثانية. و.. يد تلكزني:
- خذي أكثر.
أهمس:
- أطفال آخرون يحتاجون.
- معك حق.. خذي طحين.
- ما أفعل به؟؟!
- قد نضطر نخبز في البيوت.
***
عطر الماضي. "التاوه" السوداء يشتعل لهب السعف تحتهـا ويـد زوجـة أخي تفـرش دائرة العجين. تبقبق وتستوي، ترفع القرص. تدهن وجه التاوه بقطعة الشحم وتأمرني:
- اخبزي!
أرتجف وصوتي:
- لا أعرف.
تفلع رأسي بطاسة الماء المتعكرة ببعض الطحين:
- تعلمي. ستخبزين ذات يوم.
خبزت. أحرقت التـاوه المشتعلة كفي وانتفخت أورام الماء فيهـا. تعلمت. آه يا زوجـة أخي القاسيـة، لكن الضرب يوجعكم.... وبعد الضرب....
***
ألتفت نحو المرأة:
- أين أجد الطحين؟
تنكش أغراضها. تشد كيسا:
- لن تجدي. خذي هذا.
رأفة تبكيني. أقبل كرمها بعيني. والممر يضيق بالعباءة والأطفـال وعـربات الأغراض الفقيرة. كـانت تلك الجمعية تشكو تكدس الأشياء، واليوم شبه عارية إلا من بقايا أيديهم الجشعة.
طابور آخر بانتظار المحاسبة. نظرات شامتة تصدر من عيون الجنود الموزعين يحرسون المكان- وحاميها حراميها - همهمات. بكاء مخنوق وتوسل أطفال:
- أريد " كاكا و"، حلاوة، علك.
تدحر الأمنيات. لا أولوية للحلوى. الشاي. السكر. الحليب. الغد يوم مجهول. تقع عيني على العربة التي أمامي. بعض ألـواح " الكت كات" الذائبة. أجرؤ أسألها بحزن:
- أين وجدت الكاكاو؟؟
مدفـوعة بحنـان رقيق. مدت كفها، سحبت لو حين، قدمتهما:
- خذي هذا.
أبيت رغم اشتهائي أن أسقطه في ثغر الصغـيرتين:
- شكرا. هذا حقك. أين أجده؟
ترقرق صوتها: - لن تجدي. خذي. عليهم بالعافية.
أشد على الذي أحلم أن أدسه في الثغـور التي عرفت طعم المر مبكـرا. أتابـع أيدي الرجال، والنساء تتبادل الأشياء. دغدغتني إيثارية الناس رغم حزني. كل يحتاج لأي شيء لكنه بيسر ومحبـة يقدمها للآخر. رائحة الحب شهية تبدد خوفي. تزف إلي بشرى روح الأسرة الواحدة التي كانت مجرد كلمات جوفـاء. الروح تتجسد ونحن في أيامنا الأولى من احتلالهم البغيض، أشعر أني قوية. أسحق ذلي، أتباهى بناسي ومشاعرهم. تلوح ابتسـامات واعدة بالتواصل، نخرج أفواجا، نتساعـد بأحمالنا حتى نصل موقع السيارات، تبادلنا أرقـام الهواتف، وعناوين البيوت والدعوات المفتوحة:
- لو احتجتم شيئا.
- نحتاج نسفك دمهم.
الخوف:
-هس. لهم آذان كلاب.
وجوه الشباب رغم المحنة والحداد تنطق بتعابير لا تخطئها العين. ألـوان أمل جديد تلوح. أتلفع ألـوانهم المرفوفـة كالرايـات قبل أن تدوسها الأقدام. أنسى زمن الساعات الأربع في طابور الانتظار الموحش.
حين دسست الأشيـاء في صنـدوق السيـارة، عزلت الكيس الذي يرقـد بداخله لوحا- الكت كـات- ووجها الصغيرتين يلوحان أمامي فرحين رغم الفزع بما سأجلب لهما. أدس نفسي داخل الفرن الحديد. وأنطلق.
***
حـاجزان. ثلاثة. احتملت سماجـة الأسئلـة. أرغب الفكـاك لأصل، لكن سيارة عسكـريـة تقطع الطريق. توقفت. نزل اثنان. صوت أحدهم آمرا:
- افتحي الصندوق.
هلع قلبي. الأمر لا يرد. المجهول بانتظاري. ضغطت الزر الأمـامي. انفتح الصندوق وصوت خشن يطرق سمعي حاقدا:
إعيال الكلب. "كل شي عدهم بالزراير".
رأساهما داخل الصندوق. هتافات فرح، وضحكات، في المرآة الجانبية لمحتهم ينقلون الأكياس. استفزني الفعل. خلعت اتـزاني. فتحت البـاب لكن أحـدهم قفـز من السيارة شاهرا رشاشه، رفس الباب كاد يكسر قدمي:
- وين؟
تنوء قوتي. يتقاطر ذلى:
- لو سمحت، هذي أغراض البيت.
أتى أمره مشحونا بالعنف:
- "أكلي تبن ولا تتحركين!! ".
تجمدت مرغمة، والنار تشب بضلوعي، ولهيبها ينضح من عيني. صفق غطاء الصنـدوق. وقلبي: "يارب ما يشوف الكت كات". طرق على ظهر السيارة:
- يا لله روحي.
حركت السيارة بخيبة. عيني تنظرهم في المرآة. كف أحدهم تلوح بلوح "الكت كات" وتقذفه إلى فمه. أقضم حسرتي. أحمل عمـري الجديـد. أصـب الغضب على الدواسـة. أمر على خمسة حواجز حجبت وجوهها دموعي المتجمدة قبل أن أصل البيت. أطرق البـاب. تواجهني العيون التي ابتلعت فزعها المتراكـم فرحـة بعودتي، نحوي انهمرت الصغيرتان:
- هل أحضرت لنا- كاكاو-؟؟
- أخذوا كل شيء.
أجهشت.
التفوا جميعهم حولي. احتضنوا حزني بهتاف قلوبهم. في لحظـة تحولت بين أحضـانهم طفلة يحتفلون بمولـدها الجديد بحلوى الفرح.
ليلى العثمان
ديسمبر 1993