تناول الدارسون قديما وحديثا كتاب كليلة ودمنة بالدرس والتمحيص وأخرجت الأفهام ما طُمر فيه من معان ثاوية في غضون حكايته المثلية وفُكت رموزه وصُنّفت غاياته… ولقائل أن يقول ما الجديد الذي يُضاف عند دراستنا للكتاب الآن.والجواب أن في النظر للكتاب من زاوية مغايرة قد يظفر الدارس ببعض النتائج ،لذلك أرتأيت أن أتناول من الكتاب قسمه الأول أي القسم السابق للحكاية المثلية والذي يتحدّث عن الكتاب نفسه عن ظروف تاليفه ونقله من حضارة إلى حضارة. وتكمن أهمية هذا الجزء من الكتاب في أنه تناول سيرة مؤلفه بيدبا الهندي ومترجمه برزويه الفارسي وما أضافه ابن المقفع وهو "باب غرض الكتاب". واللافت أن هذا القسم من الكتاب يُظهرتشابها بين الرجال الثلاثة رغم تباين الأزمنة وتباعد الأزمنة مما يسفر عن تصور متقارب إلى أبعد الحدود عن المثقف في الشرق القديم باعتبار أن ثلاثتهم من الشرق (الهند - فارس - العراق ). وسأحاول أن أستجلي صورة هذا المثقف وأبين وجوه الائتلاف بين المؤلف الهندي والمترجميِن الفارسي والعربي (ابن المقفع فارسي الأصل ولكنه محسوب على الحضارة العربية).
جاء في المعجم الوسيط في مادة ثقف(1) ثقافة صار حاذقا خفيفا فطنا وهوثقف وامرأة ثقاف: فطنة. وما تسوّى به الرماح، وثقفه تثقيفا سوّاه. وثاقفه فثّقفه غالبه فغلبه في الحذق. يظهر من المادة المعجمية الارتباط بين الثقافة والحذق من ناحية والفطنة وتقويم الإعوجاج -ماتسوّى به الرماح - من ناحية أخرى فتجلّت من خلال التعريف اللغوي صفات المثقف وغايات الثقافة. فهو الذكي الفطن والمصلح لمائل الأمر ومسوّله. فهل كان ابن المقفع ومن قبله برزويه وبيدبا يتصفون بصفات المثقف بما هو كائن متميّز بالفطنة والعقل والحذق؟ لاسيما وأن كلمة حذق جاءت في المعجم الوسيط مرتبطة بمعنى المهارة. حذق(2) الصبي القرآن حذقا وحذاقة: تعلمه ومهر فيه-يوم الحذاقة - هو يوم ختم القرآن. وعنده حذاقة: الرجل الفصيح. فهل كان ثلاثتهم حاذقين ماهرين في إبلاغ مقاصدهم مما خطّوه في كتاب كليلة ودمنة؟
يرى ابن منظورأن الأدب أدبان أدب الدرس وأدب النفس.أدب يُدرس ويُتعلّم يسافر في الزمان والمكان.وآخر يغوص في أعماق النفسلينزع عنها شوائبها ويهديها إلى الحق والخير. والأدبان يتكاملان في نظر مؤلف الكتاب الأول بيدبا الذي اشتغل على الأدب بمفهومه الواسع. فكان الكتاب معرضا للحكم والأفكار والأمثال ومجالا للأخلاق والقيم. وقد لبس ابن المقفع بيدبا قناعا شفيفا يروم به ومن خلاله إبلاغ مراده
ولئن كانت الأبواب الثلاثة الأولى الواردة في مقدمة كتاب كليلة ودمنة تشيد بدور بيدبا الأديب الحكيم العالم الذي ألف الكتاب وتنّوه بمن ترجمه إلى الفارسية وهو برزويه الفارسي. والرجلان قد حظيا ببابين يذكران فضلهما ويُبينان ما كلفهما الكتاب من جهد ونصب.
أما ابن المقفع ناقله إلى العربية - وقد شكك بعض النقاد في أمانة تعريبه معتقدين أنه ربّما قد أضاف الكثير ودليلهم أن الكتاب غنيّ بالأمثال العربية والأحاديث النبوية وتُخّم عله روح الأدب العربي-فإني أرى فضله يتجاوز مجرّد التعريب إلى الاختيار الواعي لكتاب كليلة ودمنة دون غيره ليكون قد فتح به باب النثر الفني في الأدب العربي.
يرى بعضهم أن المثقفين الثلاثة لا يتساوون في الجهد المبذول ولا في الجزاء على كتاب كليلة ودمنة. ومن النقاد من يرى في جهد ثلاثتهم تكاملا ولّده ما بينهم من سمات مشتركة وخلالٍ موحدة حملتهم على الاهتمام بهذا الكتاب والإيمان بأنهم قد (يسوّون) به ويُقوّمون ما إعوّج بما أن الثقافة حسب تعريف الطاهر أحمد الزاوي صاحب المعجم الوسيط آلة تُسوّى بها الرماح حتى تصبح نافذة دقيقة دافعة للأذى مُدافعة عن أصحابه .فما هي سمات هؤلاء اامثقفين المشتركة؟
1-القدرات المعرفية والذهنية والاهتمام بالقضايا العادلة:
يدرك المثقف بعقله وبتأمله ما يدور حوله في جلّ المجالات ويجد نفسه مُلزما بألا يقف على الربوة بل هو صاحب قضية لا يُراعى فيها مصلحته الشخصية وإنما مصلحة الجماعة "فالمثقف هو المواطن الذي يربط مصالحه بمصالح قومه، ويشعر مع ابن مجتمعه ويهتم به ويودّ خيره كما يودّ الخير لنفسه"(3).
أ- بيدبا:
هو مؤلف كتاب كليلة ودمنة هندي الأصل "فيلسوف من البراهمة فاضل حكيم يُرجع في الأمور إلى قوله"(4). وكان في نظر تلامذته "الحكيم الفاضل واللبيب العاقل"(5) وأشار ملك بلاده دبشليم إلى الصفات نفسها بقوله " يا بيدبا إنك حكيم الهند وفيلسوفها"(6). وما نستخلصه من ترجمته أنه جمع بين العقل والدين وبين الحكمة والأخلاق. روّض عقله على الإدراك وتجلّى ذلك في منطوقه القائم على اعتماد معجم العقل إبان استعداده لمواجهة الملك دبشليم الظالم .فقد قال "اعلموا أني أطلت الفكرة في دبشليم وما هو عليه من الخروج عن العدل "(7). وحاور تلامذته مبيّنا ضرورة توخّي العقل لردع السلطان الجائر"على أن العاقل قد يبلغ بحيلته ما لايبلغه بالخيل والجند"(8). إنه المثقف الواعي الذي يُعمل عقله فيما يعنّ له من أمور الحياة ويسخّر في ذلك قدراته الذهنية ويلتزم بقضايا عصره. نموذج كان بيدبا بمسيرته ومعلّم بأفعاله كما كان معلّما بحكاياته المَثليّة. وهذا ما استجلاه القارئ من صورة لهذا المثقف في باب مقدمة الكتاب وهي صورة لما كان عليه المثقف في القديم في بلاد الشرق .
ب- برزويه:
أما برزويه فطبيب فارسي "رجل كامل عالم أديب"(9).وامتهان الطب يُعدّ في القديم من دلالات البراعة والذكاء. وقد جاء في معرض كلام بيدبا عن خصال الحكيم أنه "كالطبيب الذي يجب عليه في صناعته حفظ الأجساد على صحتها أو ردّها إلى الصحة"(10). فالطبيب إذن والحكيم يتحرّكان في مجال تصحيح الخطإ ودفع الضرر والمحافظة على الهيئة الكاملة. لقد جمع برزويه كما جاء في كتاب كليلة ودمنة - باب بعثة برزويه -الفضائل ونُسب إلى الكمال من أهل الصنفين المذكورين "إما كاتبا نحريرا أو طبيبا أو فيلسوفا ماهرا"(11).ونستشف من هذا أن صناعة الطب في القديم لم تكن-كما هو الحال الآن - ختصاصا علميا لا علاقة له بالحكمة أو الأدب، وهي نظرة للمثقف اتسمت بالشمول تجعله يُلمّ بفروع المعفة ويُطوّع بعضها لخدمة بعضا الآخر في تصوّر شامل يجعل الطبيب حكيما لا بالمعنى المجازي بل بالمعنى الحقيقي، يتصدّى فيه للتفكير والتأمل. وقد جاء في تعريف برزويه أنه "شاب جميل الوجه، كامل العقل والأدب ذو حسب وصناعة شريفة"(12). فتجلّى برزويه مثالا للكمال في العقل والهيئة، مخلوقا نموذجا لم يعتره النقصان كأنه كائن أسطوري. وقد أتقن برزويه "اللسانين وكان ماهرا بالفارسية والهندية"(13). وإتقان اللغات الأجنبية ضرورة للمثقف في كل عصر ينفتح بها على الحضارات الأخرى فتحدث المثاقفة ويتمّ التفاعل بين الأفكار وهذا ما مكّن برزويه من جلب الكتاب إلى خزائن كسرى.
ولئن كانت مؤهلات برزويه الفارسي هي التي رشحته لبعثت الهند لنقل كتاب كلياة ودمنة وتهريبه إلى بلاد فارس فإن تجربته في الهند إبان سعيه للحصول على الكتاب كشفت عمليا عن قيمة ما تحلّى به من قدرات عقلية، إذ نجح في الحصول على الكتاب من خزائن ملك الهند الغيور على مكتبته. وقد توخّى برزويه الحكمة واستعان بالحيلة لبلوغ مأربه "يبحث في مطلوبه بحنكة وسياسة وعفة ونزاهة"(14). إذن يلتقي برزويه المثقف مع بيدبا في صفات هي: الذكاء وإعمال العقل والاستفادة من الحكمة وتقديم الخدمة اللآخر والتضحية في سبيل الجماعة.
ج- ابن المقفع:
خلا باب غرض الكتاب الذي أضيف إلى النسخة العربية بقلم ابن المقفع نفسه من تعريف له خلافا للكتاب في نسخته الهندية والفارسية ،إذ حظي الحكيمان بيدبا وبرزويه بما يستحقان من إقرار بعلمهما وتقدير لجهودهما بيد أن النسخة العربية وإن لم يُظهر فيها ابن المقفع مكارمه وفضائله ولم يكلف من ناسخيّ الكتاب بعده إثبات سيرته فيه كما فعل بيدبا وبرزويه - ولعل هذا من تواضعه-فإن الدارس يستشف ملامح ابن المقفع المثقف بنفسه. فقد برز ابن المقفع في باب غرض الكتاب - وهو الجزء الذي أضافه بقلمه إلى ما ترجم - حلقة واصلة تشدّ بيدبا إلى برزويه إذ جمع إلى حكمة الأول وقدرته على ضرب الأمثال إتقان الثاني للغات وإلا ما استطاع تعريب كليلة ودمنة من الفارسية إلى العربية. شابه ابن المقفع بيدبا وبرزويه في العلم والمعرفة وإعتماد العقل في النظر إلى الأمور والحيلة في بلوغ المأرب ونبل الغاية التعليمية. وجاء بقلمه "لم تزل العلماء من أهل كل ملّة يلتمسون أن يعقل ويحتالون في ذلك بصروف الحيل ويبتغون إخراج ما عندهم من العلل"(15). وقد حوى باب غرض الكتاب من الأمثال والحكم ما يرفع ابن المقفع إلى مكانة بيدبا المؤلف الأول، وكما كان ملفوظ بيدبا يدور حول العقل والعاقل وصاحب الرأي وهي سمات المثقف. فإن ابن المقفع تبنذى الخطاب نفسه بإعتماد المعجم ذاته "ثم إن العاقل إذا فهم الكتاب وبلغ نهاية علمه ينبغي له أن يعمل بما علم منه "(15). فقد ربط بين العلم بالشيء والعمل به فنزّل العقل والحكمة إلى الواقع شأن برزويه وبيدبا" فينبغي لمن طلب العلم ان يبدأ بعظة نفسه"(16). اجتمع عند ابن المقفع ما كان لسابقيه الهندي والفارسي فكان الضلع الثالث الذي يشدّ هرم الكتاب ويرفعه عاليا.
2- الأمانة العلمية:
كان ثلاثتهم مثالا للمثقف في القديم في الحضارات الشرقية من خلال إمكانياتهم الذهنية وقدراتهم الأدبية وصفاتهم الأخلاقية. وقد رفد كل هذا إيمان بدورغيرهم من المثقفين السابقين لهم أو المعاصرين. وقد أظهر كل واحد منهم أمانة علمية تليق بمثقف تحلى بأخلاقيات تنأى به عن الإدعاء والغرور..
أ- بيدبا:
حرص بيدبا أن يكون الكتاب عصارة فكره ولكنه لم ينكر فضل تلاميذه ولم يتجاهل مساهمتهم في إنجازالكتاب "فلم يزل هو وتلميذه يعنلان الفكرفيما سأله الملك حتى فتق لهما العقل أن يكون كلامهما على لسان بهيمتين"(17) خشي بيدبا على الكتاب من أن تُحّرف محتواياته وأن لا يسلم من التزيد إذا ما نُسخ او تُرجم فذكر بيدبا"أن الحكمة متى دخلها كلام النقلة أفسدها واستجهل حكمتها "(18)خوف بيدبا هو خوف المثق على فكره من ألا يبلغ للناس كما خطّه هو. وقد أشار الجاحظ في الحيوان إلى الفكرة ذاتها "شر الترجمان على المترجَم إذا لم يكن على معرفة دقيقة بالمترجَم
ب- برزويه:
لم يكن برزويه مؤلفا للكتاب ولكنه مترجم حرص على التوثيق الصادق وقد مكنه إتقانه اللسانين الهندي والفارسي من الترجمة الأمينة ولكن إتقان اللسان لا يكفي لإنجاخ ترجمة بل لا بد من معرفة ودراية بأهل البلاد، لذلك كان برزويه "يجالس الحكماء ويسأل خواص الملك والأشراف من العلماء والفلاسفة"(20). أدرك برزويه ان لا بد له من الانخراط في المنظومة الثقافية الهندية المتمثلة في معاشرة مثقفي الهند ليتمكن من الترجمة الناجحة الوفية لمقاصد صاحبها الفيلسوف الهندي. وهذا أكبر دليل على أمانته العلمية التي نستطرف وجودها في تلك العصور لأننا في أيامنا هذه نجد من يسطو على روايات من لغات أخرى وينسبها إلى نفسه ولا يقتصر هذا على الأدب بل نراه في جل فروع المعرفة.
ج- ابن المقفع:
أما ابن المقفع فقد أقرّ منذ الوهلة الأولى بانتماء الكتاب "وهو مما وضعته علماء الهند من الأمثال والأحاديث"(21). واجتهد في تفسير غايات الكتاب مع تأكيد أن ما ذهب إليه هوإجتهاد قارئ وتعليق ناقد وقد قال التوحيدي " إن الكلام على الكلام صعب". لذلك اجتهد ابن المقفع وأجهد نفسه وعرّضها للتهلكة في إبلاغ غايات بيدبا المعرفية " ينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وُضعت له وإلى اي غاية جرى مِلفه فيه "(22).
بيّن ابن المقفع ضمنيا أن اختياره ترجمة هذا الكتاب دون غيره أمر مقصود لغايات يُدركها القارئ المتمعن " وينبغي لمن طلب أمرا أن يكون له فيه غاية ونهاية ويعمل بها ولا يقف عنها "(23). وقد ظهرت أمانته العلمية في إشادته بفضل سابقيه وإيراده لسيرتهما وما حوت من تنويه بعملهما وحكمتهما وأخلاقهما.
3- المثقف والجزاء
أ- بيدبا:
غلب حب العلم والأدب والرغبة في الخلود على بيدبا فترفع عن الجزاء الذي قدمه له دبشليم اعترافا بعلمه. نزّه نفسه عن مطالب الدنيا وكان مطلبه الأسنى أن "يأمر الملك أن يُدوّن كتابي هذا كما دوّن آباؤه وأجداده كتبهم ويأمر بالمحافظة عليه فإني أخاف أن يخرج من بلاد الهند"(23). طلب بيدبا الخلود وحسن الذكر- ككل مثقف - وهما مطلبان شخصيان ولكنه أراد كذلك - ككل مثقف - أن يُستفاد من كتابه وأن يصبح ثروة وطنية.
ب- برزويه:
كبيدبا الهندي كان برزويه الفارسي مترفعا عن الجزاء المادي رغم إلحاح كسرى. وكنظيره الهندي أراد خلودا له ولكتابه "حاجتي أن ينظم أمري في نسخة ويبوب الكتاب ويُجعل في تلك النسخة بابا يُذكر فيه أمري ويصف حالي ويأمر إذا فرغ منه أن يجعله أوّل الأبواب التي تقرأ قبل باب الأسد والثور "(24). تسامى برزويه رغم صغر سنه عن النفع العاجل، وطمح إلى خلود يطوي المكان والزمان ويحفظ الذكر.
ج- ابن المقفع:
لم يلق ابن المقفع العربي من السائس ما لقيه الهندي والفارسي ولم ينزّل منزلتهما ولم يُجازى ومن يُقدر جهده. ولم يكن ابن المقفع راغبا في الجزاء وإنما جزاؤه أن يُأخذ عنه وغب في إصلاح الفاسد ودعا إلى اعتماد العقل في حضارة ميّالة إلى العواطف والمشاعر. وهو ولا يقل عن سابقيه وله ما لهما من رغبة في الخلود جعلته يُعرّض حياته للفوت باختيار ارتياد مجال بكر في حضارته وهو الآداب السلطانية التي تسعي لإصلاح سلطان جائر معتد برأيه. وقد كان له الخلود الذي أراد، خلودا غطّى على المؤلف الأصلي بيدبا والمترجم الأول برزويه.
الخـاتمــة
إن الدارس لسيرة الرجال الثلاثة الهندي والفارسي والعربي يلمس أنهم مسكونون بهاجس المصلحة العامة وخدمة الإنسان والارتقاء به. وقد حرص ثلاثتهم على نقل المعرفة كلفهم ذلك ما كلفهم. وقد تشابه مصيرهم في لحظة معينة.فقد واجه بيدبا الموت بمواجهته السلطان الجائر وواجه برزويه بمواجهة مصيره المجهول في بلد غريب يُعدّهو فيه جاسوسا حين كان " يسرق" المعرفة حتى لا تحتكر. أما ابن المقفع فقد قتل جراء نقله المعرفة ورغبته في إفادة الآخرين.
لقد تشابهوا في الأهداف ورغبوا في النفع والإصلاح وخدمة الراعي ليثمر ذلك صلاحا في الرعية واتفقوا دون سابق اتفاق على أن المعرفة سلاح المثقف للإصلاح. فرغم التباعد التاريخي والجغرافي فإنهم قدّموا صورة عن المثقف في فترات تاريخية ممتدة نسبيا في القديم في بلاد الشرق (الهند - فارس- الجزيرة العربية) مثقف أمين حكيم نزيه منفتح على الآخر متقن للغات.
إن هؤلاء الثلاثة - بيدبا وبرزويه وابن المقفع - كانوا لبنة ضمن منظومة المثاقفة السائرة بين الشرق الأقصىوالشرق الأوسط "وأثر الهنود في الثقافة الإسلامية بالاتصال عن طريق التجارة والفتح معا. وعن طريق نقل ثقافتهم بواسطة الفرس الذين اتّصلوا بهم وتأثروا بثقافتهم حتى قبل الفتح الإسلامي، فانتقات الثقافة الهندية مع ما انتقل إلى العربية من ثقافة الفرس"(25).
اللافت أن بيدبا وبرزويه وابن المقفع تحلوا بصفات مثقف جدير بأن تطلق عليه هذه الصفة. فقد شابهوا بأمانتهم العلمية وقدرتهم المعرفية وميلهم إلى العقل وخدمة الإنسان وإصلاح الحاكم.. المثقف في أروبا في عصر النهضة والمثقف في العصر الحديث وقدموا تصورا يظهر فيه المثقف كائنا يعلو فوق الزمان والمكان بما هو جوهرلا يتأثر بزائل الأمور "وفي ملاعب الفكر لا يُجدي التفريق بين فرنسي وأمريكي أو بين عربي وغربي إلا من باب معرفة العلامات الفارقة والتفريق بالهويات الفردية للكتاب والمؤلفين إذ المهمّ والأولى هو استخراج الإمكانيات الفكرية"(26).
الإحالات
- ص:412ج1المعجم الوسيط:الطاهر أحمد الزاوي
- ص67-68ج2 المرجع السابق
- دور المثقف في المجتمع :دريد أبو شقرا
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- ص170تراثنا العربي الإسلامي :توفبق الطويل
- ص20أوهام النخبة أو نقد المثقف : علي حرب
جاء في المعجم الوسيط في مادة ثقف(1) ثقافة صار حاذقا خفيفا فطنا وهوثقف وامرأة ثقاف: فطنة. وما تسوّى به الرماح، وثقفه تثقيفا سوّاه. وثاقفه فثّقفه غالبه فغلبه في الحذق. يظهر من المادة المعجمية الارتباط بين الثقافة والحذق من ناحية والفطنة وتقويم الإعوجاج -ماتسوّى به الرماح - من ناحية أخرى فتجلّت من خلال التعريف اللغوي صفات المثقف وغايات الثقافة. فهو الذكي الفطن والمصلح لمائل الأمر ومسوّله. فهل كان ابن المقفع ومن قبله برزويه وبيدبا يتصفون بصفات المثقف بما هو كائن متميّز بالفطنة والعقل والحذق؟ لاسيما وأن كلمة حذق جاءت في المعجم الوسيط مرتبطة بمعنى المهارة. حذق(2) الصبي القرآن حذقا وحذاقة: تعلمه ومهر فيه-يوم الحذاقة - هو يوم ختم القرآن. وعنده حذاقة: الرجل الفصيح. فهل كان ثلاثتهم حاذقين ماهرين في إبلاغ مقاصدهم مما خطّوه في كتاب كليلة ودمنة؟
يرى ابن منظورأن الأدب أدبان أدب الدرس وأدب النفس.أدب يُدرس ويُتعلّم يسافر في الزمان والمكان.وآخر يغوص في أعماق النفسلينزع عنها شوائبها ويهديها إلى الحق والخير. والأدبان يتكاملان في نظر مؤلف الكتاب الأول بيدبا الذي اشتغل على الأدب بمفهومه الواسع. فكان الكتاب معرضا للحكم والأفكار والأمثال ومجالا للأخلاق والقيم. وقد لبس ابن المقفع بيدبا قناعا شفيفا يروم به ومن خلاله إبلاغ مراده
ولئن كانت الأبواب الثلاثة الأولى الواردة في مقدمة كتاب كليلة ودمنة تشيد بدور بيدبا الأديب الحكيم العالم الذي ألف الكتاب وتنّوه بمن ترجمه إلى الفارسية وهو برزويه الفارسي. والرجلان قد حظيا ببابين يذكران فضلهما ويُبينان ما كلفهما الكتاب من جهد ونصب.
أما ابن المقفع ناقله إلى العربية - وقد شكك بعض النقاد في أمانة تعريبه معتقدين أنه ربّما قد أضاف الكثير ودليلهم أن الكتاب غنيّ بالأمثال العربية والأحاديث النبوية وتُخّم عله روح الأدب العربي-فإني أرى فضله يتجاوز مجرّد التعريب إلى الاختيار الواعي لكتاب كليلة ودمنة دون غيره ليكون قد فتح به باب النثر الفني في الأدب العربي.
يرى بعضهم أن المثقفين الثلاثة لا يتساوون في الجهد المبذول ولا في الجزاء على كتاب كليلة ودمنة. ومن النقاد من يرى في جهد ثلاثتهم تكاملا ولّده ما بينهم من سمات مشتركة وخلالٍ موحدة حملتهم على الاهتمام بهذا الكتاب والإيمان بأنهم قد (يسوّون) به ويُقوّمون ما إعوّج بما أن الثقافة حسب تعريف الطاهر أحمد الزاوي صاحب المعجم الوسيط آلة تُسوّى بها الرماح حتى تصبح نافذة دقيقة دافعة للأذى مُدافعة عن أصحابه .فما هي سمات هؤلاء اامثقفين المشتركة؟
1-القدرات المعرفية والذهنية والاهتمام بالقضايا العادلة:
يدرك المثقف بعقله وبتأمله ما يدور حوله في جلّ المجالات ويجد نفسه مُلزما بألا يقف على الربوة بل هو صاحب قضية لا يُراعى فيها مصلحته الشخصية وإنما مصلحة الجماعة "فالمثقف هو المواطن الذي يربط مصالحه بمصالح قومه، ويشعر مع ابن مجتمعه ويهتم به ويودّ خيره كما يودّ الخير لنفسه"(3).
أ- بيدبا:
هو مؤلف كتاب كليلة ودمنة هندي الأصل "فيلسوف من البراهمة فاضل حكيم يُرجع في الأمور إلى قوله"(4). وكان في نظر تلامذته "الحكيم الفاضل واللبيب العاقل"(5) وأشار ملك بلاده دبشليم إلى الصفات نفسها بقوله " يا بيدبا إنك حكيم الهند وفيلسوفها"(6). وما نستخلصه من ترجمته أنه جمع بين العقل والدين وبين الحكمة والأخلاق. روّض عقله على الإدراك وتجلّى ذلك في منطوقه القائم على اعتماد معجم العقل إبان استعداده لمواجهة الملك دبشليم الظالم .فقد قال "اعلموا أني أطلت الفكرة في دبشليم وما هو عليه من الخروج عن العدل "(7). وحاور تلامذته مبيّنا ضرورة توخّي العقل لردع السلطان الجائر"على أن العاقل قد يبلغ بحيلته ما لايبلغه بالخيل والجند"(8). إنه المثقف الواعي الذي يُعمل عقله فيما يعنّ له من أمور الحياة ويسخّر في ذلك قدراته الذهنية ويلتزم بقضايا عصره. نموذج كان بيدبا بمسيرته ومعلّم بأفعاله كما كان معلّما بحكاياته المَثليّة. وهذا ما استجلاه القارئ من صورة لهذا المثقف في باب مقدمة الكتاب وهي صورة لما كان عليه المثقف في القديم في بلاد الشرق .
ب- برزويه:
أما برزويه فطبيب فارسي "رجل كامل عالم أديب"(9).وامتهان الطب يُعدّ في القديم من دلالات البراعة والذكاء. وقد جاء في معرض كلام بيدبا عن خصال الحكيم أنه "كالطبيب الذي يجب عليه في صناعته حفظ الأجساد على صحتها أو ردّها إلى الصحة"(10). فالطبيب إذن والحكيم يتحرّكان في مجال تصحيح الخطإ ودفع الضرر والمحافظة على الهيئة الكاملة. لقد جمع برزويه كما جاء في كتاب كليلة ودمنة - باب بعثة برزويه -الفضائل ونُسب إلى الكمال من أهل الصنفين المذكورين "إما كاتبا نحريرا أو طبيبا أو فيلسوفا ماهرا"(11).ونستشف من هذا أن صناعة الطب في القديم لم تكن-كما هو الحال الآن - ختصاصا علميا لا علاقة له بالحكمة أو الأدب، وهي نظرة للمثقف اتسمت بالشمول تجعله يُلمّ بفروع المعفة ويُطوّع بعضها لخدمة بعضا الآخر في تصوّر شامل يجعل الطبيب حكيما لا بالمعنى المجازي بل بالمعنى الحقيقي، يتصدّى فيه للتفكير والتأمل. وقد جاء في تعريف برزويه أنه "شاب جميل الوجه، كامل العقل والأدب ذو حسب وصناعة شريفة"(12). فتجلّى برزويه مثالا للكمال في العقل والهيئة، مخلوقا نموذجا لم يعتره النقصان كأنه كائن أسطوري. وقد أتقن برزويه "اللسانين وكان ماهرا بالفارسية والهندية"(13). وإتقان اللغات الأجنبية ضرورة للمثقف في كل عصر ينفتح بها على الحضارات الأخرى فتحدث المثاقفة ويتمّ التفاعل بين الأفكار وهذا ما مكّن برزويه من جلب الكتاب إلى خزائن كسرى.
ولئن كانت مؤهلات برزويه الفارسي هي التي رشحته لبعثت الهند لنقل كتاب كلياة ودمنة وتهريبه إلى بلاد فارس فإن تجربته في الهند إبان سعيه للحصول على الكتاب كشفت عمليا عن قيمة ما تحلّى به من قدرات عقلية، إذ نجح في الحصول على الكتاب من خزائن ملك الهند الغيور على مكتبته. وقد توخّى برزويه الحكمة واستعان بالحيلة لبلوغ مأربه "يبحث في مطلوبه بحنكة وسياسة وعفة ونزاهة"(14). إذن يلتقي برزويه المثقف مع بيدبا في صفات هي: الذكاء وإعمال العقل والاستفادة من الحكمة وتقديم الخدمة اللآخر والتضحية في سبيل الجماعة.
ج- ابن المقفع:
خلا باب غرض الكتاب الذي أضيف إلى النسخة العربية بقلم ابن المقفع نفسه من تعريف له خلافا للكتاب في نسخته الهندية والفارسية ،إذ حظي الحكيمان بيدبا وبرزويه بما يستحقان من إقرار بعلمهما وتقدير لجهودهما بيد أن النسخة العربية وإن لم يُظهر فيها ابن المقفع مكارمه وفضائله ولم يكلف من ناسخيّ الكتاب بعده إثبات سيرته فيه كما فعل بيدبا وبرزويه - ولعل هذا من تواضعه-فإن الدارس يستشف ملامح ابن المقفع المثقف بنفسه. فقد برز ابن المقفع في باب غرض الكتاب - وهو الجزء الذي أضافه بقلمه إلى ما ترجم - حلقة واصلة تشدّ بيدبا إلى برزويه إذ جمع إلى حكمة الأول وقدرته على ضرب الأمثال إتقان الثاني للغات وإلا ما استطاع تعريب كليلة ودمنة من الفارسية إلى العربية. شابه ابن المقفع بيدبا وبرزويه في العلم والمعرفة وإعتماد العقل في النظر إلى الأمور والحيلة في بلوغ المأرب ونبل الغاية التعليمية. وجاء بقلمه "لم تزل العلماء من أهل كل ملّة يلتمسون أن يعقل ويحتالون في ذلك بصروف الحيل ويبتغون إخراج ما عندهم من العلل"(15). وقد حوى باب غرض الكتاب من الأمثال والحكم ما يرفع ابن المقفع إلى مكانة بيدبا المؤلف الأول، وكما كان ملفوظ بيدبا يدور حول العقل والعاقل وصاحب الرأي وهي سمات المثقف. فإن ابن المقفع تبنذى الخطاب نفسه بإعتماد المعجم ذاته "ثم إن العاقل إذا فهم الكتاب وبلغ نهاية علمه ينبغي له أن يعمل بما علم منه "(15). فقد ربط بين العلم بالشيء والعمل به فنزّل العقل والحكمة إلى الواقع شأن برزويه وبيدبا" فينبغي لمن طلب العلم ان يبدأ بعظة نفسه"(16). اجتمع عند ابن المقفع ما كان لسابقيه الهندي والفارسي فكان الضلع الثالث الذي يشدّ هرم الكتاب ويرفعه عاليا.
2- الأمانة العلمية:
كان ثلاثتهم مثالا للمثقف في القديم في الحضارات الشرقية من خلال إمكانياتهم الذهنية وقدراتهم الأدبية وصفاتهم الأخلاقية. وقد رفد كل هذا إيمان بدورغيرهم من المثقفين السابقين لهم أو المعاصرين. وقد أظهر كل واحد منهم أمانة علمية تليق بمثقف تحلى بأخلاقيات تنأى به عن الإدعاء والغرور..
أ- بيدبا:
حرص بيدبا أن يكون الكتاب عصارة فكره ولكنه لم ينكر فضل تلاميذه ولم يتجاهل مساهمتهم في إنجازالكتاب "فلم يزل هو وتلميذه يعنلان الفكرفيما سأله الملك حتى فتق لهما العقل أن يكون كلامهما على لسان بهيمتين"(17) خشي بيدبا على الكتاب من أن تُحّرف محتواياته وأن لا يسلم من التزيد إذا ما نُسخ او تُرجم فذكر بيدبا"أن الحكمة متى دخلها كلام النقلة أفسدها واستجهل حكمتها "(18)خوف بيدبا هو خوف المثق على فكره من ألا يبلغ للناس كما خطّه هو. وقد أشار الجاحظ في الحيوان إلى الفكرة ذاتها "شر الترجمان على المترجَم إذا لم يكن على معرفة دقيقة بالمترجَم
ب- برزويه:
لم يكن برزويه مؤلفا للكتاب ولكنه مترجم حرص على التوثيق الصادق وقد مكنه إتقانه اللسانين الهندي والفارسي من الترجمة الأمينة ولكن إتقان اللسان لا يكفي لإنجاخ ترجمة بل لا بد من معرفة ودراية بأهل البلاد، لذلك كان برزويه "يجالس الحكماء ويسأل خواص الملك والأشراف من العلماء والفلاسفة"(20). أدرك برزويه ان لا بد له من الانخراط في المنظومة الثقافية الهندية المتمثلة في معاشرة مثقفي الهند ليتمكن من الترجمة الناجحة الوفية لمقاصد صاحبها الفيلسوف الهندي. وهذا أكبر دليل على أمانته العلمية التي نستطرف وجودها في تلك العصور لأننا في أيامنا هذه نجد من يسطو على روايات من لغات أخرى وينسبها إلى نفسه ولا يقتصر هذا على الأدب بل نراه في جل فروع المعرفة.
ج- ابن المقفع:
أما ابن المقفع فقد أقرّ منذ الوهلة الأولى بانتماء الكتاب "وهو مما وضعته علماء الهند من الأمثال والأحاديث"(21). واجتهد في تفسير غايات الكتاب مع تأكيد أن ما ذهب إليه هوإجتهاد قارئ وتعليق ناقد وقد قال التوحيدي " إن الكلام على الكلام صعب". لذلك اجتهد ابن المقفع وأجهد نفسه وعرّضها للتهلكة في إبلاغ غايات بيدبا المعرفية " ينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وُضعت له وإلى اي غاية جرى مِلفه فيه "(22).
بيّن ابن المقفع ضمنيا أن اختياره ترجمة هذا الكتاب دون غيره أمر مقصود لغايات يُدركها القارئ المتمعن " وينبغي لمن طلب أمرا أن يكون له فيه غاية ونهاية ويعمل بها ولا يقف عنها "(23). وقد ظهرت أمانته العلمية في إشادته بفضل سابقيه وإيراده لسيرتهما وما حوت من تنويه بعملهما وحكمتهما وأخلاقهما.
3- المثقف والجزاء
أ- بيدبا:
غلب حب العلم والأدب والرغبة في الخلود على بيدبا فترفع عن الجزاء الذي قدمه له دبشليم اعترافا بعلمه. نزّه نفسه عن مطالب الدنيا وكان مطلبه الأسنى أن "يأمر الملك أن يُدوّن كتابي هذا كما دوّن آباؤه وأجداده كتبهم ويأمر بالمحافظة عليه فإني أخاف أن يخرج من بلاد الهند"(23). طلب بيدبا الخلود وحسن الذكر- ككل مثقف - وهما مطلبان شخصيان ولكنه أراد كذلك - ككل مثقف - أن يُستفاد من كتابه وأن يصبح ثروة وطنية.
ب- برزويه:
كبيدبا الهندي كان برزويه الفارسي مترفعا عن الجزاء المادي رغم إلحاح كسرى. وكنظيره الهندي أراد خلودا له ولكتابه "حاجتي أن ينظم أمري في نسخة ويبوب الكتاب ويُجعل في تلك النسخة بابا يُذكر فيه أمري ويصف حالي ويأمر إذا فرغ منه أن يجعله أوّل الأبواب التي تقرأ قبل باب الأسد والثور "(24). تسامى برزويه رغم صغر سنه عن النفع العاجل، وطمح إلى خلود يطوي المكان والزمان ويحفظ الذكر.
ج- ابن المقفع:
لم يلق ابن المقفع العربي من السائس ما لقيه الهندي والفارسي ولم ينزّل منزلتهما ولم يُجازى ومن يُقدر جهده. ولم يكن ابن المقفع راغبا في الجزاء وإنما جزاؤه أن يُأخذ عنه وغب في إصلاح الفاسد ودعا إلى اعتماد العقل في حضارة ميّالة إلى العواطف والمشاعر. وهو ولا يقل عن سابقيه وله ما لهما من رغبة في الخلود جعلته يُعرّض حياته للفوت باختيار ارتياد مجال بكر في حضارته وهو الآداب السلطانية التي تسعي لإصلاح سلطان جائر معتد برأيه. وقد كان له الخلود الذي أراد، خلودا غطّى على المؤلف الأصلي بيدبا والمترجم الأول برزويه.
الخـاتمــة
إن الدارس لسيرة الرجال الثلاثة الهندي والفارسي والعربي يلمس أنهم مسكونون بهاجس المصلحة العامة وخدمة الإنسان والارتقاء به. وقد حرص ثلاثتهم على نقل المعرفة كلفهم ذلك ما كلفهم. وقد تشابه مصيرهم في لحظة معينة.فقد واجه بيدبا الموت بمواجهته السلطان الجائر وواجه برزويه بمواجهة مصيره المجهول في بلد غريب يُعدّهو فيه جاسوسا حين كان " يسرق" المعرفة حتى لا تحتكر. أما ابن المقفع فقد قتل جراء نقله المعرفة ورغبته في إفادة الآخرين.
لقد تشابهوا في الأهداف ورغبوا في النفع والإصلاح وخدمة الراعي ليثمر ذلك صلاحا في الرعية واتفقوا دون سابق اتفاق على أن المعرفة سلاح المثقف للإصلاح. فرغم التباعد التاريخي والجغرافي فإنهم قدّموا صورة عن المثقف في فترات تاريخية ممتدة نسبيا في القديم في بلاد الشرق (الهند - فارس- الجزيرة العربية) مثقف أمين حكيم نزيه منفتح على الآخر متقن للغات.
إن هؤلاء الثلاثة - بيدبا وبرزويه وابن المقفع - كانوا لبنة ضمن منظومة المثاقفة السائرة بين الشرق الأقصىوالشرق الأوسط "وأثر الهنود في الثقافة الإسلامية بالاتصال عن طريق التجارة والفتح معا. وعن طريق نقل ثقافتهم بواسطة الفرس الذين اتّصلوا بهم وتأثروا بثقافتهم حتى قبل الفتح الإسلامي، فانتقات الثقافة الهندية مع ما انتقل إلى العربية من ثقافة الفرس"(25).
اللافت أن بيدبا وبرزويه وابن المقفع تحلوا بصفات مثقف جدير بأن تطلق عليه هذه الصفة. فقد شابهوا بأمانتهم العلمية وقدرتهم المعرفية وميلهم إلى العقل وخدمة الإنسان وإصلاح الحاكم.. المثقف في أروبا في عصر النهضة والمثقف في العصر الحديث وقدموا تصورا يظهر فيه المثقف كائنا يعلو فوق الزمان والمكان بما هو جوهرلا يتأثر بزائل الأمور "وفي ملاعب الفكر لا يُجدي التفريق بين فرنسي وأمريكي أو بين عربي وغربي إلا من باب معرفة العلامات الفارقة والتفريق بالهويات الفردية للكتاب والمؤلفين إذ المهمّ والأولى هو استخراج الإمكانيات الفكرية"(26).
الإحالات
- ص:412ج1المعجم الوسيط:الطاهر أحمد الزاوي
- ص67-68ج2 المرجع السابق
- دور المثقف في المجتمع :دريد أبو شقرا
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- انظر كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع:باب مقدمة الكتاب -باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند في تحصيل هذا الكتاب -باب غرض الكتاب.
- ص170تراثنا العربي الإسلامي :توفبق الطويل
- ص20أوهام النخبة أو نقد المثقف : علي حرب