كليلة و دمنة عبد الرحمن شكري - نظرات ابن المقفع

قال الأمير شكيب أرسلان في مقدمة «كتاب الدرة اليتيمة» لابن المقفع — وهو الكتاب الذي طبع في مصر وسمى «الأدب الكبير»: «فاخترت طبعها؛ لأنها مع صغر حجمها قد جمعت بين أعلى طبقات البلاغة، وأسمى درجات الحكمة، وتضمنت من الحكم البوالغ والحجج الدوامغ ما لم يتضمنه كتاب قبلها ولا بعدها.» والأمير شكيب أرسلان أديب مطلع على كتب الآداب العربية، فهو لا يرسل القول من غير تمحيص، بعد أن قرأ كتب الجاحظ والماوردي وابن مسكويه وابن حزم وابن عبد ربه وغيرهم، ومن المستطاع العثور على حكمة وبلاغة في كتبهم، ولكنها إما مقتبسة من الخطب والأقوال، وإما أنها — مع بلاغتها — لا تصل إلى ما تصل إليه حكمة ابن المقفع من الإلمام بعادات الناس، وطباعهم، وأخلاقهم، ونزعات نفوسهم، وسلوكهم في الحياة مع بلاغة الإيجاز، ولعل الأمير أرسلان لا ينحو في قوله منحى المقرظين الذين اعتادوا المبالغة، والتعميم في كل مدحه، ولعله قارن ووازن وخلص إلى هذا الرأي، وقد فطن الكتاب إلى تلك الحكمة التي يطريها الأمير شكيب، فكان الكتاب في عهد الجاحظ يحاكونها، وينسبون مؤلفاتهم إلى ابن المقفع كي تروج، كما اعترف الجاحظ نفسه، وإلا كان نصيبها الكساد والبوار. أما ترجمة ابن المقفع لكتاب كليلة ودمنة من الفارسية، فهي تذكرنا قول جوته: «إن المترجم كالخاطبة في البلاد الشرقية تنقل محاسن العروس المحجوبة إلى الفتى الذي يريد أن يتزوجها، فتشوقه تلك المحاسن»، فالمترجم شريك المؤلف يعرض بضاعته أحسن عرض بما يناسبها في اللغة التي يترجم إليها، وإلا ما أجاز ابن المقفع لنفسه أن يضم إلى كتابيه الأدب الكبير والأدب الصغير أقوالًا ذكرها في كتاب كليلة ودمنة، ومعاني كأنها من معانيه، ومن أجل ذلك يقول في كتاب الأدب الصغير: «إذا خرج الناس من أن يكون لهم عمل أصيل، وأن يقولوا قولًا بديعًا، فليعلم الواصفون المخبرون أن أحدهم وإن أحسن وأبدع ليس زائدًا على أن يكون كصاحب فصوص، وجد ياقوتًا وزبرجدًا ومرجانًا، فنظمه قلائد وسموطًا وأكاليل، ووضع كل فص موضعه، وجمع إلى كل لون شبهه مما يزيده بذلك، وكالنحل وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة، وسلكت سبلًا جعلها الله ذللًا، فصار ذلك شفاء وطعامًا وشرابًا منسوبًا إليها مذكورًا به أمرها وصنعتها، ويبقى بعد ذلك ما بين الصانع الصنَّاع والألمعي النجيب وبين الساطي الذي يسرق الكلام كما هو، أو يذهب بمحاسنه فهمه.»

وابن المقفع على ما في قوله من حكمة وإدراك للأمور لم يُعصم في معاملة السلطان الأكبر، وهو الخليفة المنصور، ولا في معاملة عامله على البصرة، وهو سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة؛ من هنات تخالف ما رسم لمُعاشر السلطان، ومُخالط الوالي وجليسه من حكمة وأدبٍ، فلم ينتفع بحكمته، ونسي قوله إن على من يريد أن يكون إمامًا أن يعظ نفسه ويتعظ قبل محاولته وعظ الناس، وقوله إن العالم يبدأ بنفسه، فيؤدبها بعلمه، ولا تكون غايته اقتناءه العلم لمعاونة غيره فحسب، فكان مثله مثل فرنسيس باكون الإنجليزي (اللورد باكون) فإنه يقول: «إن على القاضي ألا يتخذ القضاء شباكًا وحبائل يقتنص بها الناس»، ثم يكون من أواخر القضاة الإنجليز إن لم يكن آخرهم الذين استخدموا التعذيب وسيلة لانتزاع الاعتراف من نفوس المتهمين، ويعظ الناس بالنزاهة، ثم يأخذ الرشوة من المتقاضين، وينصح المفكرين بالاستنتاج المؤسس على المشاهدة الصحيحة، دون التعلق بالأمور النظرية من غير بحث، ثم يرفض كثيرًا من الحقائق العلمية الحديثة التي وصل إليها الباحثون بالطريقة التي حث عليها، فكانت حكمة باكون في كل هذه الأمور لغيره، لا لنفسه كما كانت حكمة ابن المقفع، وعلى من يعيبه أن يبحث أولًا في قوله وعمله، فإن حكمة أكثر الناس لغيرهم لا لنفوسهم في كثيرٍ من الأمور. ويذكرنا ابن المقفع باكون فيما يولع به كلاهما من التشبيهات والأمثال والقصص التي يجلو بها حكمته، وكانت هذه الطريقة محبوبة شائعة في الأدب الإنجليزي في عهد الملكة اليصابات وجيمس الأول، ومن أوجه الشبه بينهما أن كليهما مولع بالأساطير التي فيها حكمة ومغزى.

فألف باكون كتابه في أساطير الإغريق، وسماه «حكمة القدماء» وأوضح فيه ما خلف أساطيرهم من حكمةٍ بارعة، كما ترجم عبد الله بن المقفع عن الفارسية أساطير الهند، وحكمتهم في كتاب «كليلة ودمنة»، وكل من ابن المقفع وباكون ماهر في بلاغة الإيجاز، وقد يذكرنا ابن المقفع في وصف آداب السلوك أديبًا إنجليزيًّا آخر وهو لورد تشسترفيلد، فإن هذا كان همه وصف آداب السلوك؛ كي يهذب ابنه ويصقله، أما أدباء اللغة العربية فلعله لا يقاربه ويقرن به إلا الجاحظ على ما في الجاحظ من مدح للشيء ومدح لضده. وكُتب الجاحظ عالم في الموضوعات المتنوعة، فلا غرابة إذا اختلف أسلوبه في كتاب عما هو في كتاب آخر، فنرى أسلوب الجاحظ في كتاب «مناظرة الربيع والخريف» أكثره سجع، ومزاوجة، وموازنة، ومقابلة، ومرادفة، بينما هو في كتاب «الدلائل والاعتبار» يكاد يخلو من هذه الأمور، ويصدق فيه قول بديع الزمان الهمذاني أنه منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله. أما عبد الله بن المقفع فأسلوبه على وتيرةٍ واحدة، حتى قيل إنه السهل الممتنع، وفي بعض الأحيان يستعمل المزاوجة والموازنة، ولكن لا كاستعمال الجاحظ لها، فإن الجاحظ يطيل فيها ويكثر، وهي في أسلوب الجاحظ لها وقع السجع في الأذهان، حتى إن من لا يلتفت قد يظنها سجعًا، والذي يمتاز به ابن المقفع بلاغة الإيجاز، ولا نعني أن الجاحظ ليس له من الحكم الجوامع، ولكن أكثر أقوال ابن المقفع، ولا سيما في كتابي «الأدب الكبير» و«الأدب الصغير» من جوامع الكلم التي تجمع الحكمة في بلاغة وإيجاز مع استيفاء المعنى، أو ما يكاد يكون استيفاء، وينبغي أن نتذكر أن ابن المقفع كان منكوبًا، والمنكوب مخذول في دعاوى الناس، مغبون في أقوالهم، ومصاب بأكاذيبهم وأباطيلهم، فلا تستطيع الأجيال التي بعد عهده أن تميز الحق من الباطل في كثيرٍ مما ينحل من القول، وما ينسب إليه من الفعل، إذ هو مهتضم بعد النكبة، لا يجد من ينافح عنه بتمييز الصواب فيما ينسب إليه، حتى ولو كان مشهورًا محسودًا يحتذي الناس قوله، ولا مناص لنا على هذا الأساس من القول إن حكمته لم تعصمه من الزلل والهلاك، ولا نحسب أن كاتبًا قديرًا مثله كان يستعصي عليه أن يجمع بين شدة المواثيق، ولين اللفظ والتحايل؛ لذلك في كتابه الذي طلب فيه الأمان لعم المنصور الذي ثار عليه وهزم، ولا نظن أنه كان يجهل ما في بعض أقواله من عبارات يتأذى بها الخليفة ولا يتسامح فيها، حتى ولو كتبها على لسان أعمامه، مثل قوله إذا غدر بعمه: «فنساؤه طوالق والمسلمون في حلٍّ من بيعته»، ولكن المرء قد يجمع إلى الحكمة والمعرفة رعونة الطبع، وهذا كان داءه إذا صح كل ما ينسب إليه، مثل تطوعه بالسخر والسفه على حاكم البصرة، فكان إذا دخل عليه وسلم قال: السلام عليكما، يعني هو وأنفه، فأنزل أنفه منزلة الإنسان؛ لأنه كان كبيرًا، وإذا قال حاكم البصرة: ما ندمت على سكوتٍ قط؟ قال ابن المقفع: «الخرس زين لك، فكيف تندم عليه؟!» يعني أنه كان عييًا. وإنه لأمر يدعو إلى الحيرة أن يكون الحاكم مهزلة لرجل مثل ابن المقفع مهما يكن أثيرًا عند أعمام الخليفة، وعندما أمر المنصور بقتله قتله هذا الحاكم شر قتلة. ومن الدليل على رعونة طبعه فيما يحكى عنه أنه لما اعتزم الإسلام، وكان مجوسي الأصل، وحضر طعام الأمير جعل يزمزم على الطعام على عادة المجوس، فليم في ذلك، فقال: أحببت ألا أبيت على غير دين. وهو إما أنه اقتنع بالإسلام، حتى أراد أن يشهر إسلامه في غده، فهو مسلم بعقله وقلبه فلا معنى لقوله، وإما أنه كان غير مقتنع، وكان إسلامه نفاقًا، وقد اتهم بذلك، واتهم بالزندقة. ومن رأيي أن من حماقة الطبع أيضًا الجملة المشهورة التي يرويها عنه الكتَّاب، أي قوله: «شربت الخُطب ريَّا، ولم أضبط لها رويًّا، فغاضت ثم فاضت فلا هي نظامًا وليس غيرها كلامًا.» وهذا سجع شبيه بسجع الكهان، ثم لماذا قصر شربه على الخطب دون غيرها من سائر أنواع النثر؟ مع أن للبلاغة نشوة، ولكنه في بعض قوله ينهى القارئ عن جميع أنواع السكر، سكر الشباب، وسكر العلم، وسكر الذكاء، وسكر الجاه، وسكر القدرة، وسكر المال، وهو في بعض قوله يوضح ما في مدح النفس من سماحة، ومما يروى بصدد ذلك أن الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع العروض سُئل عن ابن المقفع فقال: علمه أكثر من عقله. وسئل ابن المقفع عن الخليل، فقال: عقله أكثر من علمه. ومن الغريب أن المرء عندما يقرأ كتبه ينسى رعونة طبعه، أو يكاد يشك فيما ينسب إليه من القصص التي تدل على ذلك، ويعترف أنه أكبر كُتاب العربية في جوامع وبلاغة الإيجاز، والحكمة المؤسسة على ما يشاهد من عادات الناس، وطباعهم، وأخلاقهم التي تخبر عنها أعمالهم في إيجاز واستيفاء للمعنى، أو شبه استيفاء، وهذا هو معنى تقريظ الأمير شكيب أرسلان الذي ذكرناه.

وفيما يلي بعض نظراته مع شيءٍ من التعليق على بعضها:

(١) ا يمنعك صغر شأن امرئ من اجتناء ما رأيت من رأيه صوابًا، والاصطفاء لما رأيت من أخلاقه كريمًا، فإن اللؤلؤة الفائقة لا تهان لهوان غائصها الذي استخرجها.

(٢) إذا كنت لا تعمل من الخير إلا ما اشتهيته، ولا تترك من الشر إلا ما كرهته فقد أطلعت الشيطان على عورتك، وأمكنته من أزمتك، فأوشك أن يقتحم عليك فيما تحب من عمل الخير، فيُكرِّهه إليك، وفيما تكره من عمل الشر فيُحبِّبه إليك، ولكن ينبغي لك في حب ما تحب من الخير التحامل والصبر على ما يُستثقل منه، وينبغي لك في كراهة ما تكره من الشر التجنب لما يُحب منه.

(٣) إنه تكاد تكون لكل رجل غاليةُ حديثٍ إما عن بلد من البلدان، أو ضربٍ من ضروب العلم، أو صنفٍ من صنوف الناس، أو وجهٍ من وجوه الرأي، أو ما هو شبيه بذلك، وعندما يغرم به الرجل من ذلك يبدو منه السخف، ويُعرف منه الهوى، فاجتنب ذلك في كل موطن.

لا يُوقعنَّك بلاء خلصت منه في آخر لعلَّك لا تخلص منه، وقد يخلص الناس من بلاء بوسائل توقعهم في بلاءٍ آخر، ويوهمون أنفسهم أنهم ربما وجدوا خلاصًا سهلًا من هذا البلاء الآخر متى شاءوا بعد اتخاذه وسيلة للخلاص من البلاء الأول، وأقرب مثل لذلك الكاذب الذي يَخلص من بلاءٍ بكذبةٍ موبقةٍ وادِّعاءٍ يُوقعانه في مؤاخذة لو عُرف بطلان كذبه وادعائه، أو مثل الذي يتجنَّى على آخر، ثم يحاول أن يَخلص من عاقبة تجنِّيه بجناية أخرى.

لو أن رجلًا كان عالمًا بطريق مَخُوف ثم سلكه على علم به سمي جاهلًا، ولعله إن حاسب نفسه وجدها قد ركبت أهواء هجمت بها فيما هو أعرف بضررها فيه وأذاها من ذلك السالك الطريق المخوف، ومَن ركِب هواه ورفَض ما ينبغي أن يعمل بما جرَّبه هو أو أعلمه به غيره، كان كالمريض العالم برديء الطعام والشراب وجيده وخفيفه وثقيله، ثم يحمله الشَّرهُ على أكل رديئه، وترْك ما هو أقرب إلى النجاة والتَّخلُّص من عِلَّته، وأقلُّ الناس عذرًا في اجتناب محمود أفعال وارتكاب مذمومها مَن أبصر ذلك وميَّزه، وعرف فضل بعضه على بعضه، كما أنه لو أن رجلين أحدهما بصير والآخر أعمى ساقهما الأجل إلى حفرة فوقعا فيها، كانا إذا صارا في قاعها بمنزلةٍ واحدة، غير أن البصير أقل عذرًا عند الناس من الضرير؛ إذ كانت للأول عينان يبصر بهما، وهذا بما صار إليه جاهل.

«وللفيلسوف سقراط رأي في موضوع الخير والشر؛ فهو يقول — كما روى أفلاطون عنه: إن المرء لا يرتكب الشر ويختاره وهو يعلم أنه شر، ولا يتجنب الخير وهو يعلم أنه خير. ولعله يعني أن الأهواء تغطي على بصيرته، فيصير علمه جهلًا، فتوهمه أن في عمل الشر خيرًا أكبر، وفي تجنُّب بعض الخير خيرًا أعظم. وهذا كما وصف المأمون به العلم، كما رواه الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: العلم بَصَرٌ في خلافه العَمى، والاستبانة للشر ناهية عنه، والاستبانة للخير آمرة به.»

إن في الناس ناسًا كثيرًا يبلغ من أحدهم الغضب — إذا غضب — أن يحمله ذلك على الكلوح والتقطيب في وجه غير من أغضبه، وسوء اللفظ لمن لا ذنب له، والعقوبة لمن لم يكن يهم بعقوبته، وسوء المعاقبة باليد واللسان لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك، ثم يبلغ به الرضا — إذا رضي — أن يتبرع بالأمر ذي الخطر لمن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويعطي من لم يكن أعطاه، ويكرم من لا حق له ولا مودة، فاحذرْ هذا الباب كله؛ فإنه ليس أسوأ حالًا من أهل القدرة الذين يفرطون باقتدارهم في غضبهم وسرعة رضاهم، فإنه لو وُصِف بصفة مَن يتلبَّس بعقله ويتخبَّطه المسَّ مَن يُعاقب في غير من أغضبه، ويحبو عند رضاه غير من أرضاه؛ لكان جائزًا في صفته. «وهذا يُذكِّرنا الأمراء الذين كانوا يُعاقِبون بالقتل رُسلَهم الذين يبلغونهم خبرًا سيئًا؛ كفرعون في قصة ثيوفيل جوتييه، كما يذكرنا أيضًا دانتريو الشاعر الإيطالي، الذي كان يَمنَح مَن خدَمه ومَن لم يخدمه من خَدَم النُّزل والمطعم مالًا كثيرًا لا تسمو إليه همَّتهم؛ خشية احتقارهم إياه؛ لأنه كان به الشعور بالنقص.»

اعلَمْ أن بعض شدة الحذر عونٌ عليك فيما تحذر، وأن شدة الاتقاء قد تدعو إليك ما تتقي، «وتولع بك ما تخالف ممن تخاف؛ لأن الإفراط في الحذر قد يؤدي إلى الحيرة والارتباك والقلق والتخلُّق بمظاهر الريبة، والمريب مُتَّهم، والريبة تجذب عداوة الناس إلى صاحبها كما يجذب المغناطيس الحديد.»

قارب عدوك بعض المقاربة تنلْ حاجتك، ولا تُقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك عدوك، وتذل نفسك، ويرغب عنك ناصرك، ومثل ذلك مثل العود المنصوب في الشمس إن أَمَلْتَه قليلًا زاد ظلُّه، وإن جاوزت الحد في إمالته نقص الظل.

«وفي التذلل للعدو يقول إبراهيم بن العباس — صاحب المقطعات الجامعة:

يصبح أعداؤه على ثقة = منه وخلانه على وجل
تذلُّلًا للعدو عن ضِعَة = وصَولة بالصديق عن دخل

إياك أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية، وأن يعرف الناس ذلك منك فيكون ثلمة من الثلم يتقحمون عليك منها، وبابًا يفتتحونك منه، وعيبة يغتابونك بها ويضحكون منها.

واعلم أن قابل المدح كمادح نفسه، والمرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده، فإن الراد له محمود، والقابل له معيب. «أين هذا الأدب من هراء سجع الكهان في القول المنسوب إليه: شربت الخطب ريًّا، ولم أضبط لها رويًّا، ففاضت ثم فاضت، فلا هي نظامًا، وليس غيرها من الكلام.»

أمور لا تصلح إلا بقرائنها: لا ينفع العقل بغير ورع، ولا الحفظ بغير عقل، ولا شدة البطش بغير شدة القلب، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير جود، ولا المروءة بغير تواضُع، ولا الخفض — أي اليسر — بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق، «وإلا أدَّى العقل إلى الفساد، والحفظ إلى الخطأ، والبطش إلى الانكشاف والانخذال، وكان الجمال سمجًا، وكان ما تحت الحسب دناءة وشراسة، ووراء السرور همًّا وقلقًا، وكان الغنى بطرًا ولؤمًا، والمروءة منًّا، والخفض عسرًا لا يغني، والاجتهاد عناء وخيبة.»

إن صحبة الأشرار ربما أورثت صاحبها سوء الظن بالأخيار، وحملته تجربته في صحبتهم على الخطأ — وأقل ما يكون من ذلك أن الأخيار إذا عاملوه بالكرم والخير واللين حسب كل ذلك منهم فخًّا وشركًا يريدون أن يوقعوه فيه — وقد يُغالي فيحسب كل بريء متهمًا حتى تظهر براءته، بدل أن يحسب كل متهم بريئًا حتى تظهر إدانته، وبطبيعة عملهم ومقابلتهم للأشرار، يميل رجال الشرطة ومن شابههم إلى سوء الظن بالناس.

إذا أردت السلامة فأشعِرْ قلبك الهيبة للأمور من غير أن تظهر منك الهيبة، فيفطن الناس لهيبتك، ويجرئهم عليك ظهورها يدعو إليك منهم كل ما تهاب؛ فاشحذ طائفة من رأيك لمداراة ذلك من كتمان المهابة، وإظهار الجرأة والتهاون، وعليك بالحذر في أمرك، والجرأة في قلبك، حتى تملأ قلبك جرأةً، ويستفرغ الحذر عملك. «وإنما يريد بالهيبة ذلك الحذر الذي يصون عمله من الخطأ.»

ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم، فيكون افتقارك إليهم في لين كلمتك، وحسن بِشْرك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك، وبقاء عزِّك: «وليس لين الكلمة وحسن البشر نقصًا ومذلة كما يعدهما ذو النقص، قال المأمون — كما روى الثعالبي: ما تكبَّر أحد إلا لنقص وجَده في نفسه، ولا تطاوَل إلَّا لوهنٍ أحسَّه منها.»

إذا نابت أخاك نائبة من النوائب، من زوال نعمة، أو نزول بلية، فاعلم أنك قد ابتليت معه إما بالمؤاساة فتشاركه في البلية، وإما بالخذلان فتحتمل العار، فالتمس المخرج عند اشتباه ذلك، وآثر مروءتك على ما سواها، فإن نزلت الجائحة التي تأبى نفسك مشاركة أخيك فيها فأجملْ — أي في معاملته وعنده ذكره ولقياه — فلعل الإجمال يَسَعُكَ لقِلَّته في الناس؛ «إذ إن أكثرهم ينقلب فيصير عدوًا كي لا يقال إنه خذل صديقًا.»

اعرف عورتك، وإياك أن تُعَرِّض بأحد فيما شاركها، واعلم أن الناس يخدعون أنفسهم بالتعريض والتوقيع بالرجال في التماس مثالبهم ومساويهم ونقيصتهم، وكل ذلك أبين عند سماعه من وضح الصبح، فلا تكونن من ذلك في غرور، ولا تجعلن نفسك من أهله.

من الدليل على سخافة المتكلم أن يكون ما يُرى مِن ضَحِكه ليس على حسب ما عنده من القول، أو الرجل يُكلِّم صاحبه فيجاذبه الكلام ليكون هو المتكلم، أو يتمنَّى أن يكون صاحبه قد فرغ وأنصت، فإذا أنصت لم يُحسِن الكلام.

وقِّر مَن فوقك ومَن دونك، وأحسن مؤاتاتك الأكفاء، وليكن آثر ذلك عندك مؤاتاة الإخوان، فإن ذلك هو الذي يشهد لك بأن إجلالك من فوقك ليس بخنوع لهم، وإن لينك لمن دونك ليس لالتماس خدمتهم.

إن أمور الدنيا ليس شيء منها بثقة، وليس شيء من أمرها يدركه الحازم إلا قد يدركه العاجز، بل ربما أعيا الحَزَمَة ما أمكن العَجَزة، فإذا أشار عليك صاحبك برأي فلم تجد عاقبته على ما كنت تأمُل؛ فلا تجعل ذلك عليه لومًا وعذلًا، تقول: أنت فعلت هذا بي، وأنت أمرتني، ولولا أنت، ولا جرم لا أطيعك؛ فإن هذا كله ضجر ولؤم وخفة، وإن كنت أنت المشير فعَمِل برأيكَ أو ترَكَ، فبَدَا صوابُك؛ فلا تَمْتَنَّ ولا تُكْثِرَنَّ ذكره، ولا تَلُمْ عليه إن كان استبان في ترْكِ نُصْحك ضررًا، تقول: ألم أقل لك؟ ألم أفعل؟ فإن هذا مجانب لأدب الحكماء.

العُجب آفة العقل، واللجاج عقيد الهوى، والبخل لقاح الحرص، والمراء فساد اللسان، والحمية سبب الجهل، والأَنَفُ توءم السَّفه، والمنافسة أخت العداوة؛ «فالمعجب بنفسه يُزين له عُجبه الخطأ فلا يراه خطأً، والكثيرُ اللجاج كثيرُ العناد في الدفاع عن هواه، والبخل يربيه الحرصُ ويُنميه، حتى يستفحل ويَحرم نفسه وغيره مما وهبه الله، والمراء يستدرج إلى بذاءة اللسان، والحمية إذا استشرت كانت من دلالات الحمق، والأنَفُ من التَّسهُّل في معاشرة الناس يؤدي إلى السَّفه، والمنافسة في حطام الدنيا كثيرًا ما تؤدي إلى العداوة بين الآحاد والأمم.»


مجلة المقتطف
١٩٥١


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...