كليلة و دمنة حامد طاهر - المضمون الأخلاقى فى كتاب كليلة ودمنة (دراسة تحليلية)

يعد كتاب "كليلة ودمنة" ، الذى ترجمة عبد الله بن المقفع فى النصف الأول من القرن الثانى الهجرى ، من أوائل ما نقل إلى اللغة العربية فى تاريخ الحضارة الإسلامية . والواقع أن هذا الكتاب النفيس قد احتل منذ ذلك الوقت مكانة كبيرة لدى المسلمين ، واستمرت هذه المكانة على مدى العصور حتى يومنا هذا . فما زالت تتوالى طبعات الكتاب الشعبية ، وتتم قراءته فى المدارس على نطاق واسع ، كما أنه تحول فى الآونة الأخيرة إلى مادة تلفزيونية تجتذب الصغار والكبار معا . ولا شك فى أن محافظة كتاب كهذا على ذلك العمر الطويل ترجع ، فى رأينا ، إلى عدة عوامل ، يتصل بعضها ببناء الكتاب الخارجى ، وبعضها الآخر بمادته ومضمونه . وهذه العوامل بالطبع متضافرة، وممتزجة فيما بينها ، إلا أننا نعرضها هنا هذا النحو لمزيد من التفصيل .

أما العوامل الخاصة ببناء الكتاب الخارجى ، فيمكن أن نلخصها فيما يلى :

أولاً : يعتمد الكتاب على الأسلوب القصصى المتنامى ، أى الذى تسلم فيه القصة إلى قصة أخرى ، وربما إلى ثالثة ورابعة . وفى كل قصة تتعرض الشخصيات لمواقف درامية معقدة ، ونجدها تتصرف بذكاء ، وتتخاطب بإقناع .

ثانيًا : أن معظم شخصيات هذه القصص من الطيور والحيوانات . وهى بذلك تنتمى إلى عالم مجهول من الإنسان ، ولكنه مشوق له على الدوام ، فهو يستثير خيال القارئ بالإضافة إلى استثاره عقله ، حيث يجد نفسه مطالبًا بإرجاع كل شخصية من الطيور والحيوانات إلى ما يشبهها فى عالم البشر : فالأسد رمز للملك، والنمر رمز للوزير ، والثعلب للشخص الماكر ، والحمامة للإنسان الطيب .. وهكذا

ثالثًا : أنه يستخدم لغة سهلة ورشيقة ، ويكاد يخلو تمامًا من الإملال ، نتيجة استخدامه طريقة الحوار ، واعتماده أحيانا على الفكاهة .

رابعًا : أن الكتاب يبدأ بأربع مقدمات ، تبين أهميته ، ومدى قيمته العالمية : فهناك حرص ملك الفرس على اقتنائه ، ومحاولته فى الحصول عليه من الهنود ، بالإضافة إلى دعوة القارئ إلى تناوله بعناية ، والاستفادة من "جواهر" معانيه المخبوءة وراء شكله الظاهرى .

وأما العوامل الخاصة بمادة الكتاب ومضمونه ، فأهمها :

أولاً : أنه يمتلئ بالحكم والأمثال التى تعتبر خلاصة مركزة لآراء الفلاسفة وتجارب الشعوب القديمة ، ويمكن بسهولة أن يجد القارئ فى كل زمان ومكان انعكاساتها الواضحة على حياته وعصره.

ثانيًا : أن الكتاب يمجد الفضائل الأساسية كالوفاء والكرم والشجاعة والعفة الخ ، ويدين الرذائل والشرور فى شتى مظاهرها . ومن هنا صلح أن يستخدم وسيلة جيدة من وسائل تهذيب أخلاق النشىء وتربيته فى مختلف العصور .

ثالثًا : أن الكتاب يصور فى الغالب بيئة الملوك والحكام والحاشية المحيطة بهم . ومن المعروف أن هذه البيئة تثير دائمًا فضول الجماهير ، وتستهوى مزاجهم ، كما هو الحال فى ألف ليلة العربية ، والمآسى الإغريقية ، ومسرحيات شكسبير الملكية .

رابعًا : أن مترجمه الذكى ، ابن المقفع ، قد كساه بطابع دينى واضح جدًا فى لغته العربية التى تشيع فيها ألفاظ الرضا بالمقدور ، وأحوال الدين والدنيا ، والآخرة والأولى . وهذا ، فى رأينا ، ما جعل الكتاب يدخل بسرعة فى بناء الثقافة الإسلامية ، ويصبح ، على الرغم من أصله الأجنبى ، معلما بارزًا من معالمها .

بناء الكتاب :

يحتوى كتاب كليلة ودمنة على أربع مقدمات ، تليها (14) حكاية رئيسية، موزعة على (15) بابا .
أما المقدمات الأربع ، فأولاها مقدمة على بن الشاه الفارسى، وفيها يذكر الدافع وراء تأليف الفيلسوف الهندى القديم بيديا كتاب كليلة ودمنة لدبشليم، ملك الهند (سبب تأليف الكتاب) .
وتحكى المقدمة الثانية رحلة الحكيم الفارسى برزويه إلى بلاد الهند مبعوثًا من قبل كسرى ، ملك الفرس ، لمحاولة اصطحاب الكتاب ، ونقله إلى اللغة الفارسية (محاولة الحصول على الكتاب) .
والمقدمة الثالثة بقلم ابن المقفع ، مترجم الكتاب إلى اللغة العربية ، وفيها يبين أهمية الكتاب ، ويدعو القارئ إلى تدبر معانيه بعمق (أهمية الكتاب) .
أما المقدمة الرابعة ، فهى عبارة عن قصة حياة برزويه ، الحكيم الفارسى الذى أحضر الكتاب من الهند ، وترجمه إلى اللغة الفارسية ، وقد كتبها بزرجمهر ، وزير كسرى بنفسه ، تحقيقًا لرغبة الحكيم فى أن يخلد اسمه ، بوضع ترجمة حياته فى مقدمة هذا الكتاب النفيس (سيرة المترجم الفارسى) .

أما الأبواب الخمسة عشر ، فإنها تتوالى على النحو الآتى :
1- باب الأسد والثور ، وموضوعه الرئيسى الوشاية الماكرة التى تفسد بين شخصين متحابين .
2- باب الفحص عن أمر دمنة ، وهو عبارة عن تكملة للموضوع السابق ، وموضوعه المصير السىء للواشى .
3- باب الحمامة المطوقة ، وموضوعه الرئيسى بداية تواصل إخوان الصفاء ، واستمرار مودتهم .
4- باب البوم والغربان ، وموضوعه الرئيسى عدم الاغترار بالعدو ، وإن أظهر تضرعًا وملقا .
5- باب القرد والغيلم()، وموضوعه الرئيسى إضاعة ما يسعى إليه الإنسان ، بعد بذل الجهد فيه .
6- باب الناسك وابن عرس()، وموضوعه الرئيسى ثمرة العجلة فى الأفعال .
7- باب الجرذ والسنور()، وموضوعه الرئيسى الالتجاء إلى موالاة بعض الأعداء عند كثرتهم حول الإنسان .
8- باب ابن الملك والطائر فنزة ، وموضوعه الرئيسى ضرورة اتقاء أصحاب الثأر بعضهم بعضا .
9- باب الأسد والشغبر() الناسك ، وموضوعه الرئيسى مراجعة الملك من عاقبهم بدون جرم ، أو جفاهم ذنب .
10- باب إبلاذ وبلاذ وبراخت ، وموضوعه الرئيسى الأمور التى يثبت بها المُلك : هل هى الحلم أو المروءة أو الشجاعة أو الجود ؟
11- باب اللبؤة والإسوار() والشغبر ، وموضوعه الرئيسى العفو عند المقدرة، والاعتبار بما ينزل بالمرء من المصائب .
12- باب الناسك والضيف ، وموضوعه الرئيسى ترك الإنسان ما يحسنه إلى غيره ، مع عدم إجادته فيه ، وبقاؤه متحيرا .
13- باب السائح والصائغ ، وموضوعه الرئيسى وضع المعروف فى غير موضعه ، مع رجاء الشكر عليه .
14- باب ابن الملك وأصحابه ، وموضوعه الرئيسى رفعة الجاهل فى الدنيا ، وابتلاء العاقل الحكيم .
15- باب الحمامة والثعلب ومالك الحزين() ، وموضوعه الرئيسى عاقبة تقديم المشورة للغير ، مع عدم تقديمها للنفس .

تحليل مقدمة ابن المقفع :

سبق أن ذكرنا أن مقدمة ابن المقفع تحتل الموضع الثالث بين المقدمات الأربع التى صدر بها كتابة كليلة ودمنة . وهى تهمنا بصفة خاصة لأنها مقدمة المترجم الذى نقل الكتاب من اللغة الفارسية القديمة إلى اللغة العربية . ومما لا شك فيه أن مؤلف أى كتاب إذا كان يعى جيدًا أهمية كتابه ، فإن مترجمه هو أدرى الناس بهذه الأهمية . لأن المترجم لا يقدم ، فى الغالب ، على نقل كتاب أجنبى إلى لغة قومه إلا بعد أن يكون قد أدرك قيمة هذا الكتاب فى اللغة الأم الموضوع فيها ، أو أحس بحاجة أهل لغته إلى أن يسد هذا الكتاب ثغرة فى ثقافتهم ، أو يضيف جديدًا إلى تراثهم .
ومن المعروف – فى مجال الترجمة – أن المترجم يود دائمًا أن ينقل بكل دقة ما يوجد فى اللغة الأجنبية ، ولكن لغته كثيرًا ما تخونه ، أولا تسعفه بالألفاظ الكافية ، أو الدالة ، أو قد يغمض المعنى فى اللغة الأصلية بحيث يتعذر نقله بوضوح إلى اللغة المنقول إليها . ولهذا فإن مأساة المترجم حقيقية . ونادرًا ما نجد المترجم الأصيل راضى البال تمامًا عما قام به . ومع ذلك ، فإن المترجم قد يصرح لنا ببعض المعلومات حول العمل الذى قام بترجمته . وعندئذ تعتبر هذه المعلومات غاية فى الأهمية ، لأنها قد توضح لنا سبب اختياره للكتاب الذى ترجمه ، أو تشير إلى مواطن القوة فيه ، أو ترشد إلى المقاصد الخفية التى يكون المترجم أقدر من غيره على إدراكها .
ومقدمة ابن المقفع لكليلة ودمنة تحتوى على الكثير من ذلك . فهى تبدأ ببيان أهمية الكتاب باعتباره أبلغ ما وضع علماء الهند فى فن التألف . يقول ابن المقفع : "هذا كتاب كلية ودمنة ، وهو مما وضعه علماء الهند من الأمثال والأحاديث التى ألهموا أن يدخلوا فيها أبلغ ما وجدوا من القول فى النحو الذى أرادوا"() .

أما المضمون فإن ابن المقفع يصرح بأنه يتمثل فى "الحكمة" التى تم عرضها بأسلوب مسل ، يجذب الخاصة والجمهور على السواء . يقول : "وأما الكتاب فجمع حكمة ولهوا : فاختاره الحكماء لحكمته ، والسفهاء للهوه() وبالنسبة إلى المتعلم الناشئ فإنه يتقبله فى البداية بسهولة ، لكنه عندما يكبر وينضج يدرك أنه يمتلك بالفعل كنزًا من كنوز الحكمة" فأغناه ما أشرف عليه من الحكمة ، عن الحاجة إلى غيرها من وجوه الأدب"() .
ويدعو ابن المقفع قارئ كليلة ودمنه إلى ضرورة تدبر مقاصد الكتاب التى تكمن خلف بنائه الظاهرى على ألسنة الحيوانات والطيور : "ينبغى لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التى وضعت له ، وإلى أى غاية جرى مؤلفه فيه عندما نسبة إلى البهائم ، وأضافه إلى غير مفصح ، وغير ذلك من الأوضاع التى جعلها أمثالاً ، فإن قارئه متى لم يفعل ذلك لم يدر ما أريد بتلك المعانى ، ولا أى ثمره يجتنى منها ، ولا أى نتيجة تحصل له من مقدمات ما تضمنه الكتاب، وإنه وإن كان غايته استتمام قراءته إلى آخره دون معرفة ما يقرأ منه لم يعد عليه شئ يرجع إليه نفعه"() .
وهكذا يتبين أن "المضمون" هو المقصود الأساسى من كتاب كليلة ودمنة ، وأن الشكل بالتالى ما هو إلا وسيلة لتوصيل هذا المضمون إلى القراء. يقول ابن المقفع : "وقد ينبغى للناظر فى كتابنا هذا ألا تكون غايته التصفح لتزاويقه ، بل يشرف على ما يتضمن من الأمثال، حتى ينتهى منه ، ويقف عند كل مثل وكلمة ، ويعمل فيه رويته"() .
ومما يؤكد ذلك أن ابن المقفع يدعو القارئ – بعد أن يدرك مقاصد الكتاب وأغراضه الأساسية – أن يطبقها فى حياته العملية ؛ لأن "العلم لا يتم إلا بالعمل"() . وهذا هو مفهوم الحكمة الذى كان شائعًا لدى الفلاسفة والمفكرين فى الحضارات القديمة ، المصرية والهندية والفارسية ، ثم انتقل منها إلى الحضارة الإغريقية ، وانتشر بعد ذلك فى الحضارة الإسلامية . يقول ابن المقفع : "إن العاقل إذا فهم هذا الكتاب وبلغ نهاية علمه فى ، ينبغى له أن يعمل بما علم منه لينتفع به، ويجعله مثالاً لا يحيد عنه"().

ويتفق ابن المقفع مع كل من أفلاطون وأرسطو فى أن الأفعال الأخلاقية تعتبر نتيجة منطقية للعلم بها ، لأنه على قدر العلم تكون المسئولية فى الجزاء على التقصير ، كما لو أن رجلين أحدهما بصير، والأخر أعمى ، ساقهما الأجل إلى حفرة فوقعا فيها ، كانا إذا صارا فى قاعها بمنزلة واحدة ، غير أن البصير أقل (عذرا) عند الناس من الضرير ، إذ كانت له عينان يبصر بهما ، وذاك (أى الأعمى) بما صار إليه جاهل غير عارف"() .
وينبه ابن المقفع إلى قاعدة أساسية فى مجال التربية والإصلاح الاجتماعى والأخلاقى بصفة عامة ، تتمثل فى ضرورة أن يبدأ الإنسان بإصلاح نفسه ، قبل أن يتصدى لإصلاح الآخرين ، وكذلك يحذر من أن يكون هدف الإنسان من تحصيل العلم إنما هو نفع الآخرين دون أن ينتفع هو به قبلهم ، فيصبح "كالعين التى يشرب الناس ماءها ، وليس لها فى ذلك شئ من المنفعة ، وكدودة القز التى تحكم صنعته ولا تنتفع به ، فينبغى لمن طلب العلم أن يبدأ بعظة نفسه، ثم عليه بعد ذلك أن يقبسه" أى يذيعه بين الناس .

ويصرح ابن المقفع بالهدف النهائى من كليلة ودمنة حين يقول : "يجب على قارئ هذا الكتاب أن يديم النظر فيه من غير ضجر ، ويلتمس جواهر معانيه ، ولا يظن أن نتيجته الإخبار عن حيلة بهيمتين أو محاورة سبع لثور ، فينصرف بذلك عن الغرض المقصود"() وبعد أن يورد حكاية تتضمن غفلة الشخص عن الهدف الأصلى الذى يبحث عنه مع وجوده بين يديه ، يقول معقبا : "وكذلك الجهال ، إذا أغفلوا أمر التفكر فى هذا الكتاب ، وتركوا الوقوف على أسرار معانيه ، وأخذوا بظاهره"() .

وأخيرًا تنتهى مقدمة ابن المقفع بتنبيه القارئ إلى أغراض الكتاب حتى لا يخطئ الهدف الحقيقى من قراءته . وهو يقسم هذه الأغراض إلى أربعة : أحدها : ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان ، فتستمال به قلوبهم : لأنه الغرض بالنوادر من حيل الحيوان .
والثانى : إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأصباغ والألوان ، ليكون أنسًا لقلوب الملوك ، ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة فى تلك الصور .
والثالث : أن يكون على هذه الصفة : فيتخذه الملوك والسوقة، فيكثر بذلك انتساخه ، ولا يبطل ، فيخلق (أى يبلى) على مرور الأيام، ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبدا .
والغرض الرابع : وهو الأقصى ، وذلك مخصوص بالفيلسوف وحده"() .
ولا شك فى أن هذا الغرض الأخير هو – فى رأينا – مقصود الكتاب الأصلى. ويترتب على ذلك أن قراءة "كليلة ودمنة" ينبغى أن تتم على هذا المستوى الفلسفى ، دون التوقف كثيرًا على الوسائل الفنية التصويرية – التى تقع مهمة دراستها على عاتق باحثين آخرين فى مجالات أخرى . وهذا هو السبب الذى دعانا إلى أن نركز على المضمون الأخلاقى فى الكتاب ، دون أن يكون هذا التركيز نتيجة فكرة مسبقة ، أو فرضًا لوجهة نظر خارجية ، وإنما هو نابع من واقع العمل نفسه ، واستجابة طبيعية لدعوة مترجم الكتاب ، والمقدمات التى تؤدى إلى ذلك .

تصنيف المادة الأخلاقية فى كليلة ودمنة :

عناصر المادة الأخلاقية فى كليله ودمنه متناثرة فى ثنايا الحكايات كلها. وهى تكون فى الغالب جزءًا أساسيًا من الحوار الذى يدور بين الشخصيات . ومع ذلك فمن الممكن فصلها على حدة ، وتبويبها كما فعلنا هنا. فبعد أن قمنا باستخلاص عناصر هذه المادة، كل على حدة ، عمدنا إلى تصنيفها فى مجموعات مستقلة ، وقد أمكن وضع عناوين رئيسية لكل مجموعة . وفيما يلى قائمة مرتبة بهذه المجموعات تبعًا لعدد النصوص التى تحتوى عليها كل منها :

م الموضـــوع عدد النصوص الواردة فيه
1 العقل والعاقل 52
2 السلطان وصحبته 51
3 الصديق 35
4 أخلاق سيئة 20
5 العدو 19
6 نصائح وحكم 16
7 أخلاق حسنة 14
8 طبيعة الإنسان 13
9 المال وعدمه 11
10 القضاء والقدر 10
11 الحيلة 8
12صاحب الدنيا 7
13متفرقات 12

ومن الطبيعى أن يحتوى كل موضوع من هذه الموضوعات السابقة على عدة أفكار فرعية تعتبر جوانب مختلفة له . أما كل نص فإنه يشتمل على فكرة محددة . وهو يتكون من جملة أو فقرة ذات طابع تقريرى يبدو عادة فى شكل جملة اسمية (تبدأ باسم) . وقد يتم أحيانا تأكيدها بحرف التأكيد (إن) ، أو بحرف الحصر (إنما) ، لكنها عندما ترد فى شكل جملة فعلية (مبدوءة بفعل) فإنها تسبق عادة بعبارة (ينبغى) أو (لا ينبغى) ، وهى عبارة معيارية تضع النماذج التى يجب – أولا يجب – اتباعها .
إن إعادة ترتيب هذه النصوص والفقرات الأخلاقية المتناثرة فى ثنايا الحوار – لا تساعد ، فى رأينا ، على تكوين تصور متكامل للمضمون الأخلاقى لكتاب كلية ودمنة فحسب ، وإنما تعتبر أيضا استجابة طبيعية لدعوة ابن المقفع إلى اكتشاف هذا المضمون . ثم إننا الآن أمام واحدة من طريقتين لعرض تلك المادة الضخمة من الحكم والأمثال والنصائح والتحذيرات :
أ-إما أن نعرضها كما هى تبعًا لأولية ورودها فى الكتاب . وهذا أمر سهل، لأنه لا يتطلب منا أكثر من أن نتتبع أرقام الصفحات ، ونوردها فى ترتيبها العادى .
ب-وإما أن نتدخل بعملية صياغة جديدة للنصوص نفسها ، مع محاولة وضعها فى نسق منطقى متدرج ، بحيث تخرج فيه النتائج بصورة طبيعية من مقدمتها . وهذا كما هو واضح طريق صعب ، لكننا نفضله لأنه يتقدم بهذه الدراسة خطوة أخرى إلى الأمام ، فى مجال الترتيب الموضوعى للكتاب .
ولكن نسهل على القارئ عملية ارجاع النصوص التى اعتمدنا عليها إلى مواضعها من كتاب "كليلة ودمنة" فإننا سنضع أرقام صفحاتها بين قوسين هكذا ( ) عقب كل نص أو فكرة نوردها ، علمًا بأننا قد اعتمدنا على طبعة الشعب (القاهرة 1966) .

1- العقل والعاقل :

تبين القائمة التى أوردناها أن هذا الموضوع يحظى بأكبر قدر من النصوص فى كتاب كليلة ودمنة (52 نصا) . ومن الواضح أن الاهتمام به يتمشى مع هدفه الأساس الذى يمجد الحكمة ، فهى كنز لا يفنى على إنفاق (8)، يرفع من شأن الحكماء . وإنه إذا كان للملوك فضل فى مملكتها ، فإن للحكماء فضلاً فى حكمتها أعظم ، لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم ، وليس الملوك بأغنياء عن الحكماء بالمال(7) .
والواقع أن الحكماء الذين هم صفوة العقلاء ، لا يشيرون على الإنسان إلا بالخير ، فى حين أن الجهال يشيرون بضده(8) ، وبالتالى فإن من لم يستحى من الحكماء ويكرمهم ، ويعرف فضلهم على غيرهم ، ويصنهم عن المواقف الواهنة ، وينزههم عن المواطن الرذلة .. كان ممن حرم عقله ، وخسر دنياه، وظلم الحكماء حقوقهم، وعد من الجهال(7) .
إن العقل أفضل من كل شئ (1.8) ، حتى أن أسعد الناس فى الدنيا والآخرة من رزقه الله رأيا وعقلا (11.) وإذا قورن بين ما يحققه الإنسان فى حياته ، ظهر أن عمل يوم واحد ، إذا أجهد فيه الرجل بدنه ، قيمته درهم ، وجمال يوم واحد يساوى خمسمائه درهم، وعقل يوم واحد ثمنه مائة ألف درهم (1.9) .
ثم إن العقل واحد من أربعة أمور اختص بها الإنسان ، من بين سائر الحيوان ، وهى جماع ما فى العالم : الحكمة والعفة والعقل والعدل :
فالعلم والأدب والروية داخلة فى باب الحكمة ،
والحلم والصبر والوقار داخلة فى باب العقل ،
والحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلة فى باب العفة ،
والصدق والإحسان والمراقبة وحسن الخلق داخلة فى باب العدل . وهذه هى المحاسن ، وأضدادها المساوئ (8) .
والعقل لصاحبه كالعين للبصير . فكما أن البصير يبصر أمور العالم ، وما فيه من الزيادة والنقصان والقريب والبعيد ، فكذلك العالم يبصر البر والإثم، وبعرف عمل الآخرة ، وتتبين له نجاته ، ويهتدى إلى صراط مستقيم (1..) .
والعاقل إنسان مستفيد من تجارب ماضيه ، ملاحظ جيد لحاضره، متطلع إلى مستقبله من أجل اجتلاب المنافع ، وإبعاد المضار : "إن أمورًا ثلاثة ، العاقل جدير بالنظر فيها ، والاحتيال لها بجهده :
منها النظر فيما مضى من الضر والنفع ، فيحترس من الضر الذى أصابه فيما سلف لئلا يعود إلى ذلك الضر ، ويلتمس النفع الذى مضى ويحتال لمعاودته .
ومنها النظر فيما هو مقيم فيه من المنافع والمضار ، والاستيثاق بما ينفع، والهرب مما يضر .
ومنها النظر فى مستقبل ما يرجو من قبل النفع ، وما يخاف من قبل الضر ، فيستتم ما يرجو، ويتوقى ما يخاف يجهده(39) .
ويتبين عقل الرجل فى ثمانى خصال :
1-الرفق .
2-أن يعرف الرجل نفسه فيحفظها .
3-طاعة الملوك ، والتحرى لما يرضيهم .
4-معرفة الرجل موضع بره ، وكيف ينبغى أن يطلع عليه صديقه .
5-أن يكون على أبواب الملوك أديبا ، قلق اللسان (أى فصيحا) .
6-أن يكون لسره ، وسر غيره حافظا .
7-أن يكون على لسانه قادرًا ، فلا يتكلم إلا بما يأمن تبعته .
8-إن كان يالمحفل .. لا يتكلم إلا بما يسأل عنه .
فمن اجتمعت فيه هذه الخصال ، كان هو الداعى إلى الخير إلى نفسه (17) .
والعاقل لا يخفى فضله ، حتى وإن أخفاه ، فهو كالمسك الذى يكتم، ثم لا يمنعه ذلك من النشر الطيب والأرج الفائح (63) وإنما كان الفضل للعاقل بسبب حزمه ، وبصره بالأمور ، أما الكسلان المتردد فإن الفضل لا يصحبه أبدا (67) .
وبالنسبة إلى موقف العاقل من المال ، فإنه لا ينبغى أن يلتمس من الدنيا غير الكفاف الذى يدفع به الأذى عن نفسه ، وهو اليسير من المطعم والمشرب إذا اشتمل على صحة البدن ، ورفاهية البال (67) وبالتالى فإنه لا يحزن لقلة المال أبدًا ، فإن المال الكثير كظل الغمامة فى الصيف ، لاثبات له ، وإنما مال العاقل عقله ، وما قدم من صالح الأعمال (67) وإذن ، يجدر بالعاقل أن يكون سعيه فى طلب ما يبقى ويعود نفعه عليه غدا ، وأن يمقت بسعيه ما سوى ذلك من أمور الدنيا ، فإن منزلة المال عند العاقل بمنزلة المدر (قطع الطين اليابس)، ومن هنا قيل إن العاقل لا غربة له ، فهد كالأسد الذى لا ينقلب إلا ومعه قوته (67) لأن الدنيا لا تأسره وبأشيائها ، أو ممتلكاتها الزائلة .
وإذا كان العقل هو رأسمال العاقل ، الذى يعتمد اعتمادًا أساسيا عليه ، فلا ينبغى له أن يغتر بذلك ، فيجلب العداوة على نفسه ، اتكالاً على ما عنده من الرأى والقوة ، كما أنه وإن كان عنده الترياق (دواء السم) لا ينبغى له أن يشرب السم اتكالاً على ما عنده (74) . والواقع أنه لا يقدم على طلب ما يضر بالناس وما يسوؤهم إلا أهل الجهالة والسفه وسوء النظر فى العواقب من أمور الدنيا والآخرة وقلة العلم بما يدخل عليهم فى ذلك من حلول النقمة ، وبما يلزمهم من تبعة ما اكتسبوا مما لا تحيط به العقول(1.2) .
ولا ينبغى للعاقل أن يحتقر صغيرًا ولا كبيرًا من الناس ، ولا من البهائم، ولكنه جدير بأن يبلوهم (يختبرهم) ويكون ما يصنع إليهم على قدر ما يرى منهم (1.5) ، ولهذا كان عليه ألا يغفل عن التماس ما فى نفس أهله وولده وإخوانه وأصدقائه ، عند كل أمر ، وفى كل لحظة وكلمة ، وعند القيام والقعود، وعلى كل حال ، فإن ذلك كله يشهد على ما فى القلوب (81) فإنه ربما أساء إلى من لا ذنب له ، أو كافأ من أساء فى حقه . فالعاقل لا يعجل فى العذاب والعقوبة ، ولا سيما من يخاف الندامة(1..) .
والعاقل إذا نزل به الأمر الصعب لم يدهش له ، ولم يذهب قلبه شعاعا، ولم تعجز به حيلته ومكيدته التى يرجو بها المخرج منه ، والأعقل من هذا المتقدم ذو العدة الذى يعرف الابتلاء قبل وقوعه ، فيعظمه إعظاما ، ويحتال له حتى كأنه قد لزمه ، فيحسم الداء قبل أن يبتلى به ، ويدفع الأمر قبل وقوعه (42) . وهكذا فإن المصيبة إذا نزلت بالعاقل اتقاها أولاً بالصبر (77) ثم تخلص منها بعد ذلك بالعقل والحيلة ، كالرجل يعثر على الأرض ، ثم ينهض عليها معتمدًا"(82) .
ومن خصائص العاقل أنه لا يقنط أبدًا من منافع الرأى ، ولا ييأس على أى حال ، ولا يدع الرأى والجهد (43) ، كما أنه لا يستنكف أن يشاور من هو دونه ، أو يتردد فى أن يأخذ رأى من هو فوقه فى المنزلة . فإن الرأى الفرد لا يكتفى به فى الخاصة ، ولا ينتفع به فى العامة(7) ، بل إن من أغرب الأمور أن ذا العقل لا يدع مشاورة عدوه (4.) وهذا ناتج من أن العاقل بصفة عامة ، والفيلسوف خاصة ، جدير بأن تكون همته مصروفه إلى ما يحصّن به نفسه من نوازل المكروه ، ولواحق المحذور ، ويدفع المخوف لاستجلاب المحبوب(5) .
والقاعدة الأساسية لدى العاقل هى ألا يغيب عن مصلحته . فربما أبغض الرجل وكرهه ، ثم قربه وأدناه ، لما يعلم عنده من الغناء والكفاية، فعل الرجل المتكاره على الدواء الشنيع رجاء منفعته . وربما أحب الرجل، وعز عليه ، فأقصاه وأهلكه مخافة ضرره ، كالذى تلدغه الحية فى إصبعه فيقطعها ويتبرأ منها مخافة أن يسرى سمها إلى بدنه (53) . كذلك فإن العاقل لا يثق بأحد ما استطاع ، ولايقيم على خوف ، وهو يجد عنه مذهبا (9.) لكنه إذ أحس من أحد خوفًا على نفسه ، فإنه لا يرحمه (53) ، بل إنه لا ينبغى أن يراجع فى أمور الشخص الذى يكفر الحسنى ، ويتجرأ على الغدر ، فيجزيه بعمله(94) .
وينبغى للعاقل أن يكون متهما لهواه . ولا يقبل من كل أحد حديثا . ولا يتمادى فى الخطأ إذا ظهر له خطؤه . ولا يقدم على أمر حتى يتبين له الصواب وتتضح له الحقيقة (24). والعاقل هو الذى يحتال للأمر قبل تمام وقوعه . فإنك لا تأمن أن يكون ولا تستدركه (43) ومن المقرر أن من لم يفكر فى العواقب لم يأمن المصائب ، وحقيق ألا يسلم من المعاطب (1.2) .
والعاقل مع العدو قد يبلغ بحيلته ما لا يبلغه غيره بالخيل والجنود(6) بل إن رأى الرجل الواحد ، العاقل الحازم ، أبلغ فى هلاك العدو من الجنود الكثيرة، ذوى البأس والنجدة ، والعدد والعدة (79) . وفى هذا الإطار ، نجد ذا الرأى يجعل القتال آخر الحيل ، ويبدأ قبل ذلك بما استطاع من رفق وتمحل (49) وربما يصالح العاقل بعض أعدائه ، فيفى له بما تعهده من نفسه ، لكنه لا يثق به كل الثقة ، ولا يأمنه على نفسه مع القرب منه ، بل ينبغى أن يبعد عنه ما استطاع(87) ومن المقرر أن العقلاء قد نهوا عن الاقتراب من الموْتور ، فإنه لا يزيدك لطف الحقود ولينه وتكرمته إياك إلا وحشة منه ، وسوء ظن به (88) وقد قيل إن مجاورة السبع والكلب والحية والثور ، مع طيب الوطن ونضارة العيش، تعتبر غدرًا بالنفس (5) .
وينبغى أن يتحلى العاقل بالأدب . فإن الأدب يذهب عنه الطيش ، كما أنه يزيد الأحمق طيشا .. تمامًا كما أن النهار يزيد كل ذى بصر بصرًا ، ويزيد الخفاش سوء النظر (51) .
ومن سمات العاقل الحكم على الأمور بما تستحق . فإن من صدق ما ينبغى أن يكذب ، وكذب ما ينبغى أن يصدق ، خرج من مصاف العقلاء ، وكان جديرًا بالازدراء (55) كذلك فإنه لا يتكلف من الأمور إلا ما يشاكله ، ويتقن عمله ، ويكون قد تأدب عليه من آبائه وأجداده(14) .
ويلاحظ أن مفهوم العقل ، فى كتاب كليلة ودمنة ، يتمثل فى أنه الملكة المكتسبة التى تتكون من طريقين :
أ-التجربة المستقاة من تجارب الأجيال السابقة .
ب-الملاحظة الفردية المحدودة فى إطار العلاقات الاجتماعية .
والخلاصة :
أن المادة المتعلقة بموضوع العقل والعاقل تبين أن هذا العقل عقل عملى Pratique يهدف إلى خدمة مصالح صاحبه فى المقام الأول ، ويكاد ينحصر جهده فى التحايل من أجل أن يجلب له المنفعة، ويبعد عنه الأذى. وهو أيضًا عقل ذكى وماكر : ذكاؤه فى حصانته من خداع الأخرين ، أما مكره فيتجلى فى استفادته من أخطاء الأعداء، أو من تصارع بعضهم مع البعض الآخر .

2-السلطان :

يحتل هذا الموضوع المكان الثانى من حيث عدد نصوصه فى كتاب "كليلة ودمنة" وذلك بعد موضوع العقل والعاقل . وتتوزع هذه النصوص التى تبلغ الخمسين نصا على عدة موضوعات متنوعة ، يمكن أن نرتبها على النحو التالى :
- طبيعة عمل الملوك .
- ما يليق بهم .
- ما لا يليق .
- نصائح للملوك .
- مصاحبة السلطان .
وينبغى فى البداية أن نشير إلى قوة العلاقة بين موضوع العقل وموضوع السلطان . ويكفى أن نتأمل النص التالى الذى يؤكد هذه العلاقة : "إن المرأة بزوجها . والولد بوالديه . والمتعلم بالعلم . والجند بالقائد . والناسك بالدين . والعامة بالملوك . والملوك بالتقوى . والتقوى بالعقل . والعقل بالتثبت والأناة"(93) والواقع أننا سنلتقى ، فى معظم النصوص المتعلقة بالسلطان ، بالتأكيد على أهمية العقل ، والتعقل ، والحزم ، والحنكة ، والتبصر ، والحلم . وهذا ما يجعل الموضوعين الكبيرين – أو اللذين يمكن أن نقول عنهما – الرئيسين فى كتاب كليلة ودمنه – يرتبطان ببعضهما ارتباطًا شديدا .
وظيفة السلطان لا يقدر عليها كل أحد . فهى تستلزم معونة من علو الهمة ومواجهة الخطر (36) والحاكم فى مملكته كالربان فى السفينة الذى يحكم تدبيرها فى وسط اللجة ، بينما الملاحون هم الذين يعدلونها أثناء السير فى البحر الهادئ (13) . والسلطان وظيفته صعبة ، لأنه ملزم بأن يعدل بين رعيته وأن يرضيهم فى الوقت نفسه. وإذا لم يكن الملك قرة عيون رعيته فمثله مثل زنمة العنز (قطعة لحم متدلية من العنق) التى يمصها ، وهو يحسبها حلمة الضرع ، فلا يصادف فيها خيرا(79) .
وإذا كان العدل مطلوبًا فى الملوك (49) فإن الجود كذلك مطلوب (1.1) وأحق ما رغبت فيه رعية الملك هو محاسن الأخلاق، ومواقع الصواب ، وجميل السير (55) وليس أحد أحوج إلى التؤدة والتثبت من الملوك (93) ومن أهم ما ينبغى أن يتحلى به الملوك : ملكة الحلم ، فيه تثبت السلطنة . وهو رأس الأمور كلها ، وأجود ما كان فى الملوك (95) .
ويحكى أن ملوك الأقاليم ، فى بعض الأزمان ، واجتمعوا فاتفقوا على أن يتكلم كل واحد منهم بكلمة جامعة ، تحفظ عنه وتدون :
فقال ملك الصين : أنا على ما لم أقل أقدر منى على رد ما قلت .
وقال ملك الهند : عجبت لمن يتكلم بالكلمة ، فإن كانت له لم تنفعه ، وإن كانت عليه أوبقته (أهلكته) .
وقال ملك فارس : أنا إذا تكلمت بالكلمة ملكتنى ، وإذا لم أتكلم بها ملكتها .
وقال ملك الروم : ما ندمت على ما لم أتكلم به قط ، وقد ندمت على ما تكلمت به كثيرا (9) .
ومن الواضح أن هذه الأقوال كلها تدل على ضرورة التثبت فى الأمور ، والتدبر الطويل قبل إبداء الرأى فيها ، وعدم التسرع بإعطاء الوعود جزافا وبدون تقدير . وهى جميعها من صفات الملوك الناجحين .
لكن هناك صفات أخرى لا ينبغى أن تكون فى هؤلاء الملوك ، وأهمها الجبن ، فليس الملك بجدير أن يدع مكانه لأجل صوت ! فقد قالت العلماء : ليس من كل الأصوات تجب الهيبة (37) كذلك فإنه لا ينبغى أن تكون فى الملك الصفات التالية :
- الغضب ، فإنه أجدر الأشياء مقتا .
- والبخل ، فإن صاحبه ليس بمعذور مع ذات يده .
- والكذب ، فإنه ليس لأحد أن يجاوره .
- والعنف فى المحاورة ، فإن السفه ليس من شأن الملوك (1.) .
ولا ينبغى للملك أن يغفل عن أمره (حكمه وسلطانه) . فإنه أمر جسيم لا يظفر به من الناس إلا قليل ، ولا يدرك إلا بالحزم ، فإن الملك عزيز . فمن ظفر به فليحسن حفظه وتحصينه ، فإنه قد قيل : إنه فى قلة بقائه بمنزلة قلة بقاء الظل عن ورق النيلوفر . وهو فى خفة زوالة وسرعة إقباله وإدباره كالريح، وفى قلة ثباته كاللبيب مع اللئام ، وفى سرعة اضمحلاله كحباب الماء من وقع المطر(79) .
ومن هنا ، كان على السلطان أن يكون دائم اليقظة ، متابعًا لأمور مملكته، غير متهاون فى إصلاح أحوال رعيته ، حتى يضمن استقرارها وطاعتها (78) . والواقع أن السلطان إنما يفسد أمره من قبل ستة أشياء :
1-الحرمان من صالح الأعوان والنصحاء والساسة من أهل الرأى والنجدة والأمانة وترك التفقد لذلك .
2-الفتنة والمقصود بها تجارب الناس ، ووقوع الصراع بينهم .
3-الهوى وهو الغرام بالحديث واللهو والشراب والصيد وما أشبه ذلك.
4-الفظاظة وهى الإفراط فى الشدة سواء ببذاءة اللسان أو ببطش اليد فى غير موضعهما .
5-الزمان وهو ما يصيب الناس من السنين (المصائب والكوارث) والموت ونقص الثمرات والغزوات وأشباهها .
6-الخرَق وهو إعمال الشدة فى موضع اللين ، واللين فى موضع الشدة(39) .
وقد قيل إن أعجز الملوك آخذهم بالهوينى ، وأقلهم نظرًا فى مستقبل الأمور ، وأشبههم بالفيل الهائج الذى لا يلتفت إلى شئ ، فإن حزَبه أمر تهاون به ، وإن أضاع الأمور حمل ذلك على قرنائه (43) كما أن شر الملوك هو الذى يخافه البرئ ، ولا يواظب على حفظ مملكته (9.) ومن التهاون فى حفظ المملكة أن يرمى الملك بعدته (أى بجيشه) فى المهالك المتلفة ، والمواضع المجحفة ، بل يقيهم بماله ، ويدفع عنهم بنفسه (4) .
ولا ينضبط الملك أن السلطان إلا مع ذوى الرأى ، وهم الوزراء والأعوان . ولا ينتفع بالوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة . ولا مودة ولا نصيحة إلا لذوى الرأى والعفاف . وأعمال السلطان كثيرة . والذين يحتاج إليهم من العمال والأعوان كثيرون . ومن يجمع منهم ما ذكرت من النصيحة والعفاف القليل (91) . ولا شك فى أن السلطان إذا كان صالحًا ، ووزراؤه وزراء سوء ، منعوا خيره عن الناس ، فلا يقدر أحد منهم أن يدنو منه (51) وقلما وثق ملك أو سلطان فى وزراء السوء ، وسلم من أن يقع فى المهالك(77) .
وإذا كان الحزم هو رأس الأمور كلها – فإن رأس الحزم بالنسبة إلى الملك : معرفة أصحابه ، وإنزالهم منازلهم على طبقاتهم ، واتهامه بعضهم على بعض ، فإنه لو وجد بعضهم إلى هلاك بعض سبيلاً لفعل (53) والملوك أحقاء باختيار الأعوان فيما يهتمون به من أعمالهم وأمورهم . وهم أحرى ألا يكرهوا على ذلك أحدا : فإن المكره لا يستطيع المبالغة فى العمل (91) ولا ينبغى أن يصحب الملوك من عاقبوه أشد العقاب ، ولا ينبغى أيضًا أن يرفضوه تمامًا . فإن صاحب السلطان إذا عزل كان مستحقًا للكرامة فى حالة إبعاده والإقصاء له(94) .
والملوك العقلاء لا يعلنون عقوبة من لم يعلن ذنبه . ولكن لكل ذنب عندهم عقوبة . فلذنب العلانية عقوبة العلانية . ولذنب السر عقوبة السر (44) ولا يجدر بالملك أن يعاقب أحدًا على الظن . فلا بد من التيقن والتثبت ، لأن الملك إذا عاقب أحدًا عن ظنة ظنها من غير تيقن بجرمه، فنفسه عاقب ، وإياها ظلم(44) .
ولا ينبغى للملك الحازم أن يحتقر مروءة يجدها عند رجل صغير المنزلة ، فإن الصغير ربما عظم . كالعصب يؤخذ من الميتة ، فإذا عمل منه القوس أكرم ، فتقبض عليه الملوك ، وتحتاج إليه فى البأس واللهو(37) .
وينبغى للسلطان ألا يلج فى تصنييع حق ذوى الحقوق . والناس فى ذلك رجلان : رجل طبعه الشراسة ، فهو كالحية إن وطئها الوطىء فلم تلدغه لم يكن جديرا أن يغره ذلك منها ، فيعود إلى وطئها ثانيا فتلدغه . ورجل أصل طباعه السهولة ، فهو كالصندل البارد إذ أفرط فى حكه صار حارًا مؤذيا(37) .
ويجب على ذوى العقل من الملوك وغيرهم أن يضعوا معروفهم مواضعه ، ولا يضعوه عند من لا يحتمله ، ولا يقوم بشكره، ولا يصطنعوا أحدًا إلا بعد الخبرة بطرائقه ، والمعرفة بوفائه ومودته وشكره ، ولا ينبغى أن يختصوا بذلك قريبًا لقرابته ، إذا كان غير محتمل للصنيعة ، ولا أن يمنعوا معروفهم ورفدهم للبعيد ، إذا كان يقيم بنفسه ، وما يقدر عليه ، لأنه يكون حينئذ عارفًا مؤثرًا لحميد الأفعال والقول(1.5) .
لكن الملك إذا عرف من الرجل أنه قد ساواه فى المنزلة والحال فليصرعه . فإن لم يفعل ذلك ، كان هو المصروع (42) . ومع ذلك ، ينبغى أن لا يكون الملك مخادعًا ، يسعى إلى الإيقاع بالآخرين ، فإن شر الملوك المخادع(72) .
ولا شك فى أن الملوك لها سوْرة كسورة الشراب . فالملوك لا تفيق من السورة إلا بمواعظ العلماء وأدب الحكماء . والواجب على الملوك أن يتعظوا بمواعظ العلماء . والواجب هنا على العلماء تقويم الملوك بألسنتها وتأديبها بحكمتها وإظهار الحجة البينة اللازمة لهم ، ليرتدعوا عما هم عليه من الاعوجاج ، والخروج عن العدل (11) . فمثلاً ليس فى عدل الملوك أن يدفعوا المظلومين ومن لا ذنب له إلى قاض غير عادل ، بل المخاصمة عنهم والزود (6.) .
وجدير بأتباع السلطان أن يبالغوا فى التخصيص (التشجيع) له على ما يزيد سلطانه قوة ويزينه ، والكف عما يضره ويشينه(43) وقد قيل : إن من كتم السلطان نصيحته ولا ينصح له إلا من خوف ، فإذا استغنى وذهبت الهيبة عاد إلى جوهره (43) ، أما من حارب الملك الحازم والأريب المتضرع الذى لا تبطره السراء ، ولا تدهشه الضراء كان هو داعى الحتف إلى نفسه (78) .
وإذا كانت الأحقاد مخوفة حيثما كانت ، فإن أشدها ما كان فى أنفس الملوك . فإن الملوك يدينون بالانتقام ، ويرون تنفيذه مكرمة وفخرا (89) ومن هنا كانت مصاحبة السلطان غالبًا خطرة (46) فإن صاحب السلطان يصل إليه من الأذى والخوف فى ساعة واحدة ما لا يصل إلى غيره فى طول عمره (92) وقد قالت العلماء : إن أمورًا ثلاثة لا يجترئ عليها إلا أهوج ، ولا يسلم منهن إلا قليل ، وهى : صحبة السلطان ، وائتمان النساء على الأسرار ، وشرب السم للتجربة (36) ، ولذلك فإنه لا يواظب على باب السلطان إلا من يطرح الأنفه ، ويتحمل الأذى ، ويكظم الغيظ ، ويرفق بالناس ، ويكتم السر، فإذا وصل إلى ذلك فقد بغ مراده (36) .
ومن المعروف أن كل من يدنو من الملوك ليس يدنو منهم لإشباع حاجاته الضرورية أو الأولية ، وإنما يدنو منهم ليسرّ الصديق، ويكبت العدو (35) فمن أراد أن يخدم السلطان بالصدق والعفاف فلا يخلط ذلك بمصانعته ، وحينئذ قل أن يسلم على ذلك ، لأنه يجتمع عليه عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد . أما الصديق فينافسه فى منزلته ويبغى عليه فيها ، ويعاديه لأجلها ، وأما عدو السلطان فيضطغن عليه لنصيحته لسلطانه ، وإغنائه عنه . فإذا اجتمع عليه هذان الصنفان فقد تعرض للهلاك (92) .
ومع ذلك ، فقد قالت العلماء فى الرجل الرشيد الفاضل إنه لا يرى إلا فى مكانين ، ولا يليق بع غيرهما : إما مع الملوك مكرما ، وإما مع النساك متعبدًا ، كالفيل إنما جماله وبهاؤه فى مكانين : إما أن تراه وحشيا، وإما مركبًا للملوك (36) . ومن أهم علاقات الفضل والحكمة السكوت فى حضرة الملوك، فهو أحسن من الهذر الذى لا يرجع منه إلى نفع . فأفضل ما استظل به الإنسان لسانه(9) .
وإذا كانت الطاعة هى أساس خدمة الملوك . فإن الفداء هو كمال هذه الطاعة . فالنفس الواحدة يفتدى بها أهل البيت . وأهل البيت يفتدى بهم القبيلة . والقبيلة يفتدى بها أهل المصر . وأهل المصر فداء الملك (48) .
وخلاصة : هذا الموضوع : أن وظيفة الحكم هى أهم الوظائف فى الدولة وأشدها خطرا ، لما لها من تأثير مباشر فى استقرار الأمور ، وازدهار حياة الشعوب . لذلك ينبغى على من يتولى هذه الوظيفة أن يحسن استخدامها باستعمال الحزم ، والتدبر ، والمشورة ، والتسلح باليقظة الدائمة لمجريات الأمور . ومن أهم واجبات الحاكم اختيار معاونيه الذين يتم بهم تنفيذ ما يريد إقراره ، ودفع حركة التقدم فى دولته . وكذلك حسن سياستهم بحيث لا تثير أحقاد بعضهم على بعض من أجل التقرب إليه ، فينفرط النظام . وأخيرًا فإن العدل أساس الملك ، وهو ركيزة استقرار الممالك ، والداعى فى الوقت نفسه إلى طاعة الشعوب .

3-الصديق :

من المعروف أن موضوع الصداقة يحظى فى الأدب العربى بكتاب مستقل هو كتاب "الصداقة والصديق" لأبى حيان التوحيدى (ت 414هـ)، لكنه قبل ذلك الوقت ، لم يكن أكثر من مجرد أقوال متناثرة فى الشعر أو فى النثر العربيين . ولذلك فإن ورود هذا الموضوع على نحو شبه متكامل فى كتاب "كليلة ودمنة" يوقفنا على أحد المصادر الأولى التى استمدت منه أو استلهمتها الكتابات اللاحقة. ونكتفى هنا بالإشارة إلى هذه النقطة التى تستحق دراسة منفردة ، لنعرض لموضوع الصداقة ، كما ورد فى كتاب "كليلة ودمنة" .
وتتمثل البداية فى أن وحدة الإنسان موحشة . والوحيد فى نفسه ، والمنفرد برأيه حيث كان ضائع ، ولا ناصر له (6) . ولا شك فى أن الشركة والمفاوضة أقرب إلى الصفاء والمخالطة (52) . وقد أكدت التجارب الإنسانية أنه لا شيء من سرور الدنيا يعدل صحبة الإخوان ، ولاغم فيها يعدل البعد عنهم (67) كما أن أولى أهل الدنيا بشدة السرور من لا يزال ربعه من إخوانه وأصدقائه من الصالحين معمورا ، ولا يزال عنده منهم جماعة يسرهم ويسرونه، ويكون من وراء أمورهم وحاجاتهم بالمرصاد . فإن الكريم إذا عثر لا يأخذ بيده إلا الكرام ، كالفيل إذا وقع فى الوحل لا يخرجه إلا الفيلة (68) وقديمًا قيل إن البحر بأمواجه ، كما أن السلطان بأصحابه (51). ومع ذلك فإن نجاح العمل لا يتوقف رجاؤه على كثير الأعوان ، وإنما بصالحى الأعوان (37) ومن المعروف أن صحبة الأخيار تورث الخير (53) .
والأصدقاء نوعان ، أحدهما يبذل نفسه فى سبيل صديقه ، والآخر يبذل ماله . ولا شك فى أن بذل النفس عامة هو أعلى درجات الصداقة. ويسمى من يفعلون ذلك بالأصفياء . يقول النص : "أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين ، ويتواصون عليهما . وهما : ذات النفس وذات اليد . فالمتباذلون ذات النفس هم الأصفياء . وأما المتباذلون ذات اليد فهم المتعاونون الذين يلتمس بعضهم الانتفاع ببعض ، ومن كان يصنع المعروف لبعض منافع الدنيا (فإنما مثله فيما يبذل ويعطى كمثل الصياد ، وإلقائه الحب للطير ، لا يريد بذلك نفع الطير ، وإنما يريد نفع نفسه) فتعاطى ذات النفس أفضل من تعاطى ذات اليد (64) .
أما الصديق الحق ، وهو من لا ينبغى تركه على حال من الأحوال، فهو من عرف بالصلاح والكرم وحسن العهد والشكر والوفاء والمحبة للناس والسلامة من الحسد والبعد من الأذى والاحتمال للإخوان والأصحاب ، وإن ثقلت عليه منهم المؤنة . وأما من ينبغى تركة فهو من عرف بالشراسة ، ولؤم العهد ، وقلة الشكر والوفاء ، والبعد من الرحمة والورع ، واتصف بالجحود لثواب الآخرة وعقابها(94) .
ومن الجدير بالذكر أن انكار الثواب والعقاب فى الآخرة من أهم الأفكار التى حذر منها الإسلام . وسوف نجد ابن حزم (ت 456هـ) يقول فيما بعد : "ثق بالمتدين ولو على غير دينك ، ولا تثق بغير المتدين ، ولو أظهر أنه على دينك" () وقد يقال : الزم ذا العقل وذا الكرم ، واسترسل إليهما ، وإياك ومفارقتهما (52 ، 53) .
وينبغى على الإنسان أن يسعى دائمًا إلى تكوين الأصدقاء . والسبيل إلى ذلك التحلى بعدة خصال أولها : كف الأذى ، والثانية حسن الأدب ، والثالثة مجانبة الريب ، والرابعة كرم الخلق ، والخامسة النبل فى العمل (9.) فإنه لا يصح أن يطالب الإنسان صديقه بأصول الصداقة دون أن يكون عنده منها رصيد كبير . فمن الحمق مثلاً الحرص على التماس الإخوان بغير الوفاء لهم (51) . ومن المقرر أن شر الأخلاء من التمس منفعه نفسه بضر أخيه ، ومن كان غير ناظر له كنظره لنفسه ، أو كان يريد أن يرضيه بغير الحق لأجل اتباع هواه (94).ومن عاش ذا مال ، وكان ذا فضل وإفضال على أهله وإخوانه فهو وإن قل عمره طويل العمر (35) .
وللصداقة شروط . ويأتى على رأسها حفظ السر . فإن العلماء قد مدحت الصديق إذا كتم سر صديقه وأعانة على الفوز (17) ، فإذا كان السر عند الأمين الكتوم فقد احترز من التصنييع ، مع أنه خليق ألا يتكلم به (17) وينبغى ألا يفضى الإنسان بسره إلا إلى شخص قد خلصت مودته ، وكان أهلاً أن يخلطه بنفسه ، فلا يدخر عنه شيئًا ، ولا يكتمه سرًا ، فإن حفظ السر رأس الأدب (17) كذلك فإن من شروط الصداقة وعلاماتها أن يكون الإنسان لصديق صديقه صديقًا ، ولعدو صديقه عدوا (64) لكن هذا لا يعنى متابعة الأصحاب على الباطل ، فإن متابعتهم على الباطل ذل (57) وهنا تبرز أهمية اختيار الإنسان لأصدقائه . فإن من صحب الأشرار ، وهو يعلم حالهم كان أذاه من نفسه (55). والتجربة تؤكد أنه لا صبر للأخيار على صحبة الأشرار (7) ، ومجاورة رجال السوء ومصاحبتهم (كراكب البحر : إن سلم من الغرق ، لم يسلم من المخاوف) (5 ، 6) . والصديق الحق هو الذى يبدو معدنه عند الشدة، كذلك يختبر الأخوان عند النوائب (69). ومن شروط الصداقة أيضًا تحقيق مبدأ العدالة والمساواة . فإن من العجب أن يطلب الرجل رضا صاحبه ولا يرضى، وأعجب من ذلك أن يلتمس رضاه فيسخط (46) . والصديق العاقل هو الذى يقبل النصيحة من صديقه حتى ولو كانت شديدة على نفسه : "من لم يقبل من نصحائه ما يثقل عليه مما ينصحون له به ، لم يحمد رأيه (كالمريض الذى يدع ما يبعث به الطبيب ، ويعمد إلى ما يشتهيه) (43) . ويتكرر نفس المعنى بنفس العبارات تقريبا ، ولكن بزيادة واضحة من ابن المقفع نفسه فيما يتعلق بالتماس بعض المسلمين من الفقهاء ما يناسب أحوالهم الخاصة من أحكام فقهية (انظر باب الحيل فى الفقه الإسلامى) فيقول : من التمس الرخص من الإخوان عند المشاورة ، ومن الأطباء عند المرض ، ومن الفقهاء عند الشبهة : أخطأ منافع الرأى، وازداد فيما فيه من ذلك تورطا(46) .
وإنما سمى الصديق صديقا : لما يرجى من نفعه ، وسمى العدو عدوًا : لما يخاف من ضرره ، لكن العاقل إذا رجا نفع العدو أظهر له الصداقة ، وإذا خاف ضر الصديق أظهر له العداوة (87) ، وهنا يبدو أن مقياس النفع مقياس أساسى فى مجال الصداقة . أما الأمر الذى لا يقبل الخلط فهو تحول الصداقة إلى عداوة ، والإحساس بهذا التحول هو الذى ينبغى أن يوجه الصديق نحو صديقه ، أو نحو من يبدو أنه كذلك : الرجل إذا أحس من صاحبه بعداوة يريده بها لا يطمئن إليه (43) فرب صداقة ظاهرة باطنها عداوة كامنة ، وهى أشد من العداوة الظاهرة (87) ، لكن ماذا يفعل الإنسان إذا أحس من صديقه بريبة ؟ عليه أن يأخذ بالحزم فى التحفظ منه ، وليتفقد ذلك فى لحظاته وحالاته : فإن كان ما يظن حقا ظفر بالسلامة ، وإن كان باطلا ظفر بالحزم ولم يضره ذلك (81) . وينتهى هذا الجزء بقضية أساسية تؤكد أن المودة والعداوة لاتثبتان على حالة واحدة أبدًا . وربما حالت المودة إلى عداوة ، وصارت العداوة ولاية صادقة(85) .
وقد أثبتت التجارب أنه لا شئ أضيع من مودة تمنح لمن لا وفاء له، وحباء (معروف) يصطنع عند من لا شكر له ، وأدب يحمل إلى من لا يتأدب به ولا يسمعه ، وسر يستودع من لا يحفظه (53) ولذلك تأتى النصيحة قاطعة فى صورة الأمر : تباعد عمن لا رغبة فيه (54) .
وأخيرًا ، نصل إلى عثرة الصديق ، وهى واردة ، إذ من ترضى سجاياه كلها ؟! وما يستطيع أحد أطال صحبة صاحب أن يحترس فى كل شئ من أمره ، ولا أن يتحفظ من أن يكون منه صغيرة أو كبيرة يكرهها صاحبه ، ولكن الرجل ذا العقل ، وذا الوفاء، إذا سقط عنده صاحبه سقطة ، نظر فيها ، وعرف قدر مبلغ خطأه : عمدًا كان أو خطأ ، ثم ينظر فى الصفح عنه أمرًا يخاف ضرره وشينه ؟ فلا يؤاخذ صاحبه بشئ يجد فيه إلى الصفح عنه سبيلاً(46) .
والخلاصة : أن المادة الأخلاقية ، المتعلقة بالصداقة فى كتاب كليلة ودمنة ، على الرغم من قلتها ، تعتبر كافية لتغطية معظم جوانب هذا الموضوع. فقد تناولت حاجة الإنسان إلى الأصدقاء ، ومدى سعادته بهم، وشروط الصداقة الحقه ، والنفع المتبادل والمرجو من الصداقة ، مع عدم إغفال التنبيه إلى عيوب الأصدقاء ، وتحول مودتهم ، وكذلك الصفح عن عثراتهم .
لكن يلاحظ أن لغة المترجم (ابن المقفع) تتميز فى هذا الجزء بالذات بحرارة واضحة ، تشير إلى إحساسه العميق به ، وتكشف عن جانب إنسانى رقيق فى طبعه .

4-أخلاق سيئة :

يؤكد الكتاب على أن صاحب الشر لا يسلم من شره أحد، وإن هو ضعف عن ذلك جاء الشر بسببه (44) . أما الغادر فإنه مأخوذ بغدره ، وأنه إن أخطأه عاجل العقوبة ، لم يخطئه الآجل منها (89) وأما الكذوب فهو الذى يقول ما لم يكن ، ويأتى بما لم يقل ولم يفعل (56) ، وأسوأ الخطايا وأعظمها : قتل البرئ ، الذى لا ذنب له ، بالكذب والنميمة (57) .
وبالنسبة إلى كتابة شهادة الميت أو حجته ، يحذر الكتاب تحذيرًا شديدًا منه ، فيؤكد أن من كتم شهادة ميت ألجم بلجام من نار يوم القيامة (57) ومن كتم حجة ميت أخطأ حجته يوم القيامة(61) . وإذا كان على الإنسان ألا يتوانى فى الاجتهاد للتقوى ، فينبغى عليه ألا يدافع عن ذنب الأثيم(57) وقد قيل : اثنان ينبغى لهما أن يحزنا: الذى يعمل الإثم فى كل يوم ، والذى لم يعمل خيرًا قط –لأن فرصهما فى الدنيا ونعيمها قليل ، وندامتهما – إذا يعانيان الجزاء طويلة ، لا يستطاع إحصاؤها(1..) .
وتكاد معظم حكايات كليلة ودمنة تركز على عاقبة الخديعة . وتقرر بكل بوضوح أن الخيانة شر ما عمله الإنسان (24) ، والمكر والخديعة لا يؤديان إلى خير ، وصاحبهما مغرور أبدا (52). وفى موضع آخر يقول الكتاب إن "الحب والخديعة ربما كان صاحبهما هو المغبون ، أى الخاسر (52). ومن المقرر أنه ما عاد وبال البغى إلا على صاحبه (25) .
وإذا كان الإنسان قويا ، فلا ينبغى له أن يتجبر على الضعفاء، فإنه ربما اغتر بذلك ، فاستخدم قوته مع الأقوياء ، قياسًا لهم على الضعفاء وحينئذ تكون قوته وبالاً عليه (72) . كما ينبغى على العاقل أن يرضى بالقليل ، لأن من سخط باليسير لم يبلغ رضاه بالكثير(94) .
ويحذر الكتاب من مصاحبة شخصين ، بل ويدعو إلى الابتعاد عنهما ، الأول : الذى يقول لا بر ولا إثم ، ولا عقاب ولا ثواب ، ولا شئ على مما أنا فيه – أى الذى ينكر ما جاءت به الشرائع ، أو أقرته القوانين الأخلاقية والأعراف الاجتماعية . والثانى : الذى لا يكاد يصرف بصره عما ليس له بمحرم ، ولا أذنه عن استماع السوء ، ولا قلبه عما تهم به نفسه من الإثم والحرص(1..) .
وقد قيل إن من كانت فيه خصلة مما يأتى لم يستقم له عمل : التوانى ، وتضييع الفرص ، والتصديق لكل مخبر (24). ويحذر الكتاب كثيرًا من الكلام الذى يجرح ، ولا برء منه ، ويصور ذلك بأن الفأس يقطع به الشجر ، فيعود ينبت ، والسيف يقطع اللحم ، ثم يعود فيندمل ، واللسان لا يندمل جرحه ولا تؤسى مقاطعه ، والنصل من السهم يغيب فى اللحم ثم ينزع فيخرج ، وأشباه النصل من الكلام إذا وصلت إلى القلب لم تنزع ولم تستخرج (73) لذلك قالت العلماء : الزم السكوت ، فإن فيه سلامة ، وتجنب الكلام الفارغ ، فإن عاقبته الندامة(9) .
وأخيرًا يحذر الكتاب من انفصال العلم عن العمل . فالعلم لا يتم إلا بالعمل . وهو كالشجرة والعمل به كالثمرة . وإنما صاحب العلم يقوم بالعمل لينتفع به ، وإن لم يستعمل ما يعلم لا يسمى عالما (22) لذلك ينبغى على العالم أن يبدأ بنفسه ، ويؤدبها بعلمه ، ولا تكون غايته اقتناء العلم لمعاونة غيره ، فيكون كالعين التى يشرب الناس ماءها وليس لها فى ذلك شئ من المنفعة ، وكدودة القز التى تحكم صنعته ولا تنتفع به (22،23) !
وخلاصة هذا الموضوع أنه يحذر من كل الأخلاق السيئة التى حذرت منها الأديان السماوية ، وأدانتها المذاهب الأخلاقية فى كل العصور .

5-العدو :

من الذى يعيش بلا أعداء ؟! إن لكل حيوان عدوا له إما من نوعه أو من نوع آخر ، والإنسان لا يشذ عن ذلك . يقال أربعة أشياء لا يستقل قليلها : النار ، والمرض ، والعدو ، والدين (78)، وكما لا يجد المريض لذة الطعام والنوم حتى يبرأ ، ولا الرجل الشره الذى قد أطعمه سلطانه فى مال وعمل فى يده حتى ينجزه له ، فكذلك الرجل الذى قد ألح عليه عدوه، وهو يخافه صباحا ومساء حتى يستريح منه قلبه (79) . والتجربة تؤكد أنه لا خير للضعيف فى قرب العدو القوى ، ولا للذليل فى قرب العدو العزيز. (87) والخلاصة أن العدو المخوف دواؤه قتله(44) .
ويميز الكتاب بين عدة أنواع من الأعداء : فهناك الغادر الذى لا يأمن عدوه مكره ، وإذا استمكن من عدوه قتله على غير ذنب(56). وهناك العدو الحنق الذى لا تنفع معه حيلة سوى الهرب منه(7.) . وهناك العدو الضعيف المهين ، ولكنه ذو حيلة ، ويقدر على الأعوان (49) . وأخيرًا هناك العدو الأريب الذى يشبه الحية فى نعومتها وخطرها .
وبالتالى فإن معاملة الأعداء تتنوع حسب الخطورة التى تكمن فى كل نوع منهم . فالعاقل لا يستأنس إلى العدو الأريب (63) فى حين أن العدو الذليل، الذى لا ناصر له أهل لأن يستبقى ويرحم ويصفح عنه (75) ومع ذلك، فإن العاقل لا يستصغر عدوًا ، لأن من اغتر بعدوه لم يسلم منه(71) وهنا قاعدة تقول : إن الواتر إذا دنا من الموتور فقد عرض نفسه للهلاك(9.) .
لكن معاملة العدو قد تلين أحيانا بقصد الحصول منه على فائدة مرجوة. والكتاب ينصح الحاكم قائلاً : "قارب عدوك بعض المقاربة لتنال حاجتك، ولا تقاربة كل المقاربة فيجترئ عليك ، ويضعف جندك، وتذل نفسك (71). وفى بعض الأحوال يصبح الخضوع لعدو شديد البأس سياسة لرد غضبه : إن العدو الشديد البأس لا يرد بأسه وغضبه مثل الخضوع له : ألا ترى إلى العشب كيف يسلم من عاصف الريح اللينة ، وميله معها حيث مال (75) ، أما إذا لقى الرجل عدوه فى المواطن التى يعلم أنه فيه هناك ، سواء قاتل أم لم يقاتل ، كان حقيقا أن يقاتل عن نفسه كرما وحفاظا (4. ، 41) .

6-نصائح وحكم :

تتناثر عناصر هذا الموضوع فى كتاب كليلة ودمنة ، ويأتى كل منها فى موضعه إما تأكيدًا لمقولة سابقة ، أو تبريرًا لها ، أو تفسيرًا أو شرحًا .. ولكنها فى كل الأحوال تمثل مجموعة رائعة من الكلمات الحكيمة التى استقرت فى وجدان الشعوب ، وسوف نلتزم هنا فى ترتيب يبدأ بأشدها إيجازا إلى أكثرها وتفصيلا :
- العجلة من الهوى (57) .
- الموت لا يأتى إلا بغتة (67) .
- من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب (12) .
- الذى يفسده الحلم لا يصلحه العلم (81) .
- لكل مقام مقال ، ولكل موضوع مجال (56) .
- من كان سعيه لآخرته ودنياه .. فحياته له ، لا عليه (23) .
- ليس فى الهم والحزن منفعة ، ولكنهما ينحلان الجسم ويفسدانه (99) .
- أشد الناس فى توقى الشر يصيبه الشر قبل المستسلم له (55) .
- إذا لقيت جوهرًا لا خير فيه، فلا تلقه من يدك حتى تريه من يعرفه (97).
- متى كان من أهل السلامة من لا يملك نفسه ، وأمره بيد غيره ممن لا يوثق به ؟
- إن لكل عمل حينا ، فما لم يكن منه فى حينه ، فلا حسن لعاقبته (86) .
- لا تلتمس تقويم ما لا يستقيم ، ولا تعالج تأديب من لا يتأدب (51) .
- الرجل الشديد القوى لا يعجزه الحمل الثقيل وإن لم تكن عادته الحمل، والرجل الضعيف لا يستقل به وإن كان ذلك من صناعته (35) .
- الرجل الأديب الرفيق لو شاء أن يبطل حقًا ، أو يحق باطلا لفعل : كالمصور الماهر الذى يصور فى الحيطان صورًا كأنها خارجة وليست بخارجة ، وأخرى كأنها داخلة وليست بداخلة (36) .
- من يجزى بالخير خيرا وبالإحسان إحسانا – إلا الله ! ومن طلب الجزاء على الخير من الناس كان حقيقا أن يحظى بالحرمان (55) .
- اذا اجتمع المكرة الظلمة على البرئ الصحيح كانوا خلقاء أن يهلكوه، وإن كانوا ضعفاء وهو قوى (47 ، 48) .
- السباحة فى الماء مع التمساح تغرير . والذنب فيه لمن دخل عليه فى موضعه .
- الذى يستخرج السم من باب الحية فيبتلعة ليجربه جان على نفسه، فليس الذنب للحية .
- ومن دخل على الأسد غابته لم يأمن وثبته(7) .

7-أخلاق حسنة :

يؤكد كتاب كليله ودمنه على ضرورة مطابقة القول للعمل . فإن حسن الكلام لا يتم إلا بحسن العمل (67) والذى يأمر بالخير ليس بأسعد من المطيع له فيه ، ولا الناصح بأولى بالنصيحة من المنصوح ، ولا المعلم للخير بأسعد من متعلمه منه (112) وإذا كان الناس قد تعارفوا على أن الصدقة هى منحة مادية ، فإنه لم يتصدق متصدق بصدقة هى أعظم أجرًا ممن أمن نفسًا خائفة ، وحقن دما مهدرا (48) والإنسان النبيل هو الذى لا يتوقف عن عمل الخير والبر : اثنان لا ينبغى لهم أن يحزنا : المجتهد فى البر كل يوم ، والذى لم يأثم قط (1..) .
وعلى الإنسان أن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به ، فاصبر على فعل غيرك كما صبر غيرك على فعلك ، وكما تدين تدان، وما لا ترضاه لنفسك لا تصنعه لغيرك ، فإن فى ذلك العدل . وفى العدل رضا الله تعالى ورضا الناس (1.3). ومع ذلك فإن الكريم لا يكون إلا شكورًا غير حقود ، تنسيه الخلة الواحدة من الإحسان الخلال الكثيرة من الإساءة (94) وهو لا يتوانى أبدًا فى حق صاحبه (86) وأفضل الأطباء من واظب على طبه ، لا يبتغى إلا الآخرة ، ومع ذلك فإن الطبيب الذى يبتغى بطبه أجر الآخرة ، لا ينقصه ذلك حظه من الدنيا(27) .
وإذا كان تحقيق الآمال يبعث على السعادة ، فلابد أن يبذل الإنسان أقصى جهده لبلوغها : من احتمل مشقة يرجو نفعها ، ونحى عن نفسه الأنفة والحمية ، ووطنها على الصبر حمد غب (عاقبة) رأية (78) وقد قيل بحق : من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب (36) لكن هذه الرغائب تتفاوت فيما بينها. وهنا يتمايز الطلاب : فطالب الحق هو الذى يفلح وإن قضى عليه ، وطالب الباطل مخصوم وإن قضى له (73) .
وإذا طلب اثنان امرًا ظفر به منهما أفضلهما مروءة ، فإن اعتدلا فى المروءة فأشدهما عزما ، فإن استويا فى العزم فأسعدهما ، أى حظا(78) والواقع أن المنازل متنازعة مشتركة على قدر المروءة. المرء ترفعه مروءته من المنزلة الوضيعة إلى المنزلة الرفيعة . ومن لا مروءة له يحط نفسه من المنزلة الرفيعة إلى المنزلة الوضيعة . وإن الارتفاع إلى المنزلة الشريفة شديد والانحطاط منها هين . فنحن أحق أن نروم ما فوقنا من المنازل ، وأن نلتمس ذلك بمروءتنا (35) ومما هو ملاحظ أن الرجل ذا المروءة قد يكرم على غير مال ، كالأسد الذى يهاب وإن كان رابضا، والغنى الذى لا مروءة له يهان ، وإن كان كثير المال ، كالكلب لا يحفل به ، وإن طوق وخلخل بالذهب (67) .
والخلاصة أن مجموع الأخلاق الحسنة لا تخرج فى الكتاب عن ضرورة مطابقة القول للعمل ، وفعل الخير ، والعدل فى معاملة الآخرين، وبذل الجهد من أجل تحقيق الأهداف ، مع التحلى فى كل ذلك بالأخلاق العالية ، التى تتوجها المروءة .

8-طبيعة الإنسان :

من طبيعة الإنسان أنه يحب الحياة محبة لنفسه ، وأنه لا يحب من أحب من الأجانب إلا ليتمتع بهم فى حياته (96) ويؤكد الكتاب أنه إذا خاف الإنسان على نفسه شيئا طابت نفسه عن المال والأهل والولد والوطن ، فإنه يرجو الخلف من ذلك كله ، ولا يرجو عن النفس خلفا(9.) .
ومن طبيعة النفس الإنسانية أنها تأبى الموت (9.) وهى رديئة تأمر بالفحشاء (25) لكنها تظل أقرب شئ إلى الإنسان : هل أحد أقرب إلى الإنسان من نفسه ؟ وإذا لم يلتمس لها العذر فلمن يلتمسه ؟ (55) ويعتبر الكتاب دفاع الإنسان عن نفسه من أفضل أنواع الجهاد ، فهو يقول صراحة : "ليس للمصلى فى صلاته ، ولا للمتصدق فى صدقته ، ولا للورع فى ورعه – من الأجر ما للمجاهد عن نفسه ، إذا كانت مجاهدته على الحق (49) ويصل الأمر فى اعتبار مصلحة النفس ، والحرص على بقائها إلى عدم التضحية بها من أجل الأهل والأقارب . وفى هذا الصدد ، نجد النداء التالى : يا نفس .. ولا يحملك أهلك وأقاربك على جمع ما تهلكين فيه ، إرادة صلتهم ، فإذا أنت كالدخنة الأرجة (مثل عود البخور) التى تحترق ، ويذهب آخرون بريحها(18) .
وإذا كانت النفس بهذه الصورة ، فإن الجسد مطيتها . وهذا الجسد مملوء آفات ، ومملوء أخلاطا فاسدة قذرة ، تعقدها الحياة ، والحياة إلى نفاد ، كالصنم المفصلة أعضاؤه إذا ركبت ووضعت ، يجمعها مسمار واحد ، ويضم بعضها إلى بعض ، فإذا أخذ ذلك المسمار تساقطت الأوصال (28) ، وأسوأ ما يدخل الفساد على الجسد الطعام . وقل من أكثر الطعام إلا مرض (77) .
أما القلب الإنسانى فلا يوجد شئ أخف ولا أسرع تقلبا منه (81) ومن هنا كانت معرفة الخلائق شديدة ، ولعمرى ما تكاد السرائر تعرف (93) !
ومن الجدير بالذكر أننا كنا بحاجة إلى مزيد من التعرف على أحوال القلب وعالمه المتقلب ، ولكن كتاب كليلة ودمنة لا يعطى اهتمامًا كبيراً لهذا الجانب ، ويظل تركيزه منصبًا على "التدبير العقلى" وما يصدر عن الإنسان من "أفعال" .
وإذا كان شكر النعمة واجبا على من وهبت له ، ونحن نشاهدها فى الحيوان ، فإن الإنسان أقلها شكرًا "ليس شئ أقل شكرًا من الإنسان" (1.6) .
ومن الملاحظات التى تتصل بطبيعة الإنسان وسلوكه أنه لا يزال مستمرًا فى إقباله ما لم يعثر ، فإذا عثر لج به العثار ، وإن مشى فى جدد الأرض (أى على أرض مستوية) (69) .

9-المال وعدمه :

الطابع الغالب على كتاب كليلة ودمنة هو الطابع العملى ، الذى يتم فى إطاره تزويد الإنسان بمجموعة من النصائح الأخلاقية التى يمكنه على أساسها التصرف فى مختلف المواقف التى يتعرض لها فى حياته الواقعية . ومن هذه الزواية ، يعد المال ركيزة أساسية فى تلك الفلسفة العملية ، بل أنه يأتى فى مقدمة مطالب الناس ورغباتهم : "الأمور الأربعة التى يطلبها الناس ، وفيها يرغبون ، ولها يسعون : المال ، والذكر ، واللذات ، والآخرة (27) والمال هو الذى يحقق لصاحبه مكانته الاجتماعية المتميزة "قلما ظفر أحد بغنى ولم يطع" (77) ، بل إن الإخوان والأعوان والأصدقاء لا وجود لهم ولا استمرار إلا بالمال (66) وقد تبين أن من لا مال له ، إذا أراد أمرًا قعد به العدم عما يريده، كالماء الذى يبقى فى الأودية من مطر الشتاء، لا يمر إلى نهر ، ولا يجرى إلى مكان فتشربه أرضه(66) !
ويوغل الكتاب فى بيان الأهمية القصوى للمال حين يؤكد أن من لا مال له لا عقل له ، ولا دنيا ولا آخرة له" (66) وربما يرجع ذلك إلى أن الفاقة بلاء، تمامًا مثل الحزن ، وقرب العدو، وفراق الأحبة ، والسقم ، والهرم . ورأس البلايا كلها الموت (9.) يقول الكتاب : وجدت الفقر أس كل بلاء ، وجالبًا إلى صاحبه كل مقت ، ومعدن النميمة ، ووجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كل له مؤتمنا ، وأساء به الظن من كان يظن فيه حسنا ، فإذا أذنب غيره كان هو للتهمة موضعا ، وليس من خلة هى للغنى مدح إلا وهى للفقير ذم . فإن كان شجاعًا قيل : أهوج ، وإن كان جوادًا سمى : مبذرا ، وإن كان حليما سمى : ضعيفا ، وإن كان وقورًا سمى بليدا(66) .
والفقر يعرض الإنسان إلى الحاجة ، لكن الموت أهون من الحاجة التى تحوج صاحبها إلى المسألة ، ولا سيما مسألة الأشقياء اللئام ، فإن الكريم لو كلف أن يدخل يده فى فم الأفعى فيخرج منه سماً فيبتلعه ، كان ذلك أهون عليه وأحب إليه من مسألة البخيل اللئيم (66) ومن تجارب الكتاب ما جاء على لسان أحد المجرمين : "وجدت تجشم الأسفار البعيدة فى طلب الدنيا أهون على من بسط اليد إلى السخى بالمال(67) .
لذلك كان المال أحد المطالب التى ينبغى أن يسعى الإنسان إلى اكتسابها، حتى يحفظ نفسه وشرفه ومكانته فى المجتمع "إنما المال يطلبه صاحبه ويجمعه من كل وجه لبقاء حاله ، وصلاح معاشه ودنياه ، وشرف منزلته فى أعين الناس ، واستغنائه عما فى أيديهم ، وصرفه فى وجهه : من صلة الرحم ، والإتفاق على الولد ، والإفضال على الإخوان (25) وفى موضع آخر ، يحدد الكتاب مصارف المال فى أربعة مواضع : فى الصدقة ، وفى وقت الحاجة ، وعلى البنين ، وعلى الأزواج(81) .

10-القضاء والقدر :

سبقت الإشارة إلى أن استخدام مصطلحى القضاء والقدر كان من أهم العوامل التى ساعدت كتاب كليلة ودمنة على التغلغل فى ثقافة الشعوب الإسلامية ، نتيجة لأن هذين المصطلحين من أهم المصطلحات الدينية التى شاعت فى الثقافة الإسلامية التى تستمد جذورها من القرآن الكريم ، والسنه النبوية .
ويؤكد الكتاب أن القضاء إذا نزل صرف العيون عن موضع الشئ ، وغشى البصر (11.) كما أن القدر غالب على كل شئ ، لا يستطيع أحد أن يتجاوزه (11.) : من ذا غالب القدر ؟! (45) وأن الاجتهاد والجمال والعقل ، وما أصاب الرجل فى الدنيا من خير أو شر إنما هو بقضاء وقدر من الله عز وجل (1.9) ويتكرر المعنى الأخير مرة أخرى فى قوله "ليس من الخير" والشر شئ إلا وهو مقدر على من تصيبه المقادير"(63) .
إذا كان الأمر كذلك ، فإن الذكاء واستخدام الإنسان للحيلة لن يستطيعا الوقوف فى وجه المقادير "هل يغنى الكيس من المقادير شيئا !(68) ومن هنا قيل : إن أروح الأمور على الإنسان التسليم للمقادير .. لكن ينبغى التنبيه هنا إلى أن هذا الموقف المستسلم للقضاء والقدر إنما يكون بعد وقوعهما ، ونفاذ أمرهما ، وهذا معناه ألا يتوقف الإنسان عن العمل ، وبذل الجهد ، والأخذ بالأسباب . "ليس لأحد النظر فى القدر الذى لا يدرى ما يأتية منه ، ولا ما يصرف عنه ، ولكن عليه العمل بالحزم والأخذ بالقوة ، ومحاسبة نفسه على ذلك" (9.) وهكذا فإن الإيمان بالقدر لا يمنع الحازم من توقى المخاوف ، والاحتراس من المكاره ، ولكنه يجمع تصديقًا بالقدر ، وأخذًُا بالحزم والقوة (9.) ويتأكد هذا المعنى فى موضع آخر ، حين يقول الكتاب: "يجب على العاقل أن يصدق بالقضاء والقدر ، ويأخذ بالحزم ، ويحب للناس ما يحب لنفسه، ولا يلتمس صلاح نفسه بفساد غيره"(24) .
لا يوجد إلا موضع واحد يشير فيه الكتاب إلى الاستسلام الكامل، بل وانتظار ما يأتى به القضاء والقدر : "إن أمر الدنيا كله بالقضاء والقدر ، والذى قدر على الإنسان يأتيه على كل حال ، والصبر للقضاء والقدر وانتظارهما أفضل الأمور" (1.8) .

11-الحيلة :

يعد استخدام الحيلة ، وهى هنا بمعنى التلطف فى معالجة الأمور وحسن التأتى لها عن طريق استخدام العقل ، واستغلال الذكاء، من أهم السمات التى تتجلى فى كتاب كليلة ودمنة ، وقد تمايزت الكثير من الشخصيات بجودة حبكتها للحيلة ، بل إن الحيوانات الضخمة والقوية قد هزمت بسبب استخدام أعدائها للحيلة ، مع أنها أصغر بدنا ، وأشد ضعفا ، وهكذا يقرر الكتاب أن الأمور ليست بالضعف ولا القوة ، ولا الصغر ولا الكبر فى الجثة . فربّ صغير ضعيف قد بلغ بحيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عنه كثير من الأقوياء(4.) وتثبت التجارب أن الشخص الذى يتصرف بانفعال ودون روية لا ينجح فى بلوغ هدفه "اعلم أن سريع الاسترسال لاتقال عثرته (87) والخلاصة هنا أن الحيلة تجزئ ما لا تجزئ القوة (41) وهناك من قال : "وجدت صرعة اللين والرفق أسرع وأشد استئصالا من صرعة المكابرة"(87) .
لكن الحيلة بكل أنواعها ليست سواء . فقلما تنجح حيلة العجلة والإرهاق (43) بل إن بعض الحيلة مهلكة للمحتال (41) . ومن الواضح أن الكتاب يعنى ضرورة حبك الحيلة بكثير من التعقل ، والمراجعة ، وأخذ الوقت الكافى لنضج الفكرة ، واعتبار كافة الاحتمالات . ولا شك أن هذه الأمور تستهلك طاقة الشخص الذى يستخدم الحيلة ، وتستنفد قواه . لهذا قالت العلماء "إن المحتال يموت قبل أجله"(56) أى أنه من كثرة ما يبذل من جهد ذهنى مكثف – يصل إلى حالة بالغة من التعب والإرهاق تؤدى به إلى الموت .
كذلك فإن لكل جهد غاية ، ولكل عمر نهاية . والإنسان إذا انقضت مدته ، وحانت منيته ، فهو وإن اجتهد فى التوقى من الأمور التى يخاف فيها على نفسه الهلاك – والمقصود هنا استخدام الحيلة – لم يغن ذلك عنه شيئا ، وربما عاد اجتهاده فى توقيه وحذره وبالا عليه (3. ، 31) .
ويمكن القول فى ختام هذا الموضوع إن نصوصه ، وإن كانت لا تزيد عن ثمانية ، فإنه يعد من السمات العامة فى الكتاب كله . يبتدى ذلك من خلال الحوار ، والمواقف المتنوعة ، كما يعد فصل كليلة ودمنة الذى يشغل البابين الأول والثانى نموذجًا واضحًا له .

12-صاحب الدنيا :

يتكرر استخدام هذا المصطلح فى كتاب كليلة ودمنة للتعبير عن الإنسان المعتدل فى نظرته إلى أمور الدنيا والآخرة على السواء، دون أن يعنى ذلك صاحب الدنيا فى مقابلة صاحب الآخرة . والدليل على ذلك يبدو بوضوح من النص التالى : صاحب الدنيا يطلب ثلاثة أمور ، لن يدركها إلا بأربعة أشياء : أما الثلاثة التى يطلب : فالسعة فى الرزق ، والمنزلة فى الناس ، والزاد للآخرة، وأما الأربعة التى يحتاج إليها فى درك هذه الثلاثة : فاكتساب المال من أحسن وجه يكون ، ثم حسن القيام على ما اكتسب منه ، ثم استثماره ، ثم إنفاقة فيما يصلح المعيشة ويرضى الأهل والإخوان ، فيعود عليه نفعه فى الآخرة (32) ومن أهم الخلال التى ينبغى لصاحب الدنيا أن يقتنيها ويقبسها (أى ينشرها) : العلم ، والمال ، واتخاذ المعروف (22). ويقال إن هناك ثلاثة أشياء يجب على صاحب الدنيا إصلاحها ، وبذل جهده فيها : منها أمر معيشته ، ومنها ما بينه وبين الناس ، ومنها يكسبه الذكر الجميل بعد (23 ، 24) .
غير أننا ينبغى أن ندرك أن الوصول إلى الأهداف التى يضعها الإنسان لنفسه فى الدنيا ، لا يتم عادة إلا على حساب خسائر فادحة ، فإنه لم يبلغ أحد مرتبة إلا بإحدى ثلاث : إما بمشقة تناله فى نفسه ، وإما بوضيعة فى ماله ، أو وكس فى دينه (12) لذلك فإن الإنسان العاقل عليه أن يعرف أن الله تعالى قد جعل لكل شئ حدًا يوقف عليه . ومن تجاوز فى أشياء حدها أوشك أن يلحقه التقصير عن بلوغها (232) وأنه ليس شئ من شهوات الدنيا ولذاتها إلا وهو متحول إلى الأذى ، ومولد للحزن . فالدنيا كالماء الملح ، الذى لا يزداد شاربه شربا إلا ازداد عطشا . وهى كالعظم الذى يصيبه الكلب فلا يزال يطلب ذلك حتى يدمى فاه(3.) .
ومن هنا ، لا ينبغى لصاحب الدنيا إلا توقى المهالك والمتالف، وتقدير الأمور ، وقلة الاتكال على الحول والقوة ، وقلة الاغترار بمن لا يأمن ، فإنه من اتكل على قوته ، فحمله ذلك على أن يسلك الطريق المخوف ، فقد سعى فى حتف نفسه ، ومن لا يقدر لطاقته طعامه وشرابه وحمل نفسه ما لا تطيق ولا تحمل ، فقد قتل نفسه ، ومن لا يقدر لقمته ، وعظمها فوق ما يسع فوه فربما غص بها فمات ، ومن اغتر بكلام عدوه وانخدع له وضيع الحزم ، فهو أعدى لنفسه من عدوه (9.) .

13-متفرقات :

بعد العرض السابق لنصوص المضمون الأخلاقى فى كتاب كليلة ودمنة، والتى تبلغ حوالى (256 نصا) ، تبقى بعض النصوص المتناثرة التى يصعب إدخالها تحت موضوع معين فيما سبق ، وهذه النصوص تتميز هى الأخرى بطابع تقريرى يؤكد خصائص محددة . يمكن أن نضعها فى الترتيب التالى ، معلقين على ما يحتاج منها إلى تعليق :
- إن شهادة الواحد لا توجب حكما (61) .
- أفشل الأشياء أجهزها صوتا (38) .
- ما ترك الأول للآخر (55) .
- ليس أحد بأعلم بما فى نفس الموجع الجزين ممن ذاق مثل ما به (9.) .
- ثلاثة أشياء أصفار : النهر الذى ليس فيه ماء ، والأرض التى ليس فيها ملك ، والمرأة التى ليس لها بعل (1.1) .
- الريح الشديدة لا تعبأ بضعيف الحشيش ، لكنها تحطم طوال النخل ، وعظيم الشجر (38) وهناك حديث نبوى يشبه الكافر والمنافق بشجرة الأرز ، التى تأتى عليها الريح الشديدة فتكسرها إلى الأبد ، ويشبه المؤمن بالعشبة الصغيرة التى تميلها تلك الريح فقط ، ثم تعود لما كانت عليه . ومن الواضح أن معنى الحديث أكثر عمقا .
- لا خير فى القول إلا مع العمل ، ولا فى الفقه إلا مع الورع ، ولا فى الصديق إلا مع الوفاء ، ولا فى الحياة إلا مع الصحة ، ولا فى الأمن إلا مع السرور(51) .
- ألا ترى أن الماء ليس كالقول ، وأن الحجر أشد من الإنسان – ومع ذلك – فإن الماء إذا دام انحداره على الحجر لم يلبث حتى يثقبه ويؤثر فيه ، وكذلك القول فى الإنسان(49) .
- لا تجزع من العذاب إذا وقفت منك على خطيئة . ولأن تعذب فى الدنيا بجرمك خير من أن تعذب فى الآخرة بجهنم مع الإثم (56) .
- من طابت نفسه بأن يحرقها فقد قرب لله أعظم القربان ، لا يدعو عند ذلك بدعوة إلا استجيب له (76) ومن الواضح هنا أن فكرة حرق النفس هذه قد استعارها صوفية المسلمين وأطلقوا عليها ذبح النفس ، والمقصود إماتة كل شهواتها وأهوائها .
- ربما صنع الإنسان المعروف مع الضعيف الذى لم يجرب شكره، ولم يعرف حاله فى طبائعه ، فيقول بشكر ذلك ، ويكافئ عليه أحسن المكافأة . وربما حذر العاقل الناس ، ولم يأمن على نفسه أحدًا منهم (1.5) وهذا المعنى الأخير يتأكد فى موضع آخر ، فيقول : "إن استضافك ضيف ساعة من نهار ، وأنت لا تعرف أخلاقه ، فلا تأمنه على نفسك (44) إيغالا فى الحرص على الأمان ، وشدة الحذر من الغرباء .

خاتمـة :

لعل هذه المحاولة التى قمنا بها – من خلال الإحصاء ، والتصنيف ، وإعادة التركيب – تكون قد ألقت ضوءًا جديدًا ، أو على الأقل مختلفًا ، على كتاب كليلة ودمنة ، خاصة وأن هذه المحاولة إنما تصدر من واقع الكتاب ذاته ، ومما صرح به أصحاب مقدماته من أن "المضمون" هو مقصد الفلاسفة ، وأن الشكل ما هو إلا وسيلة لجذب انتباه العامة ، ومع ذلك فإننا نعتقد أن المضمون مفيد لكل من الفلاسفة وعامة القراء . وقد لاحظنا مدى الغنى والتنوع فى صنوف الحكمة والتجارب التى ضمها الكتاب ، ووردت بين ثناياه ، والتى استحق بها أن يصمد حتى اليوم ، وأن يظل محتفظًا بقيمته بين أرقى المؤلفات التى أنتجها العقل البشرى ، واشتركت فى الإعجاب به كافة الشعوب، كما تبنته مختلف الحضارات .


د. حامد طاهر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...