كليلة و دمنة صالح زياد - «الذئب والحمل» سؤال العدالة العدمي؟!

تنطوي قصة «الذئب والحمل» الخرافية، على تمثيل لعلاقات القوة بين الكائنات، من خلال ذاتين واضحتي الدلالة على التباين والتضاد في امتلاك القوة التي تستحيل إلى هوية تطبع ذاتية الذات بما هي رغبة لا تتحدد الذات إلا بها، ولا يرتسم وجودها من حيث هو علاقة إلا بمقتضاها. فالذات القوية هي ذات مفترِسة وعدوانية وظالمة، وصفاتها تلك هي صفات قوتها وصفات رغبتها بلا فرق. ولا معنى لتفسير القوة هنا من الجهة المعنوية بل هي قوة مادية: قوة الناب والمخلب، وقوة الإدراك واللحاق، وقوة البطش والصَّرْع، بحيث تتنزل أحكام نسبتها إلى المعنويات (الذكاء، البلاٍغة، الخُلُق، الحقيقة، المعرفة... إلخ) منزلة تالية لها في الصورة (مجازات الدلالة عليها) أوفي العِلَّة أوفي المغزى والمفهوم وهو الغلبة والهيمنة.

ترد خرافة «الذئب والحمل» في خرافات الفيلسوف الإغريقي أيسوب (شخصيته ذاتها موضع شك وتخريف) وفي خرافات الشاعر الفرنسي لافونتين التي نقلها إلى العربية، بتصرف حيناً ونقلاً مطابقاً أو يكاد، محمد عثمان جلال في «العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ» والأب نقولا أبوهنا المخلصي في «أمثال لافونتين» وإبراهيم العرب في «آداب العرب»، وأفاد منها أحمد شوقي في حكاياته المنظومة عن الحيوان، وهي على غرار خرافات «كليلة ودمنة» التي ترجمها عن الفارسية عبد الله بن المقفع، وبعض قصص الأمثال كما في «مجمع الأمثال» للميداني. وقد نظم خرافات كليلة ودمنة عدد من النظامين في القرون التالية، وقلدها آخرون مثل ابن الهبارية وابن ظفر وابن عرب شاه، وأفاد منها آخرون مثل أحمد بن مشرف الأحسائي في أرجوزة وعظية مطوَّلة في ديوانه.

لكن خرافة الذئب والحمل، تحديداً، لا ترد في كليلة ودمنة وقصص الأمثال ولا عند شوقي، وإن كان نمطها وثيمتها حاضرين في خرافات عديدة في تلك المصنفات، يقوم حدثها على الافتراس والسقوط صيداً للقوة بأشكال متعددة. أما نسقها من حيث هي حكاية على لسان الحيوان، توصف - عند القدامى والمحدثين - حيناً بالمثل، وحيناً بالموعظة، وثالثاً بالأسطورة، ورابعاً بالخرافة - وهي ما أراه مناسباً وأكثر دقة وتحريراً - فهي جزء من الأدب الشعبي الذي يأخذ خصائصه الاصطلاحية من عدم وجود مؤلِّف له، ومن التكرار والشيوع والشفاهية. وهو بهذه الخصائص ذو قيمة ثقافية إنسانية عالية، تعْبُر حدود الثقافات وتجتاز اختلاف المجتمعات إلى الكل الإنساني، الكل الذي يقبع هناك في عمق كل مجتمع على حدة، ويجمع - كما يقول حسن الشامي - بين ما يميز النفس البدائية في مجتمعها وما يوجد في أعماق النفس المتحضرة من خيالات وأحلام ليس لها في محيط الواقع مكان أو وجود.

وليس مجدياً أن نصل إلى نسخة أصلية لخرافة الذئب والحمل، ما دامت بصفة شعبية وتكرارية، لكن ما يرويه أيسوب منها لا يكاد يختلف عما يرويه لافونتين؛ فهي تتضمن لقاء بين ذئب وحمل، كان الحمل، في رواية أيسوب، يشرب فجَاءه ذئب، ولدى لافونتين تأتي البداية بالذئب الذي ضوَّره الجوع، فقصد جدول ماء صافياً ينحدر من نبع تظلله الأشجار. وعندما وصل إلى النبع وأخذ يشرب كان حملٌ يروي عطشه في الجهة السفلى من الجدول. التفت الذئب إلى الحمل وقال له غاضباً:
- لماذا تعكر الماء الذي أشربه؟ لابد أن تعاقَب على فعلتك.
- الحمل: لا حاجة لأن يغضب جلالتكم، وكيف لي أن أعكره وأنا أشرب من مكان يبعد عنكم عشرين خطوة، والماء ينحدر إليَّ في الأسفل وأنتم في الأعلى.
- الذئب: هل تذكر؟ لقد شتمتني في العام الماضي!
- الحمل: كيف أفعل وأنا لم أكن ولدت بعد، والآن ما زلت رضيعاً أتغذى من ثدي أمي.
- الذئب: لقد كان أخوك إذن.
- الحمل: أنا وحيد. ليس لي إخوة.
- الذئب: إذن، أحد أبناء جلدتك. إنكم تواظبون على إيذائي فضلاً عن رعاتكم وكلابكم. ويجب أن أثأر لنفسي.
وهجم الذئب على الحمل وافترسه.

يلفت النظر اختيار الخرافة لشخصيتيها من الذئب والحمل؛ فالذئب دلالة على الغريزية اللاواعية للافتراس، والتي تتضمن مساحة محتشدة بدلالة ضمنية على الظلم والغدر والخبث. ولذلك يُضرب المثل به في هذه الصفات -كما عند الجاحظ في الحيوان- فيقال: أظلم من ذئب، أو أغدر، أو أخبث... إلخ. وطبيعي أنه ليس الحيوان المفترس الوحيد أو الأقوى من بين السباع، لكنه - كما يذكر الجاحظ - الوحيد الذي يهاجم الإنسان في كل الأحوال، والأسد والنمر والضبع لا يهاجمونه إلا في ظروف محددة حين يبلغ بهم العجز عدم القدرة على اصطياد الحيوان، وهجومه على الإنسان وغيره من الحيوان هجوم افتراس والتهام كامل. أما الحمل فهو دلالة حميمة إنسانياً، فهو صغير الضأن، وهو رمز للوداعة والألفة والطفولة، ولا يملك ما يمكِّنه من الفرار أو الثبات تجاه الهجوم عليه من الضواري والسباع، إنه دلالة على الضعف والانقياد والبراءة.

وليس مصادفة أن يكون الحمل هو العامل الذي يمثل الذات في هذه الخرافة، بحسب مصطلح جريماس، أو البطل، بحسب بروب، لأنه يواجه المأزق ويقابل التحدي الذي يصنع الحكاية، فبلا مأزق أو تحد ليس هناك تحول وبالتالي لا مبرر للحكي. أما المأزق فهو الذئب الذي انتصب عقبة تمنع الحمل من الماء أي من الحياة. والأمر منسجم في هذه الحدود مع نسق الخرافة والحكايات الشعبية التي ترمِّز بطولة الضعيف والفقير والمهمَّش والإنساني والقديم والأليف... إلخ في مقابل أضدادها، لتوليد معانيها المنحازة للعدالة والأخلاق والحكمة، وللترامي إلى وعي حذر في العالم وغني بدلالات الصراع ومعانيه الدنيوية والواقعية. لكن اللافت في بطولة هذه الخرافة غياب الشخصية المانحة والشخصية المساعدة، وهما عنصران أساسيان في بنية الخرافات والحكايات الشعبية، ومثل ذلك طمس مرحلة خروج البطل، لنقف ابتداء على المواجهة والتحدي، وهذا مؤدى واضح لحشد التركيز على ضعف البطل أمام قاتله.

إن الخرافة تنحرف عن الطبيعي والغريزي تجاه حدثها، فالحمل طعام طبيعي للذئب، وهجومه على الحمل وفزع الحمل منه أمران متوقعان وغريزيان. لكن الخرافة تنسينا ذلك، لتحل في محله بنية أخرى ثقافية تنبع من اتهام الذئب للحمل بجنايته عليه، لأنه كدَّر عليه الماء، وشتَمَه في وقت سابق! هكذا تستحضر الخرافة سؤال العدالة أمام موقف تنعكس فيه علاقة القوي بالضعيف، والظالم بالمظلوم، فيغدو الذئب -في دعواه- مظلوماً وضعيفاً، بدليل شكواه، في مقابل عدوان الحمل، وجزاء المعتدي في العدالة العقاب، وهذا هو نية الذئب وقصده تجاه الحمل. ولهذا يقابِل الحمل اتهام الذئب بالدفاع وتحضر في الدفاع الحجة المنطقية وهي دليل النفي الذي يدحض دعوى لم تصطحب - كما يجب - دليل إثبات.

كان حِجَاج الحمل قياساً مضمراً بلغة المنطق، وهو حجاج يبرِّئ عدلياً، لكن نتيجته لم تخلِّص الحمل من العقاب، فافترسه الذئب. كأن العدالة هنا لا تقوم على برهان، هي ضد العقل لأنها ضد المنطق. ومعنى ذلك أن الحمل أخطأ في حجاجه والتدليل على براءته، فالعقل والمنطق، والعدالة نفسها، ليسوا وسائل صالحة دائماً في أحوال مواجهة القوة والغريزة. العقل هو عقل القوي والعدالة هي أحكامه، والحقيقة هي ما يراه. هكذا تبني الخرافة عالمها الذاتي، المغلق، فليس في الواقع ذئب يرافع عن مظلمته ولا حمل يبرئ نفسه من رغبة الذئب في افتراسه، لكنها تلفتنا إلى العالم المغاير الذي تتوجه إليه وتتولد عنه. وهي، في عالمها المغلق ذلك، تنتهك مبدأها الذي تأسست عليه، أعني سؤال العدالة، في الاتهام والدفاع، هذا المبدأ الذي حجبت به الخرافة مبدأ الغريزة والطبيعة وسؤالهما، لتحيله إلى سؤال تناقض أبدي، يبقى مفتوحاً دونما إجابة. وهو - والأمر كذلك - سؤال عدمي لا يملؤه إلا بحث الإنسان المستمر عن العدالة وفيها.


د. صالح زياد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...