كليلة و دمنة محسن ناصر الكناني - تولستوي يقرأ كليلة ودمنة

تولستوي روائي معروف عالمياً، باعتباره علماً من أعلام الرواية العالمية، فهو صاحب الروايات الروائع: الحرب والسلام، وآنا كرنينا وغيرهما كثير، هنا لانبحث عن الوجه المعروف للروائي (1828-1910) بقدر ما تنبه القارئ إلى وجهه الآخر: وجه تولستوي كاتب الأطفال.
**
كتب تولستوي خلال حياته الأدبية عدداً لايستهان به من القصص القصيرة للأطفال والأحداث، عُدّت من عيون الأدب العالمي، وهذا يعكس اهتمام الكتاب العظام بالأطفال، في حين يعتبر الآخرون؛ الخوض في هذا الأدب منقصة لهم تؤثر في مستواهم الإبداعي أو تقلّل من منزلتهم الأدبية.
إن اهتمام تولستوي بالأطفال، يرجع إلى طفولته الفلاحية، وإحساسه المرهف بثقل الإقطاعية كنظام اجتماعي متخلف، بالرغم من أن والده كان مالك ثروة، وأراض زراعية، وفلاحين أيضاً!
كتب تولستوي أقاصيصه في أواخر القرن التاسع عشر، وبالذات في فترة ظهور أدب الأطفال الأوربي الذي كان يمر آنذاك بفترة التجريب. ويمكن اعتبار (قصص للأطفال من تولستوي) من المجموعات الفريدة التي صدرت في بحر السنوات الأخيرة، وقام بالترجمة الروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان. كما يمكن اعتبار مجموعة (البطة والقمر) التي صدرت عن دار ثقافة الأطفال العراقية من المجموعات الفريدة أيضاً، وقد قام بالترجمة الأديب كامل يوسف حسين.
لا أستطيع أن أتوغل بعيداً في تحليل قصصه ضمن المجموعتين لأنهما تستأهلان دراسة تحليلية وافية، إلاّ إن هذا لايمنع من التأشير على الملامح الأساسية لفن تولستوي، ثم دراسة أنموذج تطبيقي للكشف عن تأثر بيّن وواضح بالأدب العربي، وبالتخصيص في (كليلة ودمنة).
ملامح عامة: أولى هذه الملامح: هو أن القصص موجهّة للصغار والكبار (الأحداث). يعني أن قصة الأطفال ترتكز على حدث بسيط غير متشعب، ومرسوم من الخارج بعناية، ويطغى عليه الوصف. يعني أن القاص معني بالمشهد العام وتفاصيله..
ثاني هذه الملامح: هو الجو الرومانسي الذي يخلقه تولستوي في عوالم قصصه البريئة. إلاّ أن القارئ يلاحظ بذوراً لوعي جنيني دفّاق، يتحكم بهذه العوالم. ويكشف أن الشخوص الذين رسمهم الكاتب بعناية ليسوا بعيدين عن همومهم الاجتماعية أو فاقدين لوعيهم الطبقي بل ينسجمون مع القارئ ويحملون همومه. وباعتقادي إن هذا راجع إلى تأثر تولستوي بعالم رواياته الاجتماعية، وتأثره بالمدرسة الرومانسية التي تلف بمعطفها الآثار الأدبية في تلك الفترة.
ثالث هذه الملامح: هو اعتماد تولستوي في أغلب قصصه على الحكايات الشعبية السائدة في تلك الفترة، فهو لم يكتف بنقل الحكاية فقط بل وظّف روحها الدرامي كعنصر من عناصر تطور قصته الجديدة، أي أن الحكاية بدت غير مقحمة، بل هي جزء من العمل الفني والبناء العام.
رابع هذه الملامح: هو لغة تولستوي الصافية المركّزة المتألقة ذات المسحة الشفافة الحزينة الشاعرة التي تأخذك بسحرها إلى مكامن الإبداع. وحين تلج معه عالمه يصعب عليك التخلص والانقلاب ثانية.


نموذج تطبيقي: لا أريد مقدماً أن أقرّر، بل أستفهم إلى أي حد، استطاع تولستوي، أن يستفيد من (كليلة ودمنة).
وأنا أقرأ في كليلة ودمنة حكاية عن (خطأ البطة) ص124 وجدت مايشابهها روحاً وعالماً واحداً في قصة من قصص تولستوي عنوانها البطة والقمر ضمن إصدارات دار ثقافة الأطفال العراقية وبالعنوان نفسه من ترجمة كامل يوسف حسين. سأحاول أن أعرض النصين للمناقشة كما ورد في المصدرين:
1-نص كليلة ودمنة ص124 بعنوان: (خطأ البطة)
(إنها رأت في الماء، ضوء كوكب فظنته سمكة، فحاولت أن تصيدها، فلما جرّبت ذلك مراراً علمت أنه ليس بشيء يُصاد فتركته ولم تطلب صيدها).
2- نص تولستوي بعنوان (البطة والقمر) من مجموعة قصصية بالعنوان نفسه من ترجمة كامل يوسف حسين، إصدار دار ثقافة الأطفال العراقية.
(كانت بطة تسبح يوماً في النهر، باحثة عن السمك، وانقضى اليوم بأسره، دون أن تعثر على سمكة واحدة، حينما أقبل الليل شاهدت البطة القمر منعكساً على سطح الماء، واعتقدت أنه سمكة، فغطست في الماء لتمسك به، ورأتها البطات الأخريات، فاندفعن ضاحكات منها. ومنذ ذلك اليوم، غرقت البطة في الخجل، إلى حد أنها عندما ترى سمكة تحت الماء لا تحاول الإمساك بها. ولم يمضِ وقت طويل حتى ماتت جوعاً).


مقاربة النصين:
لأجل أن ندرس النصين، ونقارن بينهما يجب الاعتراف بالحقائق التالية:
1 ـ النص الأول الذي ورد في كليلة ودمنة يقع في باب الحكاية الشعبية التي كانت سائدة في تلك الفترة، وهي نمط أدبي مكتوب بلسان الحيوانات، وقد أكد هذا الشيء الدكتور داود سلوم، عند دراسته لقصص الحيوان في كتابه (قصص الحيوان في الأدب، العراقي القديم). أما النص الثاني الذي كتبه تولستوي، فهو ينتمي إلى نمط (قصة الأطفال)، وهو نمط فني، غير الحكاية، وإن كان يستند على عناصرها. وقد ظهر هذا النمط في القرن التاسع عشر في أوربا، ولعل في مقدمتهم هانز اندرسن الدانماركي، وتشارلز ديكنز البريطاني، وتولستوي الروسي.
2 ـ بعد أن قررنا إن النص الأول: حكاية، والنص الثاني: قصة، فمن الطبيعي أن يستند الكاتب على الحكاية، ويطوّرها، أو يضيف عليها، أو يحذف منها. من القراءة الثانية، نلاحظ، أن الكاتب قد حافظ على روح الحكاية الشعبية الأصل، وأضاف إليها إضافات نوعية، لأجل أن يظهرها بثوب جديد، أضاف إليها عناصر قصصية جديدة. وهذا جدول يحاول أن يستقصي عناصر العملين..
1 ـ الحكاية : (خطأ البطة):
الموضوع: بطة تبحث عن السمك.
المكان : الماء.
الزمان : ضوء كوكب (في الليل).
الشخصيات: البطة/ السمكة.
الحوار: معدوم.
الحدث : حركة البطة فقط: (البحث عن السمك).
عالم الحكاية: بطة + ماء + ضوء كوكب + فشل في الصيد.
2 ـ القصة: (البطة والقمر).
الموضوع: بطة تبحث عن السمك.
المكان : الماء (النهر).
الزمان: ضوء القمر (في الليل).
الحوار: معدوم.
الشخصيات: البطة/ السمكة/ البطات.
الحدث :حركة البطة في النهر+ ضحكات البطات+ موت البطة.
عالم القصة: بطة + ماء + القمر + ضحكات البطات + موت البطة.
يتضح من الجدول، إن روح الحكاية الأولى كانت واضحة في الثانية، لكن الكاتب لم يبق الحكاية على حالها، بل حولها من مشهد عادي أو لقطة، إلى قصة كاملة، بأن أضاف إليها أحداثاً جديدة صعّدت من دراما الحدث وهو (ضحكات البطات الآخريات)، وجعلتها ـ أي البطة ـ تفقد ثقتها بنفسها، وفي قدرتها على الصيد، فتموت جوعاً، وهي ذروة القصة.
***
إن تولستوي في قصته هذه، قد نقح في روح الحكاية، الأولى وحافظ على قوتها؛ قوة المخيلة الشعبية، وأصالتها، وعناصر بنائها، وأزال الشوائب عن جسد الحكاية، وحولّها إلى نمط إبداعي جديد، يمتلك مقوّماته، وعناصر بنائه الداخلي اسمه قصة الأطفال.
وبتقديري أن تولستوي، يمتلك رؤية جديدة تلتقي مع رؤية الشاعر الأمريكي أونترماير في كتابه أو إعادة كتابة الحكاية حينما يقول: في سردي لها تخيلَّت بعض الأحداث وزودته بشيء من التفاصيل، لتساغ قراءتها، مضيفاً إليها بعض الحوار، إلاّ أن أصولها على أية حال لم تتغير، لأنها تملك قوة استمرارها وحفاظها على حيويتها، ولهذا تبقى دائماً جديدة).
هذه الكلمات المركّزة، المقتصدة، تلخّص رؤية الشاعر أونترماير في كتابة الحكاية بأسلوب جديد، وتلتقي مع رؤية تولستوي، بالرغم من أنّ بينهما قرن من الزمان .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...