في باحة البيت، استلقوا تحت مربع الشمس ساعة قبل أن يستيقظ الأب ويحملهم إلى الشاطئ. انتظروا ساعة أو أكثر حتى كاد أن يصيبهم القرف لكنهم ظلوا يتسلون بالزرقة التي تطل عليهم من فوق بكسل ريثما تتحرك عقارب النهار.
أصغرهم، والذي بالكاد تعلم النطق، سأل وهو ينظر في قلب السحب العابرة، إن كانت الغيوم أمواجا.. أوسطهم، والذي ذهب للشاطئ مرارا، أدرك أنها السماء. تساءل هو الآخر في تماه لذيذ.. إن كان الطيران عموديا يشبه سقطة من علو شاهق.. أكبرهم يدرك أن الأرض كروية الشكل. لذلك، فإن الطيران من جهة يشبه السقوط من جهة أخرى.
رأيتهم بالأمس خلف كومة البيوت الصغيرة، ينبشون في التراب المحادي لسور المقبرة. وجدوا رصاصة فاتسعت عيونهم من الذهول.. أضرموا النار فلم تنفجر.. حفروا ثانية وبحذر أكبر وهم يشعرون بقيمة المنجم الذي اكتشفوه.. تواعدوا ألا أحد منهم سيبوح بالسر، ثم ما لبثوا أن انخرطوا في حرب وهمية وهم يختفون بين شواهد القبور، ويطلقون أصواتهم بحجم رنين الطلقات. مثل رسوم متحركة نهضوا من موتهم مرارا وأعادوا تسديد الطلقات وأعادوا النبش في التراب، ولم تكن لديهم سوى رصاصة واحدة حقيقية.. وأن تكون بحوزتهم فذلك يكفي لأن يخلق إحساسا مختلفا بأهمية الحروب.
انتهوا عند الدكان قرب البيت، حدثهم المحارب القديم عن البطولات الوهمية التي حققها، دون أن يجيبهم إن كان التراب خلف المقبرة يشكل مخزنا حقيقيا للأسلحة. لم يخبروه عن الرصاصة.. ولم يخبرهم إن كانت لديه فوهة يحتفظ بها. لذلك ناموا دون أجوبة حقيقية ليستيقظوا تحت مربع السماء.
استيقظ الأب مرغما. هذا الصباح، لم يكن من أحد كسلان سواه. منخور الظهر بفعل الأورام، وهو إن كان متحمسا للبحر، فلأن المحارب أوصاه بحمام في الرمل. ربما اقترح عليه أن يسافر جهة الجنوب، وأن يستلقي في عمق الذرات السحرية. لعلها ترمم ما أفسدته الأورام. ولعل الجنوب.. والأطفال.. والواجبات. تدفعه بعيدا عن احتمالات السفر. لذلك فإن حماسه هذه المرة كان منقطع النظير. ولذلك أيضا بدا الهواء رطبا كلما اقتربوا من الشاطئ، لتخف الكآبة وليبتعد الأطفال ولو مرة واحدة عن ضوضاء الحارة.. تلك التي يشعلونها مع أبناء الجيران فلا تخمد إلا حينما تفرغ الشمس أحشاءها على صفيح السطوح، قبل أن تتلاشى كبالون مثقوب.
الأطفال كانوا يمسكون به خيط الطريق جهة الأمام. يجرجر خلفهم خطاه وهم دون لغط شديد ودون كلل يحملون لعبهم والعجلة المطاطية الضخمة المحقونة بالهواء. لاشك أن ميكانيكي الحي حين منحهم إياها أوهمهم بأنها أخف زورق في العالم.. امتطاها حين كان صغيرا وتعاقب عليها أبناء الحي جميعهم.. صغارا وكبارا لذلك جاء منطقيا أن تكون مثل جلد ثعبان من كثرة الرقع التي عليها، تلك التي تعطيها احتمالات أكبر لأن تكون قارب النجاة الوحيد الذي ارتكزت عليه حياة المئات، بعد أن يئست من جدواها شاحنة مهترئة.
الأب لم يكن يفكر سوى في هؤلاء الصغار، الذين يندفعون أمامه مثل أحصنة جامحة بأحمالهم وأحلامهم.. كيف تواجدوا فجأة هكذا أمامه.. كما لو دون سابق إنذار.. وكيف قبل سنين، كان ينتظر أن يكون بعيدا عن أي إحساس بفاجعة مثل هذه –منكسر الظهر والقلب- وأن يأتيه أطفال من ليال مغبونة، تلوى فيها تحت أغطية السرير، دون شغف.. فقط من أجل إطعام جسد واهن بجسد واهن. وتناثروا أمامه مثل الساعات الضائعة، ونزلوا كما لو في محطات عابرة من قطار مندفع لا يعرف وجهته. مرارا.. رن ديك الساعة الذي ينقر عند رأسه كل صباح في رتابة آلية كما لو أنه ينقر أعصاب الغد. بدم بارد، نام وقام وحلق دقنه أو تناساه ورتب أوراق العمل في محفظة مهترئة ثم خرج مدفوعا دون رغبة وبقرف شديد جهة العمل مائلا كما لو يريد أن ينعرج لكن السبل تنمحي ولا تترك له إلا السبيل ذاته، مثل كرة بين مضربين تتشظى ولا تزيحه عن قبره الأليف. وكما لو كان يعتلي صخرة ولا يستطيع أن ينزل، فتضيق الأرض.. ليلمح كلما استيقظ أن البيت بعيد عن أحلامه وأن المدينة هي ذاتها بها امرأة وبيت ومستشفى لا يلجه إلا محملا بأقمطة ليستخرج عفريتا إضافيا ساقته له القاطرة التي تلف حوله ولا يصيبها الدوار، رأسه وحدها تدور، فيبهت وينهار.
فكر مرارا بأن الأمر أشبه بكمين، أعد سلفا، وأن كل شيء رتب بعناية فائقة لم تترك له مجالا لأن ينتفض، فبدا أن الأمر عاد.. وضعوا له بيتا فرضي وامرأة وأطفالا فلم يفه بشيء. وحتى الآن لم يجد كيف يطلق ذلك الصوت المدفون عميقا في الحنجرة والذي لا يخرج ولا يشبه حتى الحشرجة.
مررت بالدراجة فركض الأطفال بمحاداتي. أدرت العجلة بقوة كما لو كنت في سباق تحد.. بطريقة لا شعورية لم أتنازل عن عنادي خشية الخسران.. لم يتبادر إلى ذهني أنها منافسة غير متكافئة، وحين تجاوزتهم بأمتار سمعتهم يضحكون. كنت ألهث، بينما أنفاسهم لم تكن تندفع من رئة مثقوبة كما يحدث لي.. الأب كان في الخلف.. كان كظل دون جسد، مثل هر واهن مربوط بخيط من ذيله، يجره أطفال شرسون. لم تمض إلا ساعة حتى سمعت ضحكاتهم، كانوا ينزلون البحر، وحيث كنت قد انزويت بعيدا في نقطة ما من الشاطئ، لم تحتجب عني أصواتهم، وتلك الضحكات التي رنت في أذني، ونبهتني كيف استخفوا بي حين دفعت العجلة بقوة وابتعدت.
وحيث الأرض شبه منبسطة، والمسافة تتداعى بين المدينة والشاطئ.. بين أشجار وأحجار مبثوثة على الطريق، لترسم ساعة من المشي على الأقدام. بدت المدينة مثل خط أبيض يرتسم في البعد، دون ملامح واضحة. بالكاد يتشبث بالأفق الذي يمتد جهة الشاطئ فيتلاشى في الزرقة، دون أن يفصل بحسم بين السماء والماء.. والأطفال، الذين دائما ينظرون إلى البعد بعين فيلسوف، ويرسمون المسافة بأصابعهم، والعيون تتبع الرسم بدقة فتحتويه، ليتوحد المشهد تحت مجال الرؤية، مثل رسم على ورق شفاف، وفوق الورق أصباغهم وأقلامهم، وخلفه الطبيعة المتحركة تحت أجنحة الخيال.. وعراة، كما يحبون دائما، يركضون وينبطحون على الرمل وينهضون ويصرخون. والضحك، يتحول إلى كيمياء تعيد التوازن إلى الأرواح الهائمة. فيستلقون على ظهورهم مثلما تحت مربع الشمس.. يظهر البيت. يقومون فينهدم. ويظهر البحر، الذي يستقبل السماء مثل كف تحضن ماء شلال.. وينبشون الرمل فتخرج الأصداف والمحارات قطعا صغيرة لا تشبه الرصاص. فيموت المحارب القديم في معاركه الخاسرة، ويلفظ الميكانيكي أنفاسه حين تدور العجلة بخفة وترتفع فوق الموج ناسية روائح الزيوت متذكرة أنها هاهنا زورق. بينما في الخلف.. في المشهد المنسي، يجلس الأب بكسل، دون أن ينزع عنه سوى قميصه لتخفت عضلاته أكثر، ولتبدو مثل تشوه كئيب لتعاقب السنين التي صارت تتساقط على ظهره مثل سلم عتيق. فيصير جسده خسارة الحاضر، بينما روحه بالكاد تنتعش برقة الهواء وتتقلص بالذكرى. متماهية مع أدوار قديمة لعبتها في نهارات بعيدة، حين كانت الساعتان بين المدينة والشاطئ وبين الشاطئ والمدينة، قرص الأحلام الفائر الذي تحلل وخرج عن دائرة اللذة متلاشيا على طول الطريق في ترتيبات الزواج وأفكار المستقبل الذي استنفذ كل أغراضه وجثم على صدره، لينغرس الآن بين ذرات الرمل متشربا حرارتها كما لو ستغمره الراحة كمطلق. وفكر.. لو ارتعشت أورامه تحت الرمل وتلاشت، واستطاع أن يقوى، ولو مرة واحدة، أن يقف بحزم، صلبا، ودون آلام، ويقبل الأطفال بصرامة، ولا ينظر جهة المرأة، حيث لن يكون له الوقت الكافي حتى لسماع شهقتها حين يسحب لآخر مرة ساقه خارج العتبة ويلطم الباب خلفه.. لعله سيصير أخف من ريشة طائر حين يسير إلى جهة ما، حيث المحطات أقل وطأة من حجر الماضي. والماضي.. مثل غبار في الكف، ينفخ فيه، فلا تستقيم له أجنحة ولا يطير، فقط.. يسقط مثل ذرات متعبة، تمتصها الأرض وتتلاشى.
ويسترخي، وتتبدل أحواله..
ودون ذكاء فائق. لم يفكر.. أرخى نظره جهة الأفق وقام.
أطفاله يركضون هنا وهناك، يتقاذفون الرمل الرطب وينتعشون بالماء. خلع بنطاله وطرحه ككومة أحشاء متهدلة، وركض نحوهم. حين نظروا إليه -في استغراب ما- ضحكوا ضحكا أقل استخفافا. وحين ابتسم ابتسموا أيضا. وارتمت العجلة، وارتمى وسطها، وتسلقوا حواشيها.. ودفع الأرض من تحت الماء فانسحبت ثم غارت قليلا.. فعاموا على السطح، وتلاحقت الأمواج في تهاد.. فتهادوا.. وتشابكت أيديهم وتلاحمت حرصا من أن تبتل رعشة الفرح، أو أن تغوص ضحكة ما في القعر.
وحيث الشاطئ خال، لا يشبه مكانا فارغا.. وحيث لم آت إلى هنا إلا في فصول نادرة.. حملت دراجتي التي كانت تستلقي على صخرة، دفعتها نحو الشاطئ ونزلت. وكما حلمت دائما، أن يكون البحر مرتدا، متقلصا جهة الأفق، مسحوبا أعلى، تاركا الرمل مثل بساط رطب، صلب وناعم.. فلا تغوص العجلتان وهما ترسمان على طول الشاطئ خطا رفيعا، مستقيم السرعة. فيخفت الهواء ويصير معطرا بالرذاذ. وحيث دائما، ثمة حقول نوارس لا تلحقها السيقان ولا تمسكها الأرض، نسيت الأطفال وغبن المدينة الكسلانة التي ينام فيها حي تعلوه شمس كبرتقالة مشتعلة ترسم مربعاتها من فتحات السطوح. ومن فوق السطوح، تظهر الأزقة منبطحة كقشرة يابسة ترتمي بين البيوت، وتقود إلى كل الجهات، لتنحصر عند سور المقبرة. نسيت المقبرة وكومة العظام تحتها. وحفرة صغيرة كانت تدفن رصاصة، كانت مشتعلة في فوهة لم تخرج من خيال محارب قديم.
نسيت كل ذلك وانطلقت، مغمورا وسط حقل النوارس التي بسحر فاتن حلقت على علو خفيض، لا يعلو خط الأفق. ومثل السكران. تخف الأرض وتتداعى العجلة ولا تغوص. تهيم وسط النوارس التي تحلق أمامي وبي تطير. وكما لو أن السماء قريبة، والهواء دم أزرق شفاف، يلطم آخر صدأ تكلس في الرئة، نمت تحت صفاء الأجنحة التي كانت تجرني بخيوط لا مرئية إلى أعلى.. وحيث الأطفال لا حدود لرؤاهم، بين موجة تنسحب على الماء أو تهيم غيمة في السماء. أن يكون الطيران من جهة يشبه السقوط من جهة أخرى. درت دورة كاملة. وكلما دنوت.. تراءت لي العجلة المطاطية قرصا أسود يتأرجح بين موجتين.. ولا جسدا يتوسطه أو يدا تتمسك بحواشيه.. وتخيلت تلك الدوائر، كيف ترتسم حول نقطة غائرة رسمتها حصاة صغيرة سقطت في الماء قبل أن تنام تحته. تخيلت أو رأيت جهة الخط الأبيض الذي يرسم المدينة في الأفق، ثلاثة أجساد صغيرة تسير نحوه. وفكرت في الأب، وفي لطمة الباب حين يفر بآخر ساق، إن كان وحده قد تهاوى من ذلك الثقب الأسود..
لعل المشهد غير ذلك. لقد سبح مثل طفل، ثم استلقى على الرمل فاتحا ذراعيه مثل عصفور. آماله العريضة انتعشت تحت خفة الموج.. النعومة التي فاضت من الأيادي الصغيرة حين تلامست وتشابكت. وكما لو لأول مرة سيلمسها ليفيض قلبه انتشاء. رفرفوا حوله وخرجت من أفواههم ضحكات سحرية.. طارت مثل الخدر ولفت أورامه. تراءى له الصغار بأجنحة. ابتسم لهم بانتشاء وهو يدفن أصابعه في الرمل.. اندفنت الأيادي الصغيرة أيضا، وانخرطت في رسم معالم حفرة صغيرة صارت تتسع. ارتمى فيها فلفت الحرارة أعضاءه. أغمض عينيه كما لو ليرى العالم أقل وطأة مما مضى. صارت الأشياء مثل فراغ في طين الكون.
كومة كومة، انهالت عليه الذرات. صارت جبلا. وتحت الجبل، كانت الروح تبهت وتكاد تطير.. أمسك بها فانتفضت وضربت بأجنحتها.. وظل الأطفال يهيلون الرمل عليه بإصرار كبير. وبإصرار كبير ظلت الروح تنتفض والهواء يخفت في الرئة، حتى طارت، ولم يعد الهواء ولم يَقْوَ على حركة ثم همد.
كان الشاطئ خال.. كما لو أعد لذلك سلفا.. ظلت النوارس وحدها تحلق في الأجواء. حتى أظلم الليل ولم يعد يرى أي أثر لأي أثر.
تازة/غشت 99
أصغرهم، والذي بالكاد تعلم النطق، سأل وهو ينظر في قلب السحب العابرة، إن كانت الغيوم أمواجا.. أوسطهم، والذي ذهب للشاطئ مرارا، أدرك أنها السماء. تساءل هو الآخر في تماه لذيذ.. إن كان الطيران عموديا يشبه سقطة من علو شاهق.. أكبرهم يدرك أن الأرض كروية الشكل. لذلك، فإن الطيران من جهة يشبه السقوط من جهة أخرى.
رأيتهم بالأمس خلف كومة البيوت الصغيرة، ينبشون في التراب المحادي لسور المقبرة. وجدوا رصاصة فاتسعت عيونهم من الذهول.. أضرموا النار فلم تنفجر.. حفروا ثانية وبحذر أكبر وهم يشعرون بقيمة المنجم الذي اكتشفوه.. تواعدوا ألا أحد منهم سيبوح بالسر، ثم ما لبثوا أن انخرطوا في حرب وهمية وهم يختفون بين شواهد القبور، ويطلقون أصواتهم بحجم رنين الطلقات. مثل رسوم متحركة نهضوا من موتهم مرارا وأعادوا تسديد الطلقات وأعادوا النبش في التراب، ولم تكن لديهم سوى رصاصة واحدة حقيقية.. وأن تكون بحوزتهم فذلك يكفي لأن يخلق إحساسا مختلفا بأهمية الحروب.
انتهوا عند الدكان قرب البيت، حدثهم المحارب القديم عن البطولات الوهمية التي حققها، دون أن يجيبهم إن كان التراب خلف المقبرة يشكل مخزنا حقيقيا للأسلحة. لم يخبروه عن الرصاصة.. ولم يخبرهم إن كانت لديه فوهة يحتفظ بها. لذلك ناموا دون أجوبة حقيقية ليستيقظوا تحت مربع السماء.
استيقظ الأب مرغما. هذا الصباح، لم يكن من أحد كسلان سواه. منخور الظهر بفعل الأورام، وهو إن كان متحمسا للبحر، فلأن المحارب أوصاه بحمام في الرمل. ربما اقترح عليه أن يسافر جهة الجنوب، وأن يستلقي في عمق الذرات السحرية. لعلها ترمم ما أفسدته الأورام. ولعل الجنوب.. والأطفال.. والواجبات. تدفعه بعيدا عن احتمالات السفر. لذلك فإن حماسه هذه المرة كان منقطع النظير. ولذلك أيضا بدا الهواء رطبا كلما اقتربوا من الشاطئ، لتخف الكآبة وليبتعد الأطفال ولو مرة واحدة عن ضوضاء الحارة.. تلك التي يشعلونها مع أبناء الجيران فلا تخمد إلا حينما تفرغ الشمس أحشاءها على صفيح السطوح، قبل أن تتلاشى كبالون مثقوب.
الأطفال كانوا يمسكون به خيط الطريق جهة الأمام. يجرجر خلفهم خطاه وهم دون لغط شديد ودون كلل يحملون لعبهم والعجلة المطاطية الضخمة المحقونة بالهواء. لاشك أن ميكانيكي الحي حين منحهم إياها أوهمهم بأنها أخف زورق في العالم.. امتطاها حين كان صغيرا وتعاقب عليها أبناء الحي جميعهم.. صغارا وكبارا لذلك جاء منطقيا أن تكون مثل جلد ثعبان من كثرة الرقع التي عليها، تلك التي تعطيها احتمالات أكبر لأن تكون قارب النجاة الوحيد الذي ارتكزت عليه حياة المئات، بعد أن يئست من جدواها شاحنة مهترئة.
الأب لم يكن يفكر سوى في هؤلاء الصغار، الذين يندفعون أمامه مثل أحصنة جامحة بأحمالهم وأحلامهم.. كيف تواجدوا فجأة هكذا أمامه.. كما لو دون سابق إنذار.. وكيف قبل سنين، كان ينتظر أن يكون بعيدا عن أي إحساس بفاجعة مثل هذه –منكسر الظهر والقلب- وأن يأتيه أطفال من ليال مغبونة، تلوى فيها تحت أغطية السرير، دون شغف.. فقط من أجل إطعام جسد واهن بجسد واهن. وتناثروا أمامه مثل الساعات الضائعة، ونزلوا كما لو في محطات عابرة من قطار مندفع لا يعرف وجهته. مرارا.. رن ديك الساعة الذي ينقر عند رأسه كل صباح في رتابة آلية كما لو أنه ينقر أعصاب الغد. بدم بارد، نام وقام وحلق دقنه أو تناساه ورتب أوراق العمل في محفظة مهترئة ثم خرج مدفوعا دون رغبة وبقرف شديد جهة العمل مائلا كما لو يريد أن ينعرج لكن السبل تنمحي ولا تترك له إلا السبيل ذاته، مثل كرة بين مضربين تتشظى ولا تزيحه عن قبره الأليف. وكما لو كان يعتلي صخرة ولا يستطيع أن ينزل، فتضيق الأرض.. ليلمح كلما استيقظ أن البيت بعيد عن أحلامه وأن المدينة هي ذاتها بها امرأة وبيت ومستشفى لا يلجه إلا محملا بأقمطة ليستخرج عفريتا إضافيا ساقته له القاطرة التي تلف حوله ولا يصيبها الدوار، رأسه وحدها تدور، فيبهت وينهار.
فكر مرارا بأن الأمر أشبه بكمين، أعد سلفا، وأن كل شيء رتب بعناية فائقة لم تترك له مجالا لأن ينتفض، فبدا أن الأمر عاد.. وضعوا له بيتا فرضي وامرأة وأطفالا فلم يفه بشيء. وحتى الآن لم يجد كيف يطلق ذلك الصوت المدفون عميقا في الحنجرة والذي لا يخرج ولا يشبه حتى الحشرجة.
مررت بالدراجة فركض الأطفال بمحاداتي. أدرت العجلة بقوة كما لو كنت في سباق تحد.. بطريقة لا شعورية لم أتنازل عن عنادي خشية الخسران.. لم يتبادر إلى ذهني أنها منافسة غير متكافئة، وحين تجاوزتهم بأمتار سمعتهم يضحكون. كنت ألهث، بينما أنفاسهم لم تكن تندفع من رئة مثقوبة كما يحدث لي.. الأب كان في الخلف.. كان كظل دون جسد، مثل هر واهن مربوط بخيط من ذيله، يجره أطفال شرسون. لم تمض إلا ساعة حتى سمعت ضحكاتهم، كانوا ينزلون البحر، وحيث كنت قد انزويت بعيدا في نقطة ما من الشاطئ، لم تحتجب عني أصواتهم، وتلك الضحكات التي رنت في أذني، ونبهتني كيف استخفوا بي حين دفعت العجلة بقوة وابتعدت.
وحيث الأرض شبه منبسطة، والمسافة تتداعى بين المدينة والشاطئ.. بين أشجار وأحجار مبثوثة على الطريق، لترسم ساعة من المشي على الأقدام. بدت المدينة مثل خط أبيض يرتسم في البعد، دون ملامح واضحة. بالكاد يتشبث بالأفق الذي يمتد جهة الشاطئ فيتلاشى في الزرقة، دون أن يفصل بحسم بين السماء والماء.. والأطفال، الذين دائما ينظرون إلى البعد بعين فيلسوف، ويرسمون المسافة بأصابعهم، والعيون تتبع الرسم بدقة فتحتويه، ليتوحد المشهد تحت مجال الرؤية، مثل رسم على ورق شفاف، وفوق الورق أصباغهم وأقلامهم، وخلفه الطبيعة المتحركة تحت أجنحة الخيال.. وعراة، كما يحبون دائما، يركضون وينبطحون على الرمل وينهضون ويصرخون. والضحك، يتحول إلى كيمياء تعيد التوازن إلى الأرواح الهائمة. فيستلقون على ظهورهم مثلما تحت مربع الشمس.. يظهر البيت. يقومون فينهدم. ويظهر البحر، الذي يستقبل السماء مثل كف تحضن ماء شلال.. وينبشون الرمل فتخرج الأصداف والمحارات قطعا صغيرة لا تشبه الرصاص. فيموت المحارب القديم في معاركه الخاسرة، ويلفظ الميكانيكي أنفاسه حين تدور العجلة بخفة وترتفع فوق الموج ناسية روائح الزيوت متذكرة أنها هاهنا زورق. بينما في الخلف.. في المشهد المنسي، يجلس الأب بكسل، دون أن ينزع عنه سوى قميصه لتخفت عضلاته أكثر، ولتبدو مثل تشوه كئيب لتعاقب السنين التي صارت تتساقط على ظهره مثل سلم عتيق. فيصير جسده خسارة الحاضر، بينما روحه بالكاد تنتعش برقة الهواء وتتقلص بالذكرى. متماهية مع أدوار قديمة لعبتها في نهارات بعيدة، حين كانت الساعتان بين المدينة والشاطئ وبين الشاطئ والمدينة، قرص الأحلام الفائر الذي تحلل وخرج عن دائرة اللذة متلاشيا على طول الطريق في ترتيبات الزواج وأفكار المستقبل الذي استنفذ كل أغراضه وجثم على صدره، لينغرس الآن بين ذرات الرمل متشربا حرارتها كما لو ستغمره الراحة كمطلق. وفكر.. لو ارتعشت أورامه تحت الرمل وتلاشت، واستطاع أن يقوى، ولو مرة واحدة، أن يقف بحزم، صلبا، ودون آلام، ويقبل الأطفال بصرامة، ولا ينظر جهة المرأة، حيث لن يكون له الوقت الكافي حتى لسماع شهقتها حين يسحب لآخر مرة ساقه خارج العتبة ويلطم الباب خلفه.. لعله سيصير أخف من ريشة طائر حين يسير إلى جهة ما، حيث المحطات أقل وطأة من حجر الماضي. والماضي.. مثل غبار في الكف، ينفخ فيه، فلا تستقيم له أجنحة ولا يطير، فقط.. يسقط مثل ذرات متعبة، تمتصها الأرض وتتلاشى.
ويسترخي، وتتبدل أحواله..
ودون ذكاء فائق. لم يفكر.. أرخى نظره جهة الأفق وقام.
أطفاله يركضون هنا وهناك، يتقاذفون الرمل الرطب وينتعشون بالماء. خلع بنطاله وطرحه ككومة أحشاء متهدلة، وركض نحوهم. حين نظروا إليه -في استغراب ما- ضحكوا ضحكا أقل استخفافا. وحين ابتسم ابتسموا أيضا. وارتمت العجلة، وارتمى وسطها، وتسلقوا حواشيها.. ودفع الأرض من تحت الماء فانسحبت ثم غارت قليلا.. فعاموا على السطح، وتلاحقت الأمواج في تهاد.. فتهادوا.. وتشابكت أيديهم وتلاحمت حرصا من أن تبتل رعشة الفرح، أو أن تغوص ضحكة ما في القعر.
وحيث الشاطئ خال، لا يشبه مكانا فارغا.. وحيث لم آت إلى هنا إلا في فصول نادرة.. حملت دراجتي التي كانت تستلقي على صخرة، دفعتها نحو الشاطئ ونزلت. وكما حلمت دائما، أن يكون البحر مرتدا، متقلصا جهة الأفق، مسحوبا أعلى، تاركا الرمل مثل بساط رطب، صلب وناعم.. فلا تغوص العجلتان وهما ترسمان على طول الشاطئ خطا رفيعا، مستقيم السرعة. فيخفت الهواء ويصير معطرا بالرذاذ. وحيث دائما، ثمة حقول نوارس لا تلحقها السيقان ولا تمسكها الأرض، نسيت الأطفال وغبن المدينة الكسلانة التي ينام فيها حي تعلوه شمس كبرتقالة مشتعلة ترسم مربعاتها من فتحات السطوح. ومن فوق السطوح، تظهر الأزقة منبطحة كقشرة يابسة ترتمي بين البيوت، وتقود إلى كل الجهات، لتنحصر عند سور المقبرة. نسيت المقبرة وكومة العظام تحتها. وحفرة صغيرة كانت تدفن رصاصة، كانت مشتعلة في فوهة لم تخرج من خيال محارب قديم.
نسيت كل ذلك وانطلقت، مغمورا وسط حقل النوارس التي بسحر فاتن حلقت على علو خفيض، لا يعلو خط الأفق. ومثل السكران. تخف الأرض وتتداعى العجلة ولا تغوص. تهيم وسط النوارس التي تحلق أمامي وبي تطير. وكما لو أن السماء قريبة، والهواء دم أزرق شفاف، يلطم آخر صدأ تكلس في الرئة، نمت تحت صفاء الأجنحة التي كانت تجرني بخيوط لا مرئية إلى أعلى.. وحيث الأطفال لا حدود لرؤاهم، بين موجة تنسحب على الماء أو تهيم غيمة في السماء. أن يكون الطيران من جهة يشبه السقوط من جهة أخرى. درت دورة كاملة. وكلما دنوت.. تراءت لي العجلة المطاطية قرصا أسود يتأرجح بين موجتين.. ولا جسدا يتوسطه أو يدا تتمسك بحواشيه.. وتخيلت تلك الدوائر، كيف ترتسم حول نقطة غائرة رسمتها حصاة صغيرة سقطت في الماء قبل أن تنام تحته. تخيلت أو رأيت جهة الخط الأبيض الذي يرسم المدينة في الأفق، ثلاثة أجساد صغيرة تسير نحوه. وفكرت في الأب، وفي لطمة الباب حين يفر بآخر ساق، إن كان وحده قد تهاوى من ذلك الثقب الأسود..
لعل المشهد غير ذلك. لقد سبح مثل طفل، ثم استلقى على الرمل فاتحا ذراعيه مثل عصفور. آماله العريضة انتعشت تحت خفة الموج.. النعومة التي فاضت من الأيادي الصغيرة حين تلامست وتشابكت. وكما لو لأول مرة سيلمسها ليفيض قلبه انتشاء. رفرفوا حوله وخرجت من أفواههم ضحكات سحرية.. طارت مثل الخدر ولفت أورامه. تراءى له الصغار بأجنحة. ابتسم لهم بانتشاء وهو يدفن أصابعه في الرمل.. اندفنت الأيادي الصغيرة أيضا، وانخرطت في رسم معالم حفرة صغيرة صارت تتسع. ارتمى فيها فلفت الحرارة أعضاءه. أغمض عينيه كما لو ليرى العالم أقل وطأة مما مضى. صارت الأشياء مثل فراغ في طين الكون.
كومة كومة، انهالت عليه الذرات. صارت جبلا. وتحت الجبل، كانت الروح تبهت وتكاد تطير.. أمسك بها فانتفضت وضربت بأجنحتها.. وظل الأطفال يهيلون الرمل عليه بإصرار كبير. وبإصرار كبير ظلت الروح تنتفض والهواء يخفت في الرئة، حتى طارت، ولم يعد الهواء ولم يَقْوَ على حركة ثم همد.
كان الشاطئ خال.. كما لو أعد لذلك سلفا.. ظلت النوارس وحدها تحلق في الأجواء. حتى أظلم الليل ولم يعد يرى أي أثر لأي أثر.
تازة/غشت 99