عبد الواحد الزفري - الهبــي..

عجيب أمر المقهى الصغير القابع في الركن الأيمن للشارع الرئيسي لحي “للا العالية”، ليس فيه سوى حصير مد على طول أرضيته، جدرانه طليت بلون أصفر يحجب ما علق بها من غبار وأوساخ، تقدم لزبنائها شايا أخضرا أو قهوة بلون الفحم وأوراق اللعب مرفوقة بحبات الحصى، ومع ذلك فهي لا تكاد تخلو من الزبائن إلا في وقت متأخر من الليل أو بعد عراك دامي أسمع الجيران ما لذ وطاب من الكلمات الساقطة.
“حميدو” صاحب المقهى شاب أسمر اللون مسالم ومرح، يتنقل بين الزبناء ممازحا هذا، ملقي بنكتة جديدة في أذن ذاك.
كانت تربطنا به، نحن شباب “غرسة بن جلون” (الحي المجاور ل “للا العالية”) علاقة كروية كرابطة الدم لا يفارقنا ولا نفارقه، يجاري حماقاتنا، ونتقبل تصرفاته الغريبة.
كنا نستيقظ باكرا: نتناول ” بيصارا”(الفول) بإحدى المطاعم الشعبية بـ” الكزارين” ونحط الرحال بالملعب البلدي لنجري مقابلات في كرة القدم، لا تنتهي إلا بتمزق الكرة أو بفتح أفواه أحذيتنا، كان “ حميدو” يستيقظ قبلنا يتنقل قرب نوافذ منازلنا يقرع الكرة بعصا:
ـ انهضوا أيها النائمون، انهضوا أيها الكسالى.
صوته يحيلنا على “الطبال” وقد جاء يوقظنا وقت السحر فنهب واقفين كالعساكر، نلبس بسرعة لباسنا الباهت المنشور على السطح وننتعل أحذيتنا الرياضية التي أحضرناها بالأمس من إسكافي مل إصلاحها:
ـ آه! لو كان لي مال لأعتقت لوجه الله هذه الأحذية التي لم تعد تتقبل أي خيط أو مسمار !
كل صباح كنا نمارس ساديتنا على الكرة والأحذية، وفي المساء كنا نلتقي بمقهى “للا العالية” وعلى طريقتنا الخاصة نحلل مقابلة اليوم:
ـ لم أر أحدا قبلك يسجل إصابة من ضربة ركنية!!
فيرد عليه “حميدو” مشيرا إلى رأسه:
ـ إنها هنا، فكيف ستراها!؟
اجتاحت موجة “ الهيبية” شبابنا، فقلدنا صديقنا (الذي أصبح يعانق مذهب “ الهبية”) في كل تصرفاته: أضربنا عن زيارة الحلاق وأدمنا الاستماع لأغاني “ البيتلز”، “ كاط ستيفنس” و” بوب مارلي” ونحن ندخن حشيشا أحضره “ ولد حمو” ذاك الصبي المارد الذي كان أول من أدخله إلى المقهى، نقتني منه تذكرة سفرنا إلى عوالم غريبة ما عرفناه من قبل على أنغام الموسيقى المنبعثة من “ المانيطوفون” الموضوع على حافة “ الكونطوار” بعد أن أوصل بمكبرين للصوت. كنا نترجى “ الهيبي” أن يشغل إحدى أسطوانات “بوب مارلي” قبل إحضاره لطلباتنا، لنتمتع برؤيته راقصا مرددا كلمات الأغاني، وهو الذي لم يلج أبواب المدرسة، فيبدو لنا بلحيته القصيرة، وشعره الطويل وملامحه “ الجمايكية ” مثل “بوب مارلي”.
ـ سأقفل المقهى للإصلاح.
مكثنا مدة طويلة بعيدا عن صديقنا ومقهاه واكتفينا بالجلوس كل مساء على عتبة العمارة المقفلة المقابلة لحديقة “ السلام”، نتابع المارة بأعين فاغرة وأياد على الخدود، ندخن سجائر لا طعم لها بدون رقصات “ الهبي”، الذي انشغل عنا بإصلاح مقهاه ولم يعد يحضر مقابلاتنا ، إذ لم نعد ننتصر في أية واحدة منها في غيبته، نعود منها متثاقلين كأننا عائدون من جنازة ميت لا نعرفه ولا يعرفنا، بل أقلعنا عن الذهاب إلى ملعب “ دار الدخان” البعيد عنا، واكتفينا بإجراء مقابلات عادية في حينا مع شباب حي “ الديوان” الذين لم تكن لتستهويهم هذه اللعبة، بقدر ما كان يهمهم عرقلة وإسقاط أحدنا لتتعالى ضحكات من قدموا لتشجيعهم.
لم يتمكن أحدهم قط من تسجيل أي هدف على حارسنا العملاق” السماتي” ذاك الشاب الوسيم الذي كان ينط كالقط، على الإسفلت لالتقاط الكرة مهما صغر حجمها أو كانت قوة قذفها، وكل يوم كان يهدي الطوار قطعة من جلده، بالدم بالروح كان ينقذ شباكا لم يكن لها وجود ، ننهي المقابلة وكأنها معركة: منا من جرح ومنا من عطب ومن النوافذ ما كسر زجاجها، ليعلن جارنا “العرايشي” انتهاء المقابلة على صفير الكرة وهي تمزق بسكينه اللعين، بعد أن ملحنا بالغبار صحن زيتونه المعروض في مقدمة دكانه.
كان حسن ممولنا الرسمي بالكرات يدعو دائما على “العرايشي” وهو يمسك بين يديه بقايا كرته، فنتحلق حوله نقدم له العزاء ونذكر محاسن الفقيدة.
سرا هاجر بقال الحي “ العريشي” الدنيا إلى دار البقاء، تاركا وصيته الأخيرة لجاره الأستاذ ( أن لا كرة بعده في الحي).
ـ عندي لكم خبر سار.
قالها “السماتي” جاريا نحونا، كما لو أنه سيخبرنا بظهور كرة سحرية لا تمزق، صعد على عتبة دكان “ باالعرايشي” (الذي ظل مقفلا إلى أجل غير مسمى) مقلدا طارق بن زياد:
ـ أيها الأصدقاء، مقهى ” الهيبي” مفتوح أمامكم، وليس لكم والله إلا أن تروا كيف أصبح حالها.
انطلقنا نحو المقهى ككلاب الصيد بعد أن شممنا رائحة الصدق في كلامه، لا ندري إن كنا قد أسقطنا أحدا في الطريق. ولجنا المقهى دفعة واحدة وانبهرنا بهذا التحول الكبير:
لم يعد للحصير مكان بالمقهى بعد أن صفت موائد وكراسي على غرار الملاهي، واستبدل لون جدرانه الشاحب، بلون خدود صبية خجلانة، في السقف نشرت شباك صيد علقت بها أسماك من علب السجائر وصناديق فارغة لأعواد الكبريت وبعض الأسطوانات التي لم تعد شوكة “ المانيطوفون” قادرة على الدوران حول محيطها.
خلعت المقهى ثوب الأصالة فاستقر حصيرها في ركن المهملات، وعوضت قنينات المشروبات كؤوس الشاي، التي طالما وقع داخلها نحل جاء يرتشف حلاوة السكر فسقط سهوا أو بفعل دخان الحشيش الذي كان يعبق المكان ويحجب الرؤية، حتى “ الهيبي” غير مظهره: ارتدى “ قندورة” (لباس فضفاض) حمراء انتعل بلغة صفراء فاقعة اللون، وضع حول رقبته مسبحة بحبات كبيرة وحلق شعره كليا وعفا عن اللحية والشارب، فأصبح يثير استغراب وسخرية الناس كلما مر من شوارع المدينة فيرد عليهم مشيرا إلى رأسه الأصلع:
ـ إنها هنا، فكيف ستراها؟!
ذات مرة اقترح علينا قناصنا الماهر مصطفى صيد طيور صفصاف “الوادي الجديد” ليلا، تبعناه وعلى كتفه بندقية وبجيبه حبات من الرصاص صغيرة الحجم قضت مضجع طيور لم تعرف ما الذي ابتلاها تلك الليلة الظلماء، “أهولاكو” أتاها غازيا؟! أم “هيتلر” جاء يبيد جنسها السامي؟!
عشرات عصافير تساقطت من الأشجار كحبات الزيتون أمام هذا القناص الغادر، الذي كان يضع فوهة البندقية على صدر طائر يحلم بحقول الغد وبأناشيد الصباح، وقبل أن يطلق عليه الرصاص يصيح به:
ـ انهض واقرأ وصيتك الأخيرة.
أحكام إعدام نفذت في حقها لتكون وجبة إفطارنا في اليوم الأول من رمضان، حينذاك تطوع “ السماتي” لإعداد وجبة إفطار لذيذة بعد أن أقنع الجميع بإلمامه بـعلم الطبخ (الكاسطرونومي) الذي يجهله كبار الطباخين ولا يوجد حتى في كتب الطبخ الشهيرة.
اليوم الأول من رمضان جاء مشمرا على حرارته، نافخا أوداجه بحرارة شرقية لاغربية، بخرت جل المياه الموجودة في أجسادنا.
وفي المغرب لم يستطع مؤذن مسجد “للا العالية” الصعود إلى الصومعة، واكتفى بالوقوف على بوابة المسجد وتلاوة الآذان لم نميز حينها إن كان يشهد للصلاة أم للقاء ربه.
جاءنا “السماتي” حاملا طنجرته، لينقد أرواحا كانت على مشارف الحلوق، يتمختر في مشيته ويضرب كل يد تمتد لرفع غطائها.
ـ دقوا الطبول وزغردوا، هيئوا المجلس وأحضروا الخبز و المشروبات.
تدلت ألسننا وسال لعابنا وهو يرفع الغطاء ويصب الطيور في الصحن الكبير. لم نقل باسم الله ونحن نتناول أول لقمة بل قلنا أعوذ بالله وأخرجنا ما أدخلناه من علقم في أفواهنا، فصاح هتلر الطيور(مصطفى):
ـ بالله عليك، ماذا فعلت بطيوري؟!
فعدد له “السماتي” المراحل التي اتبعها في الطبخ: بدء بنتف ريشها، مرورا بنزع أرجلها، وصولا إلى قطع رؤوسها ورميها في الطنجرة. لينقلب مصطفى على ظهره ضاحكا:
ـ إنه لم ينزع أحشاءها!
حتى الكلب “دانييل” الذي أهداه أحد السياح لـ“الهبي” لم يجرؤ على الاقتراب منها،وضل ينظر إلى “ السماتي”في استغراب، توجهنا بسرعة نحو منازلنا لشرب الماء وتجرع الحساء الذين عجزا بدورهما عن إزالة المرارة التي ظلت عالقة في ألسننا و ذهننا لأيام وأيام.
من هذه الشقراء؟ التي اقتحمت علينا خلوتنا بالمقهى ترتدي ملابس شبيهة بالتي يرتديها “ الهيبي” وكأنها جاءت تعانق مذهبه الذي انتشر في أوربا، سألتنا بفرنسية سلسلة:
ـ أين هو “حميدو”، صاحب المقهى؟
جاءنا صوتها كصوت مغنية شهيرة، فرددنا وراءها بصوت “كورالي” نشاز:
ـ إنه في المرحاض.
جلست والخوف بعينيها تتأمل فناجين عيوننا الجاحظة والمملوءة برغبات “ هيروتيكية”، مقعدها الخشبي أثار غيرتنا كلنا، فتمنينا لو كنا بدله نستقبل هذا الجسد البض، الذي تفوح منه رائحة بلاد العجائب.
خرج “حميدو” من المرحاض بعد أن كتب على أرضيته ما لا يرغب أحد في قراءته، أسرعت الفرنسية وارتمت في أحضانه وقبلته قبلة طويلة، لسخرية القدر كنا أول من رآها وكان أول وآخر من قبلها.
ـ أقدم لكم صديقتي “جوليان” عرفتها في مدينة “أصيلا”.
وأشار نحو رأسه الحليق( كعادته):
ـ إنها هنا، فكيف ستراها؟!
ثم قهقه ضاحكا لأنه يعرف صدمتنا و اكتواءنا بهذه الجمرة المتقدة التي جعلتنا نتصبب عرقا ثم أشعل سيجارة محشوة بالحشيش ومدها لـ “جوليان” التي لم تتردد في أخذ نفس عميق، ونفت دخان رسم لنا أجساد فتيات عاريات عبثا تسابقنا لعناقها في خيالنا.
مكثت معه الفرنسية فأغرمت به حتى أنها باتت تساعده كنادلة. تعانقه وهما يغادران المقهى بعد إقفاله ولم يكن “ حميدو” صخرة فقد أحبها على طريقته، تزوجا وذهبا لقضاء شهر العسل في “ زاهجوكة” القرية الواقعة على مشارف سد “ وادي المخازن” المتاخم لمدينة “القصر الكبير”.
رجال الدرك كانوا أول من زاروه في الكوخ الذي سكنه مع هذه السائحة الشقراء فقال له أحدهم:
ـ لما جئت بهذه السائحة للسكن في هذه القرية، ما هذه الفوضى؟
أجابه احميدو بأدب سيما وأن السؤال كان يخفي بين ثناياه اعتقالا لا يرى إلا بمجهر المخابرات :
ـ إنها زوجتي، جئنا للسكن في هذه القرية الجميلة.
ـ لماذا تركتما المنازل و الفنادق الفخمة ، وجئتما إلى هنا؟
فرد عليه “الهبي”:
ـ إنها هنا، فكيف ستراها؟!
لم تكن هذه الإجابة لتثير فضول رجال الدرك الذين هددوه بما لا يحمد عقباه وطلبوا منه المغادرة حجبا لغسيلنا الوسخ عن أنظار هذه الفرنسية التي قد تكون سببا في ضرب السياحة التي ليست بحاجة للتنكيل بها أكثر.
ـ أنا مواطن صالح ولا داعي لإزعاجي في شهرنا العسلي(مشيرا بأصبعه نحو زوجته،التي كانت تعانق امرأة جبلية).
تجمهر السكان، واستغربوا من درك ترك المجرمين وجاء ليقلق راحة ضيفين عزيزين، أدخلا البسمة على قلوبهم.
ذات مرة قمنا بزيارته مشيا على الأقدام، فوجدناه يزرع فولا ونعناعا أمام مدخل كوخه الصغير، فاستقبلنا كعادته مرددا لازمته:
ـ إنها هنا، فكيف ستراها؟!
سألناه عن الحال والأحوال وعن “جوليان” فأخبرنا بأنها ذهبت لإحضار الماء من البئر الوحيد في القرية وقبل أن تصل أنبأنا بقدومها، لأنه أهدها سلفا خلخالا يرن، تأقلمت هذه الفرنسية مع أجواء البادية حتى اسودت بشرتها واخشوشنت أناملها وأصبحت تتقن اللهجة الجبلية.
حسدا أو انتقاما منع “حميدو” من جواز السفر، فأخبرنا بأن “ جوليان” تريد أن تقدمه لعائلتها فقلت له:
ـ الأمر بسيط، عامل الإقليم سيزور المدينة وستحصل على جواز سفرك بسهولة.
فأجابني:
ـ كيف ذلك؟! ما دخل العامل بمشكلتي؟!
ففاجأته قائلا:
ـ إنها هنا، فكيف ستراها؟!
انفجرت ضاحكا، وأخبرته بأن العامل هو المسؤول الأول عن الجوازات، وأني وصديقاي “ هياطة” و” المتوكي” نتزعم إضرابا للطلبة وغدا سيحضر العامل لمفاوضتنا لاستيعاب الموقف وإنهاء الإضرابات المتكررة، وما عليه سوى إحضار زوجته أمام بوابة البلدية لتحدثه في هذا الشأن، ولاشك أنها ستنجح في إقناعه عندما ستحدثه بفرنسيتها السلسة و عينيها الزرقاء تين.
ـ عفوا سيدي، ألن تسمحوا لزوجي بالتعرف على عائلتي بفرنسا؟
كيف لا ينفذ العامل طلب هذه الفرنسية الجميلة، وقد نفد للتو طلبات تلاميذ صغار (قضوا مضجعه وأزعجوه كثيرا).
ـ زراني في مكتبي بمدينة “تطوان” وسيحصل زوجك على جواز سفره.
تلك كانت آخر مرة نرى فيها “ حميدو ” الذي سافر رفقة زوجته واستقر بفرنسا.
أما نحن فعدنا من جديد لعتبة العمارة بعيون فاغرة وأياد على الخدود، نمارس رتابتنا، بعد أن أقفل المقهى نهائيا.



عبد الواحد الزفري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...