ما زلنا نحس حنينا إلى الأدب، ولو أقصتنا ظروف الحياة عن بيئاته ومجامعه، ويهفو بألبابنا شوق ملح إلى كتبه ورسائله برغم الفارق الظاهر، والحجاب الذي تكاد تسدله شواغل الحياة في الزراعة والمال والاقتصاد. فنتلمس في أجوائنا جهد الطاقة نسيمه المنعش، وهو للروح حاجة كحاجة الزرع للماء.
والأدب في عرفي روح كل كيان، ولا ينقبض بفضله عن أي عمل أو مهنة، وإنما يتلون ويختلف باختلاف الأعمال والبيئات. وهو عنوان الحياة والذوق - فلا يعرض نفسه إلا لراغب الاجتلاء. وعندي انه شيء من التفهم، وحسن النظر يجده المرء ماثلا. ويجد غذاءه دافقا بغير من.
وها هي ذي رحمه الله تقرب البعيد، وتعوض من طرف ما يخال ضنا من طرف آخر. فتبسط لنا يده جل شأنه - فيما تبسط - من صحيفة الحقل قصائد عامرة الأبيات، شجية النغمات. وفي أمثال أخواتنا الفلاحين وإشاراتهم واستعاراتهم قطع من المنثور المليء بالمعاني الدقيقة القيمة، ولكن بالأسلوب الذي يتفق والنشأة، ويتسق مع البيئة.
رافقت مرة أحد مفتشي الجمعية الزراعية متعهدا حقلا للقطن من الزراعة الخاصة، سائرين خلف ناظر الزراعة، نطوف باحثين كل منا بقدر علمه، وعنينا جميعا بالتحقق من خلو الحقل من الآفات. ثم من النبات الغريب، وتدرجنا إلى حالة الزرع ودرجة العناية به. ثم إلى البذرة وانتقائها، والناظر في كل ذلك فخور بنتائج اشرافه، ينتظر الحكم في ثقة وثبات.
ظننا حين هنأناه بحسن عمله، أننا فرغنا وليس لنا إلا أن نعود أدراجنا!! وإذا بالناظر يغير السير، ويتجه إلى أقصى الجهة الشرقية في خطوات متئدة، وفي معان من التوسل للاقتداء به. ثم نظر نظرة هادئة إلى أسفل، أعقبها بإحدى أبعد مدى إلى الغرب، وقال يخاطب المفتش: (أرجو أن تنظر لترى النبات في خطوط لا تشكو عوجا؟ ثم انظر في أي ناحية، إلا تجد النبات في مستوى وأحد في الارتفاع؟
أليس هذا الحقل قصيدة إذن؟ أليست خطوط القطن مفصولا بينها (بالمساقي) المقاطعة لها - أبياتاً من الشعر من صدر وعجز؟ ثم أليس في نغمة الناظر على سذاجتها شاعرية؟
أي والله! ولقد روحت عني هذه الملاحظة كثيرا من العناء، وسرى في جسمي ما يسري عندما اخرج من عملي مكدود الذهن، كليل الخاطر، فاقرأ قصيدة للمتنبي أو مقطوعة لشوقي بك رحمهما الله!
على أني بين مشاغل المادة من مرور وفحص وإرشاد، وبين متعة الأدب الذي خبرت فذكرت، لم أزل بين القطن، ولم اعد الحقل وفيه ريان، وذكرت قول شوقي بك في (باريس):
إن كنتِ للشهوات رياً فالعلى ... شهواتهن مُروَيات فيك
ولطالما عز القطن وعز معه زارعوه، فلم تكن تسمع بيننا إلا تنويها بذكره، وتدليلا لاسمه، ففاز من أدب الزراعة بأقشب الأثواب، وأجذب الأسماء والاشارات، فدعى (بذي العين البيضاء) وسمى (أبا الذهب).
حتى إذا دهمت الأزمة، وحلت الكارثة، في سنة 1931 بتدهور اسعاره، لم يبخل عليه أدب الزراعة (بذي القلب الأسود) فإذا تساءلت دهشا أو أنكرت عدم الوفاء لمن سبقت على الفلاح نعمه!! قيل لك: أو ليس بذوره سوداء حقا؟ أو ليست تقع من (اللوزة) في الصميم؟.
تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وان ذممت فقل قيء الزنابير
ألم ترى إلى حقل القطن في أواسط شهر أكتوبر، وقد كادت تجف سوقه وقد اشتد سواد لونها، ودنت قطوفها بيضاء تحلى عاطله وتلين من وحشة جفافه. أليست الأولى أشبه بالليل، جاءته الثانية نجوما ذات لألاء تخفف من قساوة ظلمائه، منتشرة بين أعاليه وأسافله وأواسطه هدى للساري.
فإذا حان القطاف، وانتشر في الحقل الصغار يجمعون ثمار عمل طويل الأمد، عوضوا من شدة السوق وآذاها طراوة القطوف لينة طيعة في بياض ناصع خلال سواد قاتم.
يمزج الوصل بالصدود وياما ... أعذب الوصل من خلال الصدود!
فإذا انتهى اليوم وقاربت الشمس المغيب، ففي آخر الحقل (الموازين القسط) منصوبة للعاملين، تحدد نتائج أعمالهم. وتحدد لكل ما يستحق من جزاء، ويؤجر الإنسان بقدر عمله. ولقد يمر الصبي وما جمع بأكثر من يد. فهذا ينظر إلى خلو الطقن من طين الأرض، وذاك يحقق خلوه من الرطوبة (عب الندى)، وآخر ينظر في النظافة عموما، كما يفعل جمهرة الأدباء وصفوة النقاد حين يطالعهم بديوانه شاعر، أو ينشر كتابه ناثر، فكل وذوقه، وكل وما يستسيغ من المعاني، فيرهفون أقلامهم بما يعن لكل منهم، وكل يؤدي أمانته.
بل ان اليوم الواحد في موسم (الجني) ليمثل رواية كاملة للدنيا. فمن جد للسعي، إلى تشعب للعمل، إلى تنافس فيه، إلى اختلاف في النظر والمذاهب، إلى وضع لنظريات الحياة، فينما فريق يجمع بكلتا يديه ما تصلان إليه ايا كان نوعه، إلى فريق ينتقي ويدقق عن يقين بماله ونتائج سعيه، فالأولون يفرحون بالكم، والآخرون يدخرون النوع والدرجة شفيعا إذا نقصت الموازين. في نهاية اليوم ما يشبه تصفية الحياة، والنظر في صحيفتها، فمن مقل مجيد، إلى مكثر مسيء، إلى سابق بالخيرات.
ثم ما هي إلا لحظات حتى لا ترى للازدحام أثراً، وينصرف كل بما افاد، ويتفرق الجمع إلى مختلف الجهات، وتمر أيام قليلة فتجعل من تلك البقاع التي تشبه المناجم الغنية، أحطاباً سمراء مهجورة، ثم تحيلها الأيام هشيما تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرا.
محمد محمود جلال
مجلة الرسالة - العدد 57
بتاريخ: 06 - 08 - 1934
والأدب في عرفي روح كل كيان، ولا ينقبض بفضله عن أي عمل أو مهنة، وإنما يتلون ويختلف باختلاف الأعمال والبيئات. وهو عنوان الحياة والذوق - فلا يعرض نفسه إلا لراغب الاجتلاء. وعندي انه شيء من التفهم، وحسن النظر يجده المرء ماثلا. ويجد غذاءه دافقا بغير من.
وها هي ذي رحمه الله تقرب البعيد، وتعوض من طرف ما يخال ضنا من طرف آخر. فتبسط لنا يده جل شأنه - فيما تبسط - من صحيفة الحقل قصائد عامرة الأبيات، شجية النغمات. وفي أمثال أخواتنا الفلاحين وإشاراتهم واستعاراتهم قطع من المنثور المليء بالمعاني الدقيقة القيمة، ولكن بالأسلوب الذي يتفق والنشأة، ويتسق مع البيئة.
رافقت مرة أحد مفتشي الجمعية الزراعية متعهدا حقلا للقطن من الزراعة الخاصة، سائرين خلف ناظر الزراعة، نطوف باحثين كل منا بقدر علمه، وعنينا جميعا بالتحقق من خلو الحقل من الآفات. ثم من النبات الغريب، وتدرجنا إلى حالة الزرع ودرجة العناية به. ثم إلى البذرة وانتقائها، والناظر في كل ذلك فخور بنتائج اشرافه، ينتظر الحكم في ثقة وثبات.
ظننا حين هنأناه بحسن عمله، أننا فرغنا وليس لنا إلا أن نعود أدراجنا!! وإذا بالناظر يغير السير، ويتجه إلى أقصى الجهة الشرقية في خطوات متئدة، وفي معان من التوسل للاقتداء به. ثم نظر نظرة هادئة إلى أسفل، أعقبها بإحدى أبعد مدى إلى الغرب، وقال يخاطب المفتش: (أرجو أن تنظر لترى النبات في خطوط لا تشكو عوجا؟ ثم انظر في أي ناحية، إلا تجد النبات في مستوى وأحد في الارتفاع؟
أليس هذا الحقل قصيدة إذن؟ أليست خطوط القطن مفصولا بينها (بالمساقي) المقاطعة لها - أبياتاً من الشعر من صدر وعجز؟ ثم أليس في نغمة الناظر على سذاجتها شاعرية؟
أي والله! ولقد روحت عني هذه الملاحظة كثيرا من العناء، وسرى في جسمي ما يسري عندما اخرج من عملي مكدود الذهن، كليل الخاطر، فاقرأ قصيدة للمتنبي أو مقطوعة لشوقي بك رحمهما الله!
على أني بين مشاغل المادة من مرور وفحص وإرشاد، وبين متعة الأدب الذي خبرت فذكرت، لم أزل بين القطن، ولم اعد الحقل وفيه ريان، وذكرت قول شوقي بك في (باريس):
إن كنتِ للشهوات رياً فالعلى ... شهواتهن مُروَيات فيك
ولطالما عز القطن وعز معه زارعوه، فلم تكن تسمع بيننا إلا تنويها بذكره، وتدليلا لاسمه، ففاز من أدب الزراعة بأقشب الأثواب، وأجذب الأسماء والاشارات، فدعى (بذي العين البيضاء) وسمى (أبا الذهب).
حتى إذا دهمت الأزمة، وحلت الكارثة، في سنة 1931 بتدهور اسعاره، لم يبخل عليه أدب الزراعة (بذي القلب الأسود) فإذا تساءلت دهشا أو أنكرت عدم الوفاء لمن سبقت على الفلاح نعمه!! قيل لك: أو ليس بذوره سوداء حقا؟ أو ليست تقع من (اللوزة) في الصميم؟.
تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وان ذممت فقل قيء الزنابير
ألم ترى إلى حقل القطن في أواسط شهر أكتوبر، وقد كادت تجف سوقه وقد اشتد سواد لونها، ودنت قطوفها بيضاء تحلى عاطله وتلين من وحشة جفافه. أليست الأولى أشبه بالليل، جاءته الثانية نجوما ذات لألاء تخفف من قساوة ظلمائه، منتشرة بين أعاليه وأسافله وأواسطه هدى للساري.
فإذا حان القطاف، وانتشر في الحقل الصغار يجمعون ثمار عمل طويل الأمد، عوضوا من شدة السوق وآذاها طراوة القطوف لينة طيعة في بياض ناصع خلال سواد قاتم.
يمزج الوصل بالصدود وياما ... أعذب الوصل من خلال الصدود!
فإذا انتهى اليوم وقاربت الشمس المغيب، ففي آخر الحقل (الموازين القسط) منصوبة للعاملين، تحدد نتائج أعمالهم. وتحدد لكل ما يستحق من جزاء، ويؤجر الإنسان بقدر عمله. ولقد يمر الصبي وما جمع بأكثر من يد. فهذا ينظر إلى خلو الطقن من طين الأرض، وذاك يحقق خلوه من الرطوبة (عب الندى)، وآخر ينظر في النظافة عموما، كما يفعل جمهرة الأدباء وصفوة النقاد حين يطالعهم بديوانه شاعر، أو ينشر كتابه ناثر، فكل وذوقه، وكل وما يستسيغ من المعاني، فيرهفون أقلامهم بما يعن لكل منهم، وكل يؤدي أمانته.
بل ان اليوم الواحد في موسم (الجني) ليمثل رواية كاملة للدنيا. فمن جد للسعي، إلى تشعب للعمل، إلى تنافس فيه، إلى اختلاف في النظر والمذاهب، إلى وضع لنظريات الحياة، فينما فريق يجمع بكلتا يديه ما تصلان إليه ايا كان نوعه، إلى فريق ينتقي ويدقق عن يقين بماله ونتائج سعيه، فالأولون يفرحون بالكم، والآخرون يدخرون النوع والدرجة شفيعا إذا نقصت الموازين. في نهاية اليوم ما يشبه تصفية الحياة، والنظر في صحيفتها، فمن مقل مجيد، إلى مكثر مسيء، إلى سابق بالخيرات.
ثم ما هي إلا لحظات حتى لا ترى للازدحام أثراً، وينصرف كل بما افاد، ويتفرق الجمع إلى مختلف الجهات، وتمر أيام قليلة فتجعل من تلك البقاع التي تشبه المناجم الغنية، أحطاباً سمراء مهجورة، ثم تحيلها الأيام هشيما تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدرا.
محمد محمود جلال
مجلة الرسالة - العدد 57
بتاريخ: 06 - 08 - 1934