" اسمي محمد بوسعيد. منظف أرضيات. لست بولنديا ولكنني مغربي. ويناديني البعض منذ فترة طويلة " موحا". أما البعض الآخر، بعض الماكرين، فيسمونني بوش. يضحكون ولا أعرف السبب. ويطلقون الدعايات حول اسمي. لم أعرف أنه يمكن أن يكون غريبا. فأنا متوسط الطول، أسمر، شديد المرة، لي لحية ذات شعر أجعد وفي أي مكان أذهب إليه أبدو صغيرا. عاديا. فأنا عربي. عربي فقير. ولا أعيش في وطني.
ثم إنني مقولب. فأنا أقولب نفسي تلقائيا عند الدخول والخروج من المترو، فهناك دائما أصبع تشير إلى وسط الجموع، يقال إنهم ينتظرونني حيث أذهب. اعتدت دوما أن أشير إلى نفسي للشرطة كي يفتشوني، كأنني أقول لرجال الشرطة: "هأنذا!". يبتسم البعض، ويشير البعض إشارة بالتجاوز. أصبحت النموذج المثالي لكل أمور التفتيش. المثير للملل أنهم لا يجدون لدي أي اقتراف لذنب وهذا يثير حفيظتهم. فيشعرون بالغضب لأن إحساسا ينتابهم بأنهم يعملون بلا مقابل، وأشعر بالأسف من أجلهم. فأنا لن أحمل أبدا قنبلة ولا مسدسا حتى لا تكون لديهم ذريعة أو يشعروا بالرضاء! يمكنهم أن يقولوا في نهاية اليوم قبل أن يعودوا إلى ديارهم: "أخيرا فريسة طيبة! يا للقذر، سوف يضع قنبلة في الحانوت الكبير. أو يفكر في أن يبيع المخدرات في الطريق لأبنائنا عند خروجهم من المدرسة! " لا. لن ألعب هذه اللعبة. لقد خيبت آمالهم. وهذا الأمر لا يبعث على التسلية.
هذا يعني أنني بريء، ولدي الإحساس بالسكينة، وينتابني الشك أحيانا، أشك في نفسي، وأشك في أسرتي، وأصدقائي، وأوراقي. فقبل أن أخرج من منزلي أقف أمام المرآة وأفتش نفسي. هه! لا أجد شيئا. ليس هناك سوى تذاكر مترو قديمة، ومنديل، وبعض الفكة، وأمرر يدي في شعري المنسال، مثلما يفعلون، فلا أجد مدية ولا تذكرة مخدرات، ومع هذا فأنا قلق. أمشي متحديا نفسي، ثم أشك في نفسي، الكثير من الشرطيين يلاحظون ذلك، فيوقفونني كي يتحققوا من شخصي.
أتصرف حسب الأصول، وأغلف أوراقي بالبلاستيك لأنها قد تتحول إلى أشلاء تحت سطوة تفتيشي بالأيدي. حذار، فلست مريضا. فأنا بكل بساطة مشبوه مثالي، لدي كل شيء ضدي. وفي نهاية يوم عمل أتحول إلى كتلة سوداء، فواجهات المباني الباريسية بالغة القذارة، وأبدو كأنني خارج لتوي من منجم فحم، قميصي قذر، وتبدو ملامحي منهكة والعيون متعبة، أما ذقني التي أطلقتها كسلا منذ سنوات فتجعل مني ما يسمونه "إسلاميا متطرفا" ويطرح علي سؤال دائم: "هل أنت متطرف؟" وكأن هذا عنصرية أو قومية، فأرد عليهم: "هل تعنون أن أكون مسلما؟ نعم، أنا مسلم، ولكنني أحب الشراب من وقت لآخر، كأس نبيذ مع الأصدقاء، لا آكل لحم الخنزير، وقليلا ما أذهب للصلاة في المسجد. وأصوم رمضان، فهذا أمر مقدس. حتى أولادي الذين في سن الصيام يصومونه. إنها فريضة، وهذا ديننا لا يؤذي أحدا، أنا لا أصلي دائما، ولكنني أصوم رمضان، وقبل أن أصل إلى فرنسا لم أكن أعرف كلمة "متطرف"، وأعتقد أنني سمعتها لأول مرة في التليفزيون".
إذن أنا مشبوه لأنني مسلم، أو لأنني لست وسيما؟ يقولون إننا نطلق اللحية لإثارة الخوف في قلوبهم، هل لدي رأس يثير الخوف؟ ربما نعم! الأمر جاد، مما أثار انتباهي أكثر، وزاد من عنايتي بتقديم نفسي، وجذب نحوي ريبة الشرطة. يرددون: "ذلك الرجل ليس مضبوطا"!. ومن يكون الرجل المضبوط؟ هل هو الرجل الأبيض البشرة، والوسيم؟ كيف يكون لون العينين كي يكون المرء مضبوطا؟
منذ أن أسماني زملائي "بوش" والملل يصيبني قال لي شرطي ذات يوم: "ألن تكون جنديا لصدام؟" أخبرته أنه لا يوجد شيء مشترك بيني وبين صدام سوى الشارب، ضحك ثم أعاد التفكير في الأمر. بعد ذلك اندلعت الحرب. وهنا أصبحت على حق في أن أخاف، دخلت الحرب وكأنني أدخل مقهى، وجدت نفسي داخلها دون أن أبتغي. ودون أن أضع ذلك في حسباني، فمثل الكثير من الناس كنت أفكر أن الحرب ستعرض على شاشة التلفاز، ولكنني خدعت، فقد جاءت الحرب إلى أماكن عملنا. كان علي في ذلك اليوم أن أجهز الفريق الذي سينظف برج مونبارناس. إنه أمر متفق عليه منذ أمد طويل. كنا اثنين من المغاربة واثنين أوربيين، برتغاليا وفرنسيا. قال رئيس العمال لزميلي الجزائري ولمن: "لا، ليس هذه المرة. سوف تبقيان في المؤخرة، هناك عمل آخر، دورات المياه مثلا." دهشت. خاصة أن مارتن من النوع اللطيف. لكن نظرته هذا الصباح لم تكن مضبوطة، هناك شيء ما لتبكيتنا، فنحن لم نرتكب شرا في أي مكان. قال زميلي الجزائري لمن: "هأنت ترى أن الحرب بدأت بداية جميلة"!.
قضينا النهار ندور في حلقات مفرغة، مبعدين عن العمل بسبب الحرب، أعتقد أن الحرب تدور في الخليج، ولكن هنا يعتبروننا كجنود صدام والإسلام، ولكن على الحياد، مشبوهين بجريمة لا نعرفها، ربما أننا إرهابيان ولا نعرف. ربما أننا مكلفان بمهمة دون أن نعلم؟
ما حدث في هذه اللحظة من البلبلة والحزن جعلني أفكر في قريتي. رأيتها مشمسة، مزهرة، ومخضرة، في الحقيقة إن قريتي ليست جميلة، إنها مجدبة وصلدة. لذا تركتها. لكن يسعدني أن أتخيلها. فهناك جمال داخلي في كل شيء، حتى الأحجار جميلة، إنها بعيدة تلك القرية، رئيس العمال ينظر إلى التلفاز. لا نرى شيئا، ونسمع صوتا يقول إن حربا طويلة قد اندلعت بين المسيحيين والمسلمين، أعرف أنني في حرب ولكنني لم أعرف ضد من. لحسن الحظ أن هناك تلفازا كي نعلم منه، قيل لي إنها الجهاد وإنه الإسلام سينتصر على الكفرة، ثم علمت أن العرب يحاربون عربا آخرين. إنه لأمر معقد. وكل ما أعرفه أنني يجب أن أنظف برد مونبارناس، وأنني في حالة عطالة ميكانيكية. فكرت في أبنائي. ماذا سأقول لهم هذا المساء؟ هل أحكي لهم أن العرب قد عاشوا عصرا ذهبيا، وأنهم اخترعوا الصفر والجبر، وأنهم أدخلوا الفلسفة الإغريقية والاكتشافات الكبرى في الطب إلى أوربا. لقد عددت لهم آلاف الكلمات الفرنسية ذات الأصل العربي، وأخبرتهم أن الماضي مجيد ثم جاءت النكسة، والنكسات، وحروب الاستقلال ثم التصق بنا التخلف. وأن الحاضر رديء، شديد الرداءة لا يجعلهم يحلمون. أنا واثق أنهم لن يصدقوني، سوف يعتقدون، أنني من أجل تهدئتهم، قد اخترعت للعرب عصرا ذهبيا، وسوف يسخرون مني.
أبنائي كبار. إنهم ثلاثة، بين الخامسة عشرة والعشرين، عندما أحدثهم بالعربية، يردون علي بالفرنسية. ليسوا فخورين بأبيهم، وأنا أفهمهم، لا يقولون شيئا ولكنني أعرف أنه ليس مدعاة للفخر أن يعمل الأب في تنظيف الأرضيات، نتكلم قليلا، في أيام العيد يذهبون مع أصدقائهم، وقليلا ما أراهم، لعلهم أمام التلفاز هذا المساء، لا تواتيني الشجاعة كي أعود. عليهم أن يجدوا مني ما أكونه، وما يكونون. ذات يوم أبلغني رشيد، الأصغر، أن مراقب المدرسة قال له بعد معركة بين التلاميذ العرب: "قريبا، سوف يقرضون!" هل نحن فئران؟ لم أكن أعرف أنهم يسموننا "فئرانا". يقال "فوير" للعرب "وتقريض" للعدوان ضد العرب. ولكن ماذا فعلنا لله ولنبيه كي نستحق هذا؟ لعله مصيرنا. لقد خلقنا للهجرة. ألم يكن نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) أول مهاجر في الإسلام؟ أعرف أنه في عام 622 كان عليه أن يترك مكة كي يأوي إلى المدينة.
الآن. اندلعت الحرب. ماذا سنصبح؟ أعرف أنني سأكون مشبوها أكثر من ذي قبل، وسوف يتم تفيشي مرات عديدة يوميا، وسوف أتحمل دون أن أتصرف، وسأمشي دون أن أرفع رأسي، ودون أن أزعج أحدا، وسأصبح أصغر من العادة دائما صغير إذا أصبحت شيئا مهملا، يكاد أن يرى، يتحطم، ويسكت، ويلتهم الثعابين، ويلم خيبات الأمل الجديدة.
انغمرت في هذه الأفكار اليائسة إلى أن طلب مني مارتن أن أنضم إلى فريق نوتردام، مرة في الشهر، كان على مؤسستنا أن تنظف زجاج كاتدرائية نوتردام. دهشت، اعتقدت أن الحرب انتهت. لم أود أن أتكلم في ذلك. قال لي مارتن وهو يضع يده على كتفي: "أنت شخص طيب، ويمكن أن أثق بك، وأنا أعرفك، فلست متشددا، ولست شريرا"، التهمت كل هذه المجاملات الغامضة والمبهمة ولحقت بالفريق حيث كنت العربي الوحيد به، وفي الطريق تساءلت: "أنا شخص طيب، ما دام رئيس العمال قال ذلك. وماذا لو انتابتني الرغبة أن أكسر كل شيء؟ وإذا لم أسيطر على نفسي ولم أصبح شريرا، من يكون الشخص الطيب؟ هل هو الذي يخفض رأسه ويجعل الأمور تمشي؟
وحسب الراديو - أحمل دائما جهاز راديو صغيرا - فإن الطائرات الأمريكية قد ألقت ثمانية عشر ألف طن من القنابل على العراق، كم يموت تحت وقع ثمانية عشر ألف طن من القنابل؟ لم يقل ذلك في الراديو، في هذا يجب على العالم أن يلتزم الصمت، لست عراقيا، ولكن هذا أثر في.
أحسست بألم وثقل في معدتي، إنهم عرب ومسلمون مثلي تسقط عليهم القنابل، يقال في الراديو والتلفاز إننا متعصبون، إنهم أقوياء هؤلاء الأمريكيون، فمن أعلى طائراتهم يصلحون المتعصبين، ويوجهون لهم التحية مغموسة بالقنابل! هل هذه هي الحضارة؟ يروننا أنهم يعرفون الحرب، ويعرفون القتل.
كان هناك زحام في ذلك اليوم بنوتردام، رجال ونساء في مجموعات صغيرة يصلون، يتجمعون في صمت، وهم يدعون الله الرحمن الرحيم. الأمر مثير. وددت أيضا أن أصلي، ولكن يجب أن أعمل. سمعتهم يتكلمون في الراديو كثيرا عن الصواريخ وإسرائيل.
ومن أعلى مدخنتي، صليت في داخلي، دعوت الله ونبيه محمدا أن يسود السلام على الأرض، وأن يولينا عنايتهم نحن العرب، وأن نكون أقل شبهة، لا نكون محبوبين كثيرا، ولكن على الأقل مدعاة للاحترام.
بعد أيام، أعتقد أنه في اليوم الأول من فبراير، كنت أعمل في واجهة فخمة عندما تسلل إلى أذني عبر الراديو الصغير هذا الخبر: "اتصل الرئيس فرانسوا ميتران في 31 يناير هاتفيا مع أسرة زراعية إسرائيلية من كيبوتز "كفر هناساي"، وتقصى الموقف في البلاد وعبر عن تضامنه مع الشعوب اليهودية التي تعيش لحظات صعبة..." ودون أن أنهي اللمسات الأخيرة نزلت بكل سرعة من المدخنة، وطلبت من زميلي الإذن، وأسرعت إلى المنزل، وجلست في الصالون قريبا من الهاتف أنتظر مكالمة الرئيس.
محمود قاسم
اكتوبر 1991
ثم إنني مقولب. فأنا أقولب نفسي تلقائيا عند الدخول والخروج من المترو، فهناك دائما أصبع تشير إلى وسط الجموع، يقال إنهم ينتظرونني حيث أذهب. اعتدت دوما أن أشير إلى نفسي للشرطة كي يفتشوني، كأنني أقول لرجال الشرطة: "هأنذا!". يبتسم البعض، ويشير البعض إشارة بالتجاوز. أصبحت النموذج المثالي لكل أمور التفتيش. المثير للملل أنهم لا يجدون لدي أي اقتراف لذنب وهذا يثير حفيظتهم. فيشعرون بالغضب لأن إحساسا ينتابهم بأنهم يعملون بلا مقابل، وأشعر بالأسف من أجلهم. فأنا لن أحمل أبدا قنبلة ولا مسدسا حتى لا تكون لديهم ذريعة أو يشعروا بالرضاء! يمكنهم أن يقولوا في نهاية اليوم قبل أن يعودوا إلى ديارهم: "أخيرا فريسة طيبة! يا للقذر، سوف يضع قنبلة في الحانوت الكبير. أو يفكر في أن يبيع المخدرات في الطريق لأبنائنا عند خروجهم من المدرسة! " لا. لن ألعب هذه اللعبة. لقد خيبت آمالهم. وهذا الأمر لا يبعث على التسلية.
هذا يعني أنني بريء، ولدي الإحساس بالسكينة، وينتابني الشك أحيانا، أشك في نفسي، وأشك في أسرتي، وأصدقائي، وأوراقي. فقبل أن أخرج من منزلي أقف أمام المرآة وأفتش نفسي. هه! لا أجد شيئا. ليس هناك سوى تذاكر مترو قديمة، ومنديل، وبعض الفكة، وأمرر يدي في شعري المنسال، مثلما يفعلون، فلا أجد مدية ولا تذكرة مخدرات، ومع هذا فأنا قلق. أمشي متحديا نفسي، ثم أشك في نفسي، الكثير من الشرطيين يلاحظون ذلك، فيوقفونني كي يتحققوا من شخصي.
أتصرف حسب الأصول، وأغلف أوراقي بالبلاستيك لأنها قد تتحول إلى أشلاء تحت سطوة تفتيشي بالأيدي. حذار، فلست مريضا. فأنا بكل بساطة مشبوه مثالي، لدي كل شيء ضدي. وفي نهاية يوم عمل أتحول إلى كتلة سوداء، فواجهات المباني الباريسية بالغة القذارة، وأبدو كأنني خارج لتوي من منجم فحم، قميصي قذر، وتبدو ملامحي منهكة والعيون متعبة، أما ذقني التي أطلقتها كسلا منذ سنوات فتجعل مني ما يسمونه "إسلاميا متطرفا" ويطرح علي سؤال دائم: "هل أنت متطرف؟" وكأن هذا عنصرية أو قومية، فأرد عليهم: "هل تعنون أن أكون مسلما؟ نعم، أنا مسلم، ولكنني أحب الشراب من وقت لآخر، كأس نبيذ مع الأصدقاء، لا آكل لحم الخنزير، وقليلا ما أذهب للصلاة في المسجد. وأصوم رمضان، فهذا أمر مقدس. حتى أولادي الذين في سن الصيام يصومونه. إنها فريضة، وهذا ديننا لا يؤذي أحدا، أنا لا أصلي دائما، ولكنني أصوم رمضان، وقبل أن أصل إلى فرنسا لم أكن أعرف كلمة "متطرف"، وأعتقد أنني سمعتها لأول مرة في التليفزيون".
إذن أنا مشبوه لأنني مسلم، أو لأنني لست وسيما؟ يقولون إننا نطلق اللحية لإثارة الخوف في قلوبهم، هل لدي رأس يثير الخوف؟ ربما نعم! الأمر جاد، مما أثار انتباهي أكثر، وزاد من عنايتي بتقديم نفسي، وجذب نحوي ريبة الشرطة. يرددون: "ذلك الرجل ليس مضبوطا"!. ومن يكون الرجل المضبوط؟ هل هو الرجل الأبيض البشرة، والوسيم؟ كيف يكون لون العينين كي يكون المرء مضبوطا؟
منذ أن أسماني زملائي "بوش" والملل يصيبني قال لي شرطي ذات يوم: "ألن تكون جنديا لصدام؟" أخبرته أنه لا يوجد شيء مشترك بيني وبين صدام سوى الشارب، ضحك ثم أعاد التفكير في الأمر. بعد ذلك اندلعت الحرب. وهنا أصبحت على حق في أن أخاف، دخلت الحرب وكأنني أدخل مقهى، وجدت نفسي داخلها دون أن أبتغي. ودون أن أضع ذلك في حسباني، فمثل الكثير من الناس كنت أفكر أن الحرب ستعرض على شاشة التلفاز، ولكنني خدعت، فقد جاءت الحرب إلى أماكن عملنا. كان علي في ذلك اليوم أن أجهز الفريق الذي سينظف برج مونبارناس. إنه أمر متفق عليه منذ أمد طويل. كنا اثنين من المغاربة واثنين أوربيين، برتغاليا وفرنسيا. قال رئيس العمال لزميلي الجزائري ولمن: "لا، ليس هذه المرة. سوف تبقيان في المؤخرة، هناك عمل آخر، دورات المياه مثلا." دهشت. خاصة أن مارتن من النوع اللطيف. لكن نظرته هذا الصباح لم تكن مضبوطة، هناك شيء ما لتبكيتنا، فنحن لم نرتكب شرا في أي مكان. قال زميلي الجزائري لمن: "هأنت ترى أن الحرب بدأت بداية جميلة"!.
قضينا النهار ندور في حلقات مفرغة، مبعدين عن العمل بسبب الحرب، أعتقد أن الحرب تدور في الخليج، ولكن هنا يعتبروننا كجنود صدام والإسلام، ولكن على الحياد، مشبوهين بجريمة لا نعرفها، ربما أننا إرهابيان ولا نعرف. ربما أننا مكلفان بمهمة دون أن نعلم؟
ما حدث في هذه اللحظة من البلبلة والحزن جعلني أفكر في قريتي. رأيتها مشمسة، مزهرة، ومخضرة، في الحقيقة إن قريتي ليست جميلة، إنها مجدبة وصلدة. لذا تركتها. لكن يسعدني أن أتخيلها. فهناك جمال داخلي في كل شيء، حتى الأحجار جميلة، إنها بعيدة تلك القرية، رئيس العمال ينظر إلى التلفاز. لا نرى شيئا، ونسمع صوتا يقول إن حربا طويلة قد اندلعت بين المسيحيين والمسلمين، أعرف أنني في حرب ولكنني لم أعرف ضد من. لحسن الحظ أن هناك تلفازا كي نعلم منه، قيل لي إنها الجهاد وإنه الإسلام سينتصر على الكفرة، ثم علمت أن العرب يحاربون عربا آخرين. إنه لأمر معقد. وكل ما أعرفه أنني يجب أن أنظف برد مونبارناس، وأنني في حالة عطالة ميكانيكية. فكرت في أبنائي. ماذا سأقول لهم هذا المساء؟ هل أحكي لهم أن العرب قد عاشوا عصرا ذهبيا، وأنهم اخترعوا الصفر والجبر، وأنهم أدخلوا الفلسفة الإغريقية والاكتشافات الكبرى في الطب إلى أوربا. لقد عددت لهم آلاف الكلمات الفرنسية ذات الأصل العربي، وأخبرتهم أن الماضي مجيد ثم جاءت النكسة، والنكسات، وحروب الاستقلال ثم التصق بنا التخلف. وأن الحاضر رديء، شديد الرداءة لا يجعلهم يحلمون. أنا واثق أنهم لن يصدقوني، سوف يعتقدون، أنني من أجل تهدئتهم، قد اخترعت للعرب عصرا ذهبيا، وسوف يسخرون مني.
أبنائي كبار. إنهم ثلاثة، بين الخامسة عشرة والعشرين، عندما أحدثهم بالعربية، يردون علي بالفرنسية. ليسوا فخورين بأبيهم، وأنا أفهمهم، لا يقولون شيئا ولكنني أعرف أنه ليس مدعاة للفخر أن يعمل الأب في تنظيف الأرضيات، نتكلم قليلا، في أيام العيد يذهبون مع أصدقائهم، وقليلا ما أراهم، لعلهم أمام التلفاز هذا المساء، لا تواتيني الشجاعة كي أعود. عليهم أن يجدوا مني ما أكونه، وما يكونون. ذات يوم أبلغني رشيد، الأصغر، أن مراقب المدرسة قال له بعد معركة بين التلاميذ العرب: "قريبا، سوف يقرضون!" هل نحن فئران؟ لم أكن أعرف أنهم يسموننا "فئرانا". يقال "فوير" للعرب "وتقريض" للعدوان ضد العرب. ولكن ماذا فعلنا لله ولنبيه كي نستحق هذا؟ لعله مصيرنا. لقد خلقنا للهجرة. ألم يكن نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) أول مهاجر في الإسلام؟ أعرف أنه في عام 622 كان عليه أن يترك مكة كي يأوي إلى المدينة.
الآن. اندلعت الحرب. ماذا سنصبح؟ أعرف أنني سأكون مشبوها أكثر من ذي قبل، وسوف يتم تفيشي مرات عديدة يوميا، وسوف أتحمل دون أن أتصرف، وسأمشي دون أن أرفع رأسي، ودون أن أزعج أحدا، وسأصبح أصغر من العادة دائما صغير إذا أصبحت شيئا مهملا، يكاد أن يرى، يتحطم، ويسكت، ويلتهم الثعابين، ويلم خيبات الأمل الجديدة.
انغمرت في هذه الأفكار اليائسة إلى أن طلب مني مارتن أن أنضم إلى فريق نوتردام، مرة في الشهر، كان على مؤسستنا أن تنظف زجاج كاتدرائية نوتردام. دهشت، اعتقدت أن الحرب انتهت. لم أود أن أتكلم في ذلك. قال لي مارتن وهو يضع يده على كتفي: "أنت شخص طيب، ويمكن أن أثق بك، وأنا أعرفك، فلست متشددا، ولست شريرا"، التهمت كل هذه المجاملات الغامضة والمبهمة ولحقت بالفريق حيث كنت العربي الوحيد به، وفي الطريق تساءلت: "أنا شخص طيب، ما دام رئيس العمال قال ذلك. وماذا لو انتابتني الرغبة أن أكسر كل شيء؟ وإذا لم أسيطر على نفسي ولم أصبح شريرا، من يكون الشخص الطيب؟ هل هو الذي يخفض رأسه ويجعل الأمور تمشي؟
وحسب الراديو - أحمل دائما جهاز راديو صغيرا - فإن الطائرات الأمريكية قد ألقت ثمانية عشر ألف طن من القنابل على العراق، كم يموت تحت وقع ثمانية عشر ألف طن من القنابل؟ لم يقل ذلك في الراديو، في هذا يجب على العالم أن يلتزم الصمت، لست عراقيا، ولكن هذا أثر في.
أحسست بألم وثقل في معدتي، إنهم عرب ومسلمون مثلي تسقط عليهم القنابل، يقال في الراديو والتلفاز إننا متعصبون، إنهم أقوياء هؤلاء الأمريكيون، فمن أعلى طائراتهم يصلحون المتعصبين، ويوجهون لهم التحية مغموسة بالقنابل! هل هذه هي الحضارة؟ يروننا أنهم يعرفون الحرب، ويعرفون القتل.
كان هناك زحام في ذلك اليوم بنوتردام، رجال ونساء في مجموعات صغيرة يصلون، يتجمعون في صمت، وهم يدعون الله الرحمن الرحيم. الأمر مثير. وددت أيضا أن أصلي، ولكن يجب أن أعمل. سمعتهم يتكلمون في الراديو كثيرا عن الصواريخ وإسرائيل.
ومن أعلى مدخنتي، صليت في داخلي، دعوت الله ونبيه محمدا أن يسود السلام على الأرض، وأن يولينا عنايتهم نحن العرب، وأن نكون أقل شبهة، لا نكون محبوبين كثيرا، ولكن على الأقل مدعاة للاحترام.
بعد أيام، أعتقد أنه في اليوم الأول من فبراير، كنت أعمل في واجهة فخمة عندما تسلل إلى أذني عبر الراديو الصغير هذا الخبر: "اتصل الرئيس فرانسوا ميتران في 31 يناير هاتفيا مع أسرة زراعية إسرائيلية من كيبوتز "كفر هناساي"، وتقصى الموقف في البلاد وعبر عن تضامنه مع الشعوب اليهودية التي تعيش لحظات صعبة..." ودون أن أنهي اللمسات الأخيرة نزلت بكل سرعة من المدخنة، وطلبت من زميلي الإذن، وأسرعت إلى المنزل، وجلست في الصالون قريبا من الهاتف أنتظر مكالمة الرئيس.
محمود قاسم
اكتوبر 1991