يوسف الشاروني - سرقة أبلة بهيّة.. قصة قصيرة

كيف دخل، كيف خرج، هل هي حبيبتها زينات أم شغالتها الوفية أم رضا؟ يا رسول الله اكشف غمتي، وارفع بلوتي. تقترب من السبعين، تعيش وحدها في إحدى شقق مبنى تقادم عمره- مثلها - وتقادم طرازه. أحيلت إلى المعاش عندما بلغت الستين حاملة معها لقب أبلة منذ تدرجت في وظائف التدريس حتى وصلت إلى ناظرة إحدى المدارس الثانوية للبنات. توفي زوجها في حادث منذ بضع سنوات، كان عزاء السيدات لها: أولادك تخرجوا من الجامعة، البركة فيهم. لها ابنة متزوجة عندها منها حفيدتان شديدة التعلق بهما، وابن تزوج حديثا واستقل بشقة في إحدى ضواحى المدينة.

- هل تتهمين أحدا يا سيدتي؟

- لا، يا سيادة المحقق.يوسف الشاروني

- هل سبق أن أعطيت مفتاح الشقة لشخص من أقربائك أو أصدقائك.

- ابني عنده نسخة وابنتي نسخة أخرى.

كانت على موعد مع الحج بعد أسابيع. استكملت أوراق سفرها، حصلت على موافقة الجهات الرسمية، ذهبت إلى البنك، سحبت ثلاثة آلاف جنية نفقات رحلة الحج. عادت إلى بيتها، ألقتها في اطمئنان فوق أحد رفوف دولاب ملابسها، ثلاث رزم كل منها ألف، الدار أمان.

في اليوم التالي أحست أنها ليست على ما يرام، أشبه بحمى تجتاح جسدها مع قشعريرة من حين لآخر، ثمة آلام في كل مفاصلها. حاولت أن تنهض، أن تذهب لطبيبها، لا تكاد تقوى على الحركة. شعرت بوحدتها، تذكرت أعزاءها الراحلين، ابنها وابنتها قريبان بعيدان، كل منهما مشغول بعمله وأسرته. رن جرس الهاتف:

- صباح الخير يا أبلة بهية.

- أهلا زينات.

زينات إحدى تلميذاتها السابقات، أنهت دراستها، تزوجت، أصبحت ربة بيت، عندها طفلان، لاتزال تحتفظ بولائها لمدرستها السابقة، مثلها الأعلى، تعاملها كأم. حضورها في حياة أبلة بهية الآن يذكر الناظرة العجوز بأيام التدريس الممتعة. لا عجب أن تبادلت المودة واستمرت العلاقات مع كثيرات من تلميذات الأمس وسيدات اليوم.

- كيف الأحفاد والصحة و...

- والله خطرت على بالي الآن...

- خير إن شاء الله.

زينات تسكن غير بعيد عن أبلة بهية، تمتلك سيارة مرسيدس، كانت عندها بعد ربع ساعة.

- تركت عبلة وهشام من أجلي؟

- معهما الدادة.

أبلة بهية شوهدت في حجابها- وقد أفلتت من تحته بضع شعيرات بيضاء- وهي تتوكأ على كتف زينات وتدلف إلى سيارتها.

عند عودتهما من عيادة الطبيب أصرت زينات على الدخول معها. أبلة بهية قالت في شبه استنكار:

- وعبلة وهشام؟ يجب يا حبيبتي أن تذهبي لبيتك وتطمئني عليهما، وكتر ألف خيرك إلى هنا.

- التليفون موجود.

أبلة بهية في حاجة هذا اليوم إلى من يقف بجوارها في وعكتها. ليس عندها مثل زينات تخدمها بمحبة وسعادة كما تخدم والدتها وربما أفضل. تماضر ابنة أبلة بهية كثيرا ما تتبرم بخدمة أمها في الساعات القليلة التي تزورها فيها بحجة مسئولياتها مع زوجها ومشغوليتها بأطفالها. من الطبيعي أن تفضي أبلة بهية لزينات بها يشغلها: الغالي طلبه غالي، رجاؤه أمر، سأحقق له أمنيته وأمنيتي أنا أيضا وأحج هذا العام نيابة عنه، أحضرت من البنك ثمن تذكرة السفر، لولا مرضي لذهبت اليوم إلى مكتب شركة الطيران وحجزت. كله بأمر الله. فرت دمعتان من عينيها.

في اليوم التالي تحسنت صحة أبلة بهية. جاءتها شغالتها أم رضا. سيدة متينة البنيان في منتصف العمر، ذات قامة مشدودة، عليها أمارات عز آفل. مات زوجها الموظف مبكراً فترك لها معاشا ضئيلا وخلفة كثيرة. مؤهلاتها التعليمية معرفة القراءة ومبادئ الكتابة. أرغمت أن تكافح من أجل أطفالها الستة، تمر على أبلة بهية يوما في الأسبوع منذ أكثر من عشر سنوات بلا انقطاع إلا لظروف طارئة. تحرص أن تعود إلى حارتها مبكراً قبل أن يعود الطلبة من مدارسهم والموظفون من أعمالهم حتى لا يكتشفوا سرّها، رغم أنهم يعرفون، لكنهم يحترمون رغبتها ولا يثرثرون.

في ذلك اليوم وصلت أم رضا في موعدها المبكر كعادتها نزعت ملابسها المحتشمة (فليس في الشقة ذكور) وارتدت ثوبا قديما قصير الأكمام والذيل تهيؤا لتنظيف البيت. دعتها أبلة بهية للإفطار معها قبل بدء العمل كما تدعوها كل مرة، اعتذرت كما تعتذر كل مرة. كانت أبلة بهية تعاونها عادة عندما تنقل كنبة الصالون الثقيلة أو مراتب السرير لتنظف ما تحته، اليوم كانت أضعف من أن تمد يد المساعدة، قامت أم رضا بواجبها- كما تقوم به في كل مرة- بأمانة وإخلاص وسرعة. نظفت الشرفتين والصالون والصالة وغرف النوم الثلاث بما فيها غرفة أبلة بهية، الغرفتان الأخريان لم تعودا تستعملان إلا عند الزيارات العارضة. الجميع غائبون على مسافات متباينة: بعضهم يزورها مرات في الأسبوع وقلما يبيتون، وآخرون لا يزورونها إلا في الهواجس والأحلام. عند انتصاف اليوم ذهبت أبلة بهية إلى دولاب ملابسها، مدت يدها، سحبت كيس نقودها، سلمت أم رضا أجرها، وسلمي على الأولاد ولا تنسي موعد الأسبوع القادم... لا... السفر إلى الحج لايزال إمامة ثلاثة أسابيع، سأسافر بالطائرة وليس على جمل يا أم رضا.

في الصباح ارتدت أبلة بهية ملابسها، تهيأت للخروج للذهاب إلى شركة الطيران وحجز تذكرتها. خطت نحو دولاب ملابسها لتأخذ المبلغ من حيث وضعته منذ ثلاثة أيام. لم تجده في مكانه، ربما تدحرج هنا أو هناك، ليس جنيها ولا خمسة ولا حتى عشرة، مبلغ ضخم يصعب أن يغوص بين هذه العلب وزجاجات العطر وقطع القماش، يتندر عليها أبناؤها لاحتفاظها بكل هذا الخليط في مثل هذا المكان. تسارعت حركة يديها، ازدادت عيناها تركيزاً وربما اتساعاً، عقلها يطوف الزمان والمكان، يتسارع الطواف، تتسارع دقات القلب. آه.. لا بد أنني نسيت أين وضعته، أضع ما أحرص عليه في مكان أمين بحيث يخفى حتى عليّ أنا، أنسى كثيرا هذه الأيام، الأولاد يتهمونني بذلك، أنا أنكر، هم على حق.

- هل فقد ابنك أو ابنتك نسخته من مفتاح شقتك؟ - كل منهما حتى أمس كانت معه نسخته.

- ربما سرقه شخص من أحدهما ثم أرجعه بعد أن صنع نسخة مقلدة.

- المفتاح في سلسلتي مفاتيحهما، ولم يذكر أحدهما فقدان سلسلته.

بعد أن كانت تبحث بشيء من الهدوء وتعيد ما أخرجته إلى مكانه ووجدت نفسها تلقي على السرير بكل ما في هذا الرف، فالرف الأسفل، فالذي يليه، حتى أصبحت هناك كومة... فوضى... هل معقول؟ لا يمكن... علي أن أتذكر جيداً، حدث هذا معي عدة مرات، لم أكتشف ما أخفيته إلا بعد عدة شهور... بعد أن كنت قد يئست تماما بل ونسيت تماما. أريد المبلغ الآن... الآن.

ابنتها وعدتها أن تزورها الليلة، لم تصبر، أمسكت سماعة الهاتف، ستسخر من قلقها، اتصلت بها في مكتبها بالعمل، جاءها صوت ابنتها يقول:

- ربما سرق المبلغ يا أمي.

- لا يمكن، ليس هناك ما يدل على دخول الشقة عنوة. كل شيء سليم.

- إذن سنفتش الليلة معا عندما أزورك.

- لا تتأخري كثيرا، أريد أن أعثر على المبلغ الليلة لأذهب غدا إلى مكتب شركة الطيران.

فتشت تماضر كل مكان، في زهريات الورد غير المستعملة، وراء الكتب القليلة الموضوعة على الرفوف من أيام الدراسة، بين مراتب السرير، ليس هناك أثر للمبلغ.

- من زارك في الأيام الأخيرة؟

- شخصان.

- من هما؟

- أعلن تنازلي عن شكواي إن كان أحدهما موضع شك.

- ساعدينا نساعدك.

- المبلغ لا يساوي فقدي علاقتي بهما.

تسلل إلى قلبها هاجس أرعبها، هل يمكن أن يكون السارق ممن دخلوا الشقة أمس أو أول أمس؟ وبالتحديد هل... هل هي زينات أمْ أمّ رضا؟ استبعدت زينات، أخلاقها التي تعرفها منذ كانت طالبة شابة، أسرتها وما تتمتع به من ثراء، يستبعد ذلك تماما، لكي تنقذ زينات لم يكن أمامها إلا أم رضا. تاريخ أم رضا معها منذ عشر سنوات لا يمكن أن ينتهي هذه النهاية السوداء تديّنها، إخلاصها... ربما كانت في أزمة فأغواها الشيطان أن تمتد يدها وتقترض المبلغ، ستردّه حين تأتي الأسبوع القادم أو حين تفك أزمتها. عرضت هواجسها- وهي خجلى- على تماضر ابنتها:

- هناك مرض اسمه كليبتومانيا يا أمي، تسرق دون حاجة إلى السرقة.

- عيب يا ابنتي، هذه سيدة محترمة، هل هذا مكافأتها؟

- مجرد فرض...احتمال.

- كيف نتحقق منه؟

منذ هذه اللحظة لم يعد يشغل أبلة بهية ضياع المبلغ ولا احتمال معاودة سرقة الشقة واقتحام عزلتها اقتحاما لا تدري عواقبه إذا كانت موجودة بالشقة وقتها، قدر ما شغلها ذلك الصراع الذي اشتعل في داخلها، وجعلها تحس، كأنها تحترق: زينات أو ليست زينات.

ذهبت إلى البنك، تسلمت مبلغا آخر، توجهت مباشرة إلى إحدى وكالات السفر، قطعت تذكرتها، حجزت غرفة في أحد فنادق مكة مع مجموعة سياحية من السيدات تجاوزن الستين. أم رضا في زيارتها الأسبوعية سألتها أبلة بهية- كأنما عرضاً- إن كانت قد رأت المبلغ: ثلاثة باكوات. خبطت على صدرها:

- ورحمة زوجي، وحياة أولادي، وغلاوتك عندي، إذا وجدت عشرة أمثالهم تنقطع ذراعي ولا أمد يدي أبدا.

أم رضا دخلت البيت مئات المرات، داست كل موقع قدم فيه، كان به ما هو أكثر من هذا المبلغ موضوعا بغير حرص: حلي ذهبية مطعم بعضها بفصوص ماسيّة (شبكة تماضر) لم ينقص منها قيراط واحد.

باستبعاد أم رضا، عادت زينات تلح عليها. إنسانيتها تنفي ذلك، إخلاصها ينفي ذلك، وعدم ظهور بديل يوقع في هوة سحيقة لا قرار لها. هناك يدان تلطمانها بالتبادل: هي، لا ليست هي. من إذن يكون أو تكون.. كيف دخل، كيف خرج؟ بل هي. لا ليست هي. سرق اللص طمأنينتها سرق ثقتها في أقرب الناس إليها. يا رسول الله اكشف غمتي، وارفع بلوتي، عندما تكتحل عيناي بمرأى مقامك وأطوف بقبرك.

***

في الأرض المقدسة طافت حول الحجر الأسود، سعت بين الصفا والمروة، وقفت على عرفات، كبّرت في منى وألقت الجمرات، هللت مع الجموع الحاشدة: لبيك اللهم لبيك، اللهم أزل حيرتي، وأنقذني من محنتي، وهبني طمأنينتي، واستجب دعوتي، إنك لسميع مجيب.

أحست بصفاء عجيب، تخففت من ذنوبها.

***

هبطت الحاجة بهية من الطائرة، أنهت إجراءاتها، أول سؤال ألقته في لهفة على ابنها وهو يتقبلها بالأحضان: ما الأخبار؟

لمحته يبتسم ابتسامة خافتة، أدركت، أرادت أن تستوثق:

- هل وقع مكروه ؟ لا تخف ولا تخف.

- سأبلغك خبراً أرجو ألا يزعجك.

سألته في عفوية:

- سرقنا من جديد؟

- نعم.

- لكننا غيّرنا مفاتيح البيت؟

- كسر زجاج باب المطبخ هذه المرة وسرق ال... بدلا من أن تصغي لبقية الحديث، سمعها تهمس، عضلات وجهها ارتخت، علامات صفاء قدسيّ بدت عليه:

- أشكرك اللهم لأنك استجبت طلبتي، وقضيت على محنتي، فاغفر زلتي، إنك لغفور رحيم.

سألها ابنها وعلى وجهه ألف علامة استفهام:

- ماذا تقولين؟

أجابته بلغز آخر كأنما لتمنعه من اقتحام خصوصياتها:

- الحمد لله، ليست هي.


يوسف الشاروني
مارس 1992

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...