حسن الرموتي - أبو نواس مرشحا

قادتني قدماي إلى أسواق بغداد و دكاكينها ، كنت في حاجة إلى الترويح عن النفس بعد يوم طويل من العمل في حدائق القصر . في شارع المتنبي حيث مقر البعثات الدبلوماسية لبلاد الهند و السند وفارس غيرها من الأجناس ... دلفت لحانة – حانة طرفة كما هو مكتوب على اللافتة و بخط مغربي جميل - باحثا عن أبي نواس ، دلني الساقي بحركة من رأسه وجدته غارقا بين قنينات ، طلبت من الساقي أن يعدها و يجمعها من أمامه ، نفتحه عشرين دينارا . جلست إلى صديقي أبي نواس فقد درسنا معا في الكتّاب منذ سنوات ، ذهب هو إلى البصرة حيث درس القانون الدستوري بينما تابعت انأ دراستي في الكوفة في فن البستنة و علم النبات . اشتغلت بقصر الخليفة هارون الرشيد بعد وساطة و رشاوى . ورغم اختلافنا ظلت الصداقة متينة بيننا ...سألته عن رغبته في الترشح للانتخابات المقبلة ... صدرت عنه قهقهة كبيرة ملأت أرجاء الحانة ثم رأيت دمعتين حارقتين تتسللان من مقلتيه . حاول أن ينهض من مكانه فلم يستطع . أشار للساقي بعلامة النصر ، عرفت انه طلب جعتين باردتين .. فالحرارة في شارع المتنبي كانت لافحة .. و حرارة الانتخابات المقبلة تنبئ بصراع محتدم ، خاصة ، بعد أن أسس فقهاء المساجد حزبا جديدا أسموه حزب الزيادة و الترضية بمباركة من هارون الرشيد ...قلت لأبي نواس إن الحزب الجديد سيحصل على اغلب المقاعد ، فلماذا لا تترشح باسمه في مقاطعة من ضواحي بغداد و أنت من فقهاء القانون الدستوري في هذا البلد ... ابتسم أبو نواس حتى ظهرت قواطعه البيضاء مثل حبات الفول رغم إدمانه ، فقد كان كثير الاستعمال لعود عرق السوس المجلوب من بلاد المغرب ، وأمنية أبو نواس أن يزور المغرب الذي سمع عنه الكثير .. ربّت على كتفي و قال : أنا لا أحب الكذب يا صاح أحب أن أكون ماجنا و سكيرا على أن أكون بهلوانيا في مجال السياسة .ثم قال : ما معنى حزب الزيادة و الترضية ؟، لم أسمع بمثل هذا الحزب ، أعرف حزب الحشاشين وحزب القرامطة و البرامكة و حزب الصعاليك الجدد ..و هو الحزب الأقرب إلى نفسي ، قلت له مبتسما : حزب الزيادة والترضية يعني أولا ، زيادة في سواد الأمة ، حتى يفتخر بنا رسولنا الأعظم و على العموم الزيادة في كل شيء ، ومن له القدرة على الإضافة ، فليضف ما شاء ، كما هو الحال في أسواق بغداد هذه الأيام .و الترضية معناها ترضية النفس بما يليق بها من الشهوات و ترضية المقربين وقهر البسطاء لأنهم عالة ...فجأة انتبهت أني أتكلم بصوت مسموع .. فقلت له : إن بالحانة مخبرين ، ابتسم و أشار إلى أحدهم يجلس منزويا و قال : هو مراقب الحي هنا في بغداد لن يستطيع أن يقول شيئا خوفا من هجائي . قريبا منى رأيت شخصين يحييان أبا نواس من بعيد ..
وحين سألته عنهما قال : هما والبة بن حباب و حماد عجرد . سأل أبو نواس الساقي المزيد من الجعات لكنه رفض ، مذكرا إياه بالقانون المسموح بعدد القنينات في البلاد .. امتثل للأمر ..خرجنا من الحانة ، كان الليل في منتصفه ، و شوارع بغداد خالية إلا من ثلة من شباب يسمرون و ينشدون شعرا ..بدأ أبو نواس بدوره ينشد شعرا ، كنت أرهف السمع إليه حتى ذكر اسم جنان ، قلت له من تكون جنان هذه ؟ التفت إليّ و ضرب على صدره مكان القلب تماما و قال : هي كل شيء ...كيف الوصول إليها ؟ صمتت ، لا أريد أن أقلب مواجع الرجل . سرنا على ضوء المشاعل المتوهجة التي تضيء الشارع دون خوف ،لأن الناس في مملكة الرشيد تخاف من ظلها . قلت له من جديد ، ما رأيك في ما طرحته عليك ، الانتخابات هي فرصة لك ، و الوصول حتى لمعشوقة الفؤاد جنان هذه ، التي أضنت قلبك . المال و السلطة تأتيان بالمستحيل . نظر إليّ ثم تقدم نحو الحائط الذي رسمت عليه صور المرشحين لفنان من بلاد فارس ، رسوم لوجوه الشعراء و الفقهاء و الكتبة ولصوص بغداد و أرقامهم و برامجهم الانتخابية...فك أزرار سرواله الفضفاض و افرغ متانته ملتفتا خوفا من عسس الخليفة هارون الرشيد . ثم أطلق قهقهة تردد صداها في الشارع الخال من المارة ...سألته عمّا يقولونه حول توبته ، ابتسم ثم اقترب مني كما لو كان يخاف أن يسمعه أحد و قال : ماذا فعلت لأتوب ؟ ، حين يتوب اللصوص و القتلة وتجار الدين و فقهاء الخليفة و غيرهم ، عندئذ أفكر في ترك هذه الحانات المنتشرة في بغداد ، و سأرحل إلى البادية أو الصحراء حيث الصفاء و المرؤوة ...فقط أريد أن تكون معي جنان ..تحسس أبو نواس جيب معطفه من نوع ترواكار الصوفي المصنوع ببلاد الهند وقال : الليل مازال طويلا ، لكن الساقي منحني خفية لترا من النبيذ الصبوح التي تكلم عنها عمرو بن كلثوم مقابل دينارين و هي مهربة من بلاد الأنوار ... و هكذا ترى أن كل شيء في هذه البلاد يمكن أن يباع و يشترى ، أخرج القنينة تأملها على ضوء مشعل قريب وقال : حتى العسس يمكن أن يشتروا فقط ببيت شعر .. فماذا تبقى في هذه البلاد التي تبيع كل شيء ...طأطأت رأسي خجلا ، سرت دون أن أنبس ببنت شفة ..سرنا نحو البيت الذي يكتريه أبو نواس بعد أن أقتنينا طعاما من محل المكدونالد الذي ما زال مفتوحا لأنه من أملاك الخليفة ، سمعت وقع خطوات تتعقبنا ، قال لي أبو نواس ، لا تخف ، هما من المخبرين . عاد إليهما و تحدث معهما قليلا ، رأيتهما ينسحبان و يشيران إليّ ....في الصباح و عند باب قصر الرشيد حيث أريد الدخول إلى عملي كبستاني ، وجدت رسالة تطلب مني الالتحاق فورا بعملي الجديد كمفتش للحانات في بغداد و ضواحيها .....عندما أخبرت صديقي أبا نواس ، أشار عليّ بالهروب ، فهارون الرشيد كلما أراد أن يفتك بأحدهم عيّنه مفتشا للحانات تمهيدا لقتله ...أعرف أن أبا نواس كان نديما للخليفة قبل أن يغضب عليه ، و لا ينطق من فراغ ... وتسللت ليلا بلا زاد نحو بلاد المغرب لأعبر إلى الأندلس لأبدأ حياة جديدة ...

حسن الرموتي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...