يخرج من البيت بعد الساعة الحادية عشرة صباحا بعد أن يقضي كل حاجاته ومتطلباته البسيطة. لابسا سروال الجينز الأزرق وقميصه الصيفي المزركش بألوان متناسقة الأشكال كأنه لوحة تشكيلية، بظهر مقوس شيئا ما، متراخ بعض الشيء بفعل السنين التي يحمل عليه، ومدى الأشغال التي قام بها في المؤسسات التي اشتغل بها كمدرس لمادة التاريخ ثم حارس عام ومدير لإحدى الثانويات. رأسه شبه فارغ من الشعر بفعل الصلع الذي هاجمه، وما تبقى منه فهو أبيض فوق الأذنين والقفا. يضع نظارة طبية سميكة الزجاج. يجلس في المقهى القريب من بيته ويجالس بعض زملائه أيام العمل، إن كانوا، يتبادل معهم الحديث حول ما تعج به الساحة الوطنية والدولية من أحداث وأخبار، يقرأ الجرائد ويطلع على جديد الأخبار. غالبا ما يكون شاردا، نظراته مركزة على شيء ما، أهو بفعل الزمن أو أنه الإرهاق والتعب البادي على الجسد الذي تعامل مع أفواج وأجيال من التلاميذ يلقن ويشرح ويفسر ثم يصحح الأخطاء، شفهيا وكتابيا، ويقوم ما اعوج من أفكار. أو أنه يقارن بين النظريات التي اشتغل عليها طيلة فترة الدراسة والتعليم، يقلب ما فيها من سيرورة عله يجمع فيما بينها ويخرج بتصور نظري جديد، أو أنها الحياة التي يعيشها فيما تبقى من العمر، وحيدا، لا يلج بيته غيره، ولا يدق بابه سواه، أو أنه فراق الأحباب قد ترك ندبا في النفس عميقا وجرحا لا يندمل.
يعود إلى البيت بعد الزوال، يرجع إلى محرابه الذي اعتاده منذ مدة طويلة، والذي يشهد على جزء كبير من حياته وحياة العمل، لما كانت الغالية تملأ البيت حبا وعطفا وحركة، تتحرك من مكان إلى مكان منظفة ومرتبة والبسمة دائمة على محياها، تسأله أين كنتَ؟ ومع من تكلمتَ؟ وماذا فعلت، متفقدة ملابسه أهي نظيفة؟، يشعر بنفسه كأنه الطاوس ينفخ ريشه، ويقترب منها مداعبا لها. يعود إلى البيت الذي تحول إلى صمت يشبه صمت القبور وغابت حيويته، بعد أن غادرت الغالية إلى العالم الآخر وتركته وحيدا لا يعرف ما يقدم أو يؤخر وكيف يتصرف. علمته كيف يقترب منها ويبتعد عن الآخرين، وأن يتكل عليها في كل أموره، انسحبت في صمت دون أن تنبس بكلمة أو تشتكي من شيء. أحس بفراغ قاتل، لاسيما وأن ابنته الوحيدة غادرت مع زوجها إلى حيث أرض الله الواسعة بعد أن تزوجت قبل وفاة والدتها بسنة. ينتظر مرة في الأسبوع مكالمة منها، يطمئن عليها وعلى عائلتها الصغيرة، زوجها وابنها، يسمع من خلال مكالمتها صوت الغالية الجهوري فتأخذه الذكرى إلى أيام خلت؛ يوم كان يسافر بها من مكان إلى آخر، من مدينة شاطئية إلى أخرى داخلية، ينعم بالحياة بالقرب منها. يتمتعان بجمال البحر، وسحر الطبيعة، لمَّا يتوحد الجبل مع الشاطئ، ويعطيان لوحة خلابة تضفي عليها حمرة الشمس عند الغروب روعة أخرى. تسأله عن حاله فيجيب جاهدا على أنه على ما يرام، وتستفسره كيف يدبر أموره فيحكي لها ما للغالية من دربة في إعداد المائدة، تحدثه عن ابنها الغالي فيقص عليها كيف كانت تعتني بها أمها، تحدثه عن اليوم فيعود بها إلى الأمس. تنتهي المكالمة بعد حين فيرجع إلى حياته العادية، إلى سكون صومعته كأنه رهبان يتعبد في ديره بعيدا عن الناس، أو واحد من زهاد الرعيل الأول يتفرغ في خلوته للصلاة والذِّكر، لا يسمع سوى صوت فيروز وأشعار درويش، يعود إلى كتبه المتناثرة على المكتب وعلى الأريكة القريبة منه، يتابع ما كان يقرأ من قبل، يستنبط فرضيات ويستخلص أفكارا حتى يشعر بالعياء فيرتمي على السرير تاركا لجسده الراحة وللراحة أن تشمل جسده، فيرتخي شاردا مسترجعا نُتَفاً من حياة لن تعود.
الدارالبيضاء في 16/04/2017
يعود إلى البيت بعد الزوال، يرجع إلى محرابه الذي اعتاده منذ مدة طويلة، والذي يشهد على جزء كبير من حياته وحياة العمل، لما كانت الغالية تملأ البيت حبا وعطفا وحركة، تتحرك من مكان إلى مكان منظفة ومرتبة والبسمة دائمة على محياها، تسأله أين كنتَ؟ ومع من تكلمتَ؟ وماذا فعلت، متفقدة ملابسه أهي نظيفة؟، يشعر بنفسه كأنه الطاوس ينفخ ريشه، ويقترب منها مداعبا لها. يعود إلى البيت الذي تحول إلى صمت يشبه صمت القبور وغابت حيويته، بعد أن غادرت الغالية إلى العالم الآخر وتركته وحيدا لا يعرف ما يقدم أو يؤخر وكيف يتصرف. علمته كيف يقترب منها ويبتعد عن الآخرين، وأن يتكل عليها في كل أموره، انسحبت في صمت دون أن تنبس بكلمة أو تشتكي من شيء. أحس بفراغ قاتل، لاسيما وأن ابنته الوحيدة غادرت مع زوجها إلى حيث أرض الله الواسعة بعد أن تزوجت قبل وفاة والدتها بسنة. ينتظر مرة في الأسبوع مكالمة منها، يطمئن عليها وعلى عائلتها الصغيرة، زوجها وابنها، يسمع من خلال مكالمتها صوت الغالية الجهوري فتأخذه الذكرى إلى أيام خلت؛ يوم كان يسافر بها من مكان إلى آخر، من مدينة شاطئية إلى أخرى داخلية، ينعم بالحياة بالقرب منها. يتمتعان بجمال البحر، وسحر الطبيعة، لمَّا يتوحد الجبل مع الشاطئ، ويعطيان لوحة خلابة تضفي عليها حمرة الشمس عند الغروب روعة أخرى. تسأله عن حاله فيجيب جاهدا على أنه على ما يرام، وتستفسره كيف يدبر أموره فيحكي لها ما للغالية من دربة في إعداد المائدة، تحدثه عن ابنها الغالي فيقص عليها كيف كانت تعتني بها أمها، تحدثه عن اليوم فيعود بها إلى الأمس. تنتهي المكالمة بعد حين فيرجع إلى حياته العادية، إلى سكون صومعته كأنه رهبان يتعبد في ديره بعيدا عن الناس، أو واحد من زهاد الرعيل الأول يتفرغ في خلوته للصلاة والذِّكر، لا يسمع سوى صوت فيروز وأشعار درويش، يعود إلى كتبه المتناثرة على المكتب وعلى الأريكة القريبة منه، يتابع ما كان يقرأ من قبل، يستنبط فرضيات ويستخلص أفكارا حتى يشعر بالعياء فيرتمي على السرير تاركا لجسده الراحة وللراحة أن تشمل جسده، فيرتخي شاردا مسترجعا نُتَفاً من حياة لن تعود.
الدارالبيضاء في 16/04/2017