إلى شهداء الكرامة بمدينة جرادة
كغجرية لعوب تستميل كل يوم الى وكرها شباب المدينة، الحال مُعسر وإغراءاتها كثيرة، وأهمها الستر. مع بياض النهار الخامل يتسللون مسلحين بأحلامهم الكسيرة المتضاربة المترقبة لحدوث شيء مميز، فقد يكون اليوم محملا بزوادة فرح وخير عميم.
ملثمين بشالاتهم الباهتة وقفازات الأيدي المهترئة الباهتة الألوان التي لا يغطيها سوى آثار فحم غُمِّست فيه وصارت تابعة له.
تبدو الطريق كشريك سري يعرف نواياهم ونواياها فيتواطأ، ليكتم الخطو ويمحو الأثر بعد مرورهم. الطريق وعرة، المسالك والأميال التي قطعوها تبدو كخط سكة حديد لا ينتهى مداه. لكنهم يمضون بقلوب مخضبة بالرجاء يمضون
بأحلام تغازل الحنين يمضون
شامات في زمن الوحل والفقر
والصمت المطبق على المدينة يمضون..
الأكتاف تستعين بمعول الأمل فتستقيم رغما عن برودة المكان.
الزوادة شبه فارغة، خبز مملح وقنينة ماء حزين ومطرقة ومعاول حفر وبعض الأكياس الفارغة تنتظر بشوق أن تحضن سواد الارض ليصير ذهبا في يد الشباب والرجال وحتى الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء.
و كأنه قداس يهمهمون بكلمات لا تتجاوز الحناجر والعيون تقفز على المكان والزمان، وفي أخر المدينة عند الجبل، "الساندرية " تفتح منجمها الأسود للقادمين . غِيــران منتشرة في جنبات الغابة أسفل المناجم التي أغلقت بعد استنزاف خيراتها منذ سنوات ، فكانت الساندريات هي البديل الذي لجأ إليه الكثيرون من المعسرين من أبناء المدينة، يتسللون فرادى او مثنى ، حبالهم تسبقهم الى غورها . وتبقى المدينة الشاحبة حد الموت تنظر في صمت حزين تنعى الذين مروا من هناك والذين غاصوا في جوف الأرض بحثا عن كرامة أسكتها الفقر و الجوع.
المدينة شاحبة ككل يوم . مقفرة إلا من أهلها، والموت البطيء يُعَلِّم جدران منازلها على الذين كانوا هنا ذات يوم يغنون للأحلام سمفونية الكرامة.
و تلك التلال و الهضاب المحيطة بجرادة المدينة تبدو كمومس ترتدي السواد حتى تمنح نفسها بعضا من الوقار. والجوع حارس ذليل موجع حد الالم، لكن بدون أمل في قطف لذة الغوص بين أحضان "الساندرية" يكون ضربا من العبث.
ها هو الظلام يزحف رويدا رويدا كلما نزل العشاق في رحمها . تلك الرؤوس المحملة بخوذات واقية ، وإضاءة خافتة تعينهم على تلمس خطوات محفوفة بالموت. يمضي الأول والثاني والثالث نحو الأسفل، كل يتخذ نقطة بداية يتلمس مكان صيده عساه يكون كما يشتهي، بخطى وئيدة يتحركون هنا و هناك ، يمضي الوقت في جوف الساندرية بسرعة ترتبط بمدى توفر الأكسجين لديهم و القدرة على التنفس السليم.. الجهد بدأ يهزم أحلامهم الأولى ، وكلما توغلوا أكثر تصيبهم لعنة الساندرية التي تغريهم بالغوص أكثر.
بقايا طريق وفحم تعترض طريقهم . الكَيِّس حينها يتوقف أمامها و يحمل مطرقته ويبدأ الحفر بنشوة المنتصر الذي سيحصل على الكعكة. والبعض يمضي أكثر عمقا تحدوه الرغبة في المزيد ولعله يكون أوفر حظا، فلم يعد هناك فرصة للتراجع، فالأفواه الجائعة تنتظر والشيخ الهرم رغم نوبات سعاله الحادة و ضيق تنفسه والمرض اللعين، الذي وسمته به العاهرة ينتظر بين ترقب و تهيب محملا بذاكرة مشحونة بصور قديمة تحكي عن علاقته "بالساندرية" التي استنزفت أجمل سنين عمره الضامرة.
لن يمضي اليوم عاديا ككل أيام جرادة الحزينة، ولن يكون مثل الأيام الخوالي. فأصحاب البطون الكبيرة أجهزوا على رحم المدينة وأفرغوها من خيراتها ومضوا يعدون مكاسبهم ، تركوا المدينة مقفرة فطفت "الساندريات" كفطر بري وعامت على وجه المدينة كدور دعارة لا يدخلها إلا الذين أحرقهم الجوع وقلة اليد فلا يجدون بدا من كسب رضاها والانغماس في رحمها.
المكان بارد جدا ظلام حالك والهواء شح منه، وبين الرغبة في التنقيب واستخراج ما يمكن ومشقة الحال ومذلة المآل، يضيق الصدر ويتصبب العرق باردا من كل أطراف الجسد يسيح تحت الثياب التي اتخذت لون الفحم. الخوف من الاختناق أو انهيار أي جرف هناك يدفع البعض إلى الاستغناء عن منافع "الساندرية" والاسراع لمعانقة هواء رطب نقي يعيد توازن الحياة . لكن من قهره الجوع وأذله السؤال وشح حاله يتشبث بكل بريق حتى لو كان خادعا حينها لا يفكر في عواقب مغامرة قد تؤدي بعمره البض.
رائحة الفحم تعطر المكان و الهواء تبخر، تخر القوى و تغيب الاعين المرعوبة من هول ما سيحدث غائرة تعانق الخواء.
يتمسك بطوق النجاة، يلف الحبل حول خاصرته. يرغب بالصراخ:
- أخرجوني من رحم العاهرة.
الصدر يضيق اكثر و الهواء يختفي ويزداد المكان وحشة :
- أين يدي.؟
- قدمي...؟
- قوتي ...؟
يحاول أن يتحسس جسده عبثا ، يغيب الأكسجين و تزداد نبضات القلب تسارعا ، العرق يجهز على باقي الجسم والرهبة تتسلل كحية تخنق الرجل.
تساؤلات تمضي كسرعة البرق ثم تختفي .. دماغه يصيبها العطب و التشويش ، لم يعد هناك بد من الاستسلام، يتذكرأسرته، ووقع الفاجعة عليها..
وسائل الإعلام ستغزو المكان ، ستنعاه الصحف // شاب يموت خنقا بالساندرية . سيتكلمون كثيرا و يقدمون التعازي للأرملة واليتامى. سيقدمون وعودا كثيرة، رجال السلطة حاضرون ، أعيان المنطقة كلهم لن يتركوا الحدث يمر دون أن يدلوا بدلوهم و يتشدقون بكلام ووعود لم يقولوها مطلقا، لكن الحالة الآنية تستدعي أن لا يفوتهم موسم الموت كي يلمعوا صورهم الباهتة في مزاد التنافس، الصور تلتقط هنا و هناك و صور الشهيد و الشهيدين و الشهداء تتصدر الجرائد الورقية و الإلكترونية و مواقع التواصل الاجتماعية.
بعض مرور أيام "الساندرية" ستغيب عن الاذهان، و الشهيد ستنساه ذاكرة الناس المثقوبة ولا أحد سيتذكر أن الكرامة ليست حقا للفقراء.
هكذا أسلم روحه بتساؤلاته التي فرضتها عليه لحظة الاختناق، لكنه لم يكن يعلم أن دوام الحال من المحال، و أن موته هذا سيولد شعلة احتجاجات كفتيل سرعان ما يلهب الجموع ، ستنتفض المدينة ، ستنزع عنها تلك الكمامة التي ألزمتها الصمت زمنا ، شعاع ينير أمل المدينة ، يعيد لها الحياة فلا سكون ولا سكوت بعد اليوم ، الأصوات ترتفع عاليا في سماء المدينة في جموع خرجت تعلن رفضها ، لن تظل "الساندرية" تحصد الأرواح و الكل ينعى موتاه ، هو ذا الفجر آت بيوم جديد..
فليرقد الشهيد بسلام.
* ملحوظة:
- الساندريا او الديسندري مصطلح ينادي به العامة الغيران الموجودة بالمدينة و هي مشتقة من الكلمة باللغة الفرنسية descendrie بمعنى المهبط الذي ينزل الى عمق الحفر .
كغجرية لعوب تستميل كل يوم الى وكرها شباب المدينة، الحال مُعسر وإغراءاتها كثيرة، وأهمها الستر. مع بياض النهار الخامل يتسللون مسلحين بأحلامهم الكسيرة المتضاربة المترقبة لحدوث شيء مميز، فقد يكون اليوم محملا بزوادة فرح وخير عميم.
ملثمين بشالاتهم الباهتة وقفازات الأيدي المهترئة الباهتة الألوان التي لا يغطيها سوى آثار فحم غُمِّست فيه وصارت تابعة له.
تبدو الطريق كشريك سري يعرف نواياهم ونواياها فيتواطأ، ليكتم الخطو ويمحو الأثر بعد مرورهم. الطريق وعرة، المسالك والأميال التي قطعوها تبدو كخط سكة حديد لا ينتهى مداه. لكنهم يمضون بقلوب مخضبة بالرجاء يمضون
بأحلام تغازل الحنين يمضون
شامات في زمن الوحل والفقر
والصمت المطبق على المدينة يمضون..
الأكتاف تستعين بمعول الأمل فتستقيم رغما عن برودة المكان.
الزوادة شبه فارغة، خبز مملح وقنينة ماء حزين ومطرقة ومعاول حفر وبعض الأكياس الفارغة تنتظر بشوق أن تحضن سواد الارض ليصير ذهبا في يد الشباب والرجال وحتى الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء.
و كأنه قداس يهمهمون بكلمات لا تتجاوز الحناجر والعيون تقفز على المكان والزمان، وفي أخر المدينة عند الجبل، "الساندرية " تفتح منجمها الأسود للقادمين . غِيــران منتشرة في جنبات الغابة أسفل المناجم التي أغلقت بعد استنزاف خيراتها منذ سنوات ، فكانت الساندريات هي البديل الذي لجأ إليه الكثيرون من المعسرين من أبناء المدينة، يتسللون فرادى او مثنى ، حبالهم تسبقهم الى غورها . وتبقى المدينة الشاحبة حد الموت تنظر في صمت حزين تنعى الذين مروا من هناك والذين غاصوا في جوف الأرض بحثا عن كرامة أسكتها الفقر و الجوع.
المدينة شاحبة ككل يوم . مقفرة إلا من أهلها، والموت البطيء يُعَلِّم جدران منازلها على الذين كانوا هنا ذات يوم يغنون للأحلام سمفونية الكرامة.
و تلك التلال و الهضاب المحيطة بجرادة المدينة تبدو كمومس ترتدي السواد حتى تمنح نفسها بعضا من الوقار. والجوع حارس ذليل موجع حد الالم، لكن بدون أمل في قطف لذة الغوص بين أحضان "الساندرية" يكون ضربا من العبث.
ها هو الظلام يزحف رويدا رويدا كلما نزل العشاق في رحمها . تلك الرؤوس المحملة بخوذات واقية ، وإضاءة خافتة تعينهم على تلمس خطوات محفوفة بالموت. يمضي الأول والثاني والثالث نحو الأسفل، كل يتخذ نقطة بداية يتلمس مكان صيده عساه يكون كما يشتهي، بخطى وئيدة يتحركون هنا و هناك ، يمضي الوقت في جوف الساندرية بسرعة ترتبط بمدى توفر الأكسجين لديهم و القدرة على التنفس السليم.. الجهد بدأ يهزم أحلامهم الأولى ، وكلما توغلوا أكثر تصيبهم لعنة الساندرية التي تغريهم بالغوص أكثر.
بقايا طريق وفحم تعترض طريقهم . الكَيِّس حينها يتوقف أمامها و يحمل مطرقته ويبدأ الحفر بنشوة المنتصر الذي سيحصل على الكعكة. والبعض يمضي أكثر عمقا تحدوه الرغبة في المزيد ولعله يكون أوفر حظا، فلم يعد هناك فرصة للتراجع، فالأفواه الجائعة تنتظر والشيخ الهرم رغم نوبات سعاله الحادة و ضيق تنفسه والمرض اللعين، الذي وسمته به العاهرة ينتظر بين ترقب و تهيب محملا بذاكرة مشحونة بصور قديمة تحكي عن علاقته "بالساندرية" التي استنزفت أجمل سنين عمره الضامرة.
لن يمضي اليوم عاديا ككل أيام جرادة الحزينة، ولن يكون مثل الأيام الخوالي. فأصحاب البطون الكبيرة أجهزوا على رحم المدينة وأفرغوها من خيراتها ومضوا يعدون مكاسبهم ، تركوا المدينة مقفرة فطفت "الساندريات" كفطر بري وعامت على وجه المدينة كدور دعارة لا يدخلها إلا الذين أحرقهم الجوع وقلة اليد فلا يجدون بدا من كسب رضاها والانغماس في رحمها.
المكان بارد جدا ظلام حالك والهواء شح منه، وبين الرغبة في التنقيب واستخراج ما يمكن ومشقة الحال ومذلة المآل، يضيق الصدر ويتصبب العرق باردا من كل أطراف الجسد يسيح تحت الثياب التي اتخذت لون الفحم. الخوف من الاختناق أو انهيار أي جرف هناك يدفع البعض إلى الاستغناء عن منافع "الساندرية" والاسراع لمعانقة هواء رطب نقي يعيد توازن الحياة . لكن من قهره الجوع وأذله السؤال وشح حاله يتشبث بكل بريق حتى لو كان خادعا حينها لا يفكر في عواقب مغامرة قد تؤدي بعمره البض.
رائحة الفحم تعطر المكان و الهواء تبخر، تخر القوى و تغيب الاعين المرعوبة من هول ما سيحدث غائرة تعانق الخواء.
يتمسك بطوق النجاة، يلف الحبل حول خاصرته. يرغب بالصراخ:
- أخرجوني من رحم العاهرة.
الصدر يضيق اكثر و الهواء يختفي ويزداد المكان وحشة :
- أين يدي.؟
- قدمي...؟
- قوتي ...؟
يحاول أن يتحسس جسده عبثا ، يغيب الأكسجين و تزداد نبضات القلب تسارعا ، العرق يجهز على باقي الجسم والرهبة تتسلل كحية تخنق الرجل.
تساؤلات تمضي كسرعة البرق ثم تختفي .. دماغه يصيبها العطب و التشويش ، لم يعد هناك بد من الاستسلام، يتذكرأسرته، ووقع الفاجعة عليها..
وسائل الإعلام ستغزو المكان ، ستنعاه الصحف // شاب يموت خنقا بالساندرية . سيتكلمون كثيرا و يقدمون التعازي للأرملة واليتامى. سيقدمون وعودا كثيرة، رجال السلطة حاضرون ، أعيان المنطقة كلهم لن يتركوا الحدث يمر دون أن يدلوا بدلوهم و يتشدقون بكلام ووعود لم يقولوها مطلقا، لكن الحالة الآنية تستدعي أن لا يفوتهم موسم الموت كي يلمعوا صورهم الباهتة في مزاد التنافس، الصور تلتقط هنا و هناك و صور الشهيد و الشهيدين و الشهداء تتصدر الجرائد الورقية و الإلكترونية و مواقع التواصل الاجتماعية.
بعض مرور أيام "الساندرية" ستغيب عن الاذهان، و الشهيد ستنساه ذاكرة الناس المثقوبة ولا أحد سيتذكر أن الكرامة ليست حقا للفقراء.
هكذا أسلم روحه بتساؤلاته التي فرضتها عليه لحظة الاختناق، لكنه لم يكن يعلم أن دوام الحال من المحال، و أن موته هذا سيولد شعلة احتجاجات كفتيل سرعان ما يلهب الجموع ، ستنتفض المدينة ، ستنزع عنها تلك الكمامة التي ألزمتها الصمت زمنا ، شعاع ينير أمل المدينة ، يعيد لها الحياة فلا سكون ولا سكوت بعد اليوم ، الأصوات ترتفع عاليا في سماء المدينة في جموع خرجت تعلن رفضها ، لن تظل "الساندرية" تحصد الأرواح و الكل ينعى موتاه ، هو ذا الفجر آت بيوم جديد..
فليرقد الشهيد بسلام.
* ملحوظة:
- الساندريا او الديسندري مصطلح ينادي به العامة الغيران الموجودة بالمدينة و هي مشتقة من الكلمة باللغة الفرنسية descendrie بمعنى المهبط الذي ينزل الى عمق الحفر .