لم أعد أرى في الرجلين شيئا يميزهما، فقد صارا متشابهين تماما، حتى في الضجر الشديد الذي راح يرسم ملامحهما ونظرات العيون، لكن وجهي المتشبث بنصف ابتسامة أوحى لهما بأنني على مشارف محاولة جديدة. كنت أضغط بإصبعي على مجرى الأرقام حتى لا يخذلني الخط بذلك الصفير الحاد المتقطع فأدع السماعة لأحد الرجلين ككل مرة قائلة. "مشغول.. جرب أنت".
كلمات قصيرة وممجوجة لكنها راحت تتبادلنا، أنا ثم الرجل، وأنا ثم الآخر، والسماعة السوداء تروح وتجيء بيننا مثل القاسم المشترك الأعظم دون أن تحتفظ بشيء من أيدينا، وعينا العجوز صاحب الكشك الخشبي القديم تسدد إلينا نظرات طويلة ذات مغزى، وأتخيلها تقول لنا رغم الصمت الذي ختم على فم العجوز "صرتم كالبيوت الوقف..".
كان العجوز ينقل صناديق زجاجات "السفن أب" الفارغة إلى ركن ليس بعيدا بتلك المساحة التي يقع على ناصيتها الكشك. كانت في الأصل حديقة صغيرة بين البلوكات، يرطب هواؤها الممزوج برائحة الأشجار والأزهار وجوه الناس وعيونهم. وحين جف الزرع وتكسرت الأشجار راح العجوز يراكم أثاثه القديم وصناديق "السفن أب" الفارغة في زواياها المعتمة. لم يبق منها إلا بقع قليلة تتشبث باخضرارها. ورغم عيون العجوز ونظراته الطاردة إلا أننا أشفقنا عليه من تعبه ومازالت أذناه تسترقان السمع إلى أنفاسنا ثم تفاجئني كلمات الرجل الأصلع "مشغول.. جرب أنت"-.. قال أحد الرجلين ممازحا:
"أخشى أن يتضح في نهاية الأمر أننا جميعا نطلب شخصا واحدا لا يرد... رأيت فيلما كهذا".. ضحك الرجل والآخر ثم توقفت الضحكة وتلاقينا في صمت واحد مؤسس ورأيت الضحكة على وجه الرجلين مثل علامة استفهام.. كنت أتابع يدي العجوز الضعيفتين اللتين ترتعشان والزجاجات الفارغة التي تخبط بعضها. أعطاني الرجل السماعة في يأس.
"مشغول.. جربي أنت".. رحت أضغط على الأرقام وشيء ما يضغط على أعصابي وأنا أتوخى شديد الحذر والعجوز يدوس بحذائه القديم البقع القليلة الخضراء وكائن صغير يمرق بجوارنا فتخيلت أنه قط وربما كان فأرا لكنه سرعان ما توارى خلف ركام الأثاث القديم وصناديق الزجاجات الفارغة. كنت أضغط على الرقم الأخير أكثر من غيره وأنا أتذكر أيام كانت مدرسة اللغة العربية تطالبنا بكتاب خارجي لا تطبعه الوزارة، كنت أبحث عنه في مكتبات الشارع والشوارع المجاورة حتى أتجاوز الحي والأحياء المجاورة وحينما كنت أنظر إلى نقطة بعيدة في نهاية الحي فأرى صفحات الكتاب مبرقشة بحروف الكلام التي تبرق مثل السراب ويغريني البريق بمزيد من البحث وأكون ساعتها قد أدركت حدود مدينة أخرى...
جاءني الصفير الحاد المتقطع كضربات سوط، تفرقع في الهواء قبل أن تحط على الجسد وسرعان ما سلمت السماعة لأحد الرجلين "مشغول.. جرب أنت.." كانت عيوننا مسلطة على وجه الرجل، تتفحص ملامح وجهه التي تتجاذبها تعابير مثل اللهفة والأمل ثم الضجر واليأس، نتلهف لو نسمعه ينطق "آلو..آلو".. فكرت أنه حين يأتي رابع قد تنحسر خيمة النحس التي شملنا بها هذا الصباح الماكر والغريب، ولا تصدق مزحة الرجل الذي صرت أتوجس من نظراته وابتسامته البلهاء وهو يقدم لي السماعة "مشغول.. جربي أنت".
صار حدسي حقيقة، فسرعان ما نطق أحد الرجلين "انكسر النحس.. ها هو رابع.. أقصد رابعة". كان الآتي امرأة جميلة تحمل رضيعا، مسربلة في عباءة سوداء لامعة ذات شراشيب ترفرف فيبدو منها قميص ساتاني طويل، "يبظ" من أعلاه صدرها الأبيض الرجراج رغم نحافتها وبين أصابع يدها المشدودة ورقة صغيرة. أعطيتها السماعة دون أن أجرب الخط هذه المرة وحملت عنها رضيعها فدخلت المرأة معنا هذه المساحة اليابسة.
... راحت تدير القرص ورءوسنا لا يديرها خرفشات العجوز في زواياه المعتمة وهي تنظر إلى أرقام الورقة وملامح وجهها تشي بشعور فائق بالثقة نحسدها عليه.. مسحت المرأة ذات العباءة السوداء والقميص الساتاني شعرها في دلال أنثوي مبتذل فأثار رفيف شراشيب عباءتها الرجلين ثم أومأت لي في شبه تواطؤ بما يعني إسناد رأس الرضيع جيدا.. كنت أتابع شفتيها وهي تلعقهما في لحظة انتظار لم تزل غير مشوبة بالقلق. مرق كائن آخر صغير بجوارنا وفي هذه المرة تأكدت أنه ليس بقط أو فأر وسرعان ما توارى خلف الصناديق الفارغة واستغربت كثيرا لتلك الكائنات. توقفت سيارة توزيع صناديق السفن أب، ونزل رجل مسرعا، تجاوزنا جميعا وعلق لافتة بأسعار جديدة على أحد جانبي الكشك المقشور طلاؤه ثم ركب السيارة وانطلق مخلفا لنا دخانا كثيفا امتزج بأنفاسنا فرحنا نسعل.. حدق العجوز في ورقة الأسعار الجديدة ولم يعلق ثم راح يواصل ما يفعل. أوحت نظراتي للمرأة أن تكرر المحاولة مرة وثانية وثالثة فها أنا أحمل رضيعها وها هو رأسه في وضعه السليم. كنت والرجلان نتلهف لو يرد رقم المرأة، لو نسمعها تنطق بتلك الكلمة العذبة والمستحيلة "آلو".. مر الوقت ثقيلا ووجه المرأة يطفح بالقلق والتوتر وقد بال رضيعها على ثيابي ورأيت كائنا آخر غريبا يمرق ليستقر مثل غيره خلف صناديق الفارغ والأثاث القديم المتراكم...
ومن جديد بدأت اللعبة بطيئة ومملة، والغضب المهذب يفترش ملامحنا مثل بثور وثآليل وقد صارت عيوننا وأيدينا وألسنتنا مدربة على قوانين اللعبة التي تبدأ وتنتهي بكلمات قصيرة باردة... "مشغول.. جرب أنت"... في كل مرة تحاول فيها المرأة ضرب رقمها كان أحدنا يحمل عنها رضيعها، بال الرضيع علينا جميعا، وخارت أيدينا بسماعة التليفون الجامدة والتي صارت مثل دودة سوداء ضخمة.
اتضح وجه الكائن الغريب الذي كان يمرق بجوارنا فقد خرج علينا في جرأة شديدة وراح يتحرك بيننا دون مبالاة ثم استقر على ساقيه الخلفيتين فاردا قده النحيل الداكن وقد اقتلع عودا من الزرع الأخضر وتوالت الأعواد الخضراء تترنح وتذوب ثم تتلاشى في فمه المؤطر بحمرة برتقالية داكنة وكأنها بقايا دم متخثر وسرعان ما خرج غيره كثيرون من خلف صناديق الفارغ...
راحوا جميعا يلتهمون بقية البقع القليلة الخضراء... كانوا يتحركون وكأنهم لا يروننا، أو يروننا ولا يبالون.
نعمات البحيري
1992
كلمات قصيرة وممجوجة لكنها راحت تتبادلنا، أنا ثم الرجل، وأنا ثم الآخر، والسماعة السوداء تروح وتجيء بيننا مثل القاسم المشترك الأعظم دون أن تحتفظ بشيء من أيدينا، وعينا العجوز صاحب الكشك الخشبي القديم تسدد إلينا نظرات طويلة ذات مغزى، وأتخيلها تقول لنا رغم الصمت الذي ختم على فم العجوز "صرتم كالبيوت الوقف..".
كان العجوز ينقل صناديق زجاجات "السفن أب" الفارغة إلى ركن ليس بعيدا بتلك المساحة التي يقع على ناصيتها الكشك. كانت في الأصل حديقة صغيرة بين البلوكات، يرطب هواؤها الممزوج برائحة الأشجار والأزهار وجوه الناس وعيونهم. وحين جف الزرع وتكسرت الأشجار راح العجوز يراكم أثاثه القديم وصناديق "السفن أب" الفارغة في زواياها المعتمة. لم يبق منها إلا بقع قليلة تتشبث باخضرارها. ورغم عيون العجوز ونظراته الطاردة إلا أننا أشفقنا عليه من تعبه ومازالت أذناه تسترقان السمع إلى أنفاسنا ثم تفاجئني كلمات الرجل الأصلع "مشغول.. جرب أنت"-.. قال أحد الرجلين ممازحا:
"أخشى أن يتضح في نهاية الأمر أننا جميعا نطلب شخصا واحدا لا يرد... رأيت فيلما كهذا".. ضحك الرجل والآخر ثم توقفت الضحكة وتلاقينا في صمت واحد مؤسس ورأيت الضحكة على وجه الرجلين مثل علامة استفهام.. كنت أتابع يدي العجوز الضعيفتين اللتين ترتعشان والزجاجات الفارغة التي تخبط بعضها. أعطاني الرجل السماعة في يأس.
"مشغول.. جربي أنت".. رحت أضغط على الأرقام وشيء ما يضغط على أعصابي وأنا أتوخى شديد الحذر والعجوز يدوس بحذائه القديم البقع القليلة الخضراء وكائن صغير يمرق بجوارنا فتخيلت أنه قط وربما كان فأرا لكنه سرعان ما توارى خلف ركام الأثاث القديم وصناديق الزجاجات الفارغة. كنت أضغط على الرقم الأخير أكثر من غيره وأنا أتذكر أيام كانت مدرسة اللغة العربية تطالبنا بكتاب خارجي لا تطبعه الوزارة، كنت أبحث عنه في مكتبات الشارع والشوارع المجاورة حتى أتجاوز الحي والأحياء المجاورة وحينما كنت أنظر إلى نقطة بعيدة في نهاية الحي فأرى صفحات الكتاب مبرقشة بحروف الكلام التي تبرق مثل السراب ويغريني البريق بمزيد من البحث وأكون ساعتها قد أدركت حدود مدينة أخرى...
جاءني الصفير الحاد المتقطع كضربات سوط، تفرقع في الهواء قبل أن تحط على الجسد وسرعان ما سلمت السماعة لأحد الرجلين "مشغول.. جرب أنت.." كانت عيوننا مسلطة على وجه الرجل، تتفحص ملامح وجهه التي تتجاذبها تعابير مثل اللهفة والأمل ثم الضجر واليأس، نتلهف لو نسمعه ينطق "آلو..آلو".. فكرت أنه حين يأتي رابع قد تنحسر خيمة النحس التي شملنا بها هذا الصباح الماكر والغريب، ولا تصدق مزحة الرجل الذي صرت أتوجس من نظراته وابتسامته البلهاء وهو يقدم لي السماعة "مشغول.. جربي أنت".
صار حدسي حقيقة، فسرعان ما نطق أحد الرجلين "انكسر النحس.. ها هو رابع.. أقصد رابعة". كان الآتي امرأة جميلة تحمل رضيعا، مسربلة في عباءة سوداء لامعة ذات شراشيب ترفرف فيبدو منها قميص ساتاني طويل، "يبظ" من أعلاه صدرها الأبيض الرجراج رغم نحافتها وبين أصابع يدها المشدودة ورقة صغيرة. أعطيتها السماعة دون أن أجرب الخط هذه المرة وحملت عنها رضيعها فدخلت المرأة معنا هذه المساحة اليابسة.
... راحت تدير القرص ورءوسنا لا يديرها خرفشات العجوز في زواياه المعتمة وهي تنظر إلى أرقام الورقة وملامح وجهها تشي بشعور فائق بالثقة نحسدها عليه.. مسحت المرأة ذات العباءة السوداء والقميص الساتاني شعرها في دلال أنثوي مبتذل فأثار رفيف شراشيب عباءتها الرجلين ثم أومأت لي في شبه تواطؤ بما يعني إسناد رأس الرضيع جيدا.. كنت أتابع شفتيها وهي تلعقهما في لحظة انتظار لم تزل غير مشوبة بالقلق. مرق كائن آخر صغير بجوارنا وفي هذه المرة تأكدت أنه ليس بقط أو فأر وسرعان ما توارى خلف الصناديق الفارغة واستغربت كثيرا لتلك الكائنات. توقفت سيارة توزيع صناديق السفن أب، ونزل رجل مسرعا، تجاوزنا جميعا وعلق لافتة بأسعار جديدة على أحد جانبي الكشك المقشور طلاؤه ثم ركب السيارة وانطلق مخلفا لنا دخانا كثيفا امتزج بأنفاسنا فرحنا نسعل.. حدق العجوز في ورقة الأسعار الجديدة ولم يعلق ثم راح يواصل ما يفعل. أوحت نظراتي للمرأة أن تكرر المحاولة مرة وثانية وثالثة فها أنا أحمل رضيعها وها هو رأسه في وضعه السليم. كنت والرجلان نتلهف لو يرد رقم المرأة، لو نسمعها تنطق بتلك الكلمة العذبة والمستحيلة "آلو".. مر الوقت ثقيلا ووجه المرأة يطفح بالقلق والتوتر وقد بال رضيعها على ثيابي ورأيت كائنا آخر غريبا يمرق ليستقر مثل غيره خلف صناديق الفارغ والأثاث القديم المتراكم...
ومن جديد بدأت اللعبة بطيئة ومملة، والغضب المهذب يفترش ملامحنا مثل بثور وثآليل وقد صارت عيوننا وأيدينا وألسنتنا مدربة على قوانين اللعبة التي تبدأ وتنتهي بكلمات قصيرة باردة... "مشغول.. جرب أنت"... في كل مرة تحاول فيها المرأة ضرب رقمها كان أحدنا يحمل عنها رضيعها، بال الرضيع علينا جميعا، وخارت أيدينا بسماعة التليفون الجامدة والتي صارت مثل دودة سوداء ضخمة.
اتضح وجه الكائن الغريب الذي كان يمرق بجوارنا فقد خرج علينا في جرأة شديدة وراح يتحرك بيننا دون مبالاة ثم استقر على ساقيه الخلفيتين فاردا قده النحيل الداكن وقد اقتلع عودا من الزرع الأخضر وتوالت الأعواد الخضراء تترنح وتذوب ثم تتلاشى في فمه المؤطر بحمرة برتقالية داكنة وكأنها بقايا دم متخثر وسرعان ما خرج غيره كثيرون من خلف صناديق الفارغ...
راحوا جميعا يلتهمون بقية البقع القليلة الخضراء... كانوا يتحركون وكأنهم لا يروننا، أو يروننا ولا يبالون.
نعمات البحيري
1992