"أيها السادة.. لا تكونوا مصريـن على فتـــح أبواب المنافي في وجه هذه القلوب التي تــــود الاستئناس بنبيـــذ المـــودّة.. فنحن لا نرغــــب في أن يقودنا عساكر فاشيــــــون متمنطقــــون بعري عبارات نابية، نابتة على دمن الكراهية والحقد إلى أسن مزابل مخفورة بالخراب.."
المهدي نقوس
أمــــــان يالالالي - "....إلخ"
.. وضعت قُلّتَي الماء الكبيرتين، بعد أن ملأتهما، في عدلي الخرج، لم تبق قطرة ماء في البيت، وأمي تنتظر، والطريق ملتوية وبعيدة. كنت أود أن أبقى قليلا للراحة هنا عند النبع، أنعم بين أحراج الطبيعة بهذا السكون المجاني. لكن الوقت يدهمني. ولم يتبق متسع من الوقت لأقصد الحانوت، فقد بقيت أشغال خشبية من أمس، تنتظرني لأنعمها بمزيد من الحكّ وأدهنها كما أوصاني الْمْعَلَّمْ.. اِمتطيت حماري. بعد أن اِرتوى جيدا من الساقية المحاذية لمنبع الماء العذب، حرك أذنيه عاليا، وأصدر شخيرا، لم يكن نهيقا بمعنى الكلمة. لعله لا يرغب مثلي في الرجوع بسرعة. ربتُّ على عنقه، ففهم أني أرجوه أن يتحرك ومضينا..
- ادِّينِي مْعاكْ فِينْ مَّا مْشِيتِي آلْحْبيبْ ادِّينِي مْعاكْ..(1)
يحرك حماري أذنيه ثانية فتنتظم خطاه. لا بد أن هذا الحمار شديد الذكاء. يسمع دندناتي، فيمشي على خط مستقيم لا يزيغ. أمسح برفق ظهره ومساحة من عنقه مشجعا:
- لا تهتم يا صاح، ما دمت تستجيب كعاقل سوف أعتني بك أكثر، أعدك.. لا تبالي بأولئك الذين أوسعوك صفات قدحية ربما هم يعانون أكثر منها لا أنت. لا تكترث، فأنت لم تَحْرَنْ ولم تغضب يوما لأنني أعاملك جيدا، ثم أنت تعبر عن رأيك دائما، ولم أذكر يوما أني فرضت عليك شيئا أو أكرهتك على ما لا تستطيع له حولا ولا قوة. اُنظر، أحمِرة كثيرة أصبحت تعبر عن رأيها وتحتل المراكز القيادية.. من يدري، قد تقود بدورك قطيعا أو تتبوأ منصبا عاليا في يوم من الأيام؛ لست الحمار الذهبي على كل حال، لكنك حماري المميز..
يحرك أذنيه ثانية، فهو يفهم قصدي جيدا، ثم أمسح مرة أخرى بيدي على عنقه المستجيب دائما، ونتقدم بحزم في الطريق.
وضعت الْقُلَّتَيْن في مكانهما المظلل تحت السقيفة بمدخل الدار. دعتني أمي لأكل شيء قبل الذهاب إلى الحانوت. أعطيت للحمار تبنا بالقدر الذي يسد به رمقه هو الآخر، وخرجت.
في طريقي، لفت انتباهي تجمهر عدد من نسوة الدوار حول المقَدّم، الذي كان يتكلم ملوحا بيده يمنة ويسرة، بينما النسوة يستمررن في لغطهن. اِقتربت أكثر. لا بد أن الأمر له علاقة باستعراض ما.. أو بحفلة وطنية تنظمها السلطة المحلية بالمنطقة. وعون السلطة يقوم بإعلام الجميع، وباستنفارهم للاستعداد.. للامتثال.. للحضور.. وبتهديدهم أيضا بعدم تسليمهم أوراقهم عند الحاجة، إن اضطر إلى ذلك..
اِنصرف المقَدّم. تَزمُّ عايْشة شفتيها غيظا، وتَصْرِفُ من عينيها شررا على قفاه، ودت لو تَحوَّل مقصلة تفصل رأسه عن جسده..
- اتْفُووو عْلىَ كَمَّارَا.. لَحَّاسِينْ الْكَاپّا.... الله يخليك دِيمَا هَاكّاكْ...(2)
تلكزها إحداهن، وتضع أصبعا على فمها مشيرة إليها بأن تخفض صوتها، فالمقدّم لا يزال غير بعيد عن تجمعهن. لكن هذه الحركة زادت من غضب عايْشة:
- لم يعد يهمني شيء. تَمّارا والجّوع ها حْنا عايْشينْ فيهُم(3)، راح العمر ولم يبق شيء أخاف عليه. أربع وعشرون سنة خلت من الغناء والرقص في الطرقات خلف سياج الاستعراضات، بالأوتوبيسات، بحفلات الأعياد الوطنية وغيرها.. لبَّيتُ النداء دائما على حساب نفسي وأسرتي،.. عايْشة آجِي تْغَنِّي وْتْشَطْحِي.. عايْشة سيري تْغَنِّي وْتْشَطْحِي.. وِيلا بْغِيتْ غِيرْ شِي شَهادة دْيالْ الضّعْفْ(4) كَتَطْلَعْ لِيَا روحِي مْعَ هاذْ الْحَيَوانْ... وماذا جنيت من كل ذلك بعد أن هرمت، وماذا سيقع لي أكثر مما وقع. وبماذا أعيل ذاك الهرم مثلي الذي لم يعد يقْوَ على الخطو أبعد من باب البيت. حتى أنني لم أستطع أن أوفر له كرسيا متحركا. وكل قايْد لا يفكر إلا في تركي إرثا للآخر الذي يليه.. وكأنني لا أشكو علة أو لم يَبْدُ من أحوالي ما يمكن إثارة انتباههم.. لم يعترفوا يوما ولو بشيء من الخدمات التي قدمتها طوال السنين الماضية.. لا يتذكرونني إلا عند الحاجة.. تعبت من كل ذلك.. وُهَاذْ الْبَرْگاكْ(5) رَاهْ عَاقْلَة عْلَى النّْهَارْ اللِّي تْزَادَتْ فِيهْ امُّو وْبَّاهْ وُ مَا عَنْدوشْ الَوْجَهْ عْلاَشْ يَحْشَمْ...
تصغي النسوة إليها وهي تشكو همها وهمهن المشترك.. فكُلُّهُنَّ عايْشة..
يصل الأوتوبيس، تتقدم الزعيمة عايْشة، حاملة عروستها القصبية الموَشَّحة بـ "تَكْشِيطَتِهَا"(6) البالية إلا من خيوط ذهبية تتحدى الزمن الذي عفا عليها، لتحافظ على لمعانها الكذاب من بعيد. تضع رجلها على درج الأوتوببيس. تصعد، وتتبعها بقية النسوة ملوحات بعرائسهن، حاملات أكياسا بلاستيكية وقنينات الماء وما يتقين به اشتداد الجوع طيلة اليوم.. فيما تعلو أصواتهن بإحدى الأهازيج الشعبية:
- ... وَ رَاهْ ادِّيتُو وْ رَاهْ ادِّيتُو يَا لاَلَّةَ عْلىَ زيِنُو رَاهْ ادِّيتُو..أَهَااااااهْ.. (7)
بعد لحظات قليلة، تبتعد الحافلة المتمايلة من فرط تكدس الراكبين، فأكمل خطواتي المتبقية إلى الحانوت..
--------------------
(1)- من أغنية المطرب الكبير عبد الوهاب الدكالي وتعني: خذني معك حيثما تذهب أيها الحبيب..
(2)- كمّارا: وجه بشِع – لحّاسين الكاپّا: المنافقون المتقربون لأجل قضاء مصالحهم.
(3)- تمّارا: الكدح المضني الشاق وشظف العيش.
(4)- شهادة الاحتياج.
(5)- البرگاك : الجاسوس.
(6)- تكشيطة: لباس تقليدي يلبس في الأعراس.
(7)- من الأهازيج الشعبية.
المهدي نقوس
أمــــــان يالالالي - "....إلخ"
.. وضعت قُلّتَي الماء الكبيرتين، بعد أن ملأتهما، في عدلي الخرج، لم تبق قطرة ماء في البيت، وأمي تنتظر، والطريق ملتوية وبعيدة. كنت أود أن أبقى قليلا للراحة هنا عند النبع، أنعم بين أحراج الطبيعة بهذا السكون المجاني. لكن الوقت يدهمني. ولم يتبق متسع من الوقت لأقصد الحانوت، فقد بقيت أشغال خشبية من أمس، تنتظرني لأنعمها بمزيد من الحكّ وأدهنها كما أوصاني الْمْعَلَّمْ.. اِمتطيت حماري. بعد أن اِرتوى جيدا من الساقية المحاذية لمنبع الماء العذب، حرك أذنيه عاليا، وأصدر شخيرا، لم يكن نهيقا بمعنى الكلمة. لعله لا يرغب مثلي في الرجوع بسرعة. ربتُّ على عنقه، ففهم أني أرجوه أن يتحرك ومضينا..
- ادِّينِي مْعاكْ فِينْ مَّا مْشِيتِي آلْحْبيبْ ادِّينِي مْعاكْ..(1)
يحرك حماري أذنيه ثانية فتنتظم خطاه. لا بد أن هذا الحمار شديد الذكاء. يسمع دندناتي، فيمشي على خط مستقيم لا يزيغ. أمسح برفق ظهره ومساحة من عنقه مشجعا:
- لا تهتم يا صاح، ما دمت تستجيب كعاقل سوف أعتني بك أكثر، أعدك.. لا تبالي بأولئك الذين أوسعوك صفات قدحية ربما هم يعانون أكثر منها لا أنت. لا تكترث، فأنت لم تَحْرَنْ ولم تغضب يوما لأنني أعاملك جيدا، ثم أنت تعبر عن رأيك دائما، ولم أذكر يوما أني فرضت عليك شيئا أو أكرهتك على ما لا تستطيع له حولا ولا قوة. اُنظر، أحمِرة كثيرة أصبحت تعبر عن رأيها وتحتل المراكز القيادية.. من يدري، قد تقود بدورك قطيعا أو تتبوأ منصبا عاليا في يوم من الأيام؛ لست الحمار الذهبي على كل حال، لكنك حماري المميز..
يحرك أذنيه ثانية، فهو يفهم قصدي جيدا، ثم أمسح مرة أخرى بيدي على عنقه المستجيب دائما، ونتقدم بحزم في الطريق.
وضعت الْقُلَّتَيْن في مكانهما المظلل تحت السقيفة بمدخل الدار. دعتني أمي لأكل شيء قبل الذهاب إلى الحانوت. أعطيت للحمار تبنا بالقدر الذي يسد به رمقه هو الآخر، وخرجت.
في طريقي، لفت انتباهي تجمهر عدد من نسوة الدوار حول المقَدّم، الذي كان يتكلم ملوحا بيده يمنة ويسرة، بينما النسوة يستمررن في لغطهن. اِقتربت أكثر. لا بد أن الأمر له علاقة باستعراض ما.. أو بحفلة وطنية تنظمها السلطة المحلية بالمنطقة. وعون السلطة يقوم بإعلام الجميع، وباستنفارهم للاستعداد.. للامتثال.. للحضور.. وبتهديدهم أيضا بعدم تسليمهم أوراقهم عند الحاجة، إن اضطر إلى ذلك..
اِنصرف المقَدّم. تَزمُّ عايْشة شفتيها غيظا، وتَصْرِفُ من عينيها شررا على قفاه، ودت لو تَحوَّل مقصلة تفصل رأسه عن جسده..
- اتْفُووو عْلىَ كَمَّارَا.. لَحَّاسِينْ الْكَاپّا.... الله يخليك دِيمَا هَاكّاكْ...(2)
تلكزها إحداهن، وتضع أصبعا على فمها مشيرة إليها بأن تخفض صوتها، فالمقدّم لا يزال غير بعيد عن تجمعهن. لكن هذه الحركة زادت من غضب عايْشة:
- لم يعد يهمني شيء. تَمّارا والجّوع ها حْنا عايْشينْ فيهُم(3)، راح العمر ولم يبق شيء أخاف عليه. أربع وعشرون سنة خلت من الغناء والرقص في الطرقات خلف سياج الاستعراضات، بالأوتوبيسات، بحفلات الأعياد الوطنية وغيرها.. لبَّيتُ النداء دائما على حساب نفسي وأسرتي،.. عايْشة آجِي تْغَنِّي وْتْشَطْحِي.. عايْشة سيري تْغَنِّي وْتْشَطْحِي.. وِيلا بْغِيتْ غِيرْ شِي شَهادة دْيالْ الضّعْفْ(4) كَتَطْلَعْ لِيَا روحِي مْعَ هاذْ الْحَيَوانْ... وماذا جنيت من كل ذلك بعد أن هرمت، وماذا سيقع لي أكثر مما وقع. وبماذا أعيل ذاك الهرم مثلي الذي لم يعد يقْوَ على الخطو أبعد من باب البيت. حتى أنني لم أستطع أن أوفر له كرسيا متحركا. وكل قايْد لا يفكر إلا في تركي إرثا للآخر الذي يليه.. وكأنني لا أشكو علة أو لم يَبْدُ من أحوالي ما يمكن إثارة انتباههم.. لم يعترفوا يوما ولو بشيء من الخدمات التي قدمتها طوال السنين الماضية.. لا يتذكرونني إلا عند الحاجة.. تعبت من كل ذلك.. وُهَاذْ الْبَرْگاكْ(5) رَاهْ عَاقْلَة عْلَى النّْهَارْ اللِّي تْزَادَتْ فِيهْ امُّو وْبَّاهْ وُ مَا عَنْدوشْ الَوْجَهْ عْلاَشْ يَحْشَمْ...
تصغي النسوة إليها وهي تشكو همها وهمهن المشترك.. فكُلُّهُنَّ عايْشة..
يصل الأوتوبيس، تتقدم الزعيمة عايْشة، حاملة عروستها القصبية الموَشَّحة بـ "تَكْشِيطَتِهَا"(6) البالية إلا من خيوط ذهبية تتحدى الزمن الذي عفا عليها، لتحافظ على لمعانها الكذاب من بعيد. تضع رجلها على درج الأوتوببيس. تصعد، وتتبعها بقية النسوة ملوحات بعرائسهن، حاملات أكياسا بلاستيكية وقنينات الماء وما يتقين به اشتداد الجوع طيلة اليوم.. فيما تعلو أصواتهن بإحدى الأهازيج الشعبية:
- ... وَ رَاهْ ادِّيتُو وْ رَاهْ ادِّيتُو يَا لاَلَّةَ عْلىَ زيِنُو رَاهْ ادِّيتُو..أَهَااااااهْ.. (7)
بعد لحظات قليلة، تبتعد الحافلة المتمايلة من فرط تكدس الراكبين، فأكمل خطواتي المتبقية إلى الحانوت..
--------------------
(1)- من أغنية المطرب الكبير عبد الوهاب الدكالي وتعني: خذني معك حيثما تذهب أيها الحبيب..
(2)- كمّارا: وجه بشِع – لحّاسين الكاپّا: المنافقون المتقربون لأجل قضاء مصالحهم.
(3)- تمّارا: الكدح المضني الشاق وشظف العيش.
(4)- شهادة الاحتياج.
(5)- البرگاك : الجاسوس.
(6)- تكشيطة: لباس تقليدي يلبس في الأعراس.
(7)- من الأهازيج الشعبية.