عبد القادر الصحرواي - اقطعوا رأسه بشاقور 2

ملخص القسم السابق:
كان أبو عبد الله الشيخ الملك الذي أرسى قواعد الدولة السعدية وقضى نهائيا على دولة بني مرين، شديدا جدا في معاملة أعدائه وخصومه السياسيين، وعندما فتح مدينة فاس للمرة الثانية، وتمت له الغلبة على أبي حسون المريني، بدأ ينتقم من أنصار أبي حسون، وكان من هؤلاء في رأيه، الفقيه عبد الوهاب الزقاق.
استدعاه أبو عبد الله الشيخ ليحاكمه، أو لينهيه، قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام فلم يجبن الفقيه عبد الوهاب الزقاق، ولم يتلعثم، ولم يحاول الدفاع عن نفسه.
قال له أبو عبد الله الشيخ: اختر بأي شيء تريد أن تموت؟
فأجابه الفقيه في شجاعة نادرة: اختر أنت لنفسك، فإن المرء مقتول بما قتل به.
وتملكت الملك سورته وشدته، وغلبت عليه القسوة والكبرياء والأنانية، وصدمه جواب الفقيه، فصاح في المحيطين به من جنوده وحاشيته: أقطعوا رأسه بشاقور.

وقطع رأس الفقيه عبد الوهاب الزقاق بشاقور، تنفيذا لحكم القوة المنتصرة العاتية الغاشمة، القوة العمياء.

ومضى التاريخ قدما بعد ذلك بالملك المنتصر أبي عبد الله الشيخ من نصر إلى نصر، فاستطاع في مدة قريبة جدا بما أوتي من مضاء وحزم وقوة وشجاعة، أن يجمع أطراف المغرب كلها على طاعته والاعتراف بدولته واجتاز بسرعة فترة العمل من أجل ضمان الاستقرار الداخلي.

شيء واحد فقط، كان ينغص على أبي عبد الله الشيخ نشوة النصر، كان يعذبه ويؤرقه، ويقض مضجعه، كان يحز في نفسه ويؤلمها، هذه الدولة العثمانية الرابضة على الحدود، هذه الدولة العثمانية التي يمتد سلطانها غربا من القسطنطينية إلى الحدود المغربية الجزائرية، تنتظر الفرصة المواتية لتبلغ بجنودها وأساطيلها حدود المحيط.

لقد كان الوالي العثماني بالجزائر هو الذي أمد أبا حسون بالمدد العسكري اللازم، وساعده على إعادة الكرة على أبي عبد الله الشيخ، نصرا لحليف الدولة العثمانية القديم، أو تنفيذا لسياسة مرسومة تريد أن تغتنم كل فرصة مواتية لتشجيع الفتنة في المغرب تمهيدا لاحتلاله واستعماره، مهما يكن فلن يستطيع أبو عبد الله الشيخ أن ينسى أبدا، إن أبا حسون إنما انتصر عليه من قبل، وأخرجه من فاس في حالة منكرة بجيش تركي عثماني.

إن هؤلاء الأتراك على حدود هم الخطر الوحيد الذي يخشاه أبو عبد الله الشيخ على دولته، وإن أطماعهم لن تقف عند حدود المغرب الشرقية، إلا إذا ووجهوا بقوة كبيرة وعزم شديد، وهكذا بدا أبو عبد الله يفكر في الطريقة التي تمكنه من أبعاد الخطر، ومن ضمان استقلال البلاد واستقرارها وأمنها.
لقد دخل أبو عبد الله الشيخ في مناوشات مع الدولة العثمانية من أجل تلمسان لم يعد منها بطائل، ولم تنجح مفاوضات الصلح بينه وبين الوالي العثماني بالجزائر من أجل ضمان سلام دائم على الحدود، لكنه الآن يفكر جديا في أكثر من ذلك، يفكر في أن يطرد العثمانيين من الجزائر نفسها، بل إن طموحه ليمتد به إلى التفكير في أخطر ذلك، إنه يريد أن ( يغزو الترك في مصر ويخرجهم من أحجارها) كما كان يقول.
كان أبو عبد الله الشيخ مهتما بالدولة العثمانية، دائم التفكير فيها، وكانت هي أيضا مهتمة به اهتماما من نوع خاص، كانت تريد أن تبسط عليه وعلى المغرب نفوذها الفعلي عليه وعلى دولته، كانت تريد منه على الأقل، أن يعترف لها بالخلافة، وأن يقر لها بنوع من الإشراف الروحي. إنه لا يعدو في نظرها أن يكون واليا أو حاكما من حكام الأطراف، عليه أن يستمد سلطته الشرعية من دولة الخلافة الكبرى، من السلطان سليمان العثماني، سليمان الكبير.

وبدأت الدولة العثمانية من ذلك، بأن حاولت أن تحس نبض أبي عبد الله الشيخ، لتعرف مدى استعداده واستجابته، فبعثت من أجل ذلك رسولا خاصا إلى المغرب، وعند ما وصل الرسول كان أبو عبد الله الشيخ في تارودانت، في إحدى حركاته التي لم تكن تنقطع.

لم ينتظر الرسول عودة الملك إلى العاصمة، وإنما توجه من توه إلى تارودانت، حيث اتصل بالملك وبلغه رسالة من السلطان سليمان العثماني مكتوبة باللغة التركية، على أن ذلك لم يكن مشكلة إلى الحد الذي يمكن أن نتصوره، فقد كان في جيش أبي عبد الله الشيخ أتراك تخلفوا في المغرب من الحملة التي وفدت من الجزائر مع أبي حسون المريني، وعندما قتل أبو حسون الذي جاءوا لنصرته، لم يجدوا مطلقا أية غضاضة، أو أي تناقض يمكن أن يلحظ، في أن ينضموا لخصمه الذي جاءوا للقضاء عليه، ووجد هو فيهم أيضا جنودا شدادا متمرسين بالحرب، فرحب بهم في جيشه وأولاهم عناية خاصة، فقد كان يرجو بمساعدتهم أن يتمكن من طرد العثمانيين من الجزائر.

مهما يكن، فقد وصل الرسول، ورحب به السلطان، وأنزله ضيفا على رئيس الفرقة التركية في الجيش المغربي، وتولى الرئيس نفسه ترجمة الكتاب إلى العربية، فإذا هو لا يعدو أن السلطان سليمان العثماني يهنئ أبا عبد الله الشيخ بالنصر، ويجزي إليه متمنياته الطيبة بالنجاح والتوفيق، ويوصيه أن يسير في رعيته بالعدل، وألا يغفل أمر الجهاد، ثم يطلب السلطان بكل بساطة أن يدعي له منابر المغرب بصفته صاحب السلطة الشرعية الأولى، وأن يكتب اسمه على العملة المغربية، كما كان الملوك المرينيون يفعلون من قبل مع احتفاظهم باستقلالهم وسيادتهم الكاملة.

لم يكن أبو عبد الله الشيخ في حاجة إلى أن يسمع هذا الكلام لكي يحس قلبه ينفجر غيضا ضد هذه الدولة العاتية المتكبرة، وضد ملكها (سلطان القوارب) كما يدعوه، أو (سلطان الحواتة) كما كان يحلو له أن يسميه أحيانا أخرى، أما وقد بلغ التطاول بالسلطان العثماني إلى هذا الحد، وشرع بالفعل يكشف عن أطماعه وأغراضه، ويمهد لبسط سلطانه على المغرب، فلم يبق هناك من مكان للصبر، ولم تعد هناك من قدرة على الاحتمال، ولا من مبرر للصمت أو لكتمان الشعور بالعداوة والحقد والكراهية ضد دولة بني عثمان.

لم يكتب أبو عبد الله الشيخ للسلطان سليمان العثماني جوابا عن رسالته، وإنما اكتفى بأن يقول للرسول:
( لاجواب لك عندي حتى أكون بمصر، وحينئذ أكتب لسلطان القوارب).

وطار الرسول إلى القسطنطينية ليبلغ سلطان القوارب هذا الرد الكريم.

كان من الممكن جدا أن يثور السلطان سليمان العثماني لهذا الرد، وأن يبعث بحملة تأديبية إلى هذا الخارج عن الدولة الخلافة، المتمرد على سلطانها، المنكر لحقها الشرعي، الذي تأبى عليه كبرياؤه أن يعترف لها حتى بالأقل الممكن الذي لايكلفه شيئا على الإطلاق، والذي تأبى عليه قلة أدبه حتى أن يكتب لدولة الخلافة جوابا يشكر لها فيه التفاتتها الكريمة، ويتملق عظمتها، ويدعو لها بطول البقاء والنصر والتأييد.
كان من الممكن أن يحدث هذا، بل أن التاريخ ليحدثنا أن السلطان قد عزم عليه فعلا، وأصدر به أمره، لكن وزراء السلطان ومستشاريه، الذين يبدو أنهم كانوا عمليين أكثر مما تطيق أعصابه المرهفة، تلطفوا واقنعوا عظمته الخاقانية، أن هذه الحملة ربما ستكلف الكثير جدا، وأنهم مع ذلك يشكون في نجاحها، لبعد الشقة من جهة، ولكون الأساطيل العثمانية لم تجتز قط بوغاز جبل طارق من جهة أخرى، وهو مضيق صعب، قد تكون الملاحة فيه مخاطرة بالنسبة للأساطيل التي لم تعرفه من قبل، ولم تألف السير فيه، وإن من الممكن أن يدرك بالحيلة ما لا يدرك بالقوة، والحيلة مع ذلك إذا لم تنجح فالأمر فيها يسير، والخسارة معها بسيطة يسهل احتمالها، فقد لا تكلف أكثر من حياة رجل واحد، أو بضعة رجال على الأكثر.

واقتنع السلطان لحسن الحظ برأي وزرائه ووافق عليه، وترك لهم أمر تدبيره والسهر على تنفيذه.
كان أبو عبد الله محمد الشيخ لايزال يفكر في همه المقيم المقعد، كان لايزال حتى الساعة يفكر في أمر الجزائر وفي تحريرها من الأتراك العثمانيين، وجاءه الحل في هذه المرة سريعا، أسرع مما كان يتوقع، جاءه الحل في بضعة عشر رجلا من ضباط الجيش التركي بالجزائر، ضاقوا ذرعا بحياتهم في الجيش العثماني، واستبد بهم القلق والضيق والشعور بقلة التقدير، وتعرضوا لكثير من الأذى والاضطهاد، ثم علموا أن في الجيش المغربي فرقة تركية تتمتع بكامل الاحترام والاعتبار والتقدير، فقرروا أن يفروا إلى المغرب، وأن يضعوا أنفسهم تحت تصرف جلالة ملكه أبي عبد الله الشيخ.

ودخل رئيس الفرقة التركية على أبي عبد الله الشيخ ليبلغه ذلك، وليسير إليه أن هؤلاء الرجال، ربما كانوا يديه اليمنى، ورواد جيوشه في تحرير الجزائر لمعرفتهم بها، وبالجيش العثماني الذي يحتلها، ويحكمها بقوة الحديد والنار.

ودخل الضباط الهاربون على أبي عبد الله الشيخ فرأى على حد تعبير بعض المؤرخين المغاربة ( وجوها حسانا وأجساما عظاما) وأفاض الضباط الهاربون في شرح قضيتهم وفي التعبير عن ولائهم وإخلاصهم واستعدادهم لكل ما يمكن أن يطلب منهم.

وكان الضباط الهاربون عند حسن الظن في الامتحانات التي توالت عليهم بعد ذلك، كانوا أسرع إلى تنفيذ الرغبات الملكية من إعلانها، كانوا جنود الملك المطيعة وحراسه الأقربين، وكانوا أيضا رسله الأمناء إلى القواد والأمراء وحكام الجهات في جميع أطراف المغرب، وكان أقصى ما يطمح إليه الواحد منهم أن يحظى بكلمة رضى أو نظرة عطف، وكان الملك من جهته لا يبخل عليهم بشيء من ذلك، بل كان في الحقيقة يبالغ في إكرامهم والحفاوة بهم، ويوصي بإكرامهم أينما حلوا، أليسوا مناط أمله في تحرير الجزائر، وفي تطهيرها من دولة بني عثمان؟

وظل الأمر على ذلك زمنا إلى أن واتت الضباط الهاربين الفرصة المواتية ليعبروا عن إخلاصهم لأبي عبد الله الشيخ بشكل لم يسبق له نظير، كان الملك في إحدى حركاته بجبل درن بالقرب من تارودانت، وكان نائما في خبائه، وفجأة، وفي ظلام الليل البهيم، سمعت في خباء الملك حركة خفيفة، تبعها صوت شديد، واستيقظ الضباط والجنود والحراس والخدم وكل من في المعسكر، وتجمهروا جميعا حول خباء الملك ليسمعوا النبأ الخطير:
لقد قتل الملك، لقد قطع رأسه بشاقور.

والتفت كل واحد من الحاضرين حواليه يتفرس في وجوه لآخرين، ويقرأ الدهشة في عيونهم، والتفت الجميع يبحثون عن الضباط الهاربين، فإذا هم قد هربوا.
لقد أدوا مهمتهم التي جاءوا من أجلها.
وفي القسطنطينية بعد ذلك بمدة يسيرة، فتحت مخلاة، كان فيها ملح ونخالة، كان فيها رأس أبي عبد الله الشيخ، وعرضت الرأس بعد ذلك على السلطان سليمان العثماني، فنظر إليها في غير اكتراث، ثم أصدر أمره الكريم أن توضع الرأس في شبكة نحاس وأن تعلق على باب القلعة.
يقول اليفرني في نزهة الحادي، في ختام حديثه عن أبي عبد الله الشيخ:
وحمل إلى مراكش بغير رأس، فدفن قبلة جامع المنصور في قبور الأشراف هنالك، وقبره شهير.

المصدر: دعوة الحق، العددان السادس و الثامن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...