منذ أن تكسر خنصر السيد سين، تغيرت حياته. أصبح شخصا كثير التأمل. فجأة تخلى عن عدد من أصدقائه. لم تعد تستهويه جلسة المقهى والنظر إلى صدور العابرات في الشارع العام. ولم يعد يخمن ما تحمله أكياسهن من خضراوات أو ملابس أو أدوات تجميل. ثم إن السيد سين انتبه فجأة إلى أهمية ذاك الإصبع الصغير في يده اليسرى. كان يتذكره فقط عندما يحين موعد قص أظافره، مرتين في الشهر، صباح الجمعة، عندما يكون قد اغتسل وتخلص من جنابة الحب الذي جمعه مع زوجته في الليلة الماضية.
لم ينم السيد سين ليلة الخميس. سقط في الدرج وهو صاعد إلى غرفة نومه. كان أمرا سخيفا جدا. لم يستطع أن يخبر الطبيب بالتفاصيل. لم تكن هناك تفاصيل تذكر. لم تكن هناك بطولة في عثرة على درج البيت الذي ولد ونشأ وتزوج فيه. راقب عمل الطبيب والممرضين بانزعاج حاول أن يخفيه تحت قناع التعب.
لا يؤلمني. لكنني عملت كثيرا اليوم.
ولم يحاول أن ينتبه للابتسامة الماكرة للممرضة. لم يحاول أن ينتبه للتفاصيل.
عندما عاد السيد سين رفقة زوجته وأبنائه الثلاثة إلى البيت، كان المؤذن يدعو إلى صلاة الفجر. لم يفكر بالذهاب إلى الجامع. فقد كان قد تعب بالفعل. صعد الدرج محترسا من التعثر عند الدرجة السادسة. دخل غرفته واستلقى مباشرة على السرير. لم ينم. لكنه شاهد زوجته تنام. أثناء تلك المشاهدة، بدأ السيد سين رحلة التأمل. فقد لاحظ أخيرا كيف أن زوجته عندما تستسلم للنوم، تتحول إلى كائن مسالم جدا. إنها حتى لا تحاول أن تمسك يده، أو أن تطلب منه شيئا. هذا جعله ينتبه إلى كون كل الخسارات المادية والمعنوية التي تكبدها جراء زواجه، كان يمكن أن يتفاداها لو أنه تأخر قليلا في العودة إلى البيت.
في الصباح، صباح الجمعة. استسلم أخيرا للنوم. لم يكن سيغتسل من جنابة لم يقترفها على كل حال. وطبعا لم يكن ممكنا أن يقص أظافره. عندما استيقظ والوقت ظهرا، انتبه السيد سين أنه لم يصرخ كعادته. النوم –مرة أخرى- أنقذه من الضرورة الملحة التي تراوده كل صباح للصراخ على أولاده العاطلين عن العمل.
أنا أعمل… يسهل أن تجدوا عملا. يكفي أن تبحثوا.
اليوم لم يحتج إلى الصراخ. فقد استيقظ بعد مغادرة أبنائه البيت. لابد أنهم كل في مكانه المعهود؛ الأول أمام الدكان القريب، يربي لحيته ويحلم بالحوريات، الثاني في الجهة الجنوبية من المقبرة القريبة، يدخن السجائر المعتقة بالحشيش مع رفاقه. والثالث أمام باب الثانوية يعاكس البنات.
ستفوتك صلاة الجمعة، قالت زوجته وهي تضع أمامه الشاي وصحن الزيت والزيتون.
لم تكن للسيد سين رغبة في الصلاة. ليسامحه الله هذا اليوم، إنها الجمعة الأولى منذ ثلاثين عاما التي لن يصليها جماعة. منذ تزوج واظب على الصلاة وأخلص لحضن زوجته. وهو يراقب طبق الزيت والزيتون بضجر، فكر فيما كان سيحدث لو لجأ إلى حضن طليقة جاره الحاج التي كانت تسلم عليه بإشارات من عينيها وقوامها البض. بدأ الكسر بخنصره يؤلمه.
لا أريد هذا الأكل !
لاحظ ارتباك زوجته. فهي لم تسمعه مرة يعترض على ما تضعه أمامه من طعام. هو الذي ينهر أبناءهما عندما يعترضون على وجبة الأكل.
ماذا تشتهي؟
وهل أنا امرأة لأشتهي؟
انتبه إلى صراخه فصمت. ودّ لو يعتذر. لكنه آثر مغادرة البيت.
في الأيام الموالية، كان على السيد سين أن يغير عاداته التي أصبحت جزءا منه منذ عقود. فلم يعد بإمكانه أن يغمس يديه في مزيج الطحين والخميرة والملح والماء ليصنع خبزا. ولأنه لم يتمكن من توجيه أبنائه وهم يحاولون تعويضه في العمل دون صراخ، فقد آثر ألا يذهب إلى المخبز. منذ أن سلمهم العمل يومين بعد أن كسر خنصره، غادر الفرن. وفجأة أصبحت حياته عبارة عن خطوات ثقيلة بين البيت والمسجد وطرق المدينة التي لم يزر بعضها منذ سنوات طويلة. ولم يكن في مقدور أحد أن ينتبه لخطورة الأمر. فالسيد سين بدأ يعاني من حالة اكتئاب تزايدت حدتها يوما بعد يوم. ما انتبه إليه السيد سين نفسه، هو أن تلك المرارة التي مست معدته وقلبه وروحه، لم يكن سببها عدم العمل، بل كونه أخيرا بدأ يبصر.
حدث ذلك، عندما انتبه إلى صراخ أبنائه حول طاولة الأكل. كانوا يناقشون طريقة صنع الخبز والمقادير وطريقة البيع. ورغم صراخهم ذاك وصراعهم، فقد استطاعوا أن يحققوا أرباحا جيدة لأنهم كسبوا زبناء جدد، فقد نوعوا في عرض أنواع الخبز، وقد كانوا شبابا يبتسمون ويصرخون ويسبون. وهو أمر يبدو أنه جعل الناس ينتبهون إلى هذا المخبز القريب ويقتنون منه خبزهم ويطلبون أحيانا أنواعا جديدة ومبتكرة.
ما أبصره السيد سين أيضا وهو يهدهد خنصره من ألم متفاوت، هو الحياة. فقد انتبه أخيرا أنه كان في مشواره اليومي الذي لا يتجاوز في العادة مساحة حي واحد، لا يرى من المدينة ومن الناس غير ما يريد رؤيته، أو ما توفر له ليراه. فهو أخيرا أبصر الشوارع الجديدة للمدينة والبنايات والسيارات الفارهة وأشكال الملابس الجديدة وأجساد النساء الفاتنات والحدائق العمومية الجديدة الصغيرة مثل قبضة يد. إذن هذا ما كان يؤلم أبناءه. إذن هذا ما كان يؤرقهم. وها هو يؤرقه الآن. هذا العرض الهائل الذي لا يكفي ماله ليشتريه. استوعب السيد سين أخيرا أنه أصبح إذ خرج من مخبزه، مجرد رقم متسلسل في المدينة. لن ينتبه إليه أحد إلا إذا مات. أبناؤه الذين أحبوا مال الخبز وانشغلوا به عن شعور اليأس، أقنعوه رفقة أمهم بأن يترك لهم المخبز.
أنت شيخ الآن. تفرغ لعبادة الله.
وكان على السيد سين، وقد أبصر الحياة، أن يكتفي برؤيتها في شوارع المدينة الطويلة، وهو يلقي أحيانا بنظرات خاطفة إلى خنصره.
مات السيد سين بعد شهرين من تلك الحادثة الليلية. عندما نزعوا عنه ثيابه ليغسلوه، وجدوا في جيب سترته ورقة بمثابة وصية. كتب فيها ما يلي:
“أريدكم أن تقطعوا خنصري، وأن ترموه إلى البحر. لا تدفنوه معي.”
لم ينم السيد سين ليلة الخميس. سقط في الدرج وهو صاعد إلى غرفة نومه. كان أمرا سخيفا جدا. لم يستطع أن يخبر الطبيب بالتفاصيل. لم تكن هناك تفاصيل تذكر. لم تكن هناك بطولة في عثرة على درج البيت الذي ولد ونشأ وتزوج فيه. راقب عمل الطبيب والممرضين بانزعاج حاول أن يخفيه تحت قناع التعب.
لا يؤلمني. لكنني عملت كثيرا اليوم.
ولم يحاول أن ينتبه للابتسامة الماكرة للممرضة. لم يحاول أن ينتبه للتفاصيل.
عندما عاد السيد سين رفقة زوجته وأبنائه الثلاثة إلى البيت، كان المؤذن يدعو إلى صلاة الفجر. لم يفكر بالذهاب إلى الجامع. فقد كان قد تعب بالفعل. صعد الدرج محترسا من التعثر عند الدرجة السادسة. دخل غرفته واستلقى مباشرة على السرير. لم ينم. لكنه شاهد زوجته تنام. أثناء تلك المشاهدة، بدأ السيد سين رحلة التأمل. فقد لاحظ أخيرا كيف أن زوجته عندما تستسلم للنوم، تتحول إلى كائن مسالم جدا. إنها حتى لا تحاول أن تمسك يده، أو أن تطلب منه شيئا. هذا جعله ينتبه إلى كون كل الخسارات المادية والمعنوية التي تكبدها جراء زواجه، كان يمكن أن يتفاداها لو أنه تأخر قليلا في العودة إلى البيت.
في الصباح، صباح الجمعة. استسلم أخيرا للنوم. لم يكن سيغتسل من جنابة لم يقترفها على كل حال. وطبعا لم يكن ممكنا أن يقص أظافره. عندما استيقظ والوقت ظهرا، انتبه السيد سين أنه لم يصرخ كعادته. النوم –مرة أخرى- أنقذه من الضرورة الملحة التي تراوده كل صباح للصراخ على أولاده العاطلين عن العمل.
أنا أعمل… يسهل أن تجدوا عملا. يكفي أن تبحثوا.
اليوم لم يحتج إلى الصراخ. فقد استيقظ بعد مغادرة أبنائه البيت. لابد أنهم كل في مكانه المعهود؛ الأول أمام الدكان القريب، يربي لحيته ويحلم بالحوريات، الثاني في الجهة الجنوبية من المقبرة القريبة، يدخن السجائر المعتقة بالحشيش مع رفاقه. والثالث أمام باب الثانوية يعاكس البنات.
ستفوتك صلاة الجمعة، قالت زوجته وهي تضع أمامه الشاي وصحن الزيت والزيتون.
لم تكن للسيد سين رغبة في الصلاة. ليسامحه الله هذا اليوم، إنها الجمعة الأولى منذ ثلاثين عاما التي لن يصليها جماعة. منذ تزوج واظب على الصلاة وأخلص لحضن زوجته. وهو يراقب طبق الزيت والزيتون بضجر، فكر فيما كان سيحدث لو لجأ إلى حضن طليقة جاره الحاج التي كانت تسلم عليه بإشارات من عينيها وقوامها البض. بدأ الكسر بخنصره يؤلمه.
لا أريد هذا الأكل !
لاحظ ارتباك زوجته. فهي لم تسمعه مرة يعترض على ما تضعه أمامه من طعام. هو الذي ينهر أبناءهما عندما يعترضون على وجبة الأكل.
ماذا تشتهي؟
وهل أنا امرأة لأشتهي؟
انتبه إلى صراخه فصمت. ودّ لو يعتذر. لكنه آثر مغادرة البيت.
في الأيام الموالية، كان على السيد سين أن يغير عاداته التي أصبحت جزءا منه منذ عقود. فلم يعد بإمكانه أن يغمس يديه في مزيج الطحين والخميرة والملح والماء ليصنع خبزا. ولأنه لم يتمكن من توجيه أبنائه وهم يحاولون تعويضه في العمل دون صراخ، فقد آثر ألا يذهب إلى المخبز. منذ أن سلمهم العمل يومين بعد أن كسر خنصره، غادر الفرن. وفجأة أصبحت حياته عبارة عن خطوات ثقيلة بين البيت والمسجد وطرق المدينة التي لم يزر بعضها منذ سنوات طويلة. ولم يكن في مقدور أحد أن ينتبه لخطورة الأمر. فالسيد سين بدأ يعاني من حالة اكتئاب تزايدت حدتها يوما بعد يوم. ما انتبه إليه السيد سين نفسه، هو أن تلك المرارة التي مست معدته وقلبه وروحه، لم يكن سببها عدم العمل، بل كونه أخيرا بدأ يبصر.
حدث ذلك، عندما انتبه إلى صراخ أبنائه حول طاولة الأكل. كانوا يناقشون طريقة صنع الخبز والمقادير وطريقة البيع. ورغم صراخهم ذاك وصراعهم، فقد استطاعوا أن يحققوا أرباحا جيدة لأنهم كسبوا زبناء جدد، فقد نوعوا في عرض أنواع الخبز، وقد كانوا شبابا يبتسمون ويصرخون ويسبون. وهو أمر يبدو أنه جعل الناس ينتبهون إلى هذا المخبز القريب ويقتنون منه خبزهم ويطلبون أحيانا أنواعا جديدة ومبتكرة.
ما أبصره السيد سين أيضا وهو يهدهد خنصره من ألم متفاوت، هو الحياة. فقد انتبه أخيرا أنه كان في مشواره اليومي الذي لا يتجاوز في العادة مساحة حي واحد، لا يرى من المدينة ومن الناس غير ما يريد رؤيته، أو ما توفر له ليراه. فهو أخيرا أبصر الشوارع الجديدة للمدينة والبنايات والسيارات الفارهة وأشكال الملابس الجديدة وأجساد النساء الفاتنات والحدائق العمومية الجديدة الصغيرة مثل قبضة يد. إذن هذا ما كان يؤلم أبناءه. إذن هذا ما كان يؤرقهم. وها هو يؤرقه الآن. هذا العرض الهائل الذي لا يكفي ماله ليشتريه. استوعب السيد سين أخيرا أنه أصبح إذ خرج من مخبزه، مجرد رقم متسلسل في المدينة. لن ينتبه إليه أحد إلا إذا مات. أبناؤه الذين أحبوا مال الخبز وانشغلوا به عن شعور اليأس، أقنعوه رفقة أمهم بأن يترك لهم المخبز.
أنت شيخ الآن. تفرغ لعبادة الله.
وكان على السيد سين، وقد أبصر الحياة، أن يكتفي برؤيتها في شوارع المدينة الطويلة، وهو يلقي أحيانا بنظرات خاطفة إلى خنصره.
مات السيد سين بعد شهرين من تلك الحادثة الليلية. عندما نزعوا عنه ثيابه ليغسلوه، وجدوا في جيب سترته ورقة بمثابة وصية. كتب فيها ما يلي:
“أريدكم أن تقطعوا خنصري، وأن ترموه إلى البحر. لا تدفنوه معي.”