د. مصطفى أحمد علي - العبقري الأوحد.. في تذكّر عبد الله الطيب..

يا أمّ بدرٍ إنّ داريَ مسجدُ = وأنا الفتى والعبقري الأوحدُ
عبد الله الطيب

من ذكريات الطفولة وسنوات الصبا الأولى، اهتمام أمي وحرصها على متابعة برنامج كانت الإذاعة السودانية تبثه بُعَيْدَ صلاة المغرب، يقدمه الدكتور عبد الله الطيب، يفسر فيه سور القرآن الكريم وآياته التي كان يتلوها القارئ الشيخ صديق أحمد حمدون، رحمهما الله. كان يشدها إليه رغبتها في الفهم والتعلم كسائر الناس في بقاع السودان العريض "من بر سواكن إلى بحر تشاد" كما قال رحمه الله في قطعة له، وكان لهذا التفسير الميسر الذي ينفذ إلى أسماع الناس ووجدانهم بلغة مبسطة ولهجة ميسرة، أثر بليغ في فهم أمور الدين ومعرفة السيرة النبوية وقصص الأنبياء. وكان أكثر ما يستأثر بإعجاب الوالدة هو تلك اللهجة الريفية التي كان ينطق بها الرجل، الذي كان بحقّ، مع ذلك، حامل لواء العربية على مدى سنوات القرن العشرين. كانت العبارات تخرج منه سلسة عذبة بلهجة عشائر الجعليين الذين يسكنون ضفتي النيل، شمالي الخرطوم مما كان يعرف في كتب التاريخ ببلاد الأبواب التي شهدت ازدهار حضارة رائدة في تاريخ الإنسانية هي الحضارة المروية التي ما زالت آثارها شاهدة على عظمتها، وإن كانت لا تزال عصية على الفهم و الإدراك، يلفها الغموض. ولعل إعجاب أمي، أمد الله في عمرها، كان راجعاً أيضاً إلى انتمائها إلى البيئة الاجتماعية نفسها التي كان ينتمي إليها العلامة عبد الله الطيب، هي من المتمّة وهو من الدامر، وما زال هذا الأمر يستأثر باهتمامي حتى علمت فيما بعد وأنا في طور الشباب، حينما التقيت بالرجل وتتلمذت عليه، أن آصرة ما كانت تجمع بيت المجاذيب الذي ينتمي إليه، بأجدادي من الحضور والخنادقة بالمتمّة. أكد لي جدي سليمان عبد الله بك حمزة، رحمه الله، أن الشيخ محمد المجذوب ولد في حوش حمزة ود موسى، وأن أمه كانت من الحضور، ثم أكد لي هذا الخبر الدكتور عبد الله الطيب و زاد فيه أن أم الشيخ محمد المجذوب كانت تسمى عائشة وابنته عائشة أيضا(أبو عاشة و ولد عاشة)، ثم روى، مستشهداً كما هو شأنه، على مسامعي، أهزوجة نوتية المراكب التي كانت تصعد النيل وتهبطه، سائلين الله الحفظ والسلامة، متوسلين بأبي عائشة "يا سيد سيودا، يا اب عاشة قود
وكان الشيخ محمد المجذوب، كما ذكر عبد الله الطيب في مقدمة الطبعة الرابعة لديوانه "أصداء النيل"،
"...شابّاً حين فتح محمد علي باشا السودان، وكان آنئذ مجاوراً بالمدينة...
ولم يترك الشيخ محمد المجذوب نفسه عقباً سوى ابنته عائشة..."

ثم تهيأ لي فيما بعد، أن رجعت إلى أوراق الأسرة القديمة، وإلى تسجيلات سجلتها حول تاريخها، فعلمت أن جدنا أبو بكر ود موسى كان مقيماً بالدامر عند قدوم حملة إسماعيل باشا، وما صاحبها من أحداث، كان لها أثر مباشر بأهلنا بالمتمة، ثم وجدت في" رحلة إلى النوبة " للرحالة السويسري المعروف جون لويس بوركهارت، أنه أقام حينما مر بالدامر قادماً من بربر، في طريقه إلى شندي عند تاجر من دنقلة، أكرمه غاية الإكرام، ولم يطلب منهم شيئا، فغادروا الدامر وهم سعداء، فقدرت أن يكون هذا الرجل هو جدنا أبو بكر ود موسى، الذي كان مقيماً بالدامر وقتئذٍ وكان من أكبر تجارها. وبدا لي أني أمسك بخيوط العلاقة بين الحضور الخنادقة والمجاذيب، التي كان من ثمارها الشيخ محمد المجذوب، أبو عائشة.
وعودا على بدء، إلى سنوات الطفولة والصبا، أتذكر أن والدي، رحمه الله، كان قد أتى بمؤلفات اقتناها، كعادته حينما ألم بالخرطوم في شأن من شؤون تجارته، كان من بين ما حمله معه من كتب، مؤلفان للعلامة عبد الله الطيب : "من نافذة القطار" و "المرشد إلى فهم أشعار العرب و صناعتها". كان "من نافذة القطار" آثرهما إلى نفسي، في بادئ الأمر، لما فيه من تنوع في المواضيع واستطراد وذكريات طفولة بعيدة وأحداث حزينة وفقد وموت وسفر ترحال واغتراب وشوق وحرمان، ما بين دامر المجذوب وكسلا والخرطوم وأم درمان وبخت الرضا وأسوان والقاهرة ولندن ... وأشعار وأقوال بعامية عذبة وفصحى جزلة وانجليزية ناصعة، وشخوص مختلفين باختلاف هذه المدن والقرى واللغات... كنت أكاد أستظهر نونية ذيّل بها الكتاب، يقول في مطلعها:
عرّج على جوسَ واذكر عندها الوطنا = إنّ الجبال بجوسٍ هجن لي حَزَنا
أذكرنني أركويتاً وهــي نائيــةٌ = والنيلَ يا ليتَ أنّ النيلَ مِنكِ دَنَـــا
وإنّ بالدامرِ الغربيِّ منزلــــــةً = كانت لنا و غَنِينَا عندها زَمَنَــــــا

كانت تلك القصيدة أول ما اكتشفت من شعر عبد الله الطيب، وكانت تأسرني فيها المسميات المحلية التي تزدحم بها الأبيات الجزلة الفصيحة، من أمثال العنقريب والفندك والمرحاكة والأندراب والدوم ... ونحو ذلك، تماما كما كانت تأسر أمي اللهجة الريفية في تفسيره للقرآن الكريم. وما تزال تعلق بذاكرتي، بعد أكثر من أربعين عاماً من ذلك التاريخ أبيات من تلك القصيدة الحزينة التي أبدعها وهو نهب الغربة وضحية كيد الأفندية ونكران الجميل في أرض الغرب بنيجيريا، ومن ذلك ذكريات الطفولة:

لدى السيالة إذ جمعُ الصلاة بها = صبيحة العيد والطبلُ الذي رطنا
نُبّئتها قد هوت من بعدما سمقت = حيناً من الدهر لم نذمم لـها فـننا

ثم ذكريات الترحال والانتقال وأثرها العنيف على نفسه حينما كان طفلا:

وما أسفت علي شيءٍ كما أسِفت نفوسنا = يوم أمسى حَيُّنا ظعنا

كانت ملكته البارعة في تمثيل الأشياء ومقدرته على تصويرها تحرك وجداني ووتلهب مشاعري، ما زلت أتذكر صور فيضان النيل حينما التهم أوراقاً كانت تضم أشعاراً له وحسرته على ذلك، ومشهد أبناء هوسا، الوافدين من غرب أفريقيا وهم يعبرون نهر القاش الهائج المندفع والفلاتيات وهن يتعاورن نخل الذرة في الفندك ويطحنّها بالمرحاكة...

وعصبةٍ عند غرب القاش كادحة = جمهورها بعبور القاش قد مرنا
تراهمو يحملون الناس ضاحية =عـلى الأسرة ينزو بعضهم أرَنـا
كما المحامِلُ حوْلَ البيْتِ خفّ بها = مطوّفون عليها الطفل والْيَفَنا
و"فُنْدُكٍ" عاورت ثـنتان ردّته = والعيش من قبْلُ في "مُرْحَاكَة" طُحِنا
حتـى ترى نَفَياناً عنه طار وقد = عجنت عنـد دقيـق منـه قـد عُجِـنا
وعجوة لحسيـن شيخ ذى يَمَنٍ = والسدر ذو النبق الغض الذي سَمُنا
"والإندرابُ" الذى في طعمه لزَجٌ = والدوم أحمر فيه الماء مُخْتَزَنا

وما تزال تعيش في مخيلتي ذكريات الموت الذي يعصف بأرواح الأحبة والإخوان وفلذات الأكباد، كما جسدها في أولى تجاربه عن موت شقيقه حسن غريقاً، وكيف تلقت أمه وجدته التي جاوزت في عمرها مائة عام النبأ:

لما أتت من ضريح الشيخ فاجأهـا = برفع كفَّيه ناعٍ لم يكن فـطـنا
وأُمُّها جاوزت عشرين عن مائةٍ = أو فوق ذلك شيئاً أو إليه دنا

وكانت صفحات الكتاب تفيض بالمواقف الحزينة الحميمة وبعطفه على آبائه وأمهاته، وهو الذي عرف اليتم و ذاق طعمه وهو في حدّ الصبا..
أذكر أنه روى لي طرفاً من تلك المواقف في سنوات التسعينات حينما كان يلمّ بالرباط في شهر رمضان من كل عام ويقضي جلّ وقته هو وزوجته معنا بدارنا بزنقة ملوية، وما تزال تعلق بالذاكرة عبارة رواها لي عن إحدى عمّاته، إجابة له عن سؤاله إياها عن حالها، قالت له: "راجين العريبي الفوق!" قلت له معلقا ومداعباً: "أبت عمّتك إلا أن تنسب العروبة أيضا إلى الذات الإلهية"، نظر إلي موافقا ورأى في كلام عمّته حجة على ما ظل يوقن به من أن أرض النيل هي من مواطن العروبة وأن العروبة هي أصل في أهل النيل وليست اكتساباً، وهو معنى سائر ومبذول في كتاباته رحمه الله، ألم يقل في كلمة له:

وكأنّ قوماً ينكرون سوادنا = ولنحن أعرب منهم أعراقا
ويزيننا هذا اللســان وإنـنا = أربابُــه ونزينـــه نُطّاقـــــاً

أما السفر الثاني فقد كان "المرشد إلى فهم أشعار العرب و صناعتها"، في جزأيه الأول و الثاني. تعسر فهمي للكتاب بادئ الأمر، لقلة محصولي وأنا في تلك السن المبكرة، من علوم النقد والتحليل، ولجهلي التام بعلم العروض، لكن سرعان ما أسرني الكتاب وأدمنت قراءته ومراجعته، حتى حفظت منه قدراً وافراً من الشواهد الشعرية وكان لي بمثابة المعلم غير المباشر للإلمام بعلم العروض والارتقاء في سلم الشعر حينما تهيأ لي أن أتلقى تلك المادة بعد عدة سنوات في مدرجات كلية الآداب بجامعة الخرطوم على يدي أستاذنا الجليل محمد الواثق.
كان كتاب المرشد مدخلاً لي لدراسة الشعر العربي وفهم دقائقه وسبر أغواره، كما كان مدخلاً لي لفهم أشعار كثير من المحدثين من أمثال عباس العقاد، ودافعاً لي لاقتناء دواوينهم، ألا أن أكبر أثر للمرشد في نفسي كان في اكتشاف أبي الطيب، فعن طريق المرشد استظهرت بسيطيات أبي الطيب الصاخبة، عالية النفس، من نحو:

هوّن على بصر ما شقّ منظرُهُ = فإنما يقظات العين كالحلمِ
ولا تَشَكّ إلى خلق فتشمتَهُ = شكوى الجريح إلى العُقْبان والرخمِ
وكن على حذرٍ للناس تكتُمُـــه = ولا يغـرّك منهـم ثغرُ مبتسمِ
أتى الزمانَ بنوه في شبيبتِــــهِ = فسرهم وأتينـاهُ على الهرمِ

ونونيته الموجهة إلى سيف الدولة وهو متغرب بمصر، تكيد له البطانتان، بطانة كافور وبطانة سيف الدولة:

يا من نُعيت على بُعْدٍ بمجلسه = كلٌّ بما زعم الناعون مرتهنُ
كم قد قتلت و كم قد متَّ عندكمُ = ثم انتفضتُّ فزال القبر ولكفنُ
قد كان شاهد دفني قبل قولهـــمُ = جماعةٌ ثم ماتوا قبل من دفنوا
ما كلّ ما يتمنّى المرءُ يدركُهُ = تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ

ثم أقبلت بعد ذلك إقبالاً على ديوان أبي الطيب، حتى حفظت قدراً وافراً من قصائده وأشعاره التي تسبر غور النفس الإنسانية وتناقض إحساسها، وصعود مشاعرها وهبوطها، وكان مما أخذ بلبي وأنا بعد صبي، قوله:

رحلت فكم باكٍ بأجفان شــــادنٍ = عليّ وكم باكٍ بأجفان ضيغم
و ما ربّة القرط المليحِ مكانُــــهُ = بأجزعَ من ربّ الحسام المصمّم
و لوكان ما بي من حبيب مقنّـع = عذرت و لكن من حبيب معمّم
رمى واتقى رميي ومن دون ما رمـــى = هوىً كاسرٌ كفي وقوسي وأسهمي
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه = وصدّق ما يعتــاده من توهُّم
وعادى محبّيه بقول عداتـه = وأصبح في ليل من الشكّ مظلم

مضت سنوات الجامعة مسرعة وكان عبد الله الطيب حاضراً في كل ما نأتي وما ندع، سمعاً ومشاهدة وقراءة، في محاضراته وأقواله ونوادره، كما في كتبه وأشعاره، وكنا في تلك الفترة قد أدركنا أثرا باقيا من قصائده الثائرة التي نشرتها الصحف وكانت حديث المجالس، كانت تحمل عناوين فخمة ضخمة من نحو "الخميس الزاحف" و "اللواء الظافر" و "العبقري الأوحد"، وكانت تلك العناوين مطالع لقصائد ملتهبة من نحو:

لا تبتغي غيري فغيري زائفُ = وبنانتي فيها الخميس الزاحفُ

وقوله:

وقفت كما وقف اللواء الظافــــــرُ وجبينها حدّ السنـان الباهــــــــــــرُ
إمّا تريني كالحسين مضرّجـــــاً بدم الشهيـــد فذاك فــوز ظاهــــــر
ووجوه قوم قد رأيت كأنّهـــــــــا من قبحهـا في التجربـات مقابــــــر

وقوله:
يا أمّ بـدرٍ إن داري مسجدُ = وأنا الفتى والعبقــري الأوحـدُ

وكانت تلك القصائد السلاح الذي اختاره لخوض غمار معركته في انتخابات إدارة جامعة الخرطوم، التي كان يرمز لها في أشعاره بلميس:

ألا ليت شعري هل لميس كعهدها = ولم تتبدل من لميس عهود
ومـا هي إلا غــادة قــد ألفتهـــــــا = لدى النيـل بيـن الدوحتـيـن تميد

ثم انتقل الرجل مديراً لجامعة جوبا، وفي نفسه حسرة على فراق جامعة الخرطوم، وحطت به عصا الترحال فيما بعد، في فاس بالمغرب، واحتلّ المغرب في وجدان الرجل مكانا لا ينازعه فيه مكان، و تلك كما يقولون ،قصة أخرى.. وانتقلت أنا إلى فرنسا، و عدت منها في سنة 1986، و في تلك السنة أو بعدها بقليل عاد الرجل أيضا إلى السودان، و كانت الأحداث صاخبة والأجواء متوترة والصراع السياسي في أوْجِهِ و حرب الجنوب تلتهم موارد البلاد القليلة أصلا وتفقر الناس.. كان مكتبه يجاور مكتبي في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، وكنا نقضي جل وقتنا أنا وزملائي بقسم اللغة العربية، في مكتبه، يقرأ علينا أشعاره التي ألفها في تلك الفترة، وكان غالبها في رثاء أصدقائه، ومما علق بذاكرتي من تلك المرثيات، قوله في المرحوم جمال محمد أحمد، رحمه الله:

نعوا لي جمال الأديب الفطن = وجئت الصلاة فقالوا دفن

وإن أنسَ لا أنسَ بكائيته لمحمد عبد القادر كَرَف، التي ألقاها في حفل تأبين له بقاعة الصداقة بالخرطوم، و كان مطلعها:

سقت قبرك الديمة المرجحنّه / يا كرف الخير و الموت سُنّه

نظمها على نهج قصيدة كان بعثها إليه المرحوم كرف سنة 1972، وزناً ورويّاً وقافية، وكتب في مقدمتها:
" إلى الأخ الفذّ ، حامل لواء الفصحى وصاحب المرشد، الدكتور عبد الله الطيب، أقدم هذه القافية العسية له و لمن أحبه و عرف قدره"، واستهلها بقوله:
عطفتُ فلم ألْوِ عنك الأعنّـــه = وكـــم لي من حَنّةٍ بعد حَنّـــــه

ما زلت أذكر الرجل وهو واقف في ذلك المشهد الجليل يلقي تلك القصيدة وعيناه تهميان، كان المشهد مؤثراً والمشاعر متجاذبة ما بين رقة مشاعر الرجل وانهمار دموعه وما بين قوة أبيات القصيدة وجزالتها وفصاحة ألفاظها. ومن أبياتها القوية الآسرة قوله رحمه الله، في وصف كرف:
عرفتك في عنفوان الشبــــــــا = ب والضادُ عندي علق المِضَنّـه
إذ الحرب نيرانها مشعـــــلاتٌ = وهتلـــر نيـرانه شنّهنّـــــــــــــه
وإذ وضعت حرب أهل الصليـ = ـب أوزارها المشرعاتِ الأسِنّه
وأعجبني منك حبُّ الأصيـــــل = وعبُّك من منطق العرب دَنّـــه
كأن العَنَطْنَطَةَ العنس بالـــــــدّ = وَّتحتك بارت زفوفا زِفَنـّــــــــه
كأنك بالنَّعْف نَعْفِ الرَّبــــــاب = ولم تلف ثم الضعيف الضِفَنَّــــه
ولم تَفْدِ رجليك يوم الكُـــــلاب = بأمَّيك و الجري حاذى حُذُنّـــــه

وتسير أبيات القصيدة كلها وهي تربو على الثمانين بيتاً، على هذا المنوال، عالية النَفَس، قوية الإيقاع، قوية النبرات، قوية الكلمات. أما قصيدة المرحوم كرف، فقد كانت رائعة من روائع العربية، وصفها عبد الله الطيب قائلاً:
"لم أكن أشكّ أن نونية محمد عبد القادر كرف هي المرجان، وكــأنْ قـــد خشيت أن تكون أية محاولة للإجابة عنها إنما تكون حصى، فأخّرني ذلك عن المسارعة بجواب"،
في إشارة منه إلى كلمة أبي العلاء:

قد أجبنا لفظٍ الشريف بلفـظٍ = وأثبنا الحصى عن المَرْجـان

يستهل كرف نونيته بقوله:

عطفتُ فلم ألوِ عنك الأعنّــــه = وكـم لـي من حَنّـة بعد حَنّــــــــــه
وعُجْتُ ومن لوعتي مِزهَـــــرٌ له = نبراتُ القوافي المُرِنّــــــــــــــه
وهشّت لي الدار و استبشـرت = مقاصيرُها والرياضُ المغنّــــــــــه
وإذ جئتُهــا خلتنُـــي مذنبــــــاً = صليت بنار و أبدلت جَنّـــــــــــــه
وكائــنْ دلفـــتُ إلى ظُلّــــــــة = لديها و روضٍ أنيق و كَنّـــــــــــه
وقد وشــت الجُـدُرَ المشرقـــا = تِ بنانُ قريزلدا وهي المفنَـــــــــهّ

وتمضي القصيدة، في نفس جاهلي قديم يذكر ببيئة أغربة العرب من الصعاليك، وتعكس معانيها وألفاظها و قاموسها الشعري ما كانت تلك الطبقة السودانية التي نهلت من مصادر الثقافة العربية في المعهد العلمي بأم درمان، بل وفي كلية غردون ،تتذوقه من كلمات وألفاظ، وتتمثله من نماذج ومعانٍ وبيئات شعرية.

وقُلْ للفتى العبقريَّ السماتِ = وابن الثقاتِ وعلقِ المِضَنّـه
تولّت سنين الصبا الحافلات = ولم تبقَ إلا العجافُ المُسِنّـه
فليتي في النعْفِ نعف الرَّباب = وفي كاهلي فضلُ حبلٍ وشنّه
أصادي النجومَ فإمّا خَبَــــــت = غَمَسْتُ لها أعيني في الدُجُنّـه
طليقَ الجناحينِ أغشى الوِهـادَ = وأعلو الذُّرى قُنّة بعد قُنّــــــــه
وألقاك في زُمَر الأولـــــــــــ ينَ على شارفٍ أو قلوصٍ زِفَنّـــه
وتختال تحتي ذاتُ البغــــــــا = مِ لها خطــراتٌ وللنســـعِ أَنَّــــــه
ونضربُ في التيهِ لا نرعوي = جموحاً ونصحب في الدوَّ جِنّــــه
أو انّيَ ذو صــولةٍ فاتـــــــــكٌ = أغيرُ و حولي الطبولُ المُـــــرِنَّه
ودونيَ من خثعمٍ فيلـــــــــــقٌ = يغمغمُ تحت الظّبا و الأسِنّـــــــه

إلى أن تصل القصيدة ذروتها في خواتيم أبياتها، بمعان في الهجاء لم تتأ تّ لشاعر من شعراء العربية من قبل:

فذرني و المُقْرفينَ الغــــــــوا ةَ = أولي الضَّغن و الفتكاتِ المُجَنّه
عسى الدهر يحْسُر من كيدهم = ويفلِقُ هــامَ العِبَدّى الأقِنّـــــــــــه
فأوجُهُهم كالحاتٌ قبـــــــــــاحٌ = و أجسامهم منتناتٌ مُصِنّـــــــــه
و إنهم مذ أصابوا الحيـــــــــا = ةَ خساسُ النفوسِ و مُذْ هم أجِنّــه
و إنهمُ قذرٌ لو دنــــــــــــــــت = أصابعُهم من طعامٍ تَسَنّـــــــــــــه

وأنست خلال تلك الفترة إلى كثير من آرائه في السياسة وفي التاريخ، وتزودت من معرفته في التراجم و الأنساب ولا أشك لحظة في أن عطاءه في هذه الميادين لا يقل عن عطائه في الأدب و الشعر و النقد، مجال تخصصه، لكنه لم يفرد كتبا ولا دراسات في تلك المجالات، فقد كان يعرّف نفسه بأنه شاعر ومدرس، ويوجه كتاباته في هذه الأغراض، وإن كان استطراده، وهو منهج سار عليه في كل تآليفه، يفصح عن علم راسخ ونظريات متكاملة في التاريخ والاجتماع والسياسة وغير ذلك من ميادين المعرفة والعلم، وكان مما قرّ في وجدانه أنّ هويتنا سنارية، وأنّ حلف العبدلاب والفونج وحدود دولتهم التاريخية التي أقام صرحها المك عمارة، وقضى عليها خديو مصر، محمد علي باشا، هو ما ينبغي أن يشكّل حدودنا الجغرافية، ويستشهد في هذا الصدد بما جاء في وقف الشيخ عجيب (لا أدري أ بمكة هو أم بالمدينة؟) عن حدود سنار التي تصل إلى أسوان ولا تدخل فيها، وإلى سواكن وتدخل فيها، وينبه إلى البعد الاستراتيجي الذي يشتمل عليه هذا الوصف. وكان يرى كما ذكر في مقدمة ديوانه "أصداء النيل"

" أنّ نيلنا من معادن العروبة القديمة. خرج منه قومٌ غازون وتجارٌ فأقاموا عماراتٍ وقرىً في طريق الصحراء العابر جزيرة العرب من مغربها إلى مشرقها، وفي شمالها وجنوبها، واجتمع فيما عمر، خلقٌ كثيرٌ يجتذبهم غنى العمران والتجارة، ثم متى غار الماءُ أو وقعت كارثةٌ أو وباءٌ انفضّ الناس عن مكان العمران أو هلكوا فيه… فمن هؤلاء من يعود إلى أرضه بالنيل أو يقدم إليه وهو من بلادٍ أخرى بعيدات مع من يعود من الناس، فيظنّ ظانّ أنّ هذه هجرة ذات تأصيل عربيّ لبلادنا والحقيقة أنّ بلادنا في العروبة أصل"

وكان قد قرّ في نفسه عمق مابين جزيرة العرب وما يوازيها من برَّ السودان من روابط و صلات عميقة، و كان يرى في أرض النيل أصلاً، ومورداً، لما في جزيرة العرب من بشر و عمران،

" فبنو إسماعيل قبائل كثيرة متحالفة، لعل معظمها هاجروا من بلادنا، كما هاجرت الخيل العربية في أصولها من بلادنا.إذ يذكر أن ملوك آشور كانوا يؤثرون الخيل الكوشية على كل الخيل و ذكر المؤرخون أن أصول الخيل العربية مردُّها إلى خيل وحشية كانت بأجياد في مكة روّضها نبي الله إسماعيل عليه السلام، و قالوا إن أصلها من عشرة خيول خرجت من البحر فصارت إلى الشاطئ الحجاز، فهي إما جنٌّ في أصلها أو خلقٌ آخر عجيب! وهذا الخلق الآخر العجيب عبر البحر من شاطئ البجاة على الحجاز و أصله بلاد النيل..."

وعطفاً على ما سبق، فقد كان رحمه الله أول من نبّهني إلى فضل النوق البجاوية على سائر النوق في جزيرة العرب أو في صحارى أفريقيا، و كنت ذكرت له عهدا كنت أقرأ فيه بعض صحف دولة عربية مجاورة كانت تباع في أكشاك الخرطوم في نهايات السبعينات، ولاحظت أنها كانت تخصص عموداً في صفحاتها الرياضية لسباق ( الهجن)، وكان مما يسترعي الانتباه ويثير الأسئلة في خاطري ذكر هذه الصحف لنوعين اثنين من السباق، أحدهما مخصص للنوق السودانية، وثانيهما مخصص للهجن العربية، وكنت ألاحظ تفوق الإبل السودانية في نتائج السباق بحيث لا تدع مجالا لمقارنتها بالهجن العربية ذات الأداء المتدني، وفهمت من ثمّ مغزى تخصيص حلبتين للسباق، وما قد يسبّبه من حرج وطني للدولة المجاورة جراء انعدام التكافؤ بين نوق و نوق، فأعاد علي خبر فرار أبي الطيب المتنبي من مصر، وكيف تدبر شراء ناقة بجاوية من نواحي حلايب وعيذاب، كانت في ذلك العهد بمثابة سيارة ذات دفع رباعي. ومما قاله أبو الطيب في ذكر هذه الواقعة و في مدح ناقته البجاوية:

ألا كل ماشية الخيزلـــــــــــى = فدا كلَّ ماشية الهيدبى
وكلُّ نجـاةٍ بجـاويـــــــــــــــة = خنوفٍ ومابي حسن المشــــى
ولكنّهّن حبالُ الحيــــــــــــــاةِ = وكيدُ العداةِ وميـــــــطُ الأذى
ضربت بها التيهَ ضربَ القما = رِ إمّا لهذا وإمّا لــــــــــــــــذا
إذا فزعت قدمتها الجيــــــــادُ = وبيضُ السيوفِ وسمرُ القنـــا
فمرّت بنخلٍ وفي رَكْبهـــا = عن العالمين وعنه عنــــــا
وأمست تخيّرنا بالنقـــــــابِ = وادي المياه ووادي القــــرى
وقلنا لها أين أرضُ العــــراقِ = فقالت ونحن بتربان:هـــــــــا

كان رحمه الله مطلعا على دقائق تاريخ بلاد المسلمين و أوربا، ما إن تذكر له حدثاً سياسياً أو ثقافياً إلا و أصّل له، أذكر أني ناقشته مرة حول خطاب كان ألقاه الأمير تشارلز، أمير ويلز، ولي عهد بريطانيا ، كان فيه إنصاف و إعجاب بالإسلام، على غير ما درج الغربيون عليه، أجابني ك أولا تدري أن دماء الأشراف تجري في عروق الرجل، وأن إحدى جداته من أشراف الأدارسة من بني حمود الذين كانوا على عروش قرطبة ومالقة وسبتة؟ كان أيضا مطلعاً على كتابات الرحالة الغربيين الذين درجوا على زيارة بلادنا حلال القرون المتأخرة المنصرمة، وكان يكنّ إعجاباً خاصاً بجون لويس بوركهارت، الذي سبقت الإشارة إليه، برغم أن الرجل كان متحاملاً على أهل السودان بوجه عام، لكنني حينما راجعت كتابات بوركهارت، وجدته يمتدح المجاذيب و يعلي من شأن شيوخهم ..إذاً فقد بادل الرجل الرجل وفاءً بوفاء، وتلك خصلة أصيلة في عبد الله الطيب.

مما كتبه بوركهارت في المجاذيب والدامر حينما ألمّ بها في أبريل 1814، في طريقه من بربر إلى شندي،

"... أنّ الدامر بلدة نظيفة و منظّمة، وشوارعها مزروعة بالأشجار، ويسكنها المجاذيب الذين ترجع أصولهم إلى جزيرة العرب، ومعظمهم من الفقهاء المتعلمين..وفي الدامر عدد كبير من المدارس يأتيها الطلاب من دارفور وسنار وكردفان وجميع مناطق السودان، يدرسون علوم الدين والحساب والخط، ويستقبلهم أهل الدامر بالترحاب ويوزعونهم على العائلات التي تقوم بكل ما يلزم من مأكل وملبس ومسكن، وذلك كله لوجه الله تعالى دون مقابل، ثم يعودون إلى بلادهم فقهاء يعلمون غيرهم، وبعضهم يمكث في الدامر خمس عشرة سنة وأكثر، و قد تخصّص بعضهم في نسخ الكتب الثمينة، ولقد شاهدت نسخة للقرآن الكريم مكتوبة بخط جميل جدا، فعرضت على صاحبها أربعمائة قرش ثمناً لها فأبى أن يبيعها، كما شاهدت نسخة من صحيح البخاري، عرضت فيها ألف قرش فأبى كذلك....و لا يتقاضى الشيوخ أجراً على دروسهم، بل على العكس يقدمون الطعام لمن يقصدهم، أما الفقيه الكبير، فإنه يقيم في غرفة صغيرة لا يبرحها إلا عند الظهر ليصلي في المسجد، ثم ليجلس على دكة حجرية صغيرة أمام ساحة المسجد، يقضي بين الناس ويصرف أمورهم. و لا يتناول الشيخ إلا طعاما يسيراً، مَرَّةً، في الصباح ومَرَّةً في المساء..."

وفي موضع آخر يقول بوركهارت واصفاً لقاءه مع شيخ المجاذيب الذي استطاع في سهولة ويسر أن يكشف أمر السويسري المتنكر في لبوس العربي المسلم:

"ذهبت مع جمع من التجار لتقبيل يد الشيخ فوجدته شخصاً مهيباً دائم الابتسام وعليه من الجلال والوقار ما لم أره على أحد قبله، كان يرتدي عباءة شديدة البياض وعلى رأسه عمامة صغيرة، وعندما رآني سألني من أي البلاد قدمت وفي أي المدارس تعلمت وأي الكتب قرأت؟ كان يجلس إلى جواره شيخ مغربي من مدينة مكناس وظفه كاتبا عنده. وبلدة الدامر لا يوجد مثلها في العالم الإسلامي كله فهي هادئة آمنة لا يجرؤ أحد على أن يعكر صفوها وأمنها، حتى (البشاريون) وهم من أشرس قبائل البدو في هذه المنطقة، لا يجرؤون على إغضاب الفقيه خشية أن يحبس عنهم المطر فتموت قطعانهم فيموتون جوعا، وكذلك (الجعليون)".

ثم يتناول بوركهارت جوانب أخرى من شمائل شيوخ الدامر وخصالهم، فحينما أصر رفاقه من عرب العبابدة على إرسال قوالب السكر إلى الشيخ الكبير، على سبيل الهدية، رفض ذلك، فلما ألحوا عليه، وزعها على الفقراء ودعا للعبابدة بالخير..وفي موضع آخر لاحظ بوركهارت في مجلس عزاء أن الشيوخ يقرؤون القرآن على حصيات توزع عليهم، لتنثر فيما بعد على قبر الميت، فلما استنكر الأمر، قال له الشيخ:
"هذه بدعة يمارسها الجهلة، وهي ليست من الإسلام في شيء، ولكن الناس اعتادوا عليها، و لم ينتصحوا حينما نصحناهم..... ولما انتهت المقابلة، دسّ الشيخ في يدي صرة فيها شواء لعشائي..."

أفضت بعض الشيء في تفاصيل ما أورده بوركهارت عن الدامر و عن المجاذيب، لبيان البيئة الثقافية والاجتماعية للسناريين في نهايات الربع الأول من القرن التاسع عشر، ولبيان التراث العلمي والثقافي لبيت المجاذيب، شيوخ الدامر الذي ينتمي إليه عبد الله الطيب، ولمنهجهم في الدعوة وتأليف قلوب الناس ولذكائهم وحصافتهم وإلمامهم بما يدور حولهم في العالم. وفي ما كتبه الرجل في أصداء النيل عن أهله ومسيرته التعليمية بيان لأثر ذلك الميراث التليد عليه. قال رحمه الله:
"كان الناس ينتجعون مدارسهم (أي مدارس المجاذيب)، فيجدون فيها العلم والمأوى، ولم يكونوا يعتمدون في أمر القيام بشأن مدارسهم على جرايات من سلطان أو نفقة من ذي جاه أو صدقة من متصدق، وإنما كانوا يزرعون جروف النيل و سواقيه بأيديهم فيحرثون ويأكلون من ذلك وينفقون ويطعمون. وقد أكسبتهم صفة الفلاحة بخاصة حبّاً لطين النيل وتواضعاً في النفوس وتربية ودماثة طباعٍ لا تخفى، مع أنفةٍ و حميةٍ لا تقرّ بضيم وأصالة متمكّنة راسخة..... وبهذه الحِلة (الدومة، من نواحي الدامر الغربي) ولدتُ في 2 يونية 1921، وبها ولد أبواي وأبواهما من قبلُ عبد الله وجلال الدين ابنا الطيب، رحمهم الله جميعا، وهي أرض زراعة متصلة بالنيل يغمرها فيضانه إذا أربى، وقد صحوت سنة 1934، فجراً، فإذا بالنيل تحت العنقريب (سرير خشبي من التراث النوبي) قد لحق أعلى مائه بالحبال..... وتوفيت أم الوالد وهو صغير فلم يتزوج جدّنا بعدها فكان الوالد قد نشأ يتيماً لأمه فريداً...، ودرس القرآن بمساجد آبائه وجَوّده ببربر...ثم صار إلى التدريس في أوائل العشرينات، وكان أول عمله بالمدرسة الأولية بكسلا، وبها أقمنا خمس سنوات لا زلن من أطيب ذكريات العمر، وصار من بعدُ إلى مقرات و أبي حمد و الدامر سنة1931، وبها قرأت أخرى سني المدرسة الأولية وصرت إلى المدرسة الوسطى سنة 1932. و توفي الوالد رحمه الله و أنا بالسنة الثانية الوسطى يوم الثلاثاء 18 من شهر مارس 1933. واتفق آنئذٍ أن جاءته ترقية النظارة. وكان سبب وفاته من الكبد. وكان قد رقّ للعبادة أشد رقّة ولم يزل أخريات سنواته يتلو القرآن بالسحر وكان له متقناً وبه صيّتاً ندي الأداء. وتوفي أخي حسن بعده بعام في شهر سبتمبر سنة 1934، غريقا بالمترة. ثم توفيت جدّتي بخيتة بنت حوّاء، و بنت خلف الله ود بدير، أم الوالدة، وكانت رباطابية من أرتل الشريق، ذات شخصية قوية. و كانت لنا بعد وفاة الوالد ركناً، رحمها الله. وتوفيت أوائل شهر فبراير سنة 1937، ثم تبعتها وفاة الوالدة بعد ذلك بأسابيع، في أول شهر مارس و لم تبلغ الأربعين وأنا بالسنة الثانية من المدرسة الثانوية.ثم ثكلت من بعد شقيقتين لي وعدداً من الأدنين والأقارب وإنّا لله وإنّا إليه راجعون... وتقلبت بي ظروف التعليم من المدرسة الثانوية إلى المدارس العليا ثم إلى الدراسة بانجلترا. وهناك تزوجت زواجاً أنا به سعيد وعدت إلى السودان عام 1951، بعد أن عملت عاماً بجامعة لندن في معهد اللغات الشرقية ثم عملت بمعهد بخت الرضا في معهد التربية ثلاث سنوات ثم صرت إلى جامعة الخرطوم"

في مطلع التسعينيات من القرن السابق، فاتحته في رغبتي في الهجرة من السودان، فشجعني على ذلك، ثم لما أتيح لي أن أقدم ترشيحا للعمل بالإيسيسكو، مدح المغرب وتهللت أساريره وزودني برسالة تزكية، لا أشك في أن تأثيرها كان كبيرا في توظيفي بالإيسيسكو، ثم لم يمض وقت طويل حتى وجهت له الدعوة للمشاركة في ندوة عقدتها الإيسيسكو بطرابلس ،رافقت فيها الدكتور عبد العزيز التويجري و كان حينئذ يشغل منصب المدير العام المساعد للإيسيسكو، حضرها نفر من العلماء كان من بينهم عبد الله الطيب، وكانت فترة إقامتنا بفندق المهاري فرصة لمعرفة جوانب إنسانية عميقة في شخصية الرجل، ولم يزل الدكتور التويجري، يحفظ أبياتا طريفة نظمها عبد الله الطيب، ومن ذلك أبيات أعطاني منها نسخة، جعل مطلعها في وصف شيخ بنغالي كان يستعين به في الترجمة من العربية إلى الإنجليزية ثم حمل فيها على تُرّهات القذافي وسدنة نظامه، ودعا عليهم بطائف من العذاب يستأصل شأفتهم ويقطع دابرهم، ولقد ظلت هذه الدعوة معلقة في السماء حتى حان حين الاستجابة بعد موت قائلها بعشر سنوات، رحمه الله:

ألم ترَ أنّي قد غدوت مترجماً = لشيخٍ من اهل الهند كالصارم الهندي
ملحًّ كشيخ البحر ليس بمشفقٍ = علىْ أحدٍ يفتنّ في طُرُق السرد
له لحيةٌ بيضاءُ من فوق شـاربٍ = حليقٍ و عينا هُدْهُدٍ وخطا فهد
أتينا طرابلسَ التي قبلُ أمرُها = سمعنا به ما للعجائب من حد
وفاةُ رسولِ الله صارت لديهمُ = هي العيدُ والتاريخ من عندها يبدي
يريدون محواً للتراث بأسره = وذلك تمهيدٌ لما دُسّ من كيد
يدبّر طليان النصارى انحرافهم = عن السُّنّة الغراء بالخطط النكد
فحتى متى يا ربّ نُبلى لشدّ ما = صبرنا وعانينا أم الصبر لا يجدي
فأرسل عليهم طائفاً بعذابهم = أَبِرْهم و ألهمنا السبيل إلى الرشد

غادرنا طرابلس، بعد مشقة وحضر معي إلى الرباط لأمر يهمه في ذلك الوقت (هل لحضور الدروس الحسنية؟)، وأقام معي بداري في زنقة ملوية، في أكدال، وكان يبدأ يومه بقراءة القرآن برواية أبي عمر الدوري، ثم ينصرف إلى الكتابة وهو شبه مضطجع على سريره، ويقضي الساعات الطوال في ذلك، وكان خطّه حسناً جميلاً مجوداً، يخطّ متونه بالنسخ ويشرحها بالرقعة في غالب الأمر، وقد بدا لي بعد أن قرأت بوركهارت أن ذلك تقليد وتراث في عائلته قديم. وتكررت زياراته هو وزوجه غريزيلدا لنا بالمغرب، وقضاؤهما أياماً معنا بالدار، وتناول ما تعودا على تناوله من طعام رمضان، مما اعتاد عليه أهل النيل، مما لا يوجد بفنادق الرباط. وكان يمدّني في كل مرة بنسخ من كتاباته، مقالات كانت أم قصائد شعر، وكان الشعر أغلب، حتى اجتمع لدي عدد وافر من الصفحات، ممّا أحسبه لم ينشره من قبل، وما تزال هذه الصفحات عندي، فضلا عن رسائل شخصية مكتوبة على أوراق خاصة مزيّنة برسوم غريزيلدا لمآثر ومعالم في الخرطوم والرباط وفاس. ومن كلماته التي أحسبها لم تنشر في حياته، والتي يتأمّل فيها حوادث التاريخ في سودان وادي النيل، قصيدته التي يقول في مطلعها:
نريد مجالاً للسيوف عواري = ومن لحبيسٍ ساخطٍ بفرار
فلا تلحينَّ الإنجليز فإنّهــم = على كِبْرِهم كانوا كرام نجار
ولا تلحينْ مصراً فإن تُراثها = نُضارٌ و فيها فتية كُنضـار
ولا تلحينْ أبناء قومكِ إنهم = أُذيقوا ضروباً من أذىً و ضرار
وغيرَهُمُ فالْحَ الغداةَ و لا تُبَل = بأزورَ يأبى ما تقولُ و زاري
لقد سامنا الخسفَ الخليفةُ = فانحنت جباهُ رجالٍ شامخين كبار

وتشتمل أوراقه تلك على عدد وافر من القصائد التي يصدع فيها بآرائه المثيرة للجدل في السياسة وحوادث تاريخ وادي النيل في القرنين المنصرمين.

واستمرّ اللقاء بعد اللقاء على مدى سنوات التسعينات، إلى أن انتقلت للعمل بتشاد، سنة 1998، فانقطعت لقاءاتي به في المغرب، وإن كنا نحرص أنا وزوجتي، على زيارته في السودان في داره، أو في مجمع اللغة العربية بالخرطوم، وكانت آخر مرة التقيت به فيها في صيف سنة 2000، عقب انصراف الحجيج من مكة والمدينة، حينما مررت بالخرطوم في طريقي إلى انجمينا، ذهبت مهنئاً له على نيله جائزة فيصل، كان سعيداً بالجائزة، وإن كان في نفسه شيء من إشراك غيره في الجائزة التي لم تكن خالصة له. ثم سافرت إلى انجمّينا وسافر هو إلى الرياض ثم إلى لندن وهناك ألمّ به المرض، وعادوا به إلى السودان، وما زلت أذكر آخر لقاء لي به في داره بالخرطوم، وهو طريح الفراش، لاينطق له لسان، ولا يخط له بنان ولا يتحرك له عضو ولا تحمله قدم، ولطالما كان جوهرة المجالس، الفصيح الذرب والعبقري الأوحد، والخميس الزاحف واللواء الظافر. أذكر أنه في صمته القاهر، وسكينته الشاملة، أمسك بكفي وجعل يضغط عليها ما واتته القوة، شيئا من الوقت، تعبيراّ عن احتفاء ومشاعر تقدير ومودة كان يكنّها لي ولأسرتي، وكان ذلك اللقاء آخر ما جادت به الأيام، رحمه الله.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً يتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء"


د. مصطفى أحمد علي
مدير مركز سنار الإقليمي للحوار والتنوع الثقافي، التابع لمنظمة الإيسيسكو، السودان


نقلا عن
العبقري الأوحد: في تذكّر عبد الله الطيب .. بقلم: الدكتور مصطفى أحمد علي - موسوعة التوثيق الشامل
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...