كان طلبة شعبة الآداب بكلية ظهر المهراز بفاس يتسابقون نحو الصفوف الأولى من أجل حجز المقاعد الأمامية القريبة من الأستاذة زينب، إذ كان هذا التسابق ليس من أجل الإصغاء و الاستفادة من محاضراتها ، و لكن من أجل الاستمتاع بجمالها الاستثنائي، و الأستاذة زينب حاصلة على شهادة الدكتوراه في الآداب العربي .
تحدثت في بعض محاضراتها عن المرأة في الشعر العربي القديم، فقالت:( إن الشاعر القديم احتفى بالمرأة، و رفع من شأنها أكثر من الشاعر الحديث، و قدمها في معلقاته ،و باقي أشعاره الأخرى على جميع الأغراض من مدح و هجاء و حرب.... ) ،فكان أحد اصدقائي الذي يجلس بجانبي في المدرج يقول معلقا على كلام الأستاذة زينب.( لو رآك أحد شعراء المعلقات ،و رأى جمالك لخلد اسمك كما خلدت اسم عبلة و خولة و أسماء ....لكن للأسف في عصرنا الحاضر كثر الجمال ،و قل الشعراء).
حكايات كثيرة كانت تحكى على السنة الطلبة كلها تدور حول الحياة الشخصية للأستاذة زينب، و لعل هذه الحكايات أجمعت على أنها مطلقة ،و أسباب طلاقها ترجع في الاساس الى عشقها للكتاب أكثر من عشقها للرجال ،و أنها تهتم بالكتاب و تحتضنه أكثر من اهتمامها و احتضانها لزوجها ،و خلصت حكايات الطلبة أن الأستاذة فضلت أن تعيش مطلقة، و في حضن كتب عديدة على أن تعيش متزوجة ،و في حضن رجل واحد.
كانت الاستاذة زينب قد أصدرت مجموعة قصصية ، إلا أن هذا العمل الأدبيي لم يحظ بتلك الحفاوة و الإقبال سواء من طرف القراء، أو من طرف النقاد، بل اعتبر أحد النقاد في مقال له بإحدى الجرائد الثقافية أن هذه المجموعة القصصية بعيدة كل البعد عن فن الكتابة السردية المتخيلة.
جاء جواد الى كلية الآداب قادما من إحدى القرى الفقيرة و البعيدة عن مدينة فاس بعدما حصل على شهادة الباكالوريا ،و قد كان من المناضلين اليساريين داخل الجامعة تناط به مسؤولية كتابة الخطب و المناشير و الشعارات ،و كان يلقب بمنظر الرفاق ، معروف وسط الطلاب بسعة اطلاعه على مختلف الكتب سواء كانت أدبية، أو فكرية، و حتى الدينية يمارس الكتابة بانتظام بإحدى الملاحق الثقافية ، و جواد من طلبة الأستاذ زينب بالسنة الأخيرة من الجامعة ،و كان بدوره معجبا بجمالها ،اذ كان يقول لأصحابه:( لا يأتيني شيطان الشعر إلا و أنا جالس أنظر إلى الأستاذة و انصت اليها ).
قامت الأستاذة زينب بحث الطلبة على كتابة موضوع عن الأدب و الحرية، و لكي تشجع الطلبة على بذل مجهود في بحثهم، فقد رصدت لأصحاب البحوث الجيدة جائزة عبارة عن نقط إضافية في إمتحانات الجامعة التي لم يبق أمام إجرائها سوى بضعة شهور .
أعجبها بحث جواد سواء من ناحية الافكار التي طرحها و ناقشها بجدية معتمدا على أقوال و ابيات للشعراء، أو من ناحية الأسلوب الراقي المضبوط بجمل متناسقة، و كلمات منتقاة .كان آخر طالب نادت عليه الأستاذة هو جواد من أجل تقييم بحثه. قابلته بمكتبها بالمدرج بابتسامة وردت وجنتيها، مما أضفى عليها المزيد من الحسن و الجمال، ثم قالت له:( انت هو جواد ) .قال لها:( نعم) فقالت الأستاذة :(بحث رائع جعلني اقرأه عدة مرات). صمتت قليلا ثم قالت:( لعلك تمارس الكتابة ) .قال لها جواد:( نعم بإحدى الجرائد الثقافية اكتب القصة و اشياء اخرى) فقالت :( هل يمكن أن نواصل الحديث بمقهى الجوكندا التي اجلس فيها صباح كل يوم السبت) قال جواد بتلعثم و فرحة و اندهاش:( نعم نعم بكل فرح و سرور) . قبل ان ينصرف جواد من امام الاستاذة قالت له:( أريد ان يبقى اللقاء القادم سرا بيننا) .عندما عاد جواد إلى مقعده بالمدرج التف حوله الكثير من الطلبة ليسألوه عما كان يتحدث فيه مع الأستاذة فقال لهم جواد:( ان الاستاذة أعجبت ببحثي ، فكانت تناقشني في بعض الأفكار التي وردت فيه).
لم يكن جواد من الطلبة المحظوظين في انشاء علاقة حب و صداقة مع الطالبات، اذ حاول عدة مرات أن يقترب منهن، إلا انه كان دائما يصاب بالفشل في إقناعهن باتخاذه صاحبا و حبيبا، ربما كان هذا مرده إلى وجهه القبيح، و اهتمامه بتنظيم أفكاره و اهماله لتنظيم شكل لباسه، و كم من مرة استطاع بعد جهد جهيد أن يحصل على موعد مع إحدى الطالبات بمقهى المدينة ،و الوفاء بموعد المقهى في بداية العلاقة برهان على صدق النية بين الطرفين، و الإخلال بموعد المقهى في بداية العلاقة برهان على أن أحد الطرفين غير مقتنع بالاخر .جلس جواد ينتظر في المقهى ساعة قبل الموعد ،و ساعتين بعد الموعد بدون أن يظهر لتلك الطالبة أثر ،فعاد جواد الى أصدقائه بالحي الجامعي محبطا يجر ذيول الخيبة مهموما ،و حزينا يقول لإصدقائه:( لم يعجبني شكلها فتركتها تنتظر في المقهى).
كان جواد ينتظر بفارغ من الصبر قدوم يوم السبت الذي تأخر كثيرا حتى ظن أنه لن يأتي. عاش جواد أحلى أوقاته قبل حلول الموعد المرتقب مع الأستاذة . عاش بوجه مشرق ،و ثغر باسم ،و فرحة عارمة. بعض الطلبة رأى ان هذا النشاط الذي انتابه فجأة يعود الى انه اكتشف من يحبه .
حل صباح يوم السبت ،و لبس جواد أحسن ما لديه من الثياب، و خرج للقاء الأستاذة بمقهى الجوكندا، فوجدها تنتظره ،و أمامها فنجان قهوة تقرأ رواية لاحلام مستغانمي : يليق بك الأسود ،و قد ناسبها ما كانت ترتديه من لباس، و ما تضعه من مكياج و زادتها تلك الابتسامة الجميلة تألقا و حسنا.عندما أخذ جواد مكانه بجانبها جاء النادل، فلم يتأخر في طلب كأس شاي منعنع فقالت له الاستاذة:( لماذا الشاي و ليس القهوة التي يدمن على شربها الكثير من الشباب مثلك؟). فقال لها جواد :( أحب الشاي زاد الفقراء في أوقات العسر و اليسر ، تعودت على شربه، فهو السائل الوحيد الذي يقبله ذوقي، فالمغاربة قديما كانوا يقولون الشاي قبل الدواء و السكر قبل الرداء).انتظر جواد من الأستاذة أن تحدثه عن سبب هذا اللقاء ،فلم يطل انتظاره طويلا إذ سرعان ما سمعها تقول بصوت منخفض:( أتدري لماذا طلبت منك هذا اللقاء؟) قال جواد: لا . رشفت من الفنجان رشفة ثم قالت:( من خلال البحث الذي كتبت، و من خلال تتبعي لقصصك ،و التي فازت احداهن بمسابقة أدبية ،و من خلال ما سمعته من بعض الأساتذة على انك متمكن من لغة الكتابة قادر على أن تكتب في أي جنس أدبي) .صمتت مرة أخرى ثم واصلت الأستاذة حديثها :(أريد منك أن تكتب رواية على أساس ان تحمل اسمي) فقال جواد :(و ما هي الأسباب التي تمنعك من كتابة الرواية؟ )قالت الأستاذة:( حاولت عدة مرات و لم أفلح، ربما مملكة الرواية تحتاج الكثير من الخيال ،و الخيال الذي معي لا يكفي لكتابة هذا الجنس الأدبي المستعصي، أو لانني خفت من عدم التحكم في شخوص الرواية فيدفعونني للانتحار كما ورد في سير بعض الروائيين ). فقال لها جواد:( مقابل ماذا ؟ )فقالت له:( مقابل أجر مالي، أو وظيفة بعد حصولك على الاجازة أو أي شيء آخر تريده ).ساد صمت طويل بين الطرفين، إذ كان جواد يفكر في هذا العرض المطروح أمامه، و هي كانت تفكر في القرار الذي سيخرج به جواد.
تردد جواد في الكلام، و تعثر لسانه ،لكنه ادرك نفسه و ثبتها، ثم قال بصوت مخنوق و خافت :( لا أريد المال، و لا الوظيفة ،لكي اكتب لك رواية تحمل اسمك أريد شيءا اخر ).قالت الأستاذة زينب بسرعة:( و ما هو هذا الشيء؟ ). قال جواد: (أريد أن إمتلاك جسدك من بداية كتابة الرواية إلى نهايتها ،فكتابة نص روائي لشخص اخر لا يعدله ثمن سوى ثمن الاستمتاع بلذة جسد تشتهيه).
خيم صمت طويل على الطاولة التي كانا يجلسان بها ، اذ لم ينبس احد منهما بكلمة واحدة، فالاستاذة راحت تفكر في هذا المقابل الذي طلبه جواد، و هو مقابل لم يخطر ببالها و لم تجعله في حساباتها .كانت تنظر بنظرات تائهة بدون اتجاه محدد تريد أن تتكلم، لكن الكلام أنحبس في فمها، و لم تفلح في اخراجه إلا بصعوبة كبيرة. فقالت:( وافقت على طلبك على شرط أن تكتب الرواية في منزلي).
أنهى جواد الرواية على الشكل التالي:لعلها نهاية مناضل قاوم السجون بصبر و جلد و خرج منتصرا ،و لكنه لم يستطع أن يقاوم جمال امراة فخرج منهزما يرفع راية الاستسلام.
عاد جواد إلى قريته بعدما أنهى كتابة الرواية للأستاذة زينب بدون ان يضع لها عنوانا ،اذ ترك العنوان تختاره بنفسها. عاد إلى قريته مجبرا، بعدما حاز على الإجازة في الآداب العربي، و طرق أبواب العمل، فوجدها كلها موصدة في وجهه .عاد إلى تلك الرتابة و الملل اللذان تخلص منهما إبان فترة دراسته الجامعية. عاد ليلتقي بإصدقائه الذين بقوا في القرية يشتغلون بالفلاحة بعدما لم يسعفهم الحظ في متابعة دراستهم .عاد ليجتمع بهم بمقهى القرية حول صينية معوجة الحواشي ، و براد ينتشر في أرجائه بقع الصدأ و كؤوس لم يبق لهم أثر سوى في هذه القرية.كان أصدقاء جواد في القرية يتحدثون باحاديث بعيدة كل البعد عن احاديث الجامعة و الطلبة و الرفاق، أحاديث قلما كان جواد يشاركهم فيها مكتفيا بالمطالبة في كتاب أو جريدة ، و لكنه كان يشاركهم في التدخين بجميع أصنافه الممنوعة منها ،و المباحة.
كتبت الاستاذة على الصفحة الاولى من الرواية اهداءا تقول فيه : لا اعرف اين هو؟ و لكن اعرف انه بين السماء و الارض ...إلى الذي اعطيته نصا تسري فيه الروح، و اعطاني نصا تسري فيه المعاني و الحروف .
استطاعت الرواية أن تحتل مكانة متميزة ضمن أفضل الأعمال الروائية للسنة، اذ بدأ اسم الأستاذة ينتشر في الأوساط الأدبية و المنابر الاعلامية، و تسابقت الصحافة المكتوبة و المسموعة و المرئية من أجل الظفر بحوار معها على هامش إصدار هذا المولود الجديد، الذي تم ترشيحه للفوز بعدة جوائز ،منها وطنية و اخرى عربية .
كانت الأستاذة زينب، و في حفل كبير باحدى العواصم العربية تتسلم الجائزة الكبرى التقديرية للرواية العربية ،و التي يتمناها كل روائي عربي ،اذ كان جواد في ذلك الوقت يتابع هذا الحفل الثقافي الكبير بمقهى القرية مع اصدقائه ،و الذي ظهرت فيه الاستاذة زينب المحتفى بها و بروايتها بمظهر يشد الأنظار و يأسر الألباب قال جواد لإصدقائه :(إن هذه السيدة التي تظهر الآن على شاشة التلفاز عاشرتها في وقت مضى معاشرة الأزواج ،و هذه الرواية التي فازت بالجائزة انا الذي كتبتها ).فقال له أحد الأصدقاء :(عليك يا جواد ان تقلل من تدخين الحشيش فقد بدأ يؤثر على صحة عقلك). و قال له آخر :(البطالة و تدخين الحشيش آفة قد تصيب العقل بالجنون).
عبدالمولى دليل
تحدثت في بعض محاضراتها عن المرأة في الشعر العربي القديم، فقالت:( إن الشاعر القديم احتفى بالمرأة، و رفع من شأنها أكثر من الشاعر الحديث، و قدمها في معلقاته ،و باقي أشعاره الأخرى على جميع الأغراض من مدح و هجاء و حرب.... ) ،فكان أحد اصدقائي الذي يجلس بجانبي في المدرج يقول معلقا على كلام الأستاذة زينب.( لو رآك أحد شعراء المعلقات ،و رأى جمالك لخلد اسمك كما خلدت اسم عبلة و خولة و أسماء ....لكن للأسف في عصرنا الحاضر كثر الجمال ،و قل الشعراء).
حكايات كثيرة كانت تحكى على السنة الطلبة كلها تدور حول الحياة الشخصية للأستاذة زينب، و لعل هذه الحكايات أجمعت على أنها مطلقة ،و أسباب طلاقها ترجع في الاساس الى عشقها للكتاب أكثر من عشقها للرجال ،و أنها تهتم بالكتاب و تحتضنه أكثر من اهتمامها و احتضانها لزوجها ،و خلصت حكايات الطلبة أن الأستاذة فضلت أن تعيش مطلقة، و في حضن كتب عديدة على أن تعيش متزوجة ،و في حضن رجل واحد.
كانت الاستاذة زينب قد أصدرت مجموعة قصصية ، إلا أن هذا العمل الأدبيي لم يحظ بتلك الحفاوة و الإقبال سواء من طرف القراء، أو من طرف النقاد، بل اعتبر أحد النقاد في مقال له بإحدى الجرائد الثقافية أن هذه المجموعة القصصية بعيدة كل البعد عن فن الكتابة السردية المتخيلة.
جاء جواد الى كلية الآداب قادما من إحدى القرى الفقيرة و البعيدة عن مدينة فاس بعدما حصل على شهادة الباكالوريا ،و قد كان من المناضلين اليساريين داخل الجامعة تناط به مسؤولية كتابة الخطب و المناشير و الشعارات ،و كان يلقب بمنظر الرفاق ، معروف وسط الطلاب بسعة اطلاعه على مختلف الكتب سواء كانت أدبية، أو فكرية، و حتى الدينية يمارس الكتابة بانتظام بإحدى الملاحق الثقافية ، و جواد من طلبة الأستاذ زينب بالسنة الأخيرة من الجامعة ،و كان بدوره معجبا بجمالها ،اذ كان يقول لأصحابه:( لا يأتيني شيطان الشعر إلا و أنا جالس أنظر إلى الأستاذة و انصت اليها ).
قامت الأستاذة زينب بحث الطلبة على كتابة موضوع عن الأدب و الحرية، و لكي تشجع الطلبة على بذل مجهود في بحثهم، فقد رصدت لأصحاب البحوث الجيدة جائزة عبارة عن نقط إضافية في إمتحانات الجامعة التي لم يبق أمام إجرائها سوى بضعة شهور .
أعجبها بحث جواد سواء من ناحية الافكار التي طرحها و ناقشها بجدية معتمدا على أقوال و ابيات للشعراء، أو من ناحية الأسلوب الراقي المضبوط بجمل متناسقة، و كلمات منتقاة .كان آخر طالب نادت عليه الأستاذة هو جواد من أجل تقييم بحثه. قابلته بمكتبها بالمدرج بابتسامة وردت وجنتيها، مما أضفى عليها المزيد من الحسن و الجمال، ثم قالت له:( انت هو جواد ) .قال لها:( نعم) فقالت الأستاذة :(بحث رائع جعلني اقرأه عدة مرات). صمتت قليلا ثم قالت:( لعلك تمارس الكتابة ) .قال لها جواد:( نعم بإحدى الجرائد الثقافية اكتب القصة و اشياء اخرى) فقالت :( هل يمكن أن نواصل الحديث بمقهى الجوكندا التي اجلس فيها صباح كل يوم السبت) قال جواد بتلعثم و فرحة و اندهاش:( نعم نعم بكل فرح و سرور) . قبل ان ينصرف جواد من امام الاستاذة قالت له:( أريد ان يبقى اللقاء القادم سرا بيننا) .عندما عاد جواد إلى مقعده بالمدرج التف حوله الكثير من الطلبة ليسألوه عما كان يتحدث فيه مع الأستاذة فقال لهم جواد:( ان الاستاذة أعجبت ببحثي ، فكانت تناقشني في بعض الأفكار التي وردت فيه).
لم يكن جواد من الطلبة المحظوظين في انشاء علاقة حب و صداقة مع الطالبات، اذ حاول عدة مرات أن يقترب منهن، إلا انه كان دائما يصاب بالفشل في إقناعهن باتخاذه صاحبا و حبيبا، ربما كان هذا مرده إلى وجهه القبيح، و اهتمامه بتنظيم أفكاره و اهماله لتنظيم شكل لباسه، و كم من مرة استطاع بعد جهد جهيد أن يحصل على موعد مع إحدى الطالبات بمقهى المدينة ،و الوفاء بموعد المقهى في بداية العلاقة برهان على صدق النية بين الطرفين، و الإخلال بموعد المقهى في بداية العلاقة برهان على أن أحد الطرفين غير مقتنع بالاخر .جلس جواد ينتظر في المقهى ساعة قبل الموعد ،و ساعتين بعد الموعد بدون أن يظهر لتلك الطالبة أثر ،فعاد جواد الى أصدقائه بالحي الجامعي محبطا يجر ذيول الخيبة مهموما ،و حزينا يقول لإصدقائه:( لم يعجبني شكلها فتركتها تنتظر في المقهى).
كان جواد ينتظر بفارغ من الصبر قدوم يوم السبت الذي تأخر كثيرا حتى ظن أنه لن يأتي. عاش جواد أحلى أوقاته قبل حلول الموعد المرتقب مع الأستاذة . عاش بوجه مشرق ،و ثغر باسم ،و فرحة عارمة. بعض الطلبة رأى ان هذا النشاط الذي انتابه فجأة يعود الى انه اكتشف من يحبه .
حل صباح يوم السبت ،و لبس جواد أحسن ما لديه من الثياب، و خرج للقاء الأستاذة بمقهى الجوكندا، فوجدها تنتظره ،و أمامها فنجان قهوة تقرأ رواية لاحلام مستغانمي : يليق بك الأسود ،و قد ناسبها ما كانت ترتديه من لباس، و ما تضعه من مكياج و زادتها تلك الابتسامة الجميلة تألقا و حسنا.عندما أخذ جواد مكانه بجانبها جاء النادل، فلم يتأخر في طلب كأس شاي منعنع فقالت له الاستاذة:( لماذا الشاي و ليس القهوة التي يدمن على شربها الكثير من الشباب مثلك؟). فقال لها جواد :( أحب الشاي زاد الفقراء في أوقات العسر و اليسر ، تعودت على شربه، فهو السائل الوحيد الذي يقبله ذوقي، فالمغاربة قديما كانوا يقولون الشاي قبل الدواء و السكر قبل الرداء).انتظر جواد من الأستاذة أن تحدثه عن سبب هذا اللقاء ،فلم يطل انتظاره طويلا إذ سرعان ما سمعها تقول بصوت منخفض:( أتدري لماذا طلبت منك هذا اللقاء؟) قال جواد: لا . رشفت من الفنجان رشفة ثم قالت:( من خلال البحث الذي كتبت، و من خلال تتبعي لقصصك ،و التي فازت احداهن بمسابقة أدبية ،و من خلال ما سمعته من بعض الأساتذة على انك متمكن من لغة الكتابة قادر على أن تكتب في أي جنس أدبي) .صمتت مرة أخرى ثم واصلت الأستاذة حديثها :(أريد منك أن تكتب رواية على أساس ان تحمل اسمي) فقال جواد :(و ما هي الأسباب التي تمنعك من كتابة الرواية؟ )قالت الأستاذة:( حاولت عدة مرات و لم أفلح، ربما مملكة الرواية تحتاج الكثير من الخيال ،و الخيال الذي معي لا يكفي لكتابة هذا الجنس الأدبي المستعصي، أو لانني خفت من عدم التحكم في شخوص الرواية فيدفعونني للانتحار كما ورد في سير بعض الروائيين ). فقال لها جواد:( مقابل ماذا ؟ )فقالت له:( مقابل أجر مالي، أو وظيفة بعد حصولك على الاجازة أو أي شيء آخر تريده ).ساد صمت طويل بين الطرفين، إذ كان جواد يفكر في هذا العرض المطروح أمامه، و هي كانت تفكر في القرار الذي سيخرج به جواد.
تردد جواد في الكلام، و تعثر لسانه ،لكنه ادرك نفسه و ثبتها، ثم قال بصوت مخنوق و خافت :( لا أريد المال، و لا الوظيفة ،لكي اكتب لك رواية تحمل اسمك أريد شيءا اخر ).قالت الأستاذة زينب بسرعة:( و ما هو هذا الشيء؟ ). قال جواد: (أريد أن إمتلاك جسدك من بداية كتابة الرواية إلى نهايتها ،فكتابة نص روائي لشخص اخر لا يعدله ثمن سوى ثمن الاستمتاع بلذة جسد تشتهيه).
خيم صمت طويل على الطاولة التي كانا يجلسان بها ، اذ لم ينبس احد منهما بكلمة واحدة، فالاستاذة راحت تفكر في هذا المقابل الذي طلبه جواد، و هو مقابل لم يخطر ببالها و لم تجعله في حساباتها .كانت تنظر بنظرات تائهة بدون اتجاه محدد تريد أن تتكلم، لكن الكلام أنحبس في فمها، و لم تفلح في اخراجه إلا بصعوبة كبيرة. فقالت:( وافقت على طلبك على شرط أن تكتب الرواية في منزلي).
أنهى جواد الرواية على الشكل التالي:لعلها نهاية مناضل قاوم السجون بصبر و جلد و خرج منتصرا ،و لكنه لم يستطع أن يقاوم جمال امراة فخرج منهزما يرفع راية الاستسلام.
عاد جواد إلى قريته بعدما أنهى كتابة الرواية للأستاذة زينب بدون ان يضع لها عنوانا ،اذ ترك العنوان تختاره بنفسها. عاد إلى قريته مجبرا، بعدما حاز على الإجازة في الآداب العربي، و طرق أبواب العمل، فوجدها كلها موصدة في وجهه .عاد إلى تلك الرتابة و الملل اللذان تخلص منهما إبان فترة دراسته الجامعية. عاد ليلتقي بإصدقائه الذين بقوا في القرية يشتغلون بالفلاحة بعدما لم يسعفهم الحظ في متابعة دراستهم .عاد ليجتمع بهم بمقهى القرية حول صينية معوجة الحواشي ، و براد ينتشر في أرجائه بقع الصدأ و كؤوس لم يبق لهم أثر سوى في هذه القرية.كان أصدقاء جواد في القرية يتحدثون باحاديث بعيدة كل البعد عن احاديث الجامعة و الطلبة و الرفاق، أحاديث قلما كان جواد يشاركهم فيها مكتفيا بالمطالبة في كتاب أو جريدة ، و لكنه كان يشاركهم في التدخين بجميع أصنافه الممنوعة منها ،و المباحة.
كتبت الاستاذة على الصفحة الاولى من الرواية اهداءا تقول فيه : لا اعرف اين هو؟ و لكن اعرف انه بين السماء و الارض ...إلى الذي اعطيته نصا تسري فيه الروح، و اعطاني نصا تسري فيه المعاني و الحروف .
استطاعت الرواية أن تحتل مكانة متميزة ضمن أفضل الأعمال الروائية للسنة، اذ بدأ اسم الأستاذة ينتشر في الأوساط الأدبية و المنابر الاعلامية، و تسابقت الصحافة المكتوبة و المسموعة و المرئية من أجل الظفر بحوار معها على هامش إصدار هذا المولود الجديد، الذي تم ترشيحه للفوز بعدة جوائز ،منها وطنية و اخرى عربية .
كانت الأستاذة زينب، و في حفل كبير باحدى العواصم العربية تتسلم الجائزة الكبرى التقديرية للرواية العربية ،و التي يتمناها كل روائي عربي ،اذ كان جواد في ذلك الوقت يتابع هذا الحفل الثقافي الكبير بمقهى القرية مع اصدقائه ،و الذي ظهرت فيه الاستاذة زينب المحتفى بها و بروايتها بمظهر يشد الأنظار و يأسر الألباب قال جواد لإصدقائه :(إن هذه السيدة التي تظهر الآن على شاشة التلفاز عاشرتها في وقت مضى معاشرة الأزواج ،و هذه الرواية التي فازت بالجائزة انا الذي كتبتها ).فقال له أحد الأصدقاء :(عليك يا جواد ان تقلل من تدخين الحشيش فقد بدأ يؤثر على صحة عقلك). و قال له آخر :(البطالة و تدخين الحشيش آفة قد تصيب العقل بالجنون).
عبدالمولى دليل