ذات صباح خريفي شديد البرودة اختفى أحمد البهجة –فجأة- من الوجود!
كان مواطنا عاديا. لم يكن ذا جاه أو سلطة، ولم يكن من نجوم الصرعة الغنائية الجديدة كي تضطربَ لاختفائه المدينة ويختلَّ إيقاعُها في ذلك اليوم، لكن اختفاءَه على ذلك النحو الغامض أثار الكثيرَ من القلق والأسئلة.
تعدّدت إفاداتُ شهودِ العيان بشأن اختفاء أحمد البهجة المُلْغز، لكن ذلك لم يفضِ إلى قولٍ فصلٍ في النازلة، بقدر ما أسدل عليها ستارا إضافيا من الغموض.
أفادت زوجته بأنها انتظرت عودته تلك الليلة طويلا إلى أن غلبها النوم في النهاية، ولا تستطيع أن تؤكد إن عاد بالفعل إلى البيت تلك الليلة أم لم يعد..
كلما شعرت بنأمة هرعت نحو النافذة مستطلعة، إلى أن تأخر الوقت وتعبَت من التنقل بين صالة الشقة والنافذة المطلة على الشارع. تمدّدَت فوق السرير لتُصيب قليلا من الراحة فغلبها النوم.
آخر ما علق بذاكرتها من ليلة القلق تلك، مشهد حارس موقف السيارات وهو يضرم النار في كومة أخشاب ليتدفأ بها في برد الليل.
* قال جلساؤه في الحديقة العمومية:
التأم مجلسنا ذلك اليوم بُعيد صلاة العصر كالعادة في الحديقة العمومية. لم يتخلف أحمد البهجة عن الحضور، لكنه ظل واجما على غير ما عهدناه. لعب جولتَي طاولة دون حماس، ثم تأبط كرسيه القابل للطي وغادر فجأة دون أن يفصح عن وجهته.
وهو يفارق مجمعنا على ذلك النحو الفجائي ويمضي مبتعدا، قلنا هي نوبة “سيدي أحمد” عينُها التي نعرفها جميعا، فقط يبدو أن غيمة الأسى المطبقة على صدره هذا المساء أكثرُ كثافة، لكن صديقنا “العوينة” الذي لا تفوته شاردة، شيَّع “سيدي أحمد” بنظرة طويلة قائلا إن “حاله مَا يْعجب”، ثم أردف بعد صمت “ألم تروا أنه مخطوف ومرفوع، ومنذ جلس لم يكف عن نفض ثيابه”؟!
لبثنا نتجاذب أطراف الحديث ونلعب بعقول شاردة، يربكُ القلق أصابعَنا فوق رقعة الطاولة، وقد تطيَّرْنا بنظرة “العوينة” ونبرته المقلقة.
إلى أن نما إلينا نبأ اختفاءه الغامض في اليوم الموالي. “سيدي أحمد” رجل خلوق طيب المعشر. نعم يحدُث أن تنتابه حالات كآبة بين فترة وأخرى، لكنه رجل فكِهٌ يحب الحياة. لا بد أن أمرا ما غامضا يكمن خلف اختفائه، ونأملُ أن يظهرَ اليوم أو غدا.
* قال مقدم الحــــي
مراكش في الاثنين 28…. شهر…. لسنة…. ميلادية
الموضوع: تقرير إخباري
إلى السيد القائد..
بعد فروض الولاء والاحترام..
أحيطكُم علما بالوقائع التَّالية..
في اليوم أعلاه، وبينما كنت أقوم بجولتي التفقُّدية المعتادة داخل الحي استرعى انتباهي هرج ومرج أمام منزل المواطن المسمَّى أحمد البهجة. اقتربت من المكان للوقوف على جلية الأمر، فوجدت الملأ يتداولون خبرَ اختفاء الشخص المعني. كانت زوجته جالسة في عتبة المنزل مصدومة وشبْهَ منهارة. كانت ذاهلة ولم تستطع التجاوب مع استفساراتي إلا بعد عنت، وقد شاب كلامَها اضطرابٌ وتداخل.
كان بالمكان لفيف من الجيران ومن رفاق المعني وجمهرة من الفضوليين، يتلاغطون في شأن الاختفاء ويستعيدون آخر لقائهم بالمعني، بل وجدتُ من الملأ من انبرى لتِعداد محاسنه كما لو أن الرَّجلَ انتقل إلى جوار به.
وبالعودة إلى ملف هذا المواطن، سيدي القائد..
لم أعرف للرجل أيّ ميولات سياسية محددة. فباستثناء مجالسته لجمع من المتقاعدين والعاطلين على كراسي الحديقة العمومية، حيث يجزون الوقت في لعب الطاولة، لم يكن يجالس إلا نفسه. فهو رجل “حدودي داخْل سُوق راسو” كما يُقال.
هذا مع أنه لا يتورّع أحيانا عن الجهر أمام الملأ ببعض الآراء أو المواقف الغريبة التي تُلفت إليه الأنظار، خاصة إذا تطرق الحديث إلى مراكش التي يسمّيها مراكش السوداء، كما أني سمعته أكثر من مرة ينعتها بمدينة الغبار ويُكنّي أهلها بني الأغبر.
عدا هذا فهو رجل مسالم ليِّنُ الجانب، ولم يبدر عنه في حدود علمي ما يمكن اعتباره استخفافا بالسلطة مثلا أو تطاولا على هيبتها لا قدر الله. ولعلَّكم تذكرون. سيدي القائد أنكم سبق أن أوفدتم لجنة تقنية معززة بقوة عمومية لهدم تلك الحديقة الصغيرة التي أنشأها في مدخل بيته وسَيَّجها بالأسلاك متطاولا على الملك العمومي، بناءً على التقرير الشفوي الذي رفعتُه إليكم إبَّانها بهذا الشأن. يوم ذاك لم يقف الرجل في وجه اللجنة مثلما توقعنا، ولم يحاول عرقلة مهمتها، بل إنه أكرم وفادتنا بصينية شاي طالبا منحه مهلة كي يتولى أمر إزالة الحديقة بنفسه. وأذكر أن الحديقة كانت مزروعة بنُخيلات بعدُ طريَّة العود. ولقد عاينتُ كيف انهمك في انتزاعها برفق بالغ خشية أن تتأذى، قبل أن يودعها أكياسا، ثم تراجع تاركا المجال للجرَّافة كي تطيحَ بسور الحديقة الصغيرة.
كلام كثير يتداوله الناس هنا، بشأن الاختفاء المزعوم لهذا المواطن، ويردّدونه على المسامع بالزيادة أحيانا وبالنقصان حينا آخر. ولعلَّ أكثر الإفادات غرابة ما يرويه حارس موقف السيارات الذي يزعم أنه رأى الشخص المعني واقفا فوق إفريز إحدى نوافذ شقته على مشارف الفجر قبل أن يختفي. أعرف أن هذا الحارس دأب على مُعاقرة الخمر خلال نوبات حراسته الليلية، لكني أشهد أيضا أنه مصدر موثوق للأخبار، ولم أعهد فيه قط ميلا للكذب أو التلفيق.
وبعدُ.. لا يخفى عليكم سيدي القائد أن كل ما يتم تداوله حتى الآن بشأن هذه النازلة يبقى مجرد تكهنات وكلام ملقى على عواهنه، ما دام لم يمض على الاختفاء غير فترة وجيزة، وقد يظهر الرجل بين الفينة والأخرى ليضع حدّا لكل هذا القيل والقال.
اطمئنوا سيدي سأكون عينَكم التي ترصُدون بها كل حركة، وأذنَكم التي تتسقطون بها الأخبار، إلى أن نستجليَ الواقعة على وجه اليقين.
خادمكم المخلص…
مقدم حي…..
ورُفع إليكم هذا التقرير لكُلِّ غايةٍ مفيدة..
* قال الحارس الليلي
.. أنا لا أنكر بأني شربت قليلا تلك الليلة. رجل وحيد مثلي في مواجهة الليل البارد لن تؤنسه إلا قنينة تدفئ جوفَه كما تدفئ النار أطرافَه.
قُبيل صلاة الفجر بدأت عتمة الليل تتوارى، فيما اشتدَّ البرد. قمت بجولة أخيرة على المرآب ثم عدت إلى مجلسي وتكومت في جلبابي قُبالةَ النار كي أتدفأ قليلا بعدُ في انتظار مجيء حارس المرآب نهارًا. بدأتُ أنتشي بالدفء والشراب وكنت على وشك أن أغفو عندما رأيت ذلك الشيء فطار النعاس من عيني وتبخرت نشوة الشراب. رأيت السيد أحمد البهجة يقف للحظة خاطفة على حافة نافذة منزله، ثم يهوي في الفراغ، ورأيت ما يشبه سحابة كثيفة من الغبار تظلل المكان لفترة قبل أن تتبدد. بعد أن أفقت من دهشتي، ركضتُ نحو المكان هلعا مذعورا، لكني لم أجد جثة السيد أحمد البهجة فوق إسفلت الشارع مثلما توقعت. كان المكان فارغا غارقا في الصمت، فيما بقايا غبار تتلاشى ببطء.
بقيتُ أدور حول نفسي بالمكان دائخا كالمجنون، أكذب عينَيَّ تارة وأصدقهما طورا. للأسف لم يكن شاهدا على ما حدث غيري سوى السيارات الهاجعة في المرآب والأشجار وأعمدة الكهرباء، أما المصلّون فلم يمروا بالمكان إلا بُعَيد ذلك في طريقهم إلى المسجد القريب، ورُبَّما ألقى عليّ بعضهم تحيةً ذهلت عن ردها.
.. أجل، أعترف بأني كنت مخمورا بعض الشيء، لكنّي أدرك جيدا ما أقول وأعرف ما رأيت، وأستطيع أن أجزم بأنّ من رأيته هناك على حافة النافذة في تلك اللحظة الخاطفة كان السيد أحمد البهجة نفسه، أو هيأته على الأقل. لقد كان يرتدي ذات الجلباب الصوفي الذي كان يرتديه مساء البارحة، عندما مرّ بالمرآب بُعيد صلاة العصر وألقى عليّ التحية.. لكن كيف اختفى؟ وما الذي كان يفعله هناك على حافة النافذة؟! هذا ما لا أفهمه ويكاد يُصيبني بالجنون.
السيد أحمد البهجة رجل رزين ومُصلٍّ لا يمكن أن ينتحر بإلقاء نفسه من النافذة، معاذ الله.. لكنِّي أقسم أنّي رأيت هيأته واقفةً على حافة النافذة لِلحظة خاطفة قبل أن تقفز في الهواء وتختفي لا أدري أين..
* قالت الزوجة (إفادة رقم 2)
.. عندما استيقظتُ صباحًا وبي فزعٌ، كان ضوء النهار قد أوشك أن يغمرَ الغرفة. شعرت بأطرافي مثلجة، ولاحظت –لدهشتي- أن نافذة غرفة النوم كانت مشرعة تتماوج ستارتها بهدوء. هممتُ بالقيام عندما أثار انتباهي غبار كثير فوق ملاءة السرير، ومُتخللا ثنايا الغطاء. أسرعتُ لإغلاق النافذة، وبينما كنت أُحكِم إغلاق المصراع استرعت انتباهي كمية أكبر من الغبار منثورة على طول إفريز النافذة.
وعندما خطوتُ باتجاه مدخل غرفة النوم رَاعني ما رأيت: رأيت خيطا رفيعا من التراب ممتدا من قرب السرير حتى مدخل الغرفة. لم أفهم من أين جاء كل ذلك الغبار، و شعرت على نحو غامض بأن له علاقةً ما بزوجي فتوجَّست خيفة.
تفقدت هلعةً مرافقَ الشقة، دون أن أجد لـ”سيدي أحمد” أثرا. حينذاك ارتديت جلبابي على عجل وخرجت للبحث عنه، وأنا لا أعرف أيَّ وجهةٍ أقصد.
* قال الراوي
.. على غير عادته رجع مساء ذلك اليوم إلى البيت مبكرا. أخذ يتنقل بين غرف ومرافق البيت كما لو يبحث عن شيء لا يجده، قبل أن يخرج من جديد تحت النظرات المتسائلة لزوجته.
قصد موقفَ الحافلاتِ القريبَ، حيث استقل الحافلة باتجاه محطة “باب دكالة”. هناك ترجَّل وأكمل الطريق نحو وجهته. بعد خطوات قليلة شعر بسحابة الضيق المطبقة على صدره منذ الصباح وقد بدأت تخف، لولا أن سحابة أخرى من غبار انقضت عليه فجأة من حيث لا يدري، غطَّت وجهَه واخترقت خياشيمه فدهمته نوبةُ سعالٍ حادة دمعت لها عيناه.
في الخلاء الممتد إلى يمينه على مقربة من سور المدينة العتيق، حيث تنتشر نخلات مات معظمها عطشا أو حرقا، كانت غيوم كثيفة من الغبار تغطي المكان وتتهادى ببطء فوق هامات النخيل. أمعن النظر فإذا حشرات حديدية عملاقة تتحرك في الخلاء وتزمجر وهي تغرز مخالبها في بطن الأرض وتقتلع جذوع النخل مطيحة بها أرضا، ومثيرة سحبا كثيفة من الغبار.
حثّ الخطو مبتعدا عن المكان وقد جحظت عيناه الدامعتان وأوشك أن يختنق بالغبار الذي تسرّب إلى رئتيه. انعطف يمينا ومرق عبر إحدى البوابات الوطيئة التي فُتحت عنوةً في جسد السور السميك، ليجد نفسه وسط حيّه القديم.
اتجه رأسا صوب فرن الحي حيث اعتاد أن يلتقي أصحابه القدامى. لم يكن اليوم موعد لقائهم الأسبوعي، فتمنّى أن يجدهم جميعا هناك، متحلِّقين حول نار الفرن التي آلت إلى جمر.
لما صار على مقربة من الفرن وصلته قهقهات الأصدقاء وصوت “القُوبع″ الجهوري ذي الرنة المعدنية فابتهج. فكّر بأن “الشلة” كلها هنا، وبأن صديقهم “القُوبع″ في أفضل حالاته، وأنَّه قد انفرد مرة أخرى بالحديث، مثيرا هديرا من الضحك والتعليقات.
بابُ الفرن الخشبي موارب، كأنما يتوقعون مجيئه. دفَعه بكتفه فانفرج، واقتحم عليهم عتمة الفرن مثل شبح. فوجئوا في البداية فران عليهم الصمت، ثم سرعان ما فرحوا لقدومه وأعدُّوا له مجلسا.
صال “القُوبع″ وجال في حكاياته التي لا تنتهي. ضحكوا كثيرا، شربوا أدوارا عديدة من الشاي، وتناوبوا ما شاءت لهم النشوة من المرَّات على سحب الأنفاس من “السبسي” المعمَّر بكيف جبَلي حرِّيف.. إلى أن ارتخت منهم الأجفان وتهدلت الشفاه. وعندما سقطت رأس “إدْريس″ الفرَّان فوق صدره بعد أن دهمه النعاس كان وقت السَّمر قد انتهى، وآن للجمع أن ينفضَّ؛ فلا بد أن يحظى “إدْريس″ بقسط من النوم، قبل أن يوقدَ نار الفرن بعد الفجر بقليل لإعداد خبز الصباح.
ودَّع أحمد البهجة أصدقاءه وخرج. ألفى بيوتَ حيّه القديم هاجعةً وسط الصمت وبرد آخر الليل. مشى قاصدا البوابة التي دخل منها، لكنه وجد نفسه، بعد دقائق من المشي، وجها لوجه مع منزله القديم. حدّق في البناية الإسمنتية الجديدة ذات الطابقين، ورأى ضوءا في الطابق الثاني الذي تنبعث منه موسيقى غربية. هُدم المنزل وأعيد بناؤه.. تذكر تلك العجوز الفرنسية الضئيلة التي ابتاعت البيت. تراءت له واقفة وسط باحة البيت على مقربة من نافورة الماء وشجرة الرمان، تمسك خصرها الضامر بيديها وتجيل نظراتها في أرجاء المنزل وعلى وجهها ابتسامة ظافرة.
تخيَّل جدرانَ بيته السميكةَ التي عمَّرت عُقودا طويلةً وهي تتداعى وتصير أنقاضا تحت ضربات الجرَّافة التي سوّتها بالأرض، وتراءت له غيمةُ غبار عملاقة تُغطّي الزقاق وتتهادى على علو منخفض قبل أن تتلاشى ببطء.
مشى بين الأزقة والدروب محفوفا بالغبار. غبار يأتيه من كل جهة ويحاصره. ظنَّ في البداية أن رماد الفرن علق بثيابه، فراح ينفض ثيابه بعصبية، لكن دون جدوى.. كلما تخلص من غبار علق به آخر.. حينذاك اكتشف مذعورا أن الغبار ينبُع من داخله، من بين ثنايا ثيابه! فتح فمه التماسا لنسمة هواء فسبقت ذرَّاتُ الغبار الهواءَ إلى رئتيه واقتحمت خياشيمه، فأوشك أن يختنق.
* * *
دلف خارجَ السور بإعياء.
أحسّ بذرات الغبار تتخلل شعر رأسه وحاجبيه، فأسدل قلنسوةَ جلبابه.
وقف إلى جانب الطريق منتظرا سيارة أجرة. كلما بدرت عنه حركة تطاير منه الغبار، فأجبر نفسه على الوقوف مثل تمثال.
خرجتْ سيارة أجرة من حيث لا يدري ووقفت على مقربة منه. اندسَّ بسرعة في المقعد الخلفي.
لم يكن السائق من النوع الثرثار. انصرف إلى الطريق أمامه، ولم يُلق نظرة على المرآة العاكسة سوى مرة أو مرتين، لكنَّ سيارته كانت متهالكة وهو كان أعشى، فكان يتخبط في حُفر الطريق. تحمَّل أحمد البهجة ارتجاجاتِ السيارة العنيفةَ على مضض، وهو يخشى أن تتذرّر أطرافُه ويصيرَ بدنه الهش كومةَ غبار قبل أن يبلغ وجهته.
تكوّم على نفسه في وُجوم، وهو يستعجل بلوغ منزله، وعندما نزل من سيارة الأجرة أخيرا ترك كومة تراب في المقعد الخلفي.
الحي متشح بالصمت. رجلاه واهنتان. شعر ألا طاقة له بعدُ على السير حتى المنزل. مشى الهوينى متمنيا أن يبلغ منزله دون أن يراه أحد، وشعر بأنه كائن في طور التلاشي.
أدخل المفتاح في فتحة القفل، ولم يهتد إلى فتح الباب إلا بعد عنت، لأنه كان يعالج القفل بكامل الحذر خشية أن تتفتت أصابعه، وأراد تفادي إيقاظ زوجته: لن يحتمل أن تراه على تلك الحال.
تقدم داخل البيت بلا صوت تقريبا. لم يكن يُسمع سوى حفيف ذرَّات التراب وهي تتساقط من جسده وتنساب فوق الأرضية، وامتدّ خلفه خيط رفيع من التراب من الباب حتى غرفة النوم. كانت زوجته نائمة. تأمل وجهها الهادئ المستغرق وخامره شعور موجع بأنه يراها للمرة الأخيرة.. جلس إلى جانبها فوق السرير ومدَّ يدَه نحو اللحاف ليسدله على ذراعها العارية، لكنه شعر فجأة بذرات التراب تتراكم في حلقه وتسد منخريه فشعر بالاختناق. اندفع نحو النافذة وفتح مصراعها بعنف التماسا للهواء فتفتَّتت كفه اليمنى. فتح إحدى دفتي النافذة، ثم صعد مستعينا بكرسي. وقف فوق إفريز النافذة لِلحظةٍ وجيزةٍ ثم قفز في الهواء. لثواني معدودة سبح في الفراغ بكامل هيأته تقريبا قبل أن يتفتَّت ويتناثرَ كومًا من التراب والغبار في الهواء وفوق إفريز النافذة.
هذا ما لديّ للإفادة به، أنا الراوي، بشأن نازلة اختفاء المواطن أحمد البهجة صبيحة يومه الاثنين الثامن والعشرين من شهر.. لسنة.. ميلادية..
والله تعالى أعلم.
كان مواطنا عاديا. لم يكن ذا جاه أو سلطة، ولم يكن من نجوم الصرعة الغنائية الجديدة كي تضطربَ لاختفائه المدينة ويختلَّ إيقاعُها في ذلك اليوم، لكن اختفاءَه على ذلك النحو الغامض أثار الكثيرَ من القلق والأسئلة.
تعدّدت إفاداتُ شهودِ العيان بشأن اختفاء أحمد البهجة المُلْغز، لكن ذلك لم يفضِ إلى قولٍ فصلٍ في النازلة، بقدر ما أسدل عليها ستارا إضافيا من الغموض.
أفادت زوجته بأنها انتظرت عودته تلك الليلة طويلا إلى أن غلبها النوم في النهاية، ولا تستطيع أن تؤكد إن عاد بالفعل إلى البيت تلك الليلة أم لم يعد..
كلما شعرت بنأمة هرعت نحو النافذة مستطلعة، إلى أن تأخر الوقت وتعبَت من التنقل بين صالة الشقة والنافذة المطلة على الشارع. تمدّدَت فوق السرير لتُصيب قليلا من الراحة فغلبها النوم.
آخر ما علق بذاكرتها من ليلة القلق تلك، مشهد حارس موقف السيارات وهو يضرم النار في كومة أخشاب ليتدفأ بها في برد الليل.
* قال جلساؤه في الحديقة العمومية:
التأم مجلسنا ذلك اليوم بُعيد صلاة العصر كالعادة في الحديقة العمومية. لم يتخلف أحمد البهجة عن الحضور، لكنه ظل واجما على غير ما عهدناه. لعب جولتَي طاولة دون حماس، ثم تأبط كرسيه القابل للطي وغادر فجأة دون أن يفصح عن وجهته.
وهو يفارق مجمعنا على ذلك النحو الفجائي ويمضي مبتعدا، قلنا هي نوبة “سيدي أحمد” عينُها التي نعرفها جميعا، فقط يبدو أن غيمة الأسى المطبقة على صدره هذا المساء أكثرُ كثافة، لكن صديقنا “العوينة” الذي لا تفوته شاردة، شيَّع “سيدي أحمد” بنظرة طويلة قائلا إن “حاله مَا يْعجب”، ثم أردف بعد صمت “ألم تروا أنه مخطوف ومرفوع، ومنذ جلس لم يكف عن نفض ثيابه”؟!
لبثنا نتجاذب أطراف الحديث ونلعب بعقول شاردة، يربكُ القلق أصابعَنا فوق رقعة الطاولة، وقد تطيَّرْنا بنظرة “العوينة” ونبرته المقلقة.
إلى أن نما إلينا نبأ اختفاءه الغامض في اليوم الموالي. “سيدي أحمد” رجل خلوق طيب المعشر. نعم يحدُث أن تنتابه حالات كآبة بين فترة وأخرى، لكنه رجل فكِهٌ يحب الحياة. لا بد أن أمرا ما غامضا يكمن خلف اختفائه، ونأملُ أن يظهرَ اليوم أو غدا.
* قال مقدم الحــــي
مراكش في الاثنين 28…. شهر…. لسنة…. ميلادية
الموضوع: تقرير إخباري
إلى السيد القائد..
بعد فروض الولاء والاحترام..
أحيطكُم علما بالوقائع التَّالية..
في اليوم أعلاه، وبينما كنت أقوم بجولتي التفقُّدية المعتادة داخل الحي استرعى انتباهي هرج ومرج أمام منزل المواطن المسمَّى أحمد البهجة. اقتربت من المكان للوقوف على جلية الأمر، فوجدت الملأ يتداولون خبرَ اختفاء الشخص المعني. كانت زوجته جالسة في عتبة المنزل مصدومة وشبْهَ منهارة. كانت ذاهلة ولم تستطع التجاوب مع استفساراتي إلا بعد عنت، وقد شاب كلامَها اضطرابٌ وتداخل.
كان بالمكان لفيف من الجيران ومن رفاق المعني وجمهرة من الفضوليين، يتلاغطون في شأن الاختفاء ويستعيدون آخر لقائهم بالمعني، بل وجدتُ من الملأ من انبرى لتِعداد محاسنه كما لو أن الرَّجلَ انتقل إلى جوار به.
وبالعودة إلى ملف هذا المواطن، سيدي القائد..
لم أعرف للرجل أيّ ميولات سياسية محددة. فباستثناء مجالسته لجمع من المتقاعدين والعاطلين على كراسي الحديقة العمومية، حيث يجزون الوقت في لعب الطاولة، لم يكن يجالس إلا نفسه. فهو رجل “حدودي داخْل سُوق راسو” كما يُقال.
هذا مع أنه لا يتورّع أحيانا عن الجهر أمام الملأ ببعض الآراء أو المواقف الغريبة التي تُلفت إليه الأنظار، خاصة إذا تطرق الحديث إلى مراكش التي يسمّيها مراكش السوداء، كما أني سمعته أكثر من مرة ينعتها بمدينة الغبار ويُكنّي أهلها بني الأغبر.
عدا هذا فهو رجل مسالم ليِّنُ الجانب، ولم يبدر عنه في حدود علمي ما يمكن اعتباره استخفافا بالسلطة مثلا أو تطاولا على هيبتها لا قدر الله. ولعلَّكم تذكرون. سيدي القائد أنكم سبق أن أوفدتم لجنة تقنية معززة بقوة عمومية لهدم تلك الحديقة الصغيرة التي أنشأها في مدخل بيته وسَيَّجها بالأسلاك متطاولا على الملك العمومي، بناءً على التقرير الشفوي الذي رفعتُه إليكم إبَّانها بهذا الشأن. يوم ذاك لم يقف الرجل في وجه اللجنة مثلما توقعنا، ولم يحاول عرقلة مهمتها، بل إنه أكرم وفادتنا بصينية شاي طالبا منحه مهلة كي يتولى أمر إزالة الحديقة بنفسه. وأذكر أن الحديقة كانت مزروعة بنُخيلات بعدُ طريَّة العود. ولقد عاينتُ كيف انهمك في انتزاعها برفق بالغ خشية أن تتأذى، قبل أن يودعها أكياسا، ثم تراجع تاركا المجال للجرَّافة كي تطيحَ بسور الحديقة الصغيرة.
كلام كثير يتداوله الناس هنا، بشأن الاختفاء المزعوم لهذا المواطن، ويردّدونه على المسامع بالزيادة أحيانا وبالنقصان حينا آخر. ولعلَّ أكثر الإفادات غرابة ما يرويه حارس موقف السيارات الذي يزعم أنه رأى الشخص المعني واقفا فوق إفريز إحدى نوافذ شقته على مشارف الفجر قبل أن يختفي. أعرف أن هذا الحارس دأب على مُعاقرة الخمر خلال نوبات حراسته الليلية، لكني أشهد أيضا أنه مصدر موثوق للأخبار، ولم أعهد فيه قط ميلا للكذب أو التلفيق.
وبعدُ.. لا يخفى عليكم سيدي القائد أن كل ما يتم تداوله حتى الآن بشأن هذه النازلة يبقى مجرد تكهنات وكلام ملقى على عواهنه، ما دام لم يمض على الاختفاء غير فترة وجيزة، وقد يظهر الرجل بين الفينة والأخرى ليضع حدّا لكل هذا القيل والقال.
اطمئنوا سيدي سأكون عينَكم التي ترصُدون بها كل حركة، وأذنَكم التي تتسقطون بها الأخبار، إلى أن نستجليَ الواقعة على وجه اليقين.
خادمكم المخلص…
مقدم حي…..
ورُفع إليكم هذا التقرير لكُلِّ غايةٍ مفيدة..
* قال الحارس الليلي
.. أنا لا أنكر بأني شربت قليلا تلك الليلة. رجل وحيد مثلي في مواجهة الليل البارد لن تؤنسه إلا قنينة تدفئ جوفَه كما تدفئ النار أطرافَه.
قُبيل صلاة الفجر بدأت عتمة الليل تتوارى، فيما اشتدَّ البرد. قمت بجولة أخيرة على المرآب ثم عدت إلى مجلسي وتكومت في جلبابي قُبالةَ النار كي أتدفأ قليلا بعدُ في انتظار مجيء حارس المرآب نهارًا. بدأتُ أنتشي بالدفء والشراب وكنت على وشك أن أغفو عندما رأيت ذلك الشيء فطار النعاس من عيني وتبخرت نشوة الشراب. رأيت السيد أحمد البهجة يقف للحظة خاطفة على حافة نافذة منزله، ثم يهوي في الفراغ، ورأيت ما يشبه سحابة كثيفة من الغبار تظلل المكان لفترة قبل أن تتبدد. بعد أن أفقت من دهشتي، ركضتُ نحو المكان هلعا مذعورا، لكني لم أجد جثة السيد أحمد البهجة فوق إسفلت الشارع مثلما توقعت. كان المكان فارغا غارقا في الصمت، فيما بقايا غبار تتلاشى ببطء.
بقيتُ أدور حول نفسي بالمكان دائخا كالمجنون، أكذب عينَيَّ تارة وأصدقهما طورا. للأسف لم يكن شاهدا على ما حدث غيري سوى السيارات الهاجعة في المرآب والأشجار وأعمدة الكهرباء، أما المصلّون فلم يمروا بالمكان إلا بُعَيد ذلك في طريقهم إلى المسجد القريب، ورُبَّما ألقى عليّ بعضهم تحيةً ذهلت عن ردها.
.. أجل، أعترف بأني كنت مخمورا بعض الشيء، لكنّي أدرك جيدا ما أقول وأعرف ما رأيت، وأستطيع أن أجزم بأنّ من رأيته هناك على حافة النافذة في تلك اللحظة الخاطفة كان السيد أحمد البهجة نفسه، أو هيأته على الأقل. لقد كان يرتدي ذات الجلباب الصوفي الذي كان يرتديه مساء البارحة، عندما مرّ بالمرآب بُعيد صلاة العصر وألقى عليّ التحية.. لكن كيف اختفى؟ وما الذي كان يفعله هناك على حافة النافذة؟! هذا ما لا أفهمه ويكاد يُصيبني بالجنون.
السيد أحمد البهجة رجل رزين ومُصلٍّ لا يمكن أن ينتحر بإلقاء نفسه من النافذة، معاذ الله.. لكنِّي أقسم أنّي رأيت هيأته واقفةً على حافة النافذة لِلحظة خاطفة قبل أن تقفز في الهواء وتختفي لا أدري أين..
* قالت الزوجة (إفادة رقم 2)
.. عندما استيقظتُ صباحًا وبي فزعٌ، كان ضوء النهار قد أوشك أن يغمرَ الغرفة. شعرت بأطرافي مثلجة، ولاحظت –لدهشتي- أن نافذة غرفة النوم كانت مشرعة تتماوج ستارتها بهدوء. هممتُ بالقيام عندما أثار انتباهي غبار كثير فوق ملاءة السرير، ومُتخللا ثنايا الغطاء. أسرعتُ لإغلاق النافذة، وبينما كنت أُحكِم إغلاق المصراع استرعت انتباهي كمية أكبر من الغبار منثورة على طول إفريز النافذة.
وعندما خطوتُ باتجاه مدخل غرفة النوم رَاعني ما رأيت: رأيت خيطا رفيعا من التراب ممتدا من قرب السرير حتى مدخل الغرفة. لم أفهم من أين جاء كل ذلك الغبار، و شعرت على نحو غامض بأن له علاقةً ما بزوجي فتوجَّست خيفة.
تفقدت هلعةً مرافقَ الشقة، دون أن أجد لـ”سيدي أحمد” أثرا. حينذاك ارتديت جلبابي على عجل وخرجت للبحث عنه، وأنا لا أعرف أيَّ وجهةٍ أقصد.
* قال الراوي
.. على غير عادته رجع مساء ذلك اليوم إلى البيت مبكرا. أخذ يتنقل بين غرف ومرافق البيت كما لو يبحث عن شيء لا يجده، قبل أن يخرج من جديد تحت النظرات المتسائلة لزوجته.
قصد موقفَ الحافلاتِ القريبَ، حيث استقل الحافلة باتجاه محطة “باب دكالة”. هناك ترجَّل وأكمل الطريق نحو وجهته. بعد خطوات قليلة شعر بسحابة الضيق المطبقة على صدره منذ الصباح وقد بدأت تخف، لولا أن سحابة أخرى من غبار انقضت عليه فجأة من حيث لا يدري، غطَّت وجهَه واخترقت خياشيمه فدهمته نوبةُ سعالٍ حادة دمعت لها عيناه.
في الخلاء الممتد إلى يمينه على مقربة من سور المدينة العتيق، حيث تنتشر نخلات مات معظمها عطشا أو حرقا، كانت غيوم كثيفة من الغبار تغطي المكان وتتهادى ببطء فوق هامات النخيل. أمعن النظر فإذا حشرات حديدية عملاقة تتحرك في الخلاء وتزمجر وهي تغرز مخالبها في بطن الأرض وتقتلع جذوع النخل مطيحة بها أرضا، ومثيرة سحبا كثيفة من الغبار.
حثّ الخطو مبتعدا عن المكان وقد جحظت عيناه الدامعتان وأوشك أن يختنق بالغبار الذي تسرّب إلى رئتيه. انعطف يمينا ومرق عبر إحدى البوابات الوطيئة التي فُتحت عنوةً في جسد السور السميك، ليجد نفسه وسط حيّه القديم.
اتجه رأسا صوب فرن الحي حيث اعتاد أن يلتقي أصحابه القدامى. لم يكن اليوم موعد لقائهم الأسبوعي، فتمنّى أن يجدهم جميعا هناك، متحلِّقين حول نار الفرن التي آلت إلى جمر.
لما صار على مقربة من الفرن وصلته قهقهات الأصدقاء وصوت “القُوبع″ الجهوري ذي الرنة المعدنية فابتهج. فكّر بأن “الشلة” كلها هنا، وبأن صديقهم “القُوبع″ في أفضل حالاته، وأنَّه قد انفرد مرة أخرى بالحديث، مثيرا هديرا من الضحك والتعليقات.
بابُ الفرن الخشبي موارب، كأنما يتوقعون مجيئه. دفَعه بكتفه فانفرج، واقتحم عليهم عتمة الفرن مثل شبح. فوجئوا في البداية فران عليهم الصمت، ثم سرعان ما فرحوا لقدومه وأعدُّوا له مجلسا.
صال “القُوبع″ وجال في حكاياته التي لا تنتهي. ضحكوا كثيرا، شربوا أدوارا عديدة من الشاي، وتناوبوا ما شاءت لهم النشوة من المرَّات على سحب الأنفاس من “السبسي” المعمَّر بكيف جبَلي حرِّيف.. إلى أن ارتخت منهم الأجفان وتهدلت الشفاه. وعندما سقطت رأس “إدْريس″ الفرَّان فوق صدره بعد أن دهمه النعاس كان وقت السَّمر قد انتهى، وآن للجمع أن ينفضَّ؛ فلا بد أن يحظى “إدْريس″ بقسط من النوم، قبل أن يوقدَ نار الفرن بعد الفجر بقليل لإعداد خبز الصباح.
ودَّع أحمد البهجة أصدقاءه وخرج. ألفى بيوتَ حيّه القديم هاجعةً وسط الصمت وبرد آخر الليل. مشى قاصدا البوابة التي دخل منها، لكنه وجد نفسه، بعد دقائق من المشي، وجها لوجه مع منزله القديم. حدّق في البناية الإسمنتية الجديدة ذات الطابقين، ورأى ضوءا في الطابق الثاني الذي تنبعث منه موسيقى غربية. هُدم المنزل وأعيد بناؤه.. تذكر تلك العجوز الفرنسية الضئيلة التي ابتاعت البيت. تراءت له واقفة وسط باحة البيت على مقربة من نافورة الماء وشجرة الرمان، تمسك خصرها الضامر بيديها وتجيل نظراتها في أرجاء المنزل وعلى وجهها ابتسامة ظافرة.
تخيَّل جدرانَ بيته السميكةَ التي عمَّرت عُقودا طويلةً وهي تتداعى وتصير أنقاضا تحت ضربات الجرَّافة التي سوّتها بالأرض، وتراءت له غيمةُ غبار عملاقة تُغطّي الزقاق وتتهادى على علو منخفض قبل أن تتلاشى ببطء.
مشى بين الأزقة والدروب محفوفا بالغبار. غبار يأتيه من كل جهة ويحاصره. ظنَّ في البداية أن رماد الفرن علق بثيابه، فراح ينفض ثيابه بعصبية، لكن دون جدوى.. كلما تخلص من غبار علق به آخر.. حينذاك اكتشف مذعورا أن الغبار ينبُع من داخله، من بين ثنايا ثيابه! فتح فمه التماسا لنسمة هواء فسبقت ذرَّاتُ الغبار الهواءَ إلى رئتيه واقتحمت خياشيمه، فأوشك أن يختنق.
* * *
دلف خارجَ السور بإعياء.
أحسّ بذرات الغبار تتخلل شعر رأسه وحاجبيه، فأسدل قلنسوةَ جلبابه.
وقف إلى جانب الطريق منتظرا سيارة أجرة. كلما بدرت عنه حركة تطاير منه الغبار، فأجبر نفسه على الوقوف مثل تمثال.
خرجتْ سيارة أجرة من حيث لا يدري ووقفت على مقربة منه. اندسَّ بسرعة في المقعد الخلفي.
لم يكن السائق من النوع الثرثار. انصرف إلى الطريق أمامه، ولم يُلق نظرة على المرآة العاكسة سوى مرة أو مرتين، لكنَّ سيارته كانت متهالكة وهو كان أعشى، فكان يتخبط في حُفر الطريق. تحمَّل أحمد البهجة ارتجاجاتِ السيارة العنيفةَ على مضض، وهو يخشى أن تتذرّر أطرافُه ويصيرَ بدنه الهش كومةَ غبار قبل أن يبلغ وجهته.
تكوّم على نفسه في وُجوم، وهو يستعجل بلوغ منزله، وعندما نزل من سيارة الأجرة أخيرا ترك كومة تراب في المقعد الخلفي.
الحي متشح بالصمت. رجلاه واهنتان. شعر ألا طاقة له بعدُ على السير حتى المنزل. مشى الهوينى متمنيا أن يبلغ منزله دون أن يراه أحد، وشعر بأنه كائن في طور التلاشي.
أدخل المفتاح في فتحة القفل، ولم يهتد إلى فتح الباب إلا بعد عنت، لأنه كان يعالج القفل بكامل الحذر خشية أن تتفتت أصابعه، وأراد تفادي إيقاظ زوجته: لن يحتمل أن تراه على تلك الحال.
تقدم داخل البيت بلا صوت تقريبا. لم يكن يُسمع سوى حفيف ذرَّات التراب وهي تتساقط من جسده وتنساب فوق الأرضية، وامتدّ خلفه خيط رفيع من التراب من الباب حتى غرفة النوم. كانت زوجته نائمة. تأمل وجهها الهادئ المستغرق وخامره شعور موجع بأنه يراها للمرة الأخيرة.. جلس إلى جانبها فوق السرير ومدَّ يدَه نحو اللحاف ليسدله على ذراعها العارية، لكنه شعر فجأة بذرات التراب تتراكم في حلقه وتسد منخريه فشعر بالاختناق. اندفع نحو النافذة وفتح مصراعها بعنف التماسا للهواء فتفتَّتت كفه اليمنى. فتح إحدى دفتي النافذة، ثم صعد مستعينا بكرسي. وقف فوق إفريز النافذة لِلحظةٍ وجيزةٍ ثم قفز في الهواء. لثواني معدودة سبح في الفراغ بكامل هيأته تقريبا قبل أن يتفتَّت ويتناثرَ كومًا من التراب والغبار في الهواء وفوق إفريز النافذة.
هذا ما لديّ للإفادة به، أنا الراوي، بشأن نازلة اختفاء المواطن أحمد البهجة صبيحة يومه الاثنين الثامن والعشرين من شهر.. لسنة.. ميلادية..
والله تعالى أعلم.