دقّت جرس الباب كثيراً قبل أن يَفتح .. بدا معروكاً كأنّه خرج من معركة ضارية خسِرَ فيها كل ما يملك .. ذقنُه شئزةٌ خشنة كمكنسةِ الأرض .. شعرهُ منكوشٌ داخَلَه العرق والدّهن .. رائحته مخلوطة برائحة بيته .. دخانٌ وعفنٌ وروائحَ أخرى ..
قالت :
- أعرف أنك في الدّاخل .. لذلك وضعتُ يدي على الجرس بإصرار حتى فتحتَ الباب .. وقلت في نفسي أذكرك في عيد الحب إن كنت تناسيتني
قال:
- ما عاد للحبِّ مكانٌ في قلبي .. جفّت تربته وذبُلت وردته وذابت شمعته .. طلّقَني الحب بالثلاثة ، فغدا عيده ذكرياتٍ مؤلمة كعيد الزواج عند المطلّقة .. تتذكره ولا تريد ذكراه .
أخرجت من حقيبتها وردة حمراء ، وتلفّتت باحثة عن إناءٍ مناسب ولمّا لم تجد وضعتها في كأس مائه الشروب .. وقالت مبتسمة :
- فلم كلّ هذا القنوط ؟.. وحتى المطلّقة تربح حرّيتها وتستبدل عيد زواجها البغيض بأزواجٍ وأعيادٍ وأعياد .
قال ومازال مطرقاً إلى الأرض :
- أنا قريبٌ من الهاوية .. سقوطي أصبح أمراً مفروغاً منه... الفشل يلاحقني كيفما اتّجهت .. وأنّى حللت .. طريقي مسدود .. وسوء الحظ يقف حجرَ عثرةٍ أمامي .. فلا أخطو خطوة إلا وأتعثر .. أسقط أرضاً.. ألملم أشتاتي وأحاول المُضيّ قدُماً.. ولكنّ المكتوبَ معروفٌ من عنوانه .
- كأنك تستشعرُ الهزيمة قبل المعركة .. فتلقي بسلاحكَ وترفع الراية البيضاء !
- نعم .. ألا تعتقدين أنّ الاستسلام والخنوع أفضل من المحاولات الفاشلة ؟ .. والانسحاب من المباراة يجنّبني السخرية والتهكّم .. على الأقل لا أرى شماتة الحساد .. لا أملك شجاعة الانتحار و أنا أجبن من أن أنتحر.. لذا فضّلت الانسحاب والانعزال والاعتزال .
ليس لديها ما تردّ به عليه لذا التزمت الصمت .. بينما انكمش هو على مقعده وكم بدا صغيراً كخرقة بالية مطوية على نفسها ..
وقفَتْ خلفه ووضعَت يدها على رأسه .. أحسّت بشعره الملتصق يتكسّر بين أصابعها .. نبشت أشعاره حتى وصلت إلى فروة رأسه .. مرّت بأصابعها كالمشط .. فاسترخى واستسلم .. كضبعٍ مفترس سَهُل استئناسه بدغدغة أشعاره..قال:
-أنت الوحيدة التي تسألين عني .. لم يبقَ لي غيركِ في دُنياي .. تُشفِقين عليّ وتؤنِسين وحدتي .
جذبَتْ رأسه إلى الخلف حتى واجهَتْ عينيه المُغمضتين خجَلاً..قالت:
- أنتَ عزيزٌ علي .. تُؤلمُني وحدَتُكَ ويعزّ عليّ انسحابكَ واستسلامك .. افتح عيونك ودعني أحطّم منظاركَ الأسود .. انظرْ للقسم الملآن من الكأس .. واشكر ربّك على نعمه وعطاياه ..
- أية نِعَمٍ تتحدّثين عنها ؟... أنا في الحضيض .
دارت وواجهته .. قالت بثقة :
- أنا الآن بين يديك ... وطوعُ أمرك .. ما رأيكَ بذلك ؟.. ألا تعتقد بأن خلوتي بك في هذه الصومعة نعمة من النعم ؟.. تعال نتحابب في يوم الحب على الأقل .. تعال نتناسى همومنا في ليلة كهذه ولو مرّة في السنة .. وما أظنهم اخترعوا بدعة هذا العيد إلا لأمثالنا .. فعيد الفطر يأتي بعد الصيام ونحن صوّامون عن الحب في شقائنا الأبدي .
انحدر من كرسيه .. وجثا عند قدميها .. قال :
-آهٍ ما أحوجني إليكِ .. دعيني أقبّل القدمَ الوحيدة التي داست عتباتي منذ اعتزلْتُ الناس .. أنتِ آلهتي وسيدتي .. أركعُ بين يديكِ .. ولولا جفّت دموعي لمَسحتُهما وغسلتهما ..
انحنى وسجد بين ساقيها كراهبٍ صينيّ بين يدي بوذا ... أو كمؤمنٍ كاثوليكيّ في حضرةِ البابا .. قبّل العقبين .. وقبّل الساقين .. وضاع تحت الرداء الطويل .. وكم غدا صغيراً .. يريد أن يختفي أو يتخفّى كطفلٍ خائف يرى في رداء أمه مستمسكاً يلوذ به .
كان كمن أعلن إضرابه عن الطعام حتى كلّت قواه وانتظر منقذاً يبرّر إقلاعه عن الإضراب ولو لم تتحقق مطالبه .. لأنه عرف أن ذلك الإضراب مسرحية هزلية تنتهي بموته الرخيص
أو كان كمن أعلن اعتصامه على باب دائرة حكومية ورفع لائحة باحتجاجاته ولكن ما التفت إليه أحد..وكان يريد التنازل عنها في قرارة نفسه وانتظر شرطة مكافحة الشغب لتقمعه ولم تأتِ .. وانتظر خراطيم المياه لتفرّق مظاهرته ولمّا تأتِ .. أين قانون الطوارئ المعمول به ؟.. أحياناً نطالب به مطالبة ولا يطبّقونه!
انتظر شرطياً يعتقله ليحقّق معه ولم يأتِ ..
وانتظر وسائل الإعلام تسوق خبراً عنه ولم يلقِ أحدٌ إليه بالاً ..
كان كمَن يريد الانتحار من أعلى بناية في المدينة فجلس على حافة سطحها ثم تدلى ..وبدأ يصيح بأعلى صوته سألقي بنفسي يا قوم .. ولم يرتكس له عصفورٌ طيّار ولا مواطن يسير في ذلك الشارع .. لم تجتمع وسائل الإعلام تحته ولا سيارات الإطفاء تمدّ له سلالم الإنقاذ .. ولا مسؤولٌ يتوسّل إليه ويناديه بمكبّر الصوت أن لا تعرّض حياتك للخطر فحياتك غالية علينا يا مواطن ، وسنحقّق لك مطالبك إو على الأقل سننظر بها .. كان بالحقيقة سيموت في بيته كجرذٍ تافه نفق في وكره بصمت لو لم تستذكره وتأتيه لتنتشله من الجبّ الذي أوقع فيه نفسَه.
مدّت يدها وأمسكته بشعره .. رفعَت رأسَه كمُذنبٍ جاهزٍ للذّبح .. وتركت جسده مرميّاً على الأرض... قالت :
- أنتَ ليَ اليوم .. عبدٌ ومملوك .. معروكٌ ومسحوق ومجعوك .. مكسور ومنكسرٌ وصعلوك .. قبّل يدي وقدمي ...امسح أصابعي بدموعك .. دع شفاهك تبوس كاحلي وركبتي ومرفقي ... اصعد إلى قلبي صاغراً .. وانزل على كبدي فاغراً ..فرّغ أحزانك في جعبتي .. وعُدْ كما كنت متوازناً وكبيراً وعزيزاً وأميراً.. ودّع شحناتكَ السلبية في جسدي .. وارجع كما كنت إيجابياً.
قال :
- أنا طوعُ أمركِ .. عبدٌ بين يديّ مولاتي .. سأقبّل الحذاء قبل القدم ..لكن دعيني أستحمّ أولاً لأصبح لائقاً بمقامكِ الكريم .
- رائحة العبد تروق لي .. ابقَ كما أنت ..لا تتطيّب فأقرف من عطورك العصريّة .. عرقكَ النتن يثيرني ...وشعرك المُشبَع بالدّهون يخِزني كالإبر .. أسنانك الصدئة عندما تعضّ ساقي تبعث فيّ القشعريرة..
ابقَ كما أنت عبداً ومملوكاً .. ودَعْني كما أشتهي أن أكون ... أميرةً .. وملكة جاءت بصعلوكٍ يلعُقها ويعضّها ويقبّلها ...أرى نفسي –وأنا الذليلة المسحوقة - سيدة للقصر عندك .. وتسللت الأميرة تحت جنح الظلام من مخدعها الملكي نحو زريبة الخيل لتمارس الحب مع السايس ..هجرت مخدة الريش وفضّلت عليها كومة من قش !
أبحث عن ذلك الرجل الذي يركع أمامي ويتسلّقني .. فأبصق عليه ويرتشف بصاقي رغبةً .. وأبول عليه فيشرب بوالي نشوةً ... أجلده فيعترف لي بالحب عشقاً .. أصفعه فيقبّل اليد التي تلطمه عِرفاناً .. أنا التي عرفت الرّكوع على العتبات وخبرت كل أنواع الانسحاق والتذلل والانبطاح أمام الغريب .
لذلك وفي يوم الحب هذا ..
كن أنت حصاني المطيع تمكّنني من امتطاء صهوتك .. أضع رجلي في ركابك .. أنكزك بمهماز حذائي الثقيل .. أشدّ على لجامك .. أجلدك بالسوط .. فتطير بي في ميادين الحب .. وأطرب لأصوات حوافرك تدقُّ الأرض فتتطاير خلفنا زوبعة من غبار .. أحتضن رقبتك كي لا أقع وأنت تخبّ وتقفز وتثب مخترقاً كل الحواجز في مضمار العشق..لا تكبو أمام رغباتي الجامحة ولا تحرن إزاء منحدراتي .. وألهبك بالسوط حتى تخور قواك.
كنتُ سأخلعُ بابكَ لو لم تفتحْ لي.. أنا بحاجةٍ إليك كما أنت بحاجة لي .. أعرفُ أنك ماردٌ عظيم استصغرْتَ نفسكَ الكبيرة .. وحَبَسْتها في قمقم العزلة .. وأضعْتَ مفتاحه فعجزتَ عن الخروج .. لذلك جئتكَ أطبطب على هذا القمقم فيخرج العفريت منه جائعاً جبّاراً مُطيعاً ومطواعاً..
قال:
- وأنا أيضاً محتاجٌ إليك في تشتّتي وشتاتي .. امتطيني.. تشبّثي بي ودعيني أشقّ بك صفوف الخيل فلا يلحقون بنا..
والحب إن تفنّنتَ به يجرّدك من كل قيودك .. يعرّيك ويعيدك إلى آدم وحواء عندما كانا لوحدهما في الجنة .. ووضعيات الحب ما جاءت من فراغ وإنما هي صور افتراضية عن وضعك النفسي وعلاجية بنفس الوقت لك ولشريكك .. فممارسة الحب وقوفاً تدل على استعجالك .. ومجانبةً تدل على استرسالك .. ومظاهرةً تدل على استبسالك .. ومواجهة تدل على استحلالك ..
وفي يوم الحب يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره .. والقلوب المحتقنة من ظلم الآخرين وجدت لها متنفساً في جسد الشريك .. تمحنه وتمنحه وتمتحنه .. تعركه وتتعارك معه ..تعبّ منه أنفاساً وتحقنه .. تمتصه وتعضه .. تقتصُّ منه وتغتصبه .. تؤلمه ويبادلك الإيلام .. حتى يتنفس الشريكان الصعداء ويسود الطنين العذب الذي ينسيك همومك فتسترخي والنشوة تسيطر عليك .. وتتحلحل كلّ مشاكلك كما تتحلحل مفاصلك
جذب فوقها غطاء يسترها وكانت مُغمضَة العينين .. وقام إلى وردتها الحمراء وشرب من مائها المغموسة به ثم وضعها على مخدّتها..
كانت سعيدة إذ سمعت غناءه ودندناته .. وسعيدة إذ شمّت رائحة قهوته التي سيدعوها إليها .. وسعيدة إذ اندفع الهواء النقي من نافذته التي فتحها فتخرج منها خباثات نفسه .. وسعيدة إذ رأته مبتسماً وراضياً .. فقد عاد المنسحب إلى عالمه بالحبّ وبالحب وحده .. ولم تتحقّق واحدة من لائحة مطالبة ولكنه فضَّ اعتصامه راضياً مَرْضياً.
قبل أن تغادر صومعته رسمت على مرآته بقلم حمرتها قلباً وسهماً يخترقه ، وكتبت عسانا من عوّاده.
*********************
قالت :
- أعرف أنك في الدّاخل .. لذلك وضعتُ يدي على الجرس بإصرار حتى فتحتَ الباب .. وقلت في نفسي أذكرك في عيد الحب إن كنت تناسيتني
قال:
- ما عاد للحبِّ مكانٌ في قلبي .. جفّت تربته وذبُلت وردته وذابت شمعته .. طلّقَني الحب بالثلاثة ، فغدا عيده ذكرياتٍ مؤلمة كعيد الزواج عند المطلّقة .. تتذكره ولا تريد ذكراه .
أخرجت من حقيبتها وردة حمراء ، وتلفّتت باحثة عن إناءٍ مناسب ولمّا لم تجد وضعتها في كأس مائه الشروب .. وقالت مبتسمة :
- فلم كلّ هذا القنوط ؟.. وحتى المطلّقة تربح حرّيتها وتستبدل عيد زواجها البغيض بأزواجٍ وأعيادٍ وأعياد .
قال ومازال مطرقاً إلى الأرض :
- أنا قريبٌ من الهاوية .. سقوطي أصبح أمراً مفروغاً منه... الفشل يلاحقني كيفما اتّجهت .. وأنّى حللت .. طريقي مسدود .. وسوء الحظ يقف حجرَ عثرةٍ أمامي .. فلا أخطو خطوة إلا وأتعثر .. أسقط أرضاً.. ألملم أشتاتي وأحاول المُضيّ قدُماً.. ولكنّ المكتوبَ معروفٌ من عنوانه .
- كأنك تستشعرُ الهزيمة قبل المعركة .. فتلقي بسلاحكَ وترفع الراية البيضاء !
- نعم .. ألا تعتقدين أنّ الاستسلام والخنوع أفضل من المحاولات الفاشلة ؟ .. والانسحاب من المباراة يجنّبني السخرية والتهكّم .. على الأقل لا أرى شماتة الحساد .. لا أملك شجاعة الانتحار و أنا أجبن من أن أنتحر.. لذا فضّلت الانسحاب والانعزال والاعتزال .
ليس لديها ما تردّ به عليه لذا التزمت الصمت .. بينما انكمش هو على مقعده وكم بدا صغيراً كخرقة بالية مطوية على نفسها ..
وقفَتْ خلفه ووضعَت يدها على رأسه .. أحسّت بشعره الملتصق يتكسّر بين أصابعها .. نبشت أشعاره حتى وصلت إلى فروة رأسه .. مرّت بأصابعها كالمشط .. فاسترخى واستسلم .. كضبعٍ مفترس سَهُل استئناسه بدغدغة أشعاره..قال:
-أنت الوحيدة التي تسألين عني .. لم يبقَ لي غيركِ في دُنياي .. تُشفِقين عليّ وتؤنِسين وحدتي .
جذبَتْ رأسه إلى الخلف حتى واجهَتْ عينيه المُغمضتين خجَلاً..قالت:
- أنتَ عزيزٌ علي .. تُؤلمُني وحدَتُكَ ويعزّ عليّ انسحابكَ واستسلامك .. افتح عيونك ودعني أحطّم منظاركَ الأسود .. انظرْ للقسم الملآن من الكأس .. واشكر ربّك على نعمه وعطاياه ..
- أية نِعَمٍ تتحدّثين عنها ؟... أنا في الحضيض .
دارت وواجهته .. قالت بثقة :
- أنا الآن بين يديك ... وطوعُ أمرك .. ما رأيكَ بذلك ؟.. ألا تعتقد بأن خلوتي بك في هذه الصومعة نعمة من النعم ؟.. تعال نتحابب في يوم الحب على الأقل .. تعال نتناسى همومنا في ليلة كهذه ولو مرّة في السنة .. وما أظنهم اخترعوا بدعة هذا العيد إلا لأمثالنا .. فعيد الفطر يأتي بعد الصيام ونحن صوّامون عن الحب في شقائنا الأبدي .
انحدر من كرسيه .. وجثا عند قدميها .. قال :
-آهٍ ما أحوجني إليكِ .. دعيني أقبّل القدمَ الوحيدة التي داست عتباتي منذ اعتزلْتُ الناس .. أنتِ آلهتي وسيدتي .. أركعُ بين يديكِ .. ولولا جفّت دموعي لمَسحتُهما وغسلتهما ..
انحنى وسجد بين ساقيها كراهبٍ صينيّ بين يدي بوذا ... أو كمؤمنٍ كاثوليكيّ في حضرةِ البابا .. قبّل العقبين .. وقبّل الساقين .. وضاع تحت الرداء الطويل .. وكم غدا صغيراً .. يريد أن يختفي أو يتخفّى كطفلٍ خائف يرى في رداء أمه مستمسكاً يلوذ به .
كان كمن أعلن إضرابه عن الطعام حتى كلّت قواه وانتظر منقذاً يبرّر إقلاعه عن الإضراب ولو لم تتحقق مطالبه .. لأنه عرف أن ذلك الإضراب مسرحية هزلية تنتهي بموته الرخيص
أو كان كمن أعلن اعتصامه على باب دائرة حكومية ورفع لائحة باحتجاجاته ولكن ما التفت إليه أحد..وكان يريد التنازل عنها في قرارة نفسه وانتظر شرطة مكافحة الشغب لتقمعه ولم تأتِ .. وانتظر خراطيم المياه لتفرّق مظاهرته ولمّا تأتِ .. أين قانون الطوارئ المعمول به ؟.. أحياناً نطالب به مطالبة ولا يطبّقونه!
انتظر شرطياً يعتقله ليحقّق معه ولم يأتِ ..
وانتظر وسائل الإعلام تسوق خبراً عنه ولم يلقِ أحدٌ إليه بالاً ..
كان كمَن يريد الانتحار من أعلى بناية في المدينة فجلس على حافة سطحها ثم تدلى ..وبدأ يصيح بأعلى صوته سألقي بنفسي يا قوم .. ولم يرتكس له عصفورٌ طيّار ولا مواطن يسير في ذلك الشارع .. لم تجتمع وسائل الإعلام تحته ولا سيارات الإطفاء تمدّ له سلالم الإنقاذ .. ولا مسؤولٌ يتوسّل إليه ويناديه بمكبّر الصوت أن لا تعرّض حياتك للخطر فحياتك غالية علينا يا مواطن ، وسنحقّق لك مطالبك إو على الأقل سننظر بها .. كان بالحقيقة سيموت في بيته كجرذٍ تافه نفق في وكره بصمت لو لم تستذكره وتأتيه لتنتشله من الجبّ الذي أوقع فيه نفسَه.
مدّت يدها وأمسكته بشعره .. رفعَت رأسَه كمُذنبٍ جاهزٍ للذّبح .. وتركت جسده مرميّاً على الأرض... قالت :
- أنتَ ليَ اليوم .. عبدٌ ومملوك .. معروكٌ ومسحوق ومجعوك .. مكسور ومنكسرٌ وصعلوك .. قبّل يدي وقدمي ...امسح أصابعي بدموعك .. دع شفاهك تبوس كاحلي وركبتي ومرفقي ... اصعد إلى قلبي صاغراً .. وانزل على كبدي فاغراً ..فرّغ أحزانك في جعبتي .. وعُدْ كما كنت متوازناً وكبيراً وعزيزاً وأميراً.. ودّع شحناتكَ السلبية في جسدي .. وارجع كما كنت إيجابياً.
قال :
- أنا طوعُ أمركِ .. عبدٌ بين يديّ مولاتي .. سأقبّل الحذاء قبل القدم ..لكن دعيني أستحمّ أولاً لأصبح لائقاً بمقامكِ الكريم .
- رائحة العبد تروق لي .. ابقَ كما أنت ..لا تتطيّب فأقرف من عطورك العصريّة .. عرقكَ النتن يثيرني ...وشعرك المُشبَع بالدّهون يخِزني كالإبر .. أسنانك الصدئة عندما تعضّ ساقي تبعث فيّ القشعريرة..
ابقَ كما أنت عبداً ومملوكاً .. ودَعْني كما أشتهي أن أكون ... أميرةً .. وملكة جاءت بصعلوكٍ يلعُقها ويعضّها ويقبّلها ...أرى نفسي –وأنا الذليلة المسحوقة - سيدة للقصر عندك .. وتسللت الأميرة تحت جنح الظلام من مخدعها الملكي نحو زريبة الخيل لتمارس الحب مع السايس ..هجرت مخدة الريش وفضّلت عليها كومة من قش !
أبحث عن ذلك الرجل الذي يركع أمامي ويتسلّقني .. فأبصق عليه ويرتشف بصاقي رغبةً .. وأبول عليه فيشرب بوالي نشوةً ... أجلده فيعترف لي بالحب عشقاً .. أصفعه فيقبّل اليد التي تلطمه عِرفاناً .. أنا التي عرفت الرّكوع على العتبات وخبرت كل أنواع الانسحاق والتذلل والانبطاح أمام الغريب .
لذلك وفي يوم الحب هذا ..
كن أنت حصاني المطيع تمكّنني من امتطاء صهوتك .. أضع رجلي في ركابك .. أنكزك بمهماز حذائي الثقيل .. أشدّ على لجامك .. أجلدك بالسوط .. فتطير بي في ميادين الحب .. وأطرب لأصوات حوافرك تدقُّ الأرض فتتطاير خلفنا زوبعة من غبار .. أحتضن رقبتك كي لا أقع وأنت تخبّ وتقفز وتثب مخترقاً كل الحواجز في مضمار العشق..لا تكبو أمام رغباتي الجامحة ولا تحرن إزاء منحدراتي .. وألهبك بالسوط حتى تخور قواك.
كنتُ سأخلعُ بابكَ لو لم تفتحْ لي.. أنا بحاجةٍ إليك كما أنت بحاجة لي .. أعرفُ أنك ماردٌ عظيم استصغرْتَ نفسكَ الكبيرة .. وحَبَسْتها في قمقم العزلة .. وأضعْتَ مفتاحه فعجزتَ عن الخروج .. لذلك جئتكَ أطبطب على هذا القمقم فيخرج العفريت منه جائعاً جبّاراً مُطيعاً ومطواعاً..
قال:
- وأنا أيضاً محتاجٌ إليك في تشتّتي وشتاتي .. امتطيني.. تشبّثي بي ودعيني أشقّ بك صفوف الخيل فلا يلحقون بنا..
والحب إن تفنّنتَ به يجرّدك من كل قيودك .. يعرّيك ويعيدك إلى آدم وحواء عندما كانا لوحدهما في الجنة .. ووضعيات الحب ما جاءت من فراغ وإنما هي صور افتراضية عن وضعك النفسي وعلاجية بنفس الوقت لك ولشريكك .. فممارسة الحب وقوفاً تدل على استعجالك .. ومجانبةً تدل على استرسالك .. ومظاهرةً تدل على استبسالك .. ومواجهة تدل على استحلالك ..
وفي يوم الحب يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره .. والقلوب المحتقنة من ظلم الآخرين وجدت لها متنفساً في جسد الشريك .. تمحنه وتمنحه وتمتحنه .. تعركه وتتعارك معه ..تعبّ منه أنفاساً وتحقنه .. تمتصه وتعضه .. تقتصُّ منه وتغتصبه .. تؤلمه ويبادلك الإيلام .. حتى يتنفس الشريكان الصعداء ويسود الطنين العذب الذي ينسيك همومك فتسترخي والنشوة تسيطر عليك .. وتتحلحل كلّ مشاكلك كما تتحلحل مفاصلك
جذب فوقها غطاء يسترها وكانت مُغمضَة العينين .. وقام إلى وردتها الحمراء وشرب من مائها المغموسة به ثم وضعها على مخدّتها..
كانت سعيدة إذ سمعت غناءه ودندناته .. وسعيدة إذ شمّت رائحة قهوته التي سيدعوها إليها .. وسعيدة إذ اندفع الهواء النقي من نافذته التي فتحها فتخرج منها خباثات نفسه .. وسعيدة إذ رأته مبتسماً وراضياً .. فقد عاد المنسحب إلى عالمه بالحبّ وبالحب وحده .. ولم تتحقّق واحدة من لائحة مطالبة ولكنه فضَّ اعتصامه راضياً مَرْضياً.
قبل أن تغادر صومعته رسمت على مرآته بقلم حمرتها قلباً وسهماً يخترقه ، وكتبت عسانا من عوّاده.
*********************