دُق الباب فقامت إلى فتحه، وسألها الشاب عن ابنها في أدب واحترام، وأخبرته بأنه سافر إلى الدار البيضاء ولن يلبث أن يعود في هذا المساء كعادته.. وأظهر الشاب إلحاحا قويا في لقاء ابنها، فما كان منها إلا أن طلبت منه أن يدخل إلى البيت لينتظره، خاصة و أن المطر بدأ ينزل غزيرا..
وعندما جلس الشاب في الحجرة الوحيدة، أخذ يحدثها عن ابنها بلوعة المشتاق، فما كان منها إلا أن سألته باستحياء إن بصري ضعيف يا ولدي فاسمح لي إذا ما سألتك.. فأجابها بكل احترام تفضلي يا سيدتي.. . فقالت له ألا يكون اسمك قاسم صديق ابني.. ، وأجابها ببشاشة هو كذلك..إنني قاسم.. وأردفت السيدة لقد عرفتك.. وقلت في نفسي إن هذا الذي يسأل عن ابني بهذا الإلحاح لن يكون إلا قاسم. . ثم قامت تعد للزائر شايا ساخنا يبعد عنه برودة الطقس..
واغتنمها الشاب فرصة سانحة لأن يجيل بصره في كل جزء من هذه الحجرة، من غير أن ينسى أن يستعمل يديه أيضا، وكأنه يبحث عن شيء ما..
عادت السيدة تحمل الشاي من المطبخ فعاد هو إلى جلسته السابقة، وهو يؤاخذها على تكليف نفسها بإعداد الشاي، ولكنه لم يمانع في أخذ كأس منها، وهو في أشد الحاجة إليه.. وانطلقت المرأة تحدثه عن نفسها وعن ابنها، وعن آمالها التي تعقدها عليه، خاصة، وهي تنتظر منه أن يتوفر له مال من عمله المتواضع ليأخذها إلى الخارج لإجراء عملية لعينيها المتعبتين.. من غير أن تنسى أن تسأل الشاب إذا ما كان في نيته أن يتزوج باكرا لأنه لاشيء يدخل السرور على الوالدين من رؤية ابنهما وقد بنى عشه، وزقزق فيه الأحفاد…
غير أن الشاب كان وهو يشاركها آمالها، كان يطلب منها ألا تتسرع فأمامها وقت طويل لذلك..
في حين استخلصت هي نفس الفكرة التي لا ينسى ابنها في ترديدها، وهي أن شباب اليوم برم من الزواج والمسؤوليات العائلية، فالحياة أصبحت بغلائها لاتطاق، وأن عليهما أن يكافحا، من أجل لقمة الخبز، كفاح الأبطال.. ثم ما لبث أن أخذت تلعن هذه الظروف التي تعوق المرء من مزاولة نشاطه بكل حرية، والمتابعات التي تقام في وجه المستقيمين من الشباب الذين يسعون لخدمة بلادهم بكل حماس وعزم..
وبدا أن الشاب ضاق ذرعا بأقوال السيدة الحزينة، فما كان منه إلا أن غادرها على أن يعود إليها بعد قليل.. وودعته السيدة عند الباب بالدعاء له ولابنها بالخير والرشاد..
ولكن الشاب لم يمهلها طويلا حتى تستريح في فراشها بل رجع إليها يسألها إذا ما كان ابنها قد عاد، فطلبت منه، مرة أخرى أن يدخل، ولكنه اعتذر بأدب، وهو يستسمحها على هذا الإزعاج..
وتوالت دقاته على الباب واستفساره عن ابنها أكثر من عشر مرات إلى أن تعبت من الثيام والجلوس فسألته قل لي يا ولدي أي شيء تريده منه؟ لاشك أن شيئا هاما تنتظره منه؟ ونفى الشاب أن يكون هناك شيء هام، كل ما هنالك هو أنه في اشتياق لرؤيته، ثم انصرف..
وعندما عاد من جديد وفتحت له الباب وسألها صاحت في وجهه هذه المرة ألا يمكنك أن تؤخر زيارتك إلى صباح الغد؟ لقد أتعبتني كثيرا يابني وأنا كما ترى امرأة عجوز لا قدرة لي على مغادرة الفراش، خاصة في ليلة ممطرة كهذه.. واعتذر الشاب من جديد على تصرفه هذا، وسألها أن تصفح عنه.
وعندما عادت إلى فراشها اكتنفها هم مفاجئ إن في الأمر ما يريب..ألا يمكن أن يكون مكروه ما لحق بابنها..؟ ألا يمكن أن يكون هذا الشاب قد سمع عن حادثة سير قد تعرض لها ابنها وجاء ليتأكد من ذلك بنفسه.. ولامت نفسها على تصرفها الأخير، وودت من كل قلبها أن يعود الشاب من جديد تستدرجه في السؤال لتعرف الحقيقة..
وسمعت نقرا على الباب فقامت توا لفتحه، وفيما هي تحاول أن تتكلم وصلها صوت ابنها يطمئنها، ويستسمحها على هذا التأخير..
وضمته إلى صدرها في حنان تشبع نفسها من أنفاسه.
وعندما جلسا قليلا أخبرته عن زيارة صديقه قاسم ولكنه بدل أن يبدي ابتهاجه لذلك سألها
ــ و كيف عرفت أنه قاسم؟
ــ لقد قلت له هل أنت قاسم؟ فأكد لي ذلك..
ــ لا..لا..إنه ليس هو..
ــ ولماذا؟
ــ لأن قاسم سافر إلى ألمانيا، ولن يعود قبل سنتين..
ــ أمتأكد مما تقول؟
ــ نعم..كل التأكيد.
ــ ومن هذا الشاب الذي لم يترك لي فرصة للاستراحة..لقد زارك هذا المساء أكثر من عشر مرات، وأدخلته إلى هنا وأسقيته شايا…
ووقف ابنها فزعا.. فسألته دهشة
ــ ماذا بك؟
ــ وأدخلته إلى بيتنا
ــ نعم.. لقد كنت أعتقد أنه قاسم
ــ لا..لا..
ــ ومن يكون؟
ــ لعله المخابرات..
ــ وما العمل؟
ــ علي أن أودعك الآن قبل أن يعود من جديد لإلقاء القبض علي..
وقبّلها بسرعة، ورفع كيسه الذي كان يحمله معه قبل قليل، وغادر البيت مسرعا..
ولم تمض إلا دقائق معدودات حتى عاد الشاب من جديد يسأل عن ابنها، وعندما أجابته، هذه المرة، بأنه لن يعود في هذه الليلة، ولاحظ شفتيها المرتعشتين، أخذ يستدرجها في الحديث، وهو يلاحظ خوفها منه، واصطناع التأدب المبالغ فيه، فما كان منه إلا أن غير أسلوبه وخاطبها بنبرة حادة مما جعلها تسأله إذن..أنت لست بصديقه قاسم؟ ولكنه لم يجبها عن سؤالها بل كان يدخل بسرعة باحثا عن ابنها، ثم يخرج وهو يدفعها أمامه قائلا لقد فرّ اللعين إذن..سنعرف كيف نقبض عليه..هيا تقدمي أيتها العجوز أمامي..