لم تعجبه نهاية الرواية التي قضى في قراءتها ثلاثة أيام..
“كيف يُبقي الكاتب النهاية مفتوحة بهذا الشكل الفظيع؟..هل استسلم الكاتب لروايته بعد أن فشل في إيجاد مخرج ما؟.. هل كان يقصد أن المستقبل مفتوح بدوره على كل الاحتمالات؟”
أسئلة كثيرة كانت تختمر في ذهنه.. لوهلة شعر أن الكاتب خدعه..
“لو كنت أعلم أن النهاية هكذا ما قرأت الرواية أصلا !”
كانت الرواية بأربعة أجزاء طويلة.. و لم يكن أسفه على الوقت الذي ضاع في القراءة فحسب، بل كان يرى أن جمالية الأسلوب وتسلسل الأفكار والأحداث وروعة الحوار والبناء الفني للرواية ككل، كل هذا كان رائعا وأفسدته تلك النهاية..
“ماكان يجب أن تُطرد تلك العائلة المسكينة من البيت الذي ورثته عن جدودها.. وما كان يجب أن تنتهي القصة بدخول أولائك المستوطنين إليه، خصوصا مع هذا النفس المقاوم الذي لازم الأحداث حتى آخر لحظة.. كيف تُعيد الكتابة الهزائم والنكسات؟.. أما كان يجدر أن ننتصر على الأقل في الأعمال الأدبيّة بدل إعادة تمثيل الهزيمة؟..”
شعر أن هذا النوع من النهايات يعطي رسالة خاطئة عن الجدوى من المقاومة، فظلت الأسئلة تحاصره بإلحاح غريب.. شك لوهلة في نوايا الكاتب نفسه.. ثم تراجع عما حدثته نفسه به، وطرد فكرة المؤامرة من ذهنه..
قلّب الرواية بين يديه..تصفح أوراقها وكأنه يأسى على شيء ما..انتابته فكرة مفاجئة:
“كيف لم تخطر ببالي؟ هل يمكن؟؟”
كانت الفكرة أن يُغير الأحداث بنفسه.. كان يتوجب عليه فقط أن يندمج في الرواية لدرجة الحلول.. إذن عليه إعادة القراءة بتأمل وتركبز شديدين.. استغل فرصة ظروفه المواتية وبدأ.. اندمج قدر الإمكان في تفاصيل الرواية.. كان والحال كذلك في شبه غيبوبة، وكان العرق يتصبب منه.. بحث -بلاوعي ربما– عن شخصية مناسبة ليتقمصها.. لم تكن الشخصيات الرئيسية مناسبة فهي تحمل أسماء وصفات واضحة لا تشبهه.. بحث في الثانوية فلم يجد.. كاد يفقد الأمل، لكنه صادف في القراءة شخوصا عابرة لكنها عربية، وإن لم تحمل ملامح واضحة..استغل لحظة اندماج وحلّ في إحداها..
فجأة وجد نفسه داخل الرواية و تحديدا في الصفحة 242 في مكان بعيد عن العائلة المستهدفة.. لم يكن لديه خيار آخر، فكل العابرين كانوا في مناطق نائية.. لكن عصابات “الهاجانا” لم تكن قد وصلت بعدُ وهذا هو الأهم.. أول ما عاقه هو زمن الرواية الذي بدا وكأنه لا يسعفه.. كانت الأحداث تتلاحق لكنها تصطدم بالإسترجاع والوصف والحوار.. حاول التسلل بين السطور و الدور على حد سواء.. كان عليه تجاوز أشكال الحروف ووعورة الأرض و العبارات.. حاول إغفال ما استطاع من البناء والمعنى ممّا لا يضر بالرواية ككل، فهو يعرف أن إغفالها برمتها لن يغير في الواقع شيئا.. قفز فوق الجمل الرنانة وتجاوز الإستعارة والتشبيه، تماما كما قطع الحقول والأودية.. لم يكن في إمكانه تجاوز كل الصفحات، كما أنه سيجد العائلة المسكينة قد طردت.. كان لا بدّ من مسايرة الرواية قدر الإمكان.. انتابه نوع من الزهو وهو يشعر أنه يسير في الإتجاه الصحيح.. كان يعرف أن العصابات الصهيونية تتقدم نحو المدخل الشرقي للقرية.. لم يكن ذلك قدومها الأول إلى هناك؛ فقد سبق أن ارتكبت مجزرة في ذات المكان في الجزء الثاني من الرواية.. لم يبق من الصامدين الذين نجوا من ذلك الموت المحقق سوى ثلاث عائلات من بينهم العائلة موضوع الرواية.. وبالرغم من خطورة الوضع فقد غلبه التعب، وهذا أمر طارىء لم يكن في الحسبان.. لم يجد بدا من أن يستند إلى حرف للإستراحة.. شعر بالنعاس لكنه غالب نفسه وانطلق من جديد..
لاحت في الأفق القرية المنشودة على بعد صفحات قليلة من نهاية الرواية.. تقدم بأمل كبير للوصول إلى العائلة قبل قدوم عصابات “الهاجانا”.. وفي ما هو يتقدم كانت الأحداث تسير كما رسم لها الراوي وليس كما يريد هو.. أو كما حدثت بالفعل ذات يوم في فلسطين، وقف يشاهد عن بعد رحيل العائلة في اتجاه الشمال دون أن يستطيع فعل شيء.. أي شيء.. حينها أدرك بكثير من الحسرة أنه لا يعدو أن يكون شخصية عابرة.. وكان عليه -والحال هذه- أن يخوض معركة جديدة للخروج من الرواية..