ذكريات مليئة بالشجن مع الحمام مازالت تخالط ذهني كلما لفح وجهي هواء ما بعد الاستحمام. كانت الأيام شبيهة بزوارق ورقية تتناوب على بركة صغيرة في غابة، هذا ما تخيلته عن الزمن في طفولتي. لم أكن كسولا لكني لم أحب المدرسة يوما، ولا أغلب المعلمين، ولم أحب يوما العمل والواجب والانضباط والامنتحانات والحفظ والتمارين، أحببت فقط اللعب واللهو والركض في ساحات المدارس الفارغة. لم يكن هناك حمام في البيت، ولا أعتقد أني أتذكر أني رأيت حماما في بيوت أخرى، كانت هناك مراحيض فقط، لكنها تصلح حمامات أيضا. في الصيف تدخل إلى المرحاض وتفرغ فوق رأسك سطل ماء وانتهى الأمر، وفي الشتاء تُدخل إلى المرحاض البوطة الصغيرة الزرقاء مشتعلة، تضع فوقها برمة الكسكس مليئة بالماء وتنتظر أن تفور داخل المرحاض كي تحوله إلى حمام سونا. تخلع ثيابك وأنت ترتعش، والمكان ضيق، وضوء الشمعة يتراقص بكآبة، والمطر يغزر في تلك اللحظة بالذات، تطلي جسمك بالصابون البلدي الذي يشبه الأوساخ أكثر مما يشبه الصابون، تغرف الماء الساخن بغراف الشرب وتفرغ فوق رأسك. تقضي الغرض دون مشاكل. أحيانا تنادي على أمك بصوت مرتفع وعيناك مغمضتان تفاديا لرغوة الصابون كي تناولك المشط الذي نسيته أو كي تحك لك ظهرك. هذا يجبرك على فتح باب المرحاض، بالتالي معانقة صفعة الرشح القوية. كل هذه الأشياء خالية من أية مشاكل كبيرة رغم ذلك، فقد كان رش قليل من الملح في زاوية المرحاض كفيلا بطرد الجن والشياطين الذين قد يتلصصون عليك وربما يسجلونك بكاميرا هاتف وينشرون الفيديو على يوتوب.
بعد ذلك، خصوصا في الشتاء، أصبحت مجبرا على مرافقة أبي إلى الحمام العمومي، نحمل صاكا مليئا بالثياب وسطلا ونذهب كأننا نهجر البيت، كان ذلك مزامنا لعشية الأحد، إذ بعد أسبوع من الغبار والتراب والغيس كان لابد من حمام حزين قبل المدرسة. تنادي علي أمي بصوت آمر مزعج مرعب قاطعة لعبي أن أدخل كي أستعد للذهاب إلى الحمام. إنها الرابعة مساء، اللعب مازال على أشده، والتمارين غير المنجزة عليها انتظار الليل، لكن نداءات أمي تكسر باستمرار كل متعة لذيذة. ننطلق صامتين أبي وأنا كأننا ذاهبان إلى مقصلة. الخامسة مساء، مازال ضوء النهار الشتائي واضحا، ندخل إلى حمام حليمة. مباشرة ودون مقدمات نجد الجميع عرايا. رجل عجوز يرتدي شورتا قديما مهلهلا يطوف بطاسة نحاسية على غير هدى وسط ضباب البخار، رجل بدين جالس أرضا وبيضتاه تسلقان على زليج البرمة الساخن دون أن يشعر بهما، آخر جالس وابنه يحكه له ظهره، آخر يحمل سطلا يتدفق منه الماء، آخرون يناقشون موضوعا غامضا وهم عرايا، آخر يخرج من المرحاض وفي يده ماكينة حسانة، الخ.. نجلس في مكان فارغ، نحلّق حولنا بضعة سطول، ونتحمم وسط الهمهمات والغمغمات وسقوط سطول بعيدة على الأرضية بين فينة وأخرى. يحك لي أبي ظهري بكيس بينما أراقب المتحممين بصمت وفضول، بعد ذلك أحك له ظهره، لا نتحدث كثيرا، أتلقى فقط بعض الأوامر المقتضبة: هات ذلك السطل.. ناولني الصابونة.. كفى لعبا بالماء.. ننتهي أخيرا. نخرج إلى الكُلسة كي ننشف أجسادنا ونرتدي ثيابنا. نجد البعض واقفين ملفوفين بفوطة، ينزعون التبان المبلل ويرتدون بسرعة التبان الجاف محاذرين أن تسقط الفوطة.. رجل آخر ارتدى كل الثياب يلف رأسه بفوطة ويضع رجليه في سطل نصف ممتلئ بالماء البارد عرقان يكاد يسخف ورغم ذلك يقشر المندرين الصغير جدا. نرتدي ثيابنا بسرعة ونخرج. أشم رائحة كادوم في يدي وشعري، ورائحة صابون الكف في الثياب النظيفة التي ارتديتها. أسمع صرير باب الحمام، وأحس بلفحة الهواء القارسة. صرير باب الحمام الخشبي الضخم يخترق أعماقي بإحساس ميتافيزيقي عميق. نكون قد تركنا الجلبة وضوء النهار في الخارج، أما الآن فليس هناك سوى الظلمة الشتائية المضاعفة والصمت المطبق والفراغ والريح. لقد انقرض الأطفال وتغير العالم وقت دخولنا إلى الحمام وخروجنا منه. نزل الليل دون أن نشعر به، بينما ظل الزمن ثابثا داخل حمام حليمة الشبيه بكبسولة فضائية منفلتة من مدار الجاذبية والكواكب والقياسات الفيزيائية. أشعر أني خفيف الوزن والروح والشعور، أتذكر التمارين غير المنجزة، أتذكر صباح الإثنين الكئيب، أتذكر سعال المعلم وقرقعة كعب حذائه الغليظ بين صفوف الطاولات، أشعر أن للحمام علاقة وطيدة بالمدرسة والتمارين والإحساس العميق بالأسف.
أبي يلف رأسه بفوطة كبيرة وأنا ألف رأسي بفوطة صغيرة. نقف عند محلبة النجاح في زاوية المارشي، ندخل كالعادة، كأس رايب بالسيرو الأحمر لكل واحد، أرى وجه أبي في مرآة المحلبة فأجده مختلفا، كما لو أنه شخص آخر. وجهي أيضا يبدو أصفر أكثر من العادة. الرايب بارد وطعم السيرو شبيه بطعم الدواء، لاشك أنهم سموه السيرو لأجل ذلك. قبل أن ننهي الكأسين يبدأ المطر بالتهاطل بغزارة. السماء كئيبة وليس أمامنا سوى حارس السيارات متقوقعا داخل براكته الصغيرة مرتديا خمس جلابات ومعطف عسكري وأمامه مجمر. تفو. نضطر للانتظار حتى يتوقف المطر. لا يتوقف. نضطر للركض كي لا نبتل. نصل إلى البيت أخيرا. لم يبق هناك وقت للتمارين. أمي طلت رأسها بالحناء. العشاء بالشعرية بالحليب. عشاء كئيب يدفعك للنوم مباشرة مصغيا داخل نومك إلى قرقعات سطول مبصرا برمة ماء ساخن هائلة مليئة بالماندرين يخرج منها المعلم بغتة وفي يده عصا.
في الصباح الباكر أنهض هلعا، أدخل الدفاتر في المحفظة بيد راعشة، يقول أبي: أسرع، مازال أمامك نصف ساعة فقط. أخمن: مازال على موعد إعدامي نصف ساعة فقط.
في الطريق إلى المدرسة أستنتج: حمام المرحاض بالبوطة الزرقاء والبرمة أرحم، رغم الرشح، ورغم انزلاق القدم أحيانا داخل ماسورته.
بعد ذلك، خصوصا في الشتاء، أصبحت مجبرا على مرافقة أبي إلى الحمام العمومي، نحمل صاكا مليئا بالثياب وسطلا ونذهب كأننا نهجر البيت، كان ذلك مزامنا لعشية الأحد، إذ بعد أسبوع من الغبار والتراب والغيس كان لابد من حمام حزين قبل المدرسة. تنادي علي أمي بصوت آمر مزعج مرعب قاطعة لعبي أن أدخل كي أستعد للذهاب إلى الحمام. إنها الرابعة مساء، اللعب مازال على أشده، والتمارين غير المنجزة عليها انتظار الليل، لكن نداءات أمي تكسر باستمرار كل متعة لذيذة. ننطلق صامتين أبي وأنا كأننا ذاهبان إلى مقصلة. الخامسة مساء، مازال ضوء النهار الشتائي واضحا، ندخل إلى حمام حليمة. مباشرة ودون مقدمات نجد الجميع عرايا. رجل عجوز يرتدي شورتا قديما مهلهلا يطوف بطاسة نحاسية على غير هدى وسط ضباب البخار، رجل بدين جالس أرضا وبيضتاه تسلقان على زليج البرمة الساخن دون أن يشعر بهما، آخر جالس وابنه يحكه له ظهره، آخر يحمل سطلا يتدفق منه الماء، آخرون يناقشون موضوعا غامضا وهم عرايا، آخر يخرج من المرحاض وفي يده ماكينة حسانة، الخ.. نجلس في مكان فارغ، نحلّق حولنا بضعة سطول، ونتحمم وسط الهمهمات والغمغمات وسقوط سطول بعيدة على الأرضية بين فينة وأخرى. يحك لي أبي ظهري بكيس بينما أراقب المتحممين بصمت وفضول، بعد ذلك أحك له ظهره، لا نتحدث كثيرا، أتلقى فقط بعض الأوامر المقتضبة: هات ذلك السطل.. ناولني الصابونة.. كفى لعبا بالماء.. ننتهي أخيرا. نخرج إلى الكُلسة كي ننشف أجسادنا ونرتدي ثيابنا. نجد البعض واقفين ملفوفين بفوطة، ينزعون التبان المبلل ويرتدون بسرعة التبان الجاف محاذرين أن تسقط الفوطة.. رجل آخر ارتدى كل الثياب يلف رأسه بفوطة ويضع رجليه في سطل نصف ممتلئ بالماء البارد عرقان يكاد يسخف ورغم ذلك يقشر المندرين الصغير جدا. نرتدي ثيابنا بسرعة ونخرج. أشم رائحة كادوم في يدي وشعري، ورائحة صابون الكف في الثياب النظيفة التي ارتديتها. أسمع صرير باب الحمام، وأحس بلفحة الهواء القارسة. صرير باب الحمام الخشبي الضخم يخترق أعماقي بإحساس ميتافيزيقي عميق. نكون قد تركنا الجلبة وضوء النهار في الخارج، أما الآن فليس هناك سوى الظلمة الشتائية المضاعفة والصمت المطبق والفراغ والريح. لقد انقرض الأطفال وتغير العالم وقت دخولنا إلى الحمام وخروجنا منه. نزل الليل دون أن نشعر به، بينما ظل الزمن ثابثا داخل حمام حليمة الشبيه بكبسولة فضائية منفلتة من مدار الجاذبية والكواكب والقياسات الفيزيائية. أشعر أني خفيف الوزن والروح والشعور، أتذكر التمارين غير المنجزة، أتذكر صباح الإثنين الكئيب، أتذكر سعال المعلم وقرقعة كعب حذائه الغليظ بين صفوف الطاولات، أشعر أن للحمام علاقة وطيدة بالمدرسة والتمارين والإحساس العميق بالأسف.
أبي يلف رأسه بفوطة كبيرة وأنا ألف رأسي بفوطة صغيرة. نقف عند محلبة النجاح في زاوية المارشي، ندخل كالعادة، كأس رايب بالسيرو الأحمر لكل واحد، أرى وجه أبي في مرآة المحلبة فأجده مختلفا، كما لو أنه شخص آخر. وجهي أيضا يبدو أصفر أكثر من العادة. الرايب بارد وطعم السيرو شبيه بطعم الدواء، لاشك أنهم سموه السيرو لأجل ذلك. قبل أن ننهي الكأسين يبدأ المطر بالتهاطل بغزارة. السماء كئيبة وليس أمامنا سوى حارس السيارات متقوقعا داخل براكته الصغيرة مرتديا خمس جلابات ومعطف عسكري وأمامه مجمر. تفو. نضطر للانتظار حتى يتوقف المطر. لا يتوقف. نضطر للركض كي لا نبتل. نصل إلى البيت أخيرا. لم يبق هناك وقت للتمارين. أمي طلت رأسها بالحناء. العشاء بالشعرية بالحليب. عشاء كئيب يدفعك للنوم مباشرة مصغيا داخل نومك إلى قرقعات سطول مبصرا برمة ماء ساخن هائلة مليئة بالماندرين يخرج منها المعلم بغتة وفي يده عصا.
في الصباح الباكر أنهض هلعا، أدخل الدفاتر في المحفظة بيد راعشة، يقول أبي: أسرع، مازال أمامك نصف ساعة فقط. أخمن: مازال على موعد إعدامي نصف ساعة فقط.
في الطريق إلى المدرسة أستنتج: حمام المرحاض بالبوطة الزرقاء والبرمة أرحم، رغم الرشح، ورغم انزلاق القدم أحيانا داخل ماسورته.