مقتطف بلقيس الكبسي - رواية " نزوة قابيل".. مقتطف من الفصل الثالث

قصف يشبه القيامة يلتهم ضواحي المدينة، يحرقُ جبالها بحقد بلغ منتهى شراهته، الأرض تهتز وتتزلزل، النيران تهرول نحو الأحياء، ولا شيء يوقفها، البيوت تحترق، تنهار وتسوى بالأرض، كل من في بيت عمي أصابه الفزع، الخوف يأكل قلوبنا، حتى دهمة أوجفت مذعورة تبحث عن ملجأ والرعب يتبعها، في عتمة طاغية هرعنا نفتش عن مأمن، يقينا طوفان الذعر الذي يجتاحنا، بينما نيران جائعة تلعق نوافذ البيوت وجدرانها، تتعثر خطواتنا الواجفة بما يصادفها، تجمعنا في ممر ضيق، نظنه أكثر أماناً، رنا اختبأت في حضن دهمة، ريان شد ذراع أبيه واحتمى خلفه. وأنا أتخبطُ في فزعي، لا أم لي تحتضن قلبي الهارب من الرعب الذي يتبعني، ولا أب احتمي وراء ظهره من ارتعاشي. فتحت الباب المطل على حديقة صغيرة وأنيقة، كنتُ قد أوليتها عناية ورعاية، تقع في الجهة الخلفية لبيت عمي، كانت ملاذي، ومخبأ هروبي، من سعير دهمة، وأجيج الحرب. لم أعي بنفسي إلا وأنا بجوار شجرة صامدة تتحدى كل هذا العبث، تكومت قربها، انزويت في ركن قصي أحتضن فزعي، أبحث عن أمان يبدد كل هذا الدوي المفزع، الذي يصك مسامع السماء. بكل استطاعتي احتضنت ارتعاد جسدي، بينما حقد هستيري يعربد فوق رؤوسنا بقذائفه المحرمة، يصلبُ قلوبنا على جنازير الرعب، وينكل بها، كل ما حولي يتزلزل، الجدران تضطرب، الأرض تحتي تتزعزع، وكأنها تزلزل زلزالها الأخير، ولا شيء يوقف الرعب الذي يكز قلبي، ويجز كل مفاصلي.
تجمدت أطرافي، تهتكت أحبالي الصوتية، وأحسست برمضاء تتلظى في حلقي، من فرط الظمأ، فقدت القدرة على الوقوف، ولم أقو على الحركة، قبل أن أتصلب كالأموات، غشيني حضور يمان؛ فهدأ رجيف المكان. اقترب مني لملم ارتعابي، طوقني بكل ما أوتي من احتواء، سكب رزانته في فنجان عينيّ الزائغة، وهو يبتهل بآيات الحفظ، همس لارتعاشي بين ذراعيه:
- شششش .. اهدئي! كيف لك أن ترتجفي وأنت على صدري؟ اهدئي يا دفق القلب، تنفسي بعمق واسترخي أنت هنا بين أضلعي، ستكونين بخير، سنكون جميعاً بخير، لحظات ماجنة ستمر بسلام، إنهم يستعرضون شذوذ نقصهم ليس إلا.
لا أدري أي احتياج كنته، جعلني اتشبثُ به لأول مرة حد الالتصاق، حد الالتئام، حد الاجتياح، تمسكت به بقوة، وشددته إليّ، غمرني أكثر، التحمت به؛ فهدأ إعصار الذعر الذي زوبعني.
التصق بروحي التصاقاً روحياً ووجودياً، التصاقاً حد التماهي، فالتصقتُ به، شهقتُ رائحته التي تشبه رائحة الأم الحنون، تمرغتُ بين أحضانه التي تشبه سخاء وطن، تنعمتُ بدفء صدره النابض بالحب، الزاخر بالحنان، والوافر بالصبابة، حتى دختُ هياماً. كان إحساسي به باذخاً بالأمان والسكينة، مفعماً بالهدوء والطمأنينة، لم أعرف إحساسه وقتئذ وأنا أتدثر ذراعيه؟ ولكنه كان يلثم رائحتي بكل ما أوتي من شهيق ثم يزفرها إلى جوف قلبه، ويحتفظ بها كاتماً زفيره، كان مغمض العينين لم أرَ وله عينيه، ولكني رأيتُ النشوة في محياه تقرأ العشق بأسمى اللغات، وشراهة في شفتيه قد بلغت مداها، مراوداً يتقلب على روائح الإشتهاء، حائراً بين التريث والإلتهام، حينها زرعت في قلبي اليقين: " مهما تجبرت الحرب ليس بمقدورها أن تبتر التصاق عاشقين تكاملا من نقصانها".
ريثما انصرف القتلة لالتقاط خيبة شذوذهم، شهقنا سكون الطمأنينة من جديد، كلٌ عاد يستجدي نومه، الذي حتماً لن يعود، ووجدتُ نفسي عالقة بين ذراعي يمان، الذي غفا وهو يتصببُ حباً وحرب، عَلَّقتُ نظراتي على وجهه، حبستُ أنفاسي خشية أن توقظه، تأملتهُ بصمت، تدهشني هيئته التي هو عليها، سألت صمتي بحيرة: كيف له أن يغفو في وجود كل هذا المجون؟


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...