مليكة نجيب - بوح امرأة في زمن راكد


وا شٙوْرُو… واتّوما شٙوْرُ
يتوقف أعضاء المجموعة بتقنية مدروسة.
وهو يحط ” الكمنجة” جانبا، يصرخ الشيخ متأففا: الدقة مبحوحة، العيطة مجروحة، كيفاش أل باعني ما نشريه، مع من تفهمت، أللا شغلك هداك، حنا هنا كنقلبو على المعيشة، نشريو ونبيعو كيفما بغينا، ال أعطى بزاف ياخد ما بغا، يأخذنا كلنا، آش سايرين نديرو، أولاش نصلاحو، لاش؟
يا الله، أو طابلو.
أوطابلو: يعني أن تنتقل الزوهرة للجهة المقابلة لباقي الأعضاء، وتصدح بالعيوط التي حفظتها، مع تعديلات لحقت النص الأصلي للعيطة.
والزوهرة ملزمة باحترام توجيهات الشيخ.
انطلقت عقيرتها الماتحة من سهول انبطحت تحت دك الحرْكة وفرسانها وحكايات فُتلت بعزة أهلها.
“أنا أل شراني، صرت ملكو، نخدمو كيبغا، ونگعد أوسادو، ونذوب في هيامو، آهيا مولاي الطاهر راه أنت ولي..”.
ويطوي الشجو تدفق الأنين والتوجع المتدافع، وهي تردد:
ونا في حكام المولى وأنت دير لي تاويل،
آهيا مولاي الطاهر راه أنت ولي.
يلقي التأثر الشيخ بحلبته، صريع أحاسيس تحط بزاوية “سيدي إسماعيل، مول الحوض الزين، صاحب المساكين”، يلاقح بين اللحظة والذكرى، يسترجع حدث الخبزة المرفودة، يهمل حنينا تجلد ثم تكسر وأخذ يفقد مكوناته والزوهرة وسط الحضرة، تشدو الاغتراب متوجعة.
ينطلق الشجى حرنا من عقال التجلد. ينقبض قلب الشيخ.
يدب الشك في أوصال قدرته على (الزعامة التي خطط لها).
جهله لأشياء كثيرة عن حياة الزوهرة، يربك مبتغى الزعامة التي ينشدها.
التحقت الزوهرة بالمجموعة حديثا.
وبالبلد تسكعت كثيرا، تبحث عن مكان آمن، تحط فيه حملها، حملاً استقر طويلا بجسدها، تجاوزت موعد الوضع. أصبح الجنين راكدا، تراوح الروح مستقرها بين أضلعه، ويكبر عزوفه عن الخروج إلى الوجود حيث لا يعلم شيئا.
الزوهرة تشعر بالراگد: صاحياً ومنتبهاً، تتجاوب مع نبضاته، تتحسس بطنها كل ثانية، الانتفاخ دائري، التشققات جلدية، تتعب في تتبع اتساع وتوالد بصمات يشتد سوادها عند كل توتر.
لا تصدق نهاية الراگد الحتمية، وسقوطه ذات يوم دون إنذار، عبر مشيمة تنضح دما وألما.
تتزيا الزوهرة بلباس تقليدي بهي، يفضح بهاء الخصوبة الأبدية، شاهدا على بلاغة إلهية في خلقه.
محراب للتأمل، تجلى قوامها أمام الشيخ، وهو يقاوم تموجات اللحن النابع من مصب العطاء، الفياض بكل حسن الدنيا وجاذبيته.
يلجم اندفاع أحاسيسه.
يؤذن بانتهاء التدريب، يغادر المكان، يتبعه أعضاء المجموعة، وتكون الزوهرة آخر من يترك القاعة.
يباغتها برد الشارع بعناق حار، يترك آثار القبل على وجنتيها البارزتين، تشد أطراف الحايك فوق لباسها التقليدي، وتقود هلالاً حسناً ينبلج نوره على الطريق المعبدة.
ليست في عجلة من أمرها، ينتظرها الموعد مع كرامات عيشة مولات الواد، بعد ساعات.
خففت الوطء على أديم مجهد، سرح المشي منبسطا يحمل أنوثة تختال بزاد سنوات قليل، وراگد يترقب الفرج. انفرادها بامتلاك جسدها حد السيطرة يغبطها. تنثر بسخاء حبات الوقت الفائض على الشوارع والأزقة الواسعة، تجر أذيال لباسها التقليدي، ومعها رغبات كثيرة، تتوق عبر تحقيقها إلى أن تكون إنسانة كاملة، تصرخ بـ “العيوط” كما طوتها سهول منبسطة للجود.
ما أحلى أن نستمر أجنة في أرحام أمهات لا يستثقلن الحمل. ألذلك يأبى الجنين فيها أن يترعرع ويخرج إلى الدنيا؟.
وما أقسى على الأمهات أن يتنقلن بأجنة قابلة للتعفن عند معبر الحياة، قصير وضيق بنتوءات حادة، يندر أن يقطعنها إلى الطرف الآخر دون أضرار، ويصادف أن يتدحرجن بأجنة كاسدة، تنذر بوضع حد للحياة.
والفقد يوجع التوهم بالانفراد بامتلاك الأنفس والتحكم في اختيار محطات التوقف والنزول والعبور.
باستسلام راحت تردد: والله ما نخمم ونا رزقي ضامنو ربي، أمولاي الطاهر راه أنت والي.
وقد أصبحت هذه النغمة رفيقتها منذ هجرها لبيت الزوجية.
صدم الرحيل شريكها، وعوضه باستطابة القفص بعد أن صار أكثر رحابة واتساعا، يفتح أبوابه على مصراعيها دون أن يخشى اللوم.
وللقفص كانت أربعة أبواب.
الباب الأول اجتازه حاملا الزوهرة بين يديه، آتيا مباشرة من قاعة الأفراح، ذائعة الصيت.
مر حفل الزفاف مستجيبا لدفتر تحملات الشراكة.
حفلة تنكرية متقنة الحبكة. سيرتها أقنعة ملونة وبأحجام مختلفة.
قناع اليسر كان بارزا.
عانق قناع المجاملة كل الأقنعة الحاضرة.
علا البريق واللمعان وجوه الأقنعة.
غطت ابتسامات خضراء أفقية كل الأقنعة.
تبادلت الأقنعة التهاني والرقص والهدايا والغل والحسد والبغضاء.
حفنة أحاسيس متناقضة تواجهت في القاعة، واشتد الحنق بها، وضاق تنفسها، فصرفته دموعا، تسيل على حيطان القاعة المخصصة لعرض الفرح.
تبادلت الأقنعة بينها زرقة الزهو حتى مطلع الفجر.
سكن الذكر إلى الأنثى.
تخطيا عتبة البيت، وهما يضحكان.
قطفا ثمرة الشهوات.
كان رطب الحب لم ينضج بعد.
و”كل شهوة غير شهوة الحب لا يعول عليها”.
صارا يرقصان على نقر العصافير للأرضية الخشبية، وهي تتدافع على لباب الخبز الأسمر المغمس بالعسل.
احتفظ الزوج بالمفتاح.
ثارت حفيظة الزوهرة.
ومع مرور الوقت، لم تجد مناصا من فتح باب ثان في مواجهة الأول، والانفراد بحيازة المفتاح.
صار لكل منهما مفتاح، لباب يصر على فتحه على مصراعيه.
استفاد مجرى الهواء من الانفتاح، شرع يمارس بهلوانيته ويثير سكون النوافذ والجدران، ويصطحب الرياح في كل غدوة.
استشاط الزوج حنقا.
قرر إغلاق أحد البابين.
حارا معا: أي البابين يغلق؟.
اشتد النزاع طويلا بين الشريكين.
وانتهى بحصول التوافق على أن يغلقا البابين معا، ويفتحا بابا بالجهة الثالثة للبيت، دون تحديد مالك المفتاح.
حدا الوضع بالزوهرة إلى ثقب منفذ بالجدار الرابع.
هدف رغبتها أن تحتفظ بمفتاحي بابها الأول: يعني الثاني بالبيت، والمفتاح الثاني للباب الرابع مع التشبث بحقها في التصرف بالبابين المتبقيين.
فتحت ثقوب بكل الجهات.
وتحول القفص إلى مسرح دائم لعرض الرياح.
الرياح تفشل في تحريك لباس الزوهرة التقليدي، تتفقد شد الحزام، تتفقد حمالتي الصدر، تطمئن للملمس، استقرت “الخرقتان” فوق الثديين بعناية فائقة:
انتشت خرقة ثوب، بيضاء، مستلقية على رحابة الثدي الأيسر، امتزج البياض برحيق شهوات جامحات ركبن لحظات منفلتات.
وغاب رطب الحب.
و”كل شهوة غير شهوة الحب لا يعول عليها… في دار الاتصال”.
وكانت “الخرقة البيضاء” تقبر بين خيوطها أسرار الشهوات.
وعلى اليمين انكمشت خرقة تعتصر دموع المحبة الحارة، التي ذرفتها بسخاء عندما تفقدت رطب الحب الذي لم يكتمل نضجه وتدحرج يابسا، تتقاذفه الرياح المتناوبة على خلخلة صمود الأبواب.
حارة، حارقة، كانت دموع المحبة عندما ذرفتها وحيدة وسط عش أعد لزوجين يسكنان لبعضهما.
تسلحت الزوهرة بالخرقتين لاكتساب سلطة على التصرف في الأبواب.
والتصرف في المفاتيح يفرض مداهمة قلاع المقاومة المحتملة.
تنعطف الزوهرة على يمين “مريرة طويلة” تفضي إلى حي تتكدس الدور في أطرافه.
تقصد وجهتها، يعبق المكان بامتزاج الشبة والحرمل والفاسوخ.
تستقبلها شابتان بمجمر مستعر،عليها تخطي نيرانه، يتسلل الدخان بين أعضائها باحثا عن مستقر. تسلمانها وعاء به الزعفران والحناء وماء الزهر.
الزهر جالب للحظ.
تغطس يدها في الوعاء.
تخرج الأنامل مخضبة. تمتثل لإرشادات الفتاتين. حذرة من تلطيخ ملابسها. ترافقانها إلى فضاء شاسع بثلاثة جدران. مطلية بخطوط متداخلة، تصور أسماء ذكور: محمد، علي، طارق، مروان، الزبير، يوسف، المهدي، محي الدين، خليل، حمو. أحمد، عبد الله، الصغير، إسماعيل…. قوائم أسماء بالحناء والزعفران وماء الزهر، بأياد نساء خطت، فوق الجدران.
ملاحظة: أدعوك يا شريكي في العبور، ألا تنشغل عند سماع اسمك.
ربما المقصود عابر يحمل نفس الاسم.
إن شككت في الأمر، فلا ضير في أن تصل الرحم مع عيشة مولات الواد.
أتشك في كراماتها؟
هنيئا لاختيارك التنازل عن امتلاك المفاتيح.
خطت الزوهرة الحروف فوق حيز ضيق بالحائط.
ميم، راء، ألف، دال.
تمنت حفر الاسم فوق كل الجدران. رقابة الفتاتين تمنعها وتأمرها بالتوجه إلى الحوض.
ينضح الحوض بالماء والطين والصلصال



* الراگد
مليكة نجيب
.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...