و ترانا منثورون علي الرمل نخط كل ما علق بخواطرنا من تفاصيل الحكاية ، كما أن حادثة اختفائهم ثلاثتهم لم تك عادية ، كوجودهم تماما ، كذلك الذي يمزق خيوط الذاكرة ، لاحوا في الأفق الموشح بالقلق وتلاشوا كغرباء اقرب إلينا من كل ذواتنا خلف تلة تشهد آخر لحظة في حياة الشمس التي علمتنا كيف يمكن أن نموت كل مساء ونبعث بعيد ذوبان الحلم في بحر الصباح ، الصباح الذي يرتب للطير تفاصيله و للمواسم آوبتها و للشتاء صحوته و للبلدة وجودها ، الوجود الذي يتكئ علي أجفاننا ويصبح للبارحة نافذة ، النافذة التي تطل علي الفضاء الفسيح ، الفضاء الذي يرمي بهم أمامنا و النار التي أيقظناها ترقص و ظلالهم ، ظلالهم التي ما برحت تفاصيل الحكاية ، من كانوا ؟، شخوص في ظلال الأمكنة ، أم أمكنة في شخوص الظلال ، أم ظلال تقاسمنا أوقاتنا بكل مابها من ثواني تراكمت فوقها الدقائق ، الدقائق التي ما فتئت تقرضنا في عبنأ وجراب الصحراء الذي تتساقط منه البيوت والشوارع و الأزقة و زجاج المطر ، كل الفصول بكثافة طقوسها و تباريحها مرت من هنا و تساقطت هناك ، بعيد التلة قبالة غرفة الشمس و الليل يفتح استاره و علي مسرحه تتقاطع الظلال في حركات مضطربة ، عندما ظهروا في المرة الأولى كان يؤدون حركات ذات طقوس معينة و من خلفهم تتشاجر السنة النار ، كانت أجسادهم في ظلالهم تتخذ أشكال متعددة ابرزها وضع الألم و جزء من البداية ، بداية اللعنة التي حلت بهم ، و الأحداث التي تشير إلى ذلك كانت واضحة بيد أنها غامضة بعض الشيء ، خذوا هذه الحكاية كما جاءت علي لسان رواتها : قال أبى و رجال البلدة يلتفون من حوله : (( ذات ليلة أخذت البروق تمزق بطن الغمام القادم من اتجاه الغابة الكثيفة ، زمجرت السماء و انطلق منها صوت عظيم و ارتطم بشجرة عجوز نسميها كما كان أجدادنا يسمونها (( أم الغابة )) ، كانت قوة الارتطام هائلة و احترقت الشجرة و تساقط المطر وفي الصباح وجدوا تحتها رجل متفحم و فأس ملقية بالقرب منه )) ، عندما صمت أبى قال أحد الحضور : حينها كنا بالغابة نبحث عن رجل لم يحالفه الحظ في حياته ، ومع ذلك لم نكن نثق في وجوده إذ لا يعقل أن يدخل أحد الغابة في كل الأحوال ، بعيد تساقط العتمة عند المساء ، وبطريقة ما توارثنا الخوف من الليل والغابة والأشباح التي تمر بها ، بيد ان زوجته قالت بين شهقاتها أن زوجها حمل فاسه و دخل الغابة قبل أن يظهر الغمام من جهة الجنوب ، لحظتها انتبهنا إلى أن السماء كانت صافية و أن البروق وهمتنا خلسة و أن المطر الذي هطل بكثافة تسلل إلى جوف الرمل في لمح البصر ، لكننا كان يتمثل لنا صوت خرير ماء و رائحة ارض مرتوية ، إن كان يعقل أو لا يعقل فقد احترق الرجل تحت الشجرة و عدنا بفأسه التي تعرف عليها الجميع ، من كان ؟! ، في كل الأحداث المنهكة تجدونه و لباسه المهتري المثقوب من كل ناحية، ترونه يؤدي دوره الذي خلق من اجله ، أحيانا كان يقاوم مصيره ليس لرغبة من في التغيير وانما لكي يعود و يستسلم للحظات يفقد فيها إحساسه بالوجود ولكنه يبقي ، يبقي لكي يكمل ما تبقي من دورة حياة لم تالفة عنيفا أو ضعيفا ، كانت هناك منطقة وسطي يقف عليها و يسطر الأسطورة التي أحاطت به و بأسرته الصغيرة ، كأنه كان يدرك أن نهايته ستكون تلك الليلة ، في الصباح وجدوه و الدخان مازال ينبعث من بقاياه المحترقة ، لم يكن اكثر من أسطورة تنفض عنها الرماد وتمشي من جديد ، اسطورة كائناتها من لحم و دم و غباء ، كانوا كالغرباء ، عندما كنا صغارا نحصي مواسم عودة الطيور و نصنع من الطين أحلامنا و نحدث البحر البعيد بأخبارنا ، بمعاركنا الوهمية ضد غزاة يلفظهم الفراغ ، بتمثل الذكورة المبكرة و هيمنتنا التي نفرضها علي البنات ، بلعبة العروس و عريسها القادم من خلف السهوب ، بتقليد الكبار و امتشاق العكازة و لف السكين حول الضراع و الصياح في وجوه النساء ، لم يشاركون كل هذا و كانوا يراقبونا بذات الحرص و الحذر القديم ، كنا إذا ما اقتربنا منهم يلوذون بالفرار ، هو وظله و الكلب ، ثلاثية غريبة اتصفت بصفات مذهله شكلت محور اللعنات التي تطاردهم منذ سفر بعيد ، ثمة حادثة وردت عرضا ذات أسطورة و ساهمت بفعالية مطلقة في خلق ذلك المزيج المتناقض :( الدهشة والوعي الكامل بالأحداث ) ، قيل أن رجلا غريبا نبت في فراغ السهب و زحف نحو البلدة و استوطن تحت الشجرة المحترقة ، كان الرجل يحمل بعض ملامح جد الأسرة المنكوبة الذي حزم صرته وامتطي حماره و خرج طلبا للرزق ولم يلوح في الأفق مرة أخرى ، بقي الغريب هناك يرفض أن يقترب منه أحد أو يزوده بشيء من الزاد ، كان يجلس علي فروة من الجلد ويمارس طقوسه الغريبة ، ذات عصر لملم الغريب اغراضه و امتطي حماره و شق البلدة التي اصطفت علي جانبي الطريق تودعه ، كما استقبلته في صمت رهيب ، وتلاشي خلف التلال الغريبة ، التلال التي تخفي خلف ظهورها الموت و أضواء المدينة التي لا تنام أبدا ، بعيد اغتراب الغريب في الذاكرة ، قيل أن البعض لمحه يزور العائلة الملعونة كلما هبطت أشباح العتمة وأغلقت البلدة أبوابها و أضيئت الفوانيس خلف النوافذ الخشبية الباهتة ،.ما الذي كان الغريب يفعله هناك ؟! . وحدها غرفة الطين التعيسة المتصدعة تلم بخفايا الذي كان يجري ، عندما حزم صرته و تلاشي ترك الغريب وراءه الأقاويل و الشائعات و المتع المترفة المضحكة التي تبعث في نهاية الأمر الحزن في النفوس و تغسل العيون من الأطياف الغامضة ، لم تتوقف الأحداث عند هذه الواقعة ، ذات ليلة اختنق فيها القمر ( في البلدة يطلقون علي هذه الظاهرة ((القمره خنقت )) ) سمعنا صوت طلق ناري وعواء مؤلم حد البكاء ، عندما طارد الصباح آخر المتسكعين من بقايا الظلام ظهرت أعراض الحمي علي أحد التوأمين ، قيل أن دائرة صغيرة سوداء ظهرت في بطنه ، وقال الذي أطلق النار علي الكلب انه يعتقد أن الإصابة كانت قاتلة ، جميع التفاصيل أشارت مؤكدة علي ما كان الكثيرون يذهبون إليه خاصة فيما يتعلق بالتحولات التي تصيب التوأم ، يقال إنها تتقلب كلما جنح الليل في خياله إلى كائنات تمشي علي أربع ، ربما قط ربما كلب ، لم نشهد تحولات كهذه ولكننا سمعناعن قط جاء ليسرق اللبن فضرب حتى ضاع مواءه ، كذلك قيل لنا ان أحد التوأمين كان نائم و الآخر بجواره يتألم ويصدر أصوات اشبه بالمواء ، ذات الأحداث تزامنت مع إطلاق النار علي أحد الكلاب الضالة بالغابة ، عثر علي الكلب يقف حزينا تحت الشجرة المحترقة بينما اصيب التوأم الآخر بحمي ألهبت جسده و صهرت روحه ، عند الظهيرة صعدت الشمس حتى بلغت كبد السماء فصعدت الروح و حلقت عاليا كشهيق الدهشة ، لم يمت من مات بهذه الطريقة الغامضة ، يقال انه بعث في هيئة كلب كسيح السيقان و يشبه إلى حد كبير التوأم الراحل عندها صار ثلاثتهم لا يتباعدون عن بعضهم الا قليلا ، يلوح هو في البداية وخلفه الظل و الكلب الذي يبحث عن آثار ما، منذها و الأحداث تتصاعد بسرعة ، موت الأم ، يا لها من ميته تستحق الروح ، كلنا يذكر كيف شاع الخبر و ماذا جري في العيون ، رأينا الخوف يركض فيها و من خلفه شبح لامرأة بالية الثوب و ظل في اعلي التلة لكلب يعوي حتى تدمي السماء ، ذات ليلة ارتعشت فيها البيوت و ناحت الشوارع و الأزقة و قصم البرق ظهر الأفق المغطي بالظلام ، خرج شبح بالي من كوخ قديم ، في كوخها القديم تركت لمبة الجاز الواهنة تترنح وأفواه صغيرة تتوجع و زير مشقوق ، كانت الريح تنعطف جنوبا و تأخذها الرغبة في تحطيم الأشياء ، كانت الغابة تلهث حلف خيالات أصواتها المتداخلة ، أحيانا يعوي كلب ، أحيانا تصرخ أصوات تطلب النجدة ، أحيانا يهسهس الشجر لاوراقه المتساقطة فتاتي الريح لتجرفها بعيدا وأحيانا يتمثل لك رجل و أحذية غليظة تدوس علي العشب و الورق الأصفر ، وأحيانا يصمت كل شيء فيصك(( جندب)) أسنانه و ينق ضفدع و يخترق الصمت حركة عنيفة لأجنحة طيور الخيال ، في تلك الليلة خرجت الضحية لتبحث عن شيء يغلق الأفواه الجائعة ، ذات منحدر كما قال شاهد عيان اكمل عمله في المزرعة و غفل عائدا انه رأي شيء ينحدر هناك وان شجاعته خذلته وانه انتظر حتى ظهر الشيء و اختفي فهمزه حماره ولم يتوقف الا و السماء قد أمطرت و الباب أمامه ، ما رواه الشاهد لاحقا أكد حقيقة الصوت المرعب الذي شق ليل البلدة حتى الذين ظنوا انه من أحلامهم الغائمة لم يستطيعوا التخلص منها حتى بعدما بددت الشمس باقي الظلمة و مروة العتمة ، كل الصباحات مرت من هنا وعرجت إلى الخلاء ، ذاك الصباح لم يصمت عما حدث ، عند مشارف الغابة ، عند اسفل المنحدر ، عثروا علي جثتها وقد عاثت فيها الأنياب والمخالب ، قالوا الذئب، قالوا الكلاب ، وأخيرا قالوا أنها اللعنة ، ومرت السنون ، أشياء كثيرة مرت من هنا و تلاشت خلف التلال الغريبة ، ثلاثتهم أيضا غابوا هناك ذات مساء ، هو وظله و الكلب الأعرج ، كانوا يجلسون بجوارنا ونحن نرمي الحطب علي النار و نراقب رقصات اللهب الفصيح ، كان ظله يتمدد عن يساره و الكلب ينتصب كعلامة تعجب عن يمناه ، كان وجهه كدرا رغم انه نادرا ما يعبر بهذه الطريقة عما يفرحه أو يضايقه، ظل ثلاثتهم في مكانهم دونما حراك ، كانوا كتمثال الظلام ، وكان الظلام يغلف نهاية الحكاية أو الأسطورة ، لم تكن النهاية عادية ، كالبداية تماما ، عندما نهض ثلاثتهم ومضوا في بحر الظلام كان الكلب يعوي في قلق و كان الظل يترنح ، و كان هو يعرج في ألم . . !!
كوستي
اكتوبر/ 2002
كوستي
اكتوبر/ 2002