كنت تجلس على طرف السرير عندما تشخص لك طيـف ) باتريشـا ( وهي تضحـك بأقصى ما عندها من غبطة ، لكنك عندما سمعت الجدة وهي تتـنفس الصعداء بتؤدة ، نظرت أنت إلى البن الـذي كان يغلي ، ودخل طفل صغير عار متسخ بالطين ، قلت لحظتها :
; أتـذكر هذا يا جدتي دائماً .. رائحة البن المقلي .. الدخان الخارج من الكوة .. وصرير الباب حينما أدخل إليك .. ورشفات القهوة العالية الصريخ !
أومأت إليك الجدة إيماءة صغيرة مع نصف ابتسامة ، إيـذاناً بالمواصلة ، وقلت :
; في كينيا لا يشربونها إلا بالزنجبيل الحار .. وفي نيويورك .. يا لروعة القهوة هناك أيام الشتاء القاسية ، لقد ذكرتك لمجموعة من الخواجات .. أبلغوني تحياتهم لك .. حدثتم عنك كثيراً .. طيبين كانوا معي .. لا ينسون أن يصنعوها لي بعد كل وجبة .. كم أدمنت عليها !
وتواصل الحديث بلا انقطاع .. .. ..
أخرجت الجدة لحظتها سعفاً وبللته بالماء ، وأخذت أنت واحدة ، وقلت لها :
; ما أروع الحياة هناك يا أماه ... !
وقهقهت هي عندما قلت هذا وشبح من الحزن يطوف حولها ، لكنها استغفرت ومسحت وجهها .. مسحة الجمال التي عليها لم تنته بعد رغم التجاعيد والنتوءات .
; هل رأيت من يصنع من السعف سلات وسجاجيد وبروش في أصقاع الدنيا ؟
أحسست لحظتها بغصة تطعنك ، لا تعرف لماذا .. ربما لم تتغير لهجتها القديمة في الحديث ، لكنك على كل حال ضحكت وقلت :
; نعم في طوكيو ، رأيتم يصنعون برانيط عريضة من السعف الأصفر ، لكنه ليس عريضاً كهذا ..
أنشأ الطفل يتبول واقفاً .. نهرته الجدة فجلس .
; الأطفال هناك يجدون كل شئ أمامهم جاهزا .. وسائل التعليم والترفيه واللعب ، ولا يشتكون من الأمراض الستة البتة و ...
وقالت الجدة مقاطعة كلامك :
; لكنى سمعت من جدك الله يرحمه أن هناك مجاعة حدثت في مكان ما من الدنيا ، لا أعرفه وأن الأطفال جميعهم ماتوا من المجاعة والأمراض ، لقد سمع بهذا في العام الذي نفقت فيه البقرة الحمراء .. هل تتذكرها ؟ إنها آخر بقرة تبقت لنا .
; أحياناً .. أحيانا في البلاد الفقيرة مثل بلادنا هذه .
وأخذت الجدة تحدق فيك وهي تبلل السعف وتسويه .
; آووه .. يا للفظاعة .. ألم تتبق بقرة واحدة ؟
لم تقل هي شيئ ، لكنك تنفست الصعداء وقلت :
; في هولندا بقر بحجم الفيل ، يأكل ليل نهار ، الواحدة تحلب لبن أربع بقرات عندنا !
كانت رائحة القهوة التي بدأت تتدفق تدخل في الأعصاب . تمددت أنت على السرير المهترئ بعدما صبت لك فنجاناً ، وقالت هي في توتر وحدة :
; لقد وقع حائط الجالوص على السرير .. الأمطار كانت غزيرة .. النيل ذاته فاض وخرج إلينا من مجراه .
; في أوروبا المطر دائماَ ما يكون ثلجاً .
فغرت الجدة فمها وحدقتك بنظرة عابرة ، وكانت تصب لكليكما فنجاناً آخر . قلت :
; أي والله وهم يكنسونه من أسقف البيوت والسيارات ومن على الأبواب والنوافذ !
وأحسست أنت بحلاوة الكلام ، لكنك لم تدر لماذا أوقفته .. ربما لأنك سمعت صوتاً يصدر من باب الخشب الخارجي ، وربما لأنك أحسست بغصة أخرى !
خفت من اتساخ البنطال فنهضت وجلست على كرسي صغير ، وشممت عطراً ، وسمعت وقع خطوات تقترب ، فنظرت إلى الجدة ، وسمعت صوت امرأة ينادي باسمها ، وأخذت أنت تتفحص الصوت لكنك لم تعرفه .. لا تعرف لماذا انتابك شعور لا تدرك كنهه ، وأن تكون متوازناً في كل شيئ .. حتى النظرة . ولما أجابت الجدة أقترب الصوت شيئاً فشيئاً حتى دخل غرفة الجالوص ، وما هي إلا دقيقة واحدة حتى قفل راجعاً .
رشفت الجدة رشفة قوية وقالت :
; كيف النساء هناك يا ولدى ؟
; يلبسن الجينز يا أماه ـ وأنت تحملق في رؤية قاتمة ترفرف حولها ـ هل تعرفين الجينز ؟ .. حسناً إنه نوع من أنواع البنطالات والقمصان وهن .. ..
صرخت الجدة في وجه الطفل .. لا تدري لماذا جعلت تحدق في شعر الطفل المتسخ بالطين وفي فمه وهو يمضغ شيئاً ما ، ولما فتح الطفل يديه حاملاً إبريق القهوة .. لا تدري لماذا جعلت تتصوره وكأنه مخلوق غريب هبط لتوه من السقف ! وصحوت من تخيلك في نصف اللحظة على ما كانت تقوله الجدة وهي تصرخ :
; اذهب بها إلى بيت العمدة ، وقل له .. لا .. أعطها لأي واحدة من بناته الأربع .
خطر لك صوت المرأة التي كانت تنادي . وقالت لك الجدة بعد أن انسحب الطفل :
; إنها ابنة العمدة الصغرى ، لم تتزوج بعد كالباقيات .. لقد تعدت الثلاثين على ما أظن ، لكنها جميلة أليس كذلك ؟
وضحكت أنت لحظتها .. لا تعرف على وجه الدقة لماذا نظرت إلى البريق الذي يشع من عينيها ؟ !
; الأولاد دائماً مشغولون يجمع المال للسفر والذي يسافر لا يرجع إلا بعد أن يجمع ثروة طائلة .. يكون حينها قد قضى أغلب عمره في الخارج ! .. إنه زمن الهجرة يا ولدي !!
قالت الجدة هذا وأردفت تقول بتحد واضح :
; وإنهم يتزوجون في تلك البلاد ! .. أليس هذا مدعاة للعجب ؟ !
كنت لحظتها تنظر إلى عيني الجدة اللتين تتفرسان طويلاً في أعماق عينيك .. لا تدري لماذا خفت من الجدة على باتريشا .. ربما من النظرة القاسية التي كانت تدخل في العمق بشده !! .
; أتـذكر هذا يا جدتي دائماً .. رائحة البن المقلي .. الدخان الخارج من الكوة .. وصرير الباب حينما أدخل إليك .. ورشفات القهوة العالية الصريخ !
أومأت إليك الجدة إيماءة صغيرة مع نصف ابتسامة ، إيـذاناً بالمواصلة ، وقلت :
; في كينيا لا يشربونها إلا بالزنجبيل الحار .. وفي نيويورك .. يا لروعة القهوة هناك أيام الشتاء القاسية ، لقد ذكرتك لمجموعة من الخواجات .. أبلغوني تحياتهم لك .. حدثتم عنك كثيراً .. طيبين كانوا معي .. لا ينسون أن يصنعوها لي بعد كل وجبة .. كم أدمنت عليها !
وتواصل الحديث بلا انقطاع .. .. ..
أخرجت الجدة لحظتها سعفاً وبللته بالماء ، وأخذت أنت واحدة ، وقلت لها :
; ما أروع الحياة هناك يا أماه ... !
وقهقهت هي عندما قلت هذا وشبح من الحزن يطوف حولها ، لكنها استغفرت ومسحت وجهها .. مسحة الجمال التي عليها لم تنته بعد رغم التجاعيد والنتوءات .
; هل رأيت من يصنع من السعف سلات وسجاجيد وبروش في أصقاع الدنيا ؟
أحسست لحظتها بغصة تطعنك ، لا تعرف لماذا .. ربما لم تتغير لهجتها القديمة في الحديث ، لكنك على كل حال ضحكت وقلت :
; نعم في طوكيو ، رأيتم يصنعون برانيط عريضة من السعف الأصفر ، لكنه ليس عريضاً كهذا ..
أنشأ الطفل يتبول واقفاً .. نهرته الجدة فجلس .
; الأطفال هناك يجدون كل شئ أمامهم جاهزا .. وسائل التعليم والترفيه واللعب ، ولا يشتكون من الأمراض الستة البتة و ...
وقالت الجدة مقاطعة كلامك :
; لكنى سمعت من جدك الله يرحمه أن هناك مجاعة حدثت في مكان ما من الدنيا ، لا أعرفه وأن الأطفال جميعهم ماتوا من المجاعة والأمراض ، لقد سمع بهذا في العام الذي نفقت فيه البقرة الحمراء .. هل تتذكرها ؟ إنها آخر بقرة تبقت لنا .
; أحياناً .. أحيانا في البلاد الفقيرة مثل بلادنا هذه .
وأخذت الجدة تحدق فيك وهي تبلل السعف وتسويه .
; آووه .. يا للفظاعة .. ألم تتبق بقرة واحدة ؟
لم تقل هي شيئ ، لكنك تنفست الصعداء وقلت :
; في هولندا بقر بحجم الفيل ، يأكل ليل نهار ، الواحدة تحلب لبن أربع بقرات عندنا !
كانت رائحة القهوة التي بدأت تتدفق تدخل في الأعصاب . تمددت أنت على السرير المهترئ بعدما صبت لك فنجاناً ، وقالت هي في توتر وحدة :
; لقد وقع حائط الجالوص على السرير .. الأمطار كانت غزيرة .. النيل ذاته فاض وخرج إلينا من مجراه .
; في أوروبا المطر دائماَ ما يكون ثلجاً .
فغرت الجدة فمها وحدقتك بنظرة عابرة ، وكانت تصب لكليكما فنجاناً آخر . قلت :
; أي والله وهم يكنسونه من أسقف البيوت والسيارات ومن على الأبواب والنوافذ !
وأحسست أنت بحلاوة الكلام ، لكنك لم تدر لماذا أوقفته .. ربما لأنك سمعت صوتاً يصدر من باب الخشب الخارجي ، وربما لأنك أحسست بغصة أخرى !
خفت من اتساخ البنطال فنهضت وجلست على كرسي صغير ، وشممت عطراً ، وسمعت وقع خطوات تقترب ، فنظرت إلى الجدة ، وسمعت صوت امرأة ينادي باسمها ، وأخذت أنت تتفحص الصوت لكنك لم تعرفه .. لا تعرف لماذا انتابك شعور لا تدرك كنهه ، وأن تكون متوازناً في كل شيئ .. حتى النظرة . ولما أجابت الجدة أقترب الصوت شيئاً فشيئاً حتى دخل غرفة الجالوص ، وما هي إلا دقيقة واحدة حتى قفل راجعاً .
رشفت الجدة رشفة قوية وقالت :
; كيف النساء هناك يا ولدى ؟
; يلبسن الجينز يا أماه ـ وأنت تحملق في رؤية قاتمة ترفرف حولها ـ هل تعرفين الجينز ؟ .. حسناً إنه نوع من أنواع البنطالات والقمصان وهن .. ..
صرخت الجدة في وجه الطفل .. لا تدري لماذا جعلت تحدق في شعر الطفل المتسخ بالطين وفي فمه وهو يمضغ شيئاً ما ، ولما فتح الطفل يديه حاملاً إبريق القهوة .. لا تدري لماذا جعلت تتصوره وكأنه مخلوق غريب هبط لتوه من السقف ! وصحوت من تخيلك في نصف اللحظة على ما كانت تقوله الجدة وهي تصرخ :
; اذهب بها إلى بيت العمدة ، وقل له .. لا .. أعطها لأي واحدة من بناته الأربع .
خطر لك صوت المرأة التي كانت تنادي . وقالت لك الجدة بعد أن انسحب الطفل :
; إنها ابنة العمدة الصغرى ، لم تتزوج بعد كالباقيات .. لقد تعدت الثلاثين على ما أظن ، لكنها جميلة أليس كذلك ؟
وضحكت أنت لحظتها .. لا تعرف على وجه الدقة لماذا نظرت إلى البريق الذي يشع من عينيها ؟ !
; الأولاد دائماً مشغولون يجمع المال للسفر والذي يسافر لا يرجع إلا بعد أن يجمع ثروة طائلة .. يكون حينها قد قضى أغلب عمره في الخارج ! .. إنه زمن الهجرة يا ولدي !!
قالت الجدة هذا وأردفت تقول بتحد واضح :
; وإنهم يتزوجون في تلك البلاد ! .. أليس هذا مدعاة للعجب ؟ !
كنت لحظتها تنظر إلى عيني الجدة اللتين تتفرسان طويلاً في أعماق عينيك .. لا تدري لماذا خفت من الجدة على باتريشا .. ربما من النظرة القاسية التي كانت تدخل في العمق بشده !! .