محمد الطيب يوسف - دماء علي سفح جبل ليريا.. قصة قصيرة

حبيبتي ماريا

أكتب إليك رسالتي الأولي منذ رحيلي عنكم وها نحن الآن قد أكملنا ثلاثة أشهر في هذه الارض الحمراء التي تدعي الجنوب.

بعد أن أتوا بنا الي جوبا .. لم يمهلونا سوي ثلاث ليالي ثم أتوا بنا الي هذا الجحيم الذي يدعي جبل ليريا.. نقتات علي الكوجة والويكة شئ مذاقه مثل مذاق الأحذية القديمة وقد نتبعه في بعض الأحيان بكوب من الشاي الأسود حسب التشوينات .. نقطن بين القطاطي والخنادق في سفح جبل ليريا وأنا أكتب لك في هذه الرسالة أسمع أصوات الجنود وهم يلعبون الورق ويرتشفون الشاي .. بعضهم يتسلل الى القرية القريبة من هنا ويأتون مع تباشير الصباح ورائحتهم مزيج من رائحة الخمر والنساء .. يتبادلون أسرار الليلة الماضية وهم يتضاحكون فهكذا يجابهون الموت بلامبالاة تثير فيّ الدهشة .. أظن أن الضباط يعلمون بهذا ولكن يغضون الطرف لعلمهم بإنعدام وسائل الترفيه في هذه الأحراش .. أضف الي ذلك قنينات العرقي جيد الصنع التي يبتلعها ميز الضباط كل يوم يأتي بها بعض العساكر ثم لا يفرج عنها الا وهي فارغة.
عم عبد الخالق .. صول .. له في الجنوب حوالي العشرون عاماً .. يدفن هنا قصة زواجه الفاشلة وزوجة خائنة وإبن ينتمي إليه وليس من صلبه ينسي ألمه وحزنه بين أحضان المومسات والدخان الأزرق وكاسات العرقي وعندما يدور (الكوماج )

- 1 -
يقاتل في بسالة أقرب للإنتحار ولكن الموت لايأتي إليه أبداً وبعد أن يثمل تماماً يبكي مثل طفل صغير ثم ينام بين دموعه .
كم أصبح طول خالد الآن .. لقد أكمل عامه الأول ولابد أنه خطا خطواته الأولي وأنا بعيد عنه .. إجازات المدارس قد إقتربت وسترتاحين من الحصص وغبار الطباشير .. هل تزورين أمي بإنتظام .. أوصيها أن تكثر لي من الدعاء فالموت هنا قريب جداً قد يأتي من خطأ صغير وأنت تنظف سلاحك دعك من المتمردين الان .. لست جباناً ولكني لاأريد أن أموت قبل أن أضمك الي صدري مرة أخري .

هل تدركين أن الموت هنا سهل جداً يا ماريا .. قد يختبئ بين دخان سيكار فقط .. دعيني أحكي لك قصة حدثت لنا هنا بسب سيكار وغباء ملازم جديد فرح بنجمتين تزينان كتفيه..
التدخين ممنوع منعاَ باتاً في المعسكر ليلاً لان المتمردين يوجدون في مجموعات صغيرة بالقرب منا لذلك فإن إشعال عود ثقاب ليلاً يعتبر مجازفة كبيرة دعك من تدخين سيكار كامل قد يستغرق ثلاث دقائق علي أحسن الفروض .. أصر هذا الملازم علي التدخين ليلاً في عناد طفولي .. فأشعلها ولكنم لم يمنحوه فرص أن يدخنها كاملة إصطادوه كعصفور غبي وذهب ضحية مغامرته هذه سته من الجنود كانوا يقفون بالقرب منه .. حينها أدركت أن الموت يمكن أن يختفي وراء نجوم ليس لها بريق ..

قبل فترة قصيرة حدثت لنا حادثة غريبة سأحاول أن أحكيها لك في هذه الرسالة فلا أدري هل سأستطيع أن أكتب لك رسالة أخري أم لا أما الآن فسأفارقك قليلاً كي اقابل الضابط في أمر ما وسأعود إليك لاحقا
أحبك

حسناً ها أنا ذا أعود إليك مرة أخري كنت قد أخبرتك عن حادثة غريبة قد حدثت لنا هنا .. معسكرنا يوجد عند سفح الجبل ومن الجهة الأخري يوجد المتمردون .. لا أدري من اين قد أتتهم الفكرة ولكنّا أصبحنا ذات صباح فوجدنا أحدهم قد إحتلّ أعلي الجبل وبدا في إصطيادنا بانتظام .. تحول معسكرنا الي ساحة تنشينه الخاص فأصبحت الحركة داخل المعسكر ضرباً من المخاطرة ومايغيظ في الأمر أننا لا نستطيع أن نرد له الجميل فهو يوجد في اعلي الجبل وعملية التصويب عليه ليست دقيقة بالتأكيد .. طابت له اللعبة فأصبح يلعب معنا لعبة القط والفأر فقد يظل طول النهار يترقبنا فقط دون أن يطلق النار ثم فجأة وعند العصر يقتنص أحدنا ثم يعقب ذلك بضحكة عالية ممزوجة بالشماتة ..
وعند الليل يصلنا صوت غنائه وهو ثملاً ثم يبدأ في توجيه إساءات بذيئة إلينا .. في إسبوع واحد قتل منا ثلاثة عشرة رجلاً فأصدر قائد المعسكر أمراً باقتحام وكره الإتيان به حياً أو ميتاً .. تحرك ثمانية منا لتنفيذ العملية ولكن لم يعد منهم أحد وعند الصباح وجدنا جثثهم مرمية عند سفح الجبل وقد زينت جبهة كل منهم برصاصة مقيتة .. فارتفع عدد ضحاياه الي واحد وعشرون رجلاً .. لم ييأس قائد المعسكر فارسل سرية كاملة مكونة من ثلاث وثلاثون رجلاً كنت من بينهم .. كنا نقترب منه في حذر بالغ وصوت غنائه يصلنا واضحاً .

أعتقد أنا باغتناه فلم تند منه سوي صرخ صغيرة ونحن نغرقه بنيراننا .. تفاجأنا بوجود ثلاث معه لم نرصدهم من قبل .. كان وقع المفاجأة ثقيلاً عليهم ولكنهم قاتلونا كالليوث الجريحة مما يدفعني لأن أتساءل هل لهؤلا الرجال قضية عادلة يقاتلون من أجلها في نظرهم علي الأقل؟؟ .
بعد أن توقف إطلاق النار من جانبهم أقتربنا منهم في حذر كان أحدهم مازال حياً لن تصدقي حين أقول لك من هو
العم جورج .. جارنا في الحي.... له ولد في مثل عمري إسمه وليام لا أظن أنك تعرفينه فقد ترك البيت منذ أكثر من عشرة أعوام وقتها كنت أنت دون العاشرة وكنت أنا في بداية الثانوي .. كنا أنا ووليام ندرس في مدرسة واحدة وكنت أردفه معي في دراجتي في مشوار المدرسة اليومي .. حسناً كان هذا الرجل الذي يلفظ أنفاسه أمامي هو وليام .. نظر الي بصورة غريبة لابد أنه قد عرفني ولكنه لم يتكلم فقط مات في هدوء وترك لي عيناه تؤرقان نومي .. لابد أن أنبهك الا تخبري جورج أن ولده قد مات فهو يعيش علي أمل أن يراه مرة أخري .. لم أكن أظن أن قصة وليام ستنتهي هذه النهاية المأساوية .. ربما نكون غير محقين في حربنا هذه .. آه لا أستطيع أن أنسي عيني وليام يا ماريا.

أظن أنه ينبغي أن أختم هذه الرسالة .. لا أدري كيف أوصلها اليك فقد تظل معي حتي أعود إليكم ثم أقرأها لكما أنت وخالد ونحن نجلس تحت ظل النيمة الكبيرة .. وقد ييسر لي الله من يحملها لكم .. لست أعلم إنتبهي لصحتك ولخالد وأغرقيه بالقبلات وغطيه بالليل

أحبك بجنون

عماد

طوي الضابط الرسالة في هدوء وأدخلها داخل الدرج ثم سأل الرقيب الذي يقف أمامه

- هل هذا كل ماعثرتم عليه في المعسكر

- نعم سيدي ستجد في هذا الملف أسماء الجنود جميعاً ومعه بطاقاتهم العسكرية وقد إنتهينا الآن من دفنهم جميعاً

فتح الضابط الملف وقرأ اللستة في إهتمام

1-

2-

19- عماد خالد الطيب

طوي الملف وهو يتنهد في أسف


تمت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...